مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

البيعة السياسية.. دراسة فقهية مقارنة

النصوص المانعة من التعدد
 

روى الصدوق رحمه الله في "علل الشرائع" عن الرضا (ع): "فان قال: فلم لا يجوز ان يكون في الارض امامان في وقت واحد أو اكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:
منها: ان الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما. وذلك انا لم نجد اثنين الا مختلفي الهمم والارادة. فاذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وارادتهما وتدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن احدهما اولى بالطاعة من صاحبه، فأن يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون احد مطيعاً لاحدهما الا وهو عاص للآخر. فتعم المعصية اهل الارض، ثم لا يكون مع ذلك السبيل إلى الطاعة والايمان ويكونون انما اوتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر، اذ امرهم باتباع المختلفين.
ومنها: انّه لا يكون واحد من الحجتين اولى بالنطق والحكم والامر والنهي عن الآخر. فاذا كان هذا كذلك وجب عليهما ان يبتدءا بالكلام وليس لاحدهما ان يسبق صاحبه بشيء إذا كانا في الامامة شرعاً واحداً. فان جاز لاحدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك. وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والاحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا امام لهم"[1].
وفي صحيحه الحسين بن ابي العلا: قلت لابي عبد الله (ع): تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا. قلت يكون امامان؟ قال: لا الا واحدهما صامت[2].
وفي كمال الدين للصدوق عن ابن ابي يعفور انّه سأل ابا عبد الله(ع) هل يترك الارض بغير امام؟ قال: لا. قلت: فيكون امامان؟ قال: لا الا واحدهما صامت[3].
كلمات اعلام اهل السنة:
وقد صرح اعلام المسلمين بشكل قاطع لعدم جواز تعدد الولاية في بلاد المسلمين، وان حكم السابق من الولاية هو النافذ واللاحق باطل.
ومن هؤلاء التفتازاني في شرحه على العقائد النفسية ص138 والامام الشافعي في الفقه الاكبر الطبعة الاولى ص39 واحمد بن يحي المرتضى في البحر الزخار 5/386 وغيرهم ونحن ننقل فيما يلي بعض كلمات الاعلام على سبيل الشاهد:
يقول الماوردي المتوفي في 450 هـ في الاحكام السلطانية: "إذا عقدت الامامة لامامين في بلدين لم تنعقد امامتهما لانه لا يجوز ان يكون للامة امامان في وقت واحد، وان شذ قوم فجوزوه".
واختلف الفقهاء في الامام منها، والصحيح في ذلك، وما عليه الفقهاء والمحققون ان الامامة
لا سبقهما بيعة وعقداً.. فاذا تعين السابق منهما استقرت له الامامة وعلى المسبوق تسليم الامر إليه والدخول في بيعته[4].
ويقول ابو العلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفي في 458 هـ "ولا يجوز عقد الامامة لامامين في بلدين في حالة واحدة فان عقد لاثنين وجدت فيهما الشرائط فان كان في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وان كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد، فان علم السابق منهما بطل العقد الثاني"[5].
ويقول السيد صديق حسن في الروضة الندية في شرح الدرر البهية:
"وإذا كانت الامامة الإسلامية مختصة بواحد، والامور راجعة إليه مربوطة به، كما كان في ايام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الاول ان يقتل إذا لم يتب عن المنازعة"[6].
نقض البيعة:
نقض البيعة من الذنوب الكبيرة التي وردت نصوص كثيرة في تأكيد حرمتها، وغلظة العقوبة به.
وفيما يلي نورد طائفة من هذه النصوص:
1 ـ في المجالس عن علي بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفر (ع) قال: ثلاث موبقات:
1 ـ نكث الصفقة.
2 ـ ترك السنة.
3 ـ فراق الجماعة[7].
قال العلامة المجلسي في ايضاح مفردات الحديث نكث الصفقة: نقض البيعة.
2 ـ وفي المحاسن ايضاً عن ابن فضال عن ابن حميلة عن محمد بن علي الحلبي عن ابي عبد الله (ع) قال: من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع فريق الإسلام من عنقه، ومن نكث صفقة الامام جاء إلى الله اجذم[8].
3 ـ وفي خصال الصدوق عن جعفر بن محمد (ع) عن ابيه (ع) ان النبي (ص) قال:
ثلاث موبقات: نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة[9].
4 ـ وفي اصول الكافي: عن ابي عبد الله (ع) من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة
(الامام) جاء إلى الله تعالى اجذم[10].
5 ـ وفي نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين عليه السلام "ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل. ولكن اهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار"[11].
ويقصد الامام بالشاهد طلحة وزبير وبالغائب معاوية.
6 ـ وفي كتابه عليه السلام إلى معاوية بن ابي سفيان:
"انّه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار ولا للغائب ان يرد"[12].
7 ـ وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم من كتاب علي عليه السلام إلى معاوية "اما بعد فان بيعتي لزمتك وانت بالشام لانه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان"[13].
فلا يخص حرمة نقض البيعة الشاهدين فقط، وانما تعم الحاضر والغائب.
8 ـ ومن كلام له عليه السلام في الخروج عن طاعة الامام الذي بايعه المسلمون "فان خرج عن امرهم خارج بطعن أو بدعة رده إلى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين"[14].
صور مختلفة للبيعة
1 ـ لابد ان نعرف اولاً ان الاصل في البيعة على الامرة والولاية هو بيعة المسلمين جميعاً للامام والوالي فان الامام يتم نصبه على رأي بيعة المسلمين وعلى الرأي الآخر تتنجز ولايته بالبيعة. وعلى كل حال فالاصل هو مبايعة المسلمين له جميعاً واختياره من قبلهم للامامة والولاية بالاجماع والاتفاق.
2 ـ الا ان هذا الاصل لا يكاد يتحقق عادة، فلا يكاد يتفق المسلمون جميعاً على حاكم وامام، وان اتفق في التاريخ في رقعه من رقاع بلاد المسلمين فهو من النادر الذي بحكم المعدوم.
وعليه فان الادلة على البيعة وانتخاب الامام من قبل المسلمين تنصرف إلى البديل الذي يحل محل اجماع المسلمين واتفاقهم عادة في مثل هذه الاحوال.
يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: "ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن اهلها (اهل المدينة) يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار".
وقد سبق ان ذكرنا من قبل ان الحالة البديلة للاتفاق والاجماع في البيعة هي بيعة الاكثرية من الاُمّة واجتماعهم على شخص.
وذلك ان المحتملات في الامر اربعة:
1 ـ اهمال البيعة وبالتالي اهمال امر الولاية وهو حرام قطعاً، كما سبق ان ذكرنا، ولا يجوز.
2 ـ اعتماد حالة الاجماع واتفاق الاُمّة جميعاً على شخص واحد، فقط وهو يكاد ان يكون امراً ممتنعاً أو نادراً بحكم الممتنع.
3 ـ اعتماد رأي الاقلية ونبذ رأي الاكثرية وهو قبيح.
4 ـ اعتماد رأي الاكثرية وطرح رأي الاقلية وهو الاحتمال الوحيد المعقول من بين هذه الاحتمالات.
وعليه فيتعين ان تكون بيعة الاكثرية لشخص هو البديل الشرعي لبيعة عموم المسلمين. يتعين الفقيه لامامة المسلمين ببيعة الاكثرية.
5 ـ وانتخاب ولي الامر من قبل الاكثرية يتم ضمن واحدة من صورتين:
1 ـ الانتخاب المباشر من قبل الاُمّة لولي الامر.
2 ـ انتخاب هيئة من الخبراء من ذوي الرأي والمعرفة من قبل الاُمّة وهذه الهيئة تتولى انتخاب ولي الامر من بين الافراد الصالحين لولاية الامر باكثرية الاراء.
ومآل كل واحدة من هاتين الصورتين واحد وهو انتخاب الاكثرية للفقيه الولي، وذلك كله حيث يمكن انتخاب ولي الامر، بصورة مباشرة، كما في الحالة الاولى أو غير مباشرة كما في الحالة الثانية، كما في عصرنا هذا، فان اجراء مثل هذه الانتخابات العامة امر ممكن بما يسر الله تعالى لعباده في هذا العصر من وسائل الاتصال والنقل والادارة والضبط.
6 ـ وحيث لا يمكن اجراء انتخابات عامة، كما كان يتفق ذلك كثيراً وغالباً في العصور السابقة، فان الحالة البديلة لاجراء الانتخاب والاختيار العام المباشر وغير المباشر هو ايكال الامر إلى جماعة من المسلمين من ذوي الخبرة والمعرفة وممن يضع عامة المسلمين ثقتهم فيه عادة.
وهذه الحال هي حالة بديلة شرعاً وعرفاً لحالة الاجراء العام للانتخابات وليست لهذه الحالة صيغة محددة، الا ان المعيار العام فيها هو ان يوكل الامر إلى جماعة من المسلمين يملكون الخبرة والمعرفة الكافية ويتمتعون بثقة عامة للمسلمين.
روى الطبري في حوادث بيعة الامام امير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان:
"فلما اجتمع اهل المدينة قال لهم اهل مصر انتم اهل الشورى وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الاُمّة فانظروا رجلاً تنصبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور علي بن ابي طالب نحن به راضون"[15].
وقد وردت في التاريخ الاسلامي تطبيقات لبيعة اهل الحل والعقد: "الحالة البديلة لبيعة عامة المسلمين" ننقل فيما يلي بعض النماذج منها:
1 ـ يقول امير المؤمنين عليه السلام: "انما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن أو بدعة رده إلى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين"[16].
2 ـ ويقول امير المؤمنين عليه السلام "انما الناس تبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست استحل ان ادع معاوية، يحكم على الاُمّة ويركبهم ويشق عصاهم"[17].
3 ـ وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: "وجاء الناس يهرعون إليه (علي عليه السلام) فقالوا له: نبايعك فمد يدك، فلابد من امير