المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تحيّرت العقول في كُنْه معرفته، وانحسرت الأبصار دون التطلّع إلى
غيب ملكوته، وكَلّت عين بيان نعوته تعابير اللغات، وضلّت هنالك تصاريف الصفات.
فسبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين، الذين استخلفهم وعلّمهم الأسماء
كلها، فصيّرهم شهداء على الناس أجمعين.
صلى الله عليهم، ولا سيّما على شهيد الشهداء وشفيع الشفعاء محمد خاتم النبيين. وأهل
بيته الذين طهّرهم من الدنس، وأذهب عنهم الرجس، وجعل مودّتهم السبيل إليه تعالى,
واللعن على أعدائهم ومنكري فضائلهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذه الرسالة مشكاة فيها مصباح الخلافة الإلهية، والمصباح في زجاجة من
الحجج القرآنية، فكأنها كوكب دُرّي يوقد من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية.
إنها تبحث حول الكمال الأقصى للإنسان، والذي يتجلّى في خلافته الحقيقية وولايته
الخاصة بالمقرّبين من أوليائه.
ومما لا ريب فيه أنّ الولاية الإلهية من المقامات السامية الرفيعة الصعبة الفهم إلا
على من حباه الله بنور نافذ وبصيرة واعية.
ولعلها من أجلى مصاديق (الحديث الصعب المستصعب)[1] الذي أشير إليه في روايات كثيرة.
وقد قمنا بهذا البحث المختصر حول إثبات أصل الولاية ـ دون تفصيلها وحقيقتها ـ
معتمدين على الكتاب الكريم والسنة الشريفة، وذلك تبياناً للحق، ودفعاً لشبهات بعض
مدّعي العلم والتحقيق، المفتونين بما كتبه بعض الفرق الضالة المقلدة لسلفها دون
وعي.. وقد رأينا بعض هؤلاء المفتونين يصرّح بإنكار الولاية رغم الدلائل الساطعة،
ومن ثم راح يطعن على حفّاظ الشريعة من المحدّثين وفقهائنا المكرمين.
ولعمر الحق أنّ الحق لواضح بيّن، ولن يستطيع نفر لم توافقه ميولهم وأهواؤهم أن
يطمسوه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ}[2]. أعاذنا الله من نزغات الشيطان الرجيم.
وقد تناولنا في هذه الرسالة أربع عشرة آية من كتاب الله الكريم بالتفسير، وذيّلنا
كل آية بذكر نموذج مما ورد من الروايات بشأنها, وذكرنا في الخاتمة خلاصة ما استفدنا
من الآيات الكريمة والروايات الشريفة. وجعلنا مسك الختام بحثاً موجزاً في العلم
بالغيب وفي عصمة الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للاهتداء بهديهم والسير على خطاهم.
وهو المستعان.
المؤلفون
_______________________
[1] وقد أفرد أمام المحدثين ثقة الإسلام الكليني له باباً في الكافي وكذا العلاّمة
المجلسي في بحار الأنوار. ومن هذه الروايات ما رواه في الكافي عن جابر عن أبي جعفر
عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ حديث آل محمد صعب مستصعب لا
يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان.
[2] سورة المؤمنون، الآية: 72.
آية الخلافة
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ}[1]
الخليفة
أما الخليفة فهو من يقوم مقام الغير. ولم تستعمل هذه اللفظة بصيغة المفرد في القرآن
الكريم إلا في موردين: أولهما هذا المورد، والثاني قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ}[2].
ولكنها استعملت بصيغة الجمع في موارد: منها قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ في الأَرْضِ}[3] .
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم}[4]
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ}[5]
وقوله تعالى: {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}[6]
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ}[7]
وقوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ}[8].
المراد من الخلافة
لعل المراد منها في كثير من الآيات هو الحلول محل الغابرين في الحياة الدنيوية
والقيام مقامهم، وهو ما تؤكده القرائن الحافّة بالآيات.
إلا أنّ المراد بالخلافة في الآيتين اللتين ذكر فيهما اللفظ بصيغة المفرد هو القيام
مقام الخالق والجاعل ـ جل وعلا ـ أي أنّ المراد منها هو (الخلافة الإلهية).
وذلك لأمرين:
الأول: إنّ إطلاق لفظ(خليفة) من غير إضافة وإشارة إلى المخلوف مما يؤكد أن الإنسان
خليفة لمن جعله كذلك. وهذا نظير ما لو قال رئيس الدولة مثلاً( إني جاعل في الدولة
خليفة)، إذ يكون المفهوم العرفي له كون هذا خليفة لرئيس الدولة نفسه.
الثاني: إنّ الحوار الذي جرى بين الملائكة وبين الله تعالى إذ تساءلوا عن معنى جعل
خليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فأجابهم تعالى بأنه يعلم مالا يعلمون، والامتحان
الذي تمّ وكشف عن صلاحية الإنسان لتعلّم الأسماء، كل هذا ليكشف لنا بوضوح عن أنّ
الخلافة المركّز عليها هنا ليست إلا الخلافة الإلهية.
وإذا كان هذا الأمر الثاني جارياً في الآية التي نبحث عنها بالخصوص، فإن الأمر
الأول جارٍ في الآيتين معاً.
ومما يؤكد الخلافة هنا إلهية أنّ الله عرّف ذلك المخلوق للملائكة قبل أن يخلقه
بأنه(الخليفة)، فلو كان المقصود هو من يخلف غيره في الحياة الدنيوية لم يكن يصلح أن
يعّرف بذلك.
هذا، وإنّ وجود عبارة (فاحكم بين الناس بالحق) تفريعاً على جعل الخلافة لداود في
الآية الثانية، ينسجم مع هذا المعنى دون مسألة القيام مقام الآخرين.
سر الخلافة الإلهية وملاكها
إنّ الخلافة تعني: كون الخليفة معبّراً عن المستخلف في ما استخلف فيه. ومن هنا فإن
الخلافة المطلقة تقتضي كونها شاملة لمختلف الشؤون وكافة الأمور من جهة، واستيعابها
لكل ما استخلف عليه الخليفة من جهة أخرى.
ولهذا كان من اللازم أن يكون الخليفة المطلق عالماً بصفات المستخلف وشؤون ما يستخلف
عليه. كما يجب أن تكون له القدرة الضرورية للتصرف فيه.
وهكذا فالخلافة المطلقة الإلهية تتوقف على معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا
حتى يمكن للخليفة أن يعبّر عنها، كما تتوقف أيضاً على معرفة عامة المخلوقات؛ لكي
يتمكن من تدبيرها وأداء حق الاستخلاف فيها.
ولذلك نجد أنّ الله تعالى علّم آدم الأسماء كلها علماً يغنيه عن ذلك ويحقق ملاك
إعطاء الخلافة الإلهية. ولم يكن ذلك التعليم بالألفاظ ومداليلها الذهنية، وإنما كان
بالحقائق ومصاديقها الخارجية العينية.
ويدلّ على ذلك الحوار الذي جرى مع الملائكة, حيث إنهم تصوّروا أنفسهم لائقين لمقام
الخلافة الإلهية؛ لقيامهم بالتسبيح والتقديس، فتساءلوا عن الحكمة في جعل خليفة في
الأرض، إلا أنهم اعترفوا بقصورهم عن احتلال هذا المقام حينما علّم الله آدم الأسماء
كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقالوا معترفين بالعجز: سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ولهذا يمكن أن نؤكّد أنّ ما حصل لهم علمه بالأنباء والأخبار لم يكن على حد علم آدم
كما يشعر به, بل يدلّ عليه اختلاف التعبير، حيث عبّر بالنسبة لآدم بـ(علم) وبالنسبة
للملائكة بـ(أنبأهم).
ويؤيّد هذا الذي ذكرناه أنّ الآية مطلقة لم تُقيّد الخلافة بما يستخلف فيه ولا بمن
يستخلف عليه. ولا ريب في أنّ مَنْ كان له ذلك المقام المطلق لابدّ له من العلم
بالأسماء والصفات علماً يمكنه ـ معه ـ أن يتصرف في ما استخلف فيه كما هو ظاهر.
وخلاصة الأمر
إنّ الخلافة الإلهية تدور مدار العلم الشهودي ـ لا الكسبي الحصولي ـ بالأسماء كلها،
علماً يتلقّاه الخليفة من الله تعالى بغير واسطة, وهذا هو سر الخلافة ومناطها.
الأسماء
الاسم هو ما يعرف به الشيء. ولكن ما المراد به في هذه الآية؟ وهل المراد هو أسماء
الله أي الألفاظ؟ أو مفاهيمها الذهنية؟ أو الأعيان الخارجية التي تحكي عنه سبحانه؟
أو أنّ المراد هو أسماء المخلوقات؟
أما كون المراد بها الألفاظ ـ سواء كانت ألفاظاً حاكية عن الله سبحانه أو عن
مخلوقاته ـ فلا ينسجم مع ضرورة أنّ اللغات لم تكن قد وضعت آنذاك. والمفاهيم الذهنية
غير قابلة للنقل والإنباء. فيتعيّن الاحتمال الثالث. وحينئذ فيكون المراد من
الأسماء التي أنبأهم بها آدم أسماء تلك الأسماء العينية الحسنى، كما يساعد عليه
تعبير الأنباء في قوله تعالى: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء}[9] وقوله تعالى:
{أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ}[10].
ومن المحتمل أن تكون هذه الأسماء هي أسماء الله من جهة وأسماء لما سواه من جهة
أخرى. فإن هؤلاء يتّصفون تارة بأنهم مظاهر لصفاته العليا، وأخرى خُزّان كمالات
المخلوقات على وجه أتم وأعلى.. ولعل مما يؤيد هذا الاحتمال، الإطلاق الموجود في
لفظ(الأسماء).
وبهذا الوجه من الجمع يمكننا أن نجمع بين الروايات الدالّة على أنها أسماء الأشياء
كالجبال والأودية وبين ما يدلّ على أنّ المعروض على الملائكة هي أنوار المعصومين
وأرواحهم عليهم السلام، وقد ورد أنهم الأسماء الحسنى[11]
هل تختص الخلافة بآدم (ع)؟
لا ريب في أنّ الخلافة المجعولة في الآية ليست مختصّة بشخص آدم عليه السلام فإن
الملائكة قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاء}[12]، وهذا المعنى لا يتصور إلا مع وجود كثرة في الأفراد وحياة اجتماعية
معيّنة. أضف إلى ذلك أنّ الله تعالى لم يرد عليهم بنفي وقوع القتل والإفساد، بل قال
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[13] مشيراً إلى رفعة مقام الخليفة.
كما أنه لا ريب في أنّ مثل هذا المقام الأسمى لا يعطى لكل الأفراد فعلاً؛ لأن
المفسد السافك للدماء لا يليق له ولا يناسبه، وعليه فتكون الخلافة مجعولة لآدم كنوع
لا كشخص، وذلك بمعنى أنه يوجد في النوع الإنساني من يحمل صلاحية الوصول إلى هذا
المقام الجليل.
فالإنسان خليفة الله تعالى في أرضه بما أنّ له العلم بالأسماء الحسنى.
والذي يبدو مما سبق كله أنّ ذلك الإنسان الخليفة هو الغاية القصوى من خلق الإنسان
وإيجاد هذا النوع في كل زمان.
وهناك روايات تشير إلى ما استفدناه من الآيات نذكر بعضها في ما يلي:
روى الصدوق بسندين عن الصادق عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى علّم آدم عليه
السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم ـ وهم أرواح ـ على الملائكة فقال {أَنبِئُونِي
بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[14] بأنكم أحقّ بالخلافة في الأرض
لتسبيحكم وتقديسكم من آدم عليه السلام. {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا
إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[15].
قال الله تبارك وتعالى {يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ
بِأَسْمَآئِهِمْ}[16] وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله ـ تعالى ذكره ـ فعلموا أنهم
أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريّته، ثم غيّبهم عن أبصارهم
واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ}[17].
وفي تفسر العياشي عن أبي العباس, عن أبي عبد الله عليه السلام سألته عن قول الله
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[18] ماذا علّمه؟ قال: الأرضين والجبال
والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علّمه[19].
وفيه عن داود بن سرحان العطار قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان
فتغدّينا ثم جاؤوا بالطست والدست سنانه، فقال: جعلت فداك، قوله {وَعَلَّمَ آدَمَ
الأَسْمَاء كُلَّهَا}[20] الطست والدست سنانه منه؟ فقال: والفجاج والأودية. وأهوى
بيده: كذا وكذا[21].
______________________________
[1] سورة البقرة، الآية: 29 ـ 30.
[2] سورة ص، الآية: 26.
[3] سورة الأنعام، الآية: 165.
[4] سورة يونس، الآية: 14.
[5] سورة يونس الآية: 73.
[6] سورة الأعراف، الآية: 69.
[7] سورة الأعراف، الآية:74.
[8] سورة النمل، الآية: 62.
[9] سورة البقرة، الآية: 31.
[10] سورة البقرة، الآية: 33.
[11] الكافي: ج1، ص 143، الحديث 4: عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام
في قول الله عز وجل﴿لله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ قال: نحن والله الأسماء الحسنى
التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا.
[12] سورة البقرة، الآية: 30.
[13] سورة البقرة، الآية:30.
[14] سورة البقرة،الآية: 31.
[15] سورة البقرة، الآية: 32.
[16] سورة البقرة، الآية: 33.
[17] كمال الدين: ج1، ص 14.
[18] سورة البقرة، الآية: 31.
[19] تفسير العياشي: ج1، ص 32، تفسير البرهان: ج1 ص 75، البحار: ج5 ص 57 و 39.
[20] سورة البقرة، الآية: 31.
[21] تفسير العياشي: ج 1 ص 33: تفسير البرهان ج 1، ص 75، البحار: ج 5 ص 39.
آية الإمامة
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ}[1].
الابتلاء
(الابتلاء والبلاء هما بمعنى واحد، يقال: بلوته وابتليته بكذا أي أوقعته في أمر
ليظهر ما يخفى من صفاته). وهو غالباً لتعرف ما يجهل من أمره. ويقرُب منه الاختبار
والامتحان والفتنة، ولكن يبدو أن التعرّف من غايات الابتلاء وليس جزءاً من معناه,
بحيث إذا جرّد عنه كان الاستعمال مجازياً.
(وعلى أي حال فإن ابتلاء الله تعالى لم يكن لأجل التعرّف على حال المبتلى وإنما هو
لإظهار حاله وإبراز ما كمن في نفسه، وفعلية ما يستعد له من السعادة والشقاء) وهي
غاية الخلقة نفسها حيث قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[2] وقال تعالى: {إنَّا جَعَلْنَا مَا
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[3]
وقال تعالى {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ}[4].
الكلمات
الكلمة ما يُتكلّم به. فتطلق على اللفظ المفرد والجملة وعلى محكيهما. وقد استعملت
في القرآن الكريم في الحاكي كما في قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ}[5] وفي المحكي كما في قوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}[6] وقد أطلقت على بعض الموجودات الخارجية بغض النظر عن كونها
مدلولة لألفاظ معيّنة كما في قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى
مَرْيَمَ}[7] وربما كان ذلك باعتبار أنّ الوجود الإمكاني ليس إلا كلمة (كن)
الإيجادية إذ قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [8] كما يحتمل أن تسمية
الموجودات الخارجية بذلك باعتبار أنها تعرب عن الله تعالى كإعراب اللفظ عن المعنى.
الإمام
وهو من يؤتمّ ويقتدى به، يقال: أمّ القوم إذا تقدّمهم. وكأنه مأخوذ من الأمام ـ
بالفتح ـ بمعنى القُدّام. فالأصل في معناه(ما هو أمامك)، ولذا يستعمل بمعنى الطريق
كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}[9] كما أنّ القرآن الكريم
أطلقه على الكتاب التكويني في قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُبِينٍ}[10] والكتاب التشريعي كقوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}[11] وأطلقه على قائد القوم ومقتداهم سواء في طريق
الهدى كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[12] ، أو
طريق الضَلال كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ}[13].
بماذا ابتلى ابراهيم (ع)؟
إنّ المراد بالكلمات التي ابتلى بها إبراهيم عليه السالم إما أن تكون هي الأوامر
الصادرة من الله تعالى والحاوية لتكاليف هامّة، أو يكون المراد متعلّقات تلك
التكاليف باعتبار كونها محكيّة لكلامه تعالى تارة أو بما أنها أمور كائنة بكلمة
الإيجاد تارةً أخرى.
أما إتمامهنّ فالمقصود به الإتيان بهنّ على الوجه الأتم، فكأنّ تلك الكلمات كانت
حوادث ناقصة قام ابراهيم بإتمامهن من خلال العمل بها. وبهذا يكون الضمير الفاعلي في
{أَتَمَّهُنَّ} راجعاً إلى ابراهيم، ويحتمل رجوعه إلى (ربّه) وحينئذ يكون المراد
بالإتمام، الامتحان أو التوفيق للعمل بموردها.
إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد بـ(كلمات) هو نفس البلايا التي ابتلى بها مدى حياته
كالإلقاء في النار، والاضطرار للهجرة، والأمر بتضحية الولد، والعهود التي أخذت منه
للصبر عليها. يقول تعالى في قصة ذبح اسماعيل {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء
الْمُبِينُ}[14].
أما حقيقة الإتمام فهي الصبر على البلية، والعمل بما يرضى الرب تبارك وتعالى فيها.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا
صَبَرُوا}[15].
وعلى أي حال، فإن ما نعرفه من خلال ما مرّ هو أنّ الابتلاء كان عملية تأهيل لمقام
الإمامة السامي، وأنّ العمل بما يلزم في البلية كان شرطاً ضرورياً للفوز بهذه
الكرامة العظمى.
إمامة إبراهيم(ع)
وهكذا نال إبراهيم تلك الحظوة الكبرى بعد أن قدّم امتحانه الرائع الذي أثبت أهليّته
عليه السلام لها، وكان الصبر على تحمّل الامتحان مقدمة للصبر على تحمّل أعباء
الإمامة.
ولكن ما المراد بالإمامة هنا؟
وهل هو مقام تشريعي دون مقام النبوة؟ أو فوق مقام النبوة؟ أو أنّ المراد به هو
النبوة لا غير؟ أو أنه مقام تكويني من مراتب القرب إلى الله تعالى كالصلاح والإخلاص
وما أشبه؟ أو أنه مقام تكويني يتعلق بتكميل النفوس وإيصالها إلى الغايات ـ أي أنه
يشكّل واسطة للفيض والعطاء الإلهي؟
وإذا ركّزنا على عبارة {جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ} عرفنا أنّ هذا المقام لم يكن مقاماً
نفسياً محضاً في مجال العلاقة بين العبد وربّه بلا أي ارتباط بالناس، سواء كان
الارتباط تشريعياً بأن يؤمر الناس بإتّباعه والاقتداء به، أو تكوينياً بأن يكون هذا
الإمام وسيلة لتكميل نفوسهم.
متى تمّ منحه مقام الإمامة؟
ما يبدو من هذه الآية أنه عليه السلام منح هذا المقام بنفس هذا الخطاب الإلهي بقوله
تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[16] أو بعده. ذلك أنّا عرفنا أنّ
منحه ذلك كان نتيجة لابتلائه وامتحانه، فلا يعقل منحه المقام قبل الامتحان. ويؤيّد
ذلك أنّ اسم الفاعل(وهو هنا(جاعل)) لا يعمل في المفعول(وهو هنا(إماماً)) إلا إذا
كان بمعنى الحال أو الاستقبال ـ كما قيل.
ومن الواضح أنّ علميات الامتحان بهذه الكلمات تمّت في زمن نبوّته ورسالته؛ لأنه
عليه السلام أعلن دعوته الحنيفية ورفع لواء التوحيد وهو شاب يافع، إذ يقول تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا.. يَا
أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[17]، ويقول تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[18]، وهكذا نجد إشارات حقيقة البعثة
المُبكّرة في باقي الآيات التي تتحدث عن بعض أطوار حياته.
كما أنّ الظاهر هو وجود ذرية له عند سؤاله الذي ذكرته هذه الآية بقوله: {وَمِن
ذُرِّيَّتِي} أو علمه بحصول ذرية له ـ على الأقل ـ وإلا لكان مقتضى الأدب العبودي
أن يُقيّد سؤاله بأن يقول مثلاً( ومن ذريتي إنْ رُزِقت) فإذا لاحظنا هذا ولاحظنا
أيضاً أنّ القرآن الكريم يحكي على لسانه قوله {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ}[19] ، ورأينا أنه عَلِم بأنه سيُرزق
ولداً بوحي من الله وبشارة جاءت بها الملائكة الذين دخلوا عليه في طريقهم إلى قوم
لوط لإهلاكهم, حيث تعجّب من هذه البشارة! فقال {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن
مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[20]، وكانت هذه البشارة بعد رسالته
وإيمان لوط له، إذ قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى
رَبِّي}[21] ، وقال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ *
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[22] ، إذا
لاحظنا كل هذا بدقّة حصل لنا الاطمئنان بأن الإمامة قد اُعطيت له بعد أن كان نبياً
رسولاً، وبذلك لا يمكن قبول ادّعاء أنّ مقام الإمامة هو النبوة لا غير، وهذا المعنى
تؤكده روايات كثيرة وتدلّ عليه بصراحة.
وإذ كانت الإمامة مقاماً منح بعد كون إبراهيم نبياً رسولاً فإن ذلك يكشف عن كونها
مقاماً أرفع من النبوة والرسالة، ومما يؤكد ذلك توقّفها على إتمام الكلمات والصبر
على البليّات.
فلا يبقى لدينا إلا احتمالان:
(الاحتمال الأول): أن تكون الإمامة مقاماً تشريعياً فوق النبوة، وأثرها وجوب
الإتباع المطلق في جميع أقواله وأفعاله. ذلك أنّ النبوة والرسالة لا تتطلّبان في
ذاتهما الاقتداء بالنبي الرسول في جميع الحركات والأعمال، وغاية ما تفرضانه هي
الطاعة والاستماع لِما يُبلّغ للناس من دعوة ورسالة. اللهم إلا أن يأتي دليل آخر هو
غير الدليل الدال على النبوة أو الرسالة فيدلّ على وجوب الإتّباع العملي، وذلك مثل
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ
اللّهِ}[23] ، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ}[24].
(الاحتمال الثاني): أن تكون الإمامة مقاماً تكوينياً يشكّل فيه الإمام واسطة لإيصال
عطاء الهداية الحقيقية لمن هو أهل لها, إضافة للهداية التشريعية التي يستوي فيها
المؤمن والكافر. ومن الممكن دخولهما معاً في ما جعل بهذه الآية بشكل ترتّبي طولي.
ما يؤيد الاحتمال الثاني
والذي يؤيّد الاحتمال الثاني أنّ هذه الإمامة لها خصيصة يخبرنا عنها القرآن الكريم
بقوله تعالى: في سورة الأنبياء: {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[25].
وليست هذه الهداية مجرد إراءة للطريق وإيضاح للهدف؛ لإتمام الحجة على الخلق كما هو
شأن النبي المنذر، بل هي أمر فوق النبوة ومقتضياتها.
ومن هنا نفهم أنها تعني الإيصال إلى المطلوب الذي يُنسب إلى الله حقيقة, والى
الوسائط باعتبارهم وسائل غير مستقلة والتي إنما تؤثر بأمر الله, كما أنّ الملائكة
تعمل بأمره تعالى حيث يقول سبحانه {وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[26].
وعلى هذا، فالمراد بالهداية الخاصة بالإمام هي الهداية التكوينية، والمراد بالإمامة
إما نفس هذا المقام التكويني السامي أو أنها أمر تشريعي يبتني عليه.
وبتعبير آخر: فإن مقام الإمامة مقام ظاهره التشريع وباطنه التكوين، بمعنى أن ظاهر
هذه الآية الشريفة هو إثبات مقام تشريعي للإمام يستلزم أن يكون قوله وفعله وتقريره
حجة مطلقاً على الخلق، وباطنها هو إثبات مقام تكويني للإمام. ومن خواص هذا المقام
التكويني جريان الهداية الإلهية على يديه. ولا يوجد أي تناف بين المعنيين: التشريعي
والتكويني؛ لأنهما مترتّبان طوليان، أي أحدهما يراد بعد الآخر، وهذا هو الشأن في
بطون الآيات.
وهنا يجب التنبيه على أن إعطاء وصف الإمام مطلقاً للشخص يعني كون المتّصف هو القدوة
والأسوة في جميع الأمور التشريعية مما يتعلق بسعادة الإنسان ومسيرته الكمالية، من
غير اختصاص بشأن دون شأن. ومع هذا الإطلاق في الوصف لا نحتاج لدليل يثبت لنا حجية
جميع أقواله وأفعاله.
قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[27]
بملاحظة الموارد المختلفة التي تتحدّث عن حالات ابراهيم عليه السلام، نجد أنه كان
مثال الاعتناء بأمر ذريته وصلاحها ومصيرها الحسن، فهو يستوهب الله ذرية صالحة
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[28] ، ويسأل الله ذرية مسلمة لله في دعائه
المشترك مع ولده إسماعيل عند بناء بيت التوحيد الكعبة الشريفة {رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً
لَّكَ}[29]، ويطلب منه تعالى أن يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام، {وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}[30].
وها نحن نراه لا يترك فرصة تلقّيه بشارة جعله إماماً حتى يتساءل عن إعطائها لذريته،
فيجاب بأنه {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[31]، حيث تدلّ على أنّ عهد الله
تعالى الذي يدخل فيه عهد الإمامة لا ينال الظالم، وهذه سُنّة إلهية كبرى ثابتة.
والملاحظة أنّ الجواب إما جاء ردّاً على بعض ما سأل، أو تعييناً لِما أهمل، أو
تنبيهاً له على ما أغفل. ولعل الأوسط هو الأنسب.
وقد تمسّك الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم عليهم السلام منذ العهد الأول ـ بهذه الآية
الشريفة لإثبات عصمة الإمام، إذ هي صريحة في عدم أهلية الظالم لهذا المقام السامي.
