مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

بحوث في ولاية الفقيه

الدرس السادس عشر: وحدة الولاية وتعددها [2]

هل الأصول الإسلامية والقواعد الدينية والأدلة الشرعية تفيد أن الأصل في الولاية تعدد الولاة بحسب تعدد مناطقهم؟ أم أنها تفيد أن الأصل هو وحدة الولي في جميع البلاد الإسلامية، أي أن يكون هناك ولي واحد فيها لكن على نحو الوجوب، بحيث لا يجوز أن يكون في الأمة أكثر من ولي واحد عليها، وإنما يلجأ إلى التعدد في حالات الاضطرار؟
تأسيس الأصل
هل المحتاج إلى الدليل هو القول بالوحدة أم المحتاج إلى الدليل هو القول بالتعدد؟ وهذا السؤال له أثر مهم في البحث، لأننا لو قلنا بالأول، فلازمه أن التعدد هو الأصل ويكفي القائل بالتعدد حينئذ عدم دليل على الاتحاد، وإن قلنا بالثاني، فمعناه أن الأصل هو الاتحاد ويصبح القائل بالتعدد مطالباً بالدليل.
والظاهر أن الأصل يقتضي الاتحاد، فإذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي ككل واعتبرناه دائرة اجتماعية واحدة، لم يكن لنا خيار إلا فرض ولي واحد فيها إلا في حالات الضرورة، وأما في حالات القدرة فالقول بالتعدد يحتاج إلى دليل.
ثم إن عدم انضباط مقياس التعدد يفتح الباب واسعاً أمام تكثر الولاة بحسب الأحياء فضلاً عن المدن والبلاد، ويدفع إلى المزيد من التشتت والتفريق في المجتمع الإسلامي، إذ ما دمنا قد قلبنا بتعدد الولاة بحسب البلاد، فلم لا نقبل بتعدد الولاة بحسب المناطق أو بحسب الأمصار، ولم لا نقبله على مستوى الأحياء، فهذا تشتت في تشتت وليس هذا هو مرام الإسلام يقيناً، وأنه بعيد جداً عن روح الإسلام وعما أسس في الإسلام.
وأما حديث أن الإمام(ع) كأنه يريد بث الولاة في البلاد والأمصار فهذا يمكن الركون إليه لو كان الإمام حياً ظاهراً يمكن للولاة الوصول إليه، أما وأنه غائب فإن مرجع دعوى إرادة الإمام(ع) لبث الولاة إلى دعوى إرادته لتفكيك الأمة والمجتمع المسلم مع كلما يترتب على ذلك من مخاطر ومفاسد وهذا غير معقول. ولذا فإن قياس عصر الغيبة على عصر الحضور قياس مع الفارق، لأن الإمام(ع) كان على رأس الهرم وكان هو الناظر العام والولي التام فلم يضر التعدد بوحدة الولاية بل كان نابعاً منها.
أدلة وحدة الولاية
الدليل الأول: إن الآيات القرآنية والنصوص الشريفة تتعاطى مع المسلمين على أنهم أمة واحدة ومجتمع واحد ليس لهم إلا حكومة واحدة، وكذا حال الروايات، وكذلك هي مرتكزات المسلمين وسيرتهم من كلا الفريقين أعني السنة والشيعة، وأي تفكيك بين الأمة إلى بلاد وأمصار ينافي تلك الآيات والروايات والمرتكزات. صحيح أنهم تنازعوا فيما بينهم، لكن لم يكن النزاع في صحة وجود أكثر من ولي بل كان النزاع حول من يملك أهلية ذلك.
فوحدة الولي ووحدة الحكومة الإسلامية كانت أمراً مسلماً في ارتكاز المتشرعة من حين إنشاء الدولة الإسلامية على يد الرسول الأكرم(ص)، وظهرت بوضوح أكثر بعد وفاته(ص) إذ كان النزاع الظاهر في السقيفة وغيرها في من يكون ولي هذه الأمة، ولم يخطر ببال أحد أن يقسم البلد الإسلامي أو أن يدعو إلى تقسيمه إلى دوائر يكون لكل دائرة وليها الخاص.