ولا ريب في أنّ مِن أظهر مصاديق الظلم الشرك بالله وعبادة غيره، حيث قال تعالى:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[32] وأنّ اطلاق(الظالمين) شامل لكل ظلم سواء
كان على الغير أو على النفس، وكل معصية صغيرة أو كبيرة ظلم لا يصلح مرتكبه لهذا
المقام الشامخ.
هذا، وقد ذكر أعلام الشيعة وجوهاً لتقريب وتوضيح دلالة الآية على لزوم أن يكون
الإمام معصوماً قبل أن يناله عهد الإمامة. وفي ما يلي بعض هذه الوجوه:
(الوجه الأول): إنّ ابراهيم عليه السلام سأل الله تعالى أن يمنح هذا المقام الرفيع
لبعض ذريته، فاستجاب الله تعالى في بعض من سأل لهم هذا المقام.
ولا ريب في أنّ ابراهيم ـ ومَنْ هو في جلالة قدره ـ لا يطلب الإمامة لمن يستوعب
الظلم كل حياته، كما أنه لا يطلبها لمن ينحرف, فهو عليه السلام إذاً كان يطلب
الإمامة لمن لا يدخل في هذين الفرضين وهم: إما رجل لا يظلم طول حياته، أو آخر تلبّس
بالظلم حيناً ثم تاب عنه. وهنا جاءت هذه الآية الشريفة لتنفي صلاحية الفرد الثاني
الذي صدر منه الظلم للإمامة العظمى.
(الوجه الثاني): إنّ قانون {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جاء جواباً على
سؤال إبراهيم الإمامة لبعض ذريته، ليؤكّد أنّ دعاء إبراهيم لن يستجاب في الظالمين
منهم.
ومن الواضح أنه يتحدث عن المستقبل، وأنّ اطلاق وصف (الظالم) إنما هو بملاحظة حال
تلبّسه وقيامه بالظلم، أما حين صدور هذا الخطاب لإبراهيم فليس ملحوظاً قطعاً. وإنّ
تعبير النيل وإسناده الفاعلي إلى العهد يشير إلى أنّ هذا العهد أمر ينزل من الله
تعالى فيجري فيمن كان قابلاً لا تّصافه بالإمامة، والمرتكب للظلم في بعض حالات
حياته كان قد انطبق عليه عنوان (الظلم) عند ارتكابه، ففقد بذلك صلاحية ارتفاعه
لمقام الإمامة المنيع، فلا يناله ذلك العهد النازل من الله.
(الوجه الثالث): إنّ المراد بالظالم في هذه الآية بملاحظة مناسبات المقام هو ظلم في
آنٍ ما من حياته[33] فإن من الملاحظ بوضوح في مجال منح المناصب وخصوصاً الهامّة
المصيرية منها ـ حتى ولو كانت مناصب دنيوية ـ أن لا يكون التركيز مقصوراً على حالة
الشخص حينما يراد إعطاؤه هذا المنصب، وإنما تدرس حياته الماضية وسوابقه السلوكية،
فإن ماضيه يؤثر على حاضره بلا ريب. والظلم ولو في لحظة حياتية يمنع الإنسان من أن
يكون مؤهّلاً لمنصب هو من أخطر المناصب على الاطلاق، وهو منصب الإمامة؛ لأنه يعني
تسلّم مصير الأمة كلها.
وهناك وجه آخر للزوم العصمة قبل نيل الإمامة، وحاصله:
إنّ الآية الكريمة أعطت سُنّة إلهية في مجال إعطاء العهود والمناصب الإلهية، وهي
تؤكد أنّ هذه العهود لن تعطى إلا لمن له رادع داخلي على الظلم والطغيان، وليست
الإمامة سلعة تعطى ثم تسترد عند ظهور عدم صلاحية حاملها وصدور الظلم والطغيان عنه.
مَثَلُها في ذلك مثل النبوة فهي إنما تعطى لمن هو مأمون عن الظلم والفساد. ولا يحصل
الأمن إلا إذا وجدت ملكة ومبدأ عاصم في النفس، وقوة فائقة في القلب. وهذا المبدأ
ليس أمراً جزافياً اتفاقياً، وإنما ينشأ عن بُنية خاصة وشرايط تكوينية مساعدة
وصلاحيات تصونه عن الخطأ والانحراف، ولسنا نعني بالعصمة غير هذا.
هذا، وإنّ نسبة العهد إلى الله يؤكد على أنه أمر لا دخل للناس فيه، وإنه تعيين إلهي
لا انتخاب ولا اختيار للأمة فيه.
والواقع أننا نحتاج إلى هذه الوجوه عندما نريد إقامة الحجة على من لم يستبصر بعد,
ولم تثبت له حجية كلام أهل البيت عليهم السلام.
أما العارف بشأنهم والآخذ من علومهم فهو في غنىً عن إقامة هذه الوجوه، بعد أن وردت
روايات كثيرة عنهم عليهم السلام تدلّ على أنّ الآية تبطل إمامة كل من عبد صنماً،
وأنه لا يمكن أن يكون السفيه الذي رغب عن ملة إبراهيم إمام المتقين. فراجع جوامع
الحديث والتفاسير الروائية. وها نحن نذكر من طريق كل من الفريقين نموذجاً لها:
فعن السُنّة: عن أبي الحسن الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسنداً, عن عبد الله بن
مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا دعوة إبراهيم. قلت: يا رسول الله
وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟
قال: أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[34]
فاستخف إبراهيم الفرح، قال {وَمِن ذُرِّيَّتِي} أئمة مثلي، فأوحى الله عز وجل إليه
أن يا إبراهيم، إنّي لا أعطيك عهداً لا أفي لك به، قال: يا رب، ما العهد الذي لا
تفي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك عهداً. قال إبراهيم عندها {وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ
النَّاسِ}[35]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فانتهت الدعوة إليّ والى علي، لم
يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبياً واتخذ علياً وصياً.
عن الشيعة: عن الكليني والمفيد والعياشي ـ رحمهم الله ـ مسنداً, عن الصادق عليه
السلام: إن الله تبارك وتعالى اتخذ ابراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله
اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وأنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وأن
الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال {إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا}[36].
قال: فمن عِظَمِها في عين إبراهيم قال {وَمِن ذُرِّيَّتِي}؟ {قَالَ لاَ يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[37] قال: لا يكون السفيه إمام التقي[38]
ومثله عن الباقر عليه السلام.[39]
_______________________
[1] سورة البقرة، الآية: 124.
[2] سورة الملك، الآية: 2.
[3] سورة الكهف، الآية: 7.
[4] سورة الأنبياء، الآية: 35.
[5] سورة الكهف، الآية:5.
[6] سورة ابراهيم، الآية: 24.
[7] سورة النساء، الآية: 171.
[8] سورة آل عمران، الآية: 59.
[9] سورة الحجر، الآية: 79.
[10] سورة يس، الآية: 12.
[11] سورة الاحقاف. الآية: 12.
[12] سورة الأنبياء، الآية: 73.
[13] سورة القصص، الآية: 41.
[14] سورة الصافات، الآية: 106.
[15] سورة السجدة، الآية: 24.
[16] سورة البقرة، الآية: 124.
[17] سورة مريم، الآية: 43.
[18] سورة الأنبياء، الآية: 60.
[19] سورة إبراهيم، الآية: 39.
[20] سورة الحجر، الآية: 54.
[21] سورة العنكبوت، الآية: 26.
[22] سورة الصافات، الآية: 101.
[23] سورة النساء، الآية: 64.
[24] سورة الأحزاب، الآية: 21.
[25] سورة الأنبياء، الآية: 73.
[26] سورة الأنبياء، الآية: 27.
[27] سورة البقرة، الآية: 124.
[28] سورة الصافات، الآية: 100.
[29] سورة البقرة، الآية: 128.
[30] سورة إبراهيم، الآية: 35.
[31] سورة البقرة، الآية: 124.
[32] سورة لقمان، الآية: 13.
[33] وقد يقال: إنّ الاوصاف على قسمين: فقسم منها العالم والعادل لا يكفي حصولها في
وقت ما لبقاء صدقها على صاحبها بل يجب استمرارها. وقسم منها ما يكفي أن يحصل مبدؤها
الاشتقاقي ولو في آن من الحياة لتبقى وصفاً لصاحبها كالقاتل والوالد وأمثالهما.
ووصف الظالم هو من القسم الثاني دون الاول.
[34] سورة البقرة، الآية: 124.
[35] سورة ابراهيم، الآية: 35، 36.
[36] سورة البقرة، الآية: 124.
[37] سورة البقرة، الآية: 124.
[38] أصول الكافي: ج1، ص ح2 و 4، مرآة العقول: ج2، ص 285و 286، غاية المرام نقلاً
عن المفيد في أماليه: ص 272، ح 11، نور الثقلين: ج1، ح 342، ص 102.
[39] نور الثقلين: ج1، ح 343 ص 102.