الدليل الثاني: الآيات القرآنية والروائية التي تدعم ما ذكرنا، وأن المسلمين يجب أن يحفظوا ترابطهم فيما بينهم وأن لا يختلفوا ولا يتشتتوا، وإن تعدد الولاية مع إمكان الاتحاد يخالف كل تلك الروايات والآيات.
فمن الآيات:
قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله}[1].
فكيف يكون المؤمنون والمؤمنات أولياء وأنصار لبعضهم البعض، وكيف سيتعاونون فيما بينهم على نشر الشريعة وأحكامها وبث المعروف ومنع المنكرات إن تفككوا إلى مجتمعات وحكومات ودول.
وقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}[2].
ومن الروايات:
ما رواه الصدوق في الأمالي بإسناده عن الإمام الكاظم(ع) عن آبائه عن رسول الله(ص):
"من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. قيل يا رسول الله: وما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة الحق وإن قلّوا"[3].
وما رواه في الكافي بسنده عن الإمام الصادق(ع): أن رسول الله(ص) قال: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم"[4].
وقد تقدم في الدرس الثاني بعض الروايات حول أن الإمامة نظام الأمة.
ونتيجة هذا الدليل هو أن الأمة الواحدة لا يمكن أن يكون فيها أكثر من حكومة واحدة وولاية واحدة وهو الاتحاد، فيجب على مدعي التعدد أن يدعي أن وحدة الأمة قد تم التنازل عنها في عصر الغيبة.
الدليل الثالث: إن هناك روايات دلت على أن المسلمين كأمة واحدة لا يكون لهم أكثر من رأس واحد، ومن هذه الروايات ما رواه الشيخ الكشي بإسناده عن أبي عبد الله(ع) في حديث قال: "ما لكم وللرئاسات إنما للمسلمين (المسلمون) رأس واحد"[5].
وهذا النص موافق للعقل وللاعتبار العقلائي في مقام الحكم والرئاسة، كما أنه صالح للاستدلال، سواء كانت النسخة "للمسلمين" أم كانت "المسلمون".
أما على الأول فواضح، إذ تكون الرواية صريحة بأن الأصل في مجتمع المسلمين رئاسة واحدة لهم جميعاً.
وأما على الثاني، فلأنه يدل مباشرة على كون المسلمين مجتمعاً واحداً ودائرة واحدة، وقد بينا فيما سبق أن المجتمع الواحد لا يجوز عقلاً أن يحكمه أكثر من رأس واحد.
الدليل الرابع: أن ننظر إلى مصلحة الأمة ونقرر على أساسها ما الذي توجبه، وهي مصلحة واحدة لا تتحقق إلا بوحدة الأمة ووحدة قيادتها لا بتعددها وتعدد قادتها.
إن القول بالتعدد دون وجود جهة حاكمة عامة ذات سلطة يعرض مصالح الأمة للضياع، وإذا تم القبول بوجود مرجعية حاكمة على رأس كل وال حتى وإن كانت هذه المرجعية الحاكمة هي مجلس قيادي صاحب سلطة وقرار وولاية فهذا مرجعه إلى القول بوحدة الولاية.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر ضرورة أن يكون الولي على الأمة واحداً، وقد كان ينبغي عد هذا من البديهيات، واعتبار أن تعدد الولاية وتقسيم الأمة إلى أقسام لا ينبغي طرحه في غير الحالات الضرورية التي لا يمكن معها الاتحاد.
ومن جميع ما تقدم يتبين أن القول بوحدة الولاية في الأمة لا تتوقف على النص الوارد في أدلة ولاية الفقيه.
_____________________
[1] سورة التوبة:71.
[2] سورة آل عمران:103.
[3] البحار، ج27، ص67.
[4] البحار، ج،2 ص148. والكافي، كتاب الحجة باب ما أمر النبي(ص) بالنصيحة.
[5] الوسائل، الجزء11 من طباعة المكتبة الإسلامية، الباب50 من أبواب جهاد النفس، الحديث12.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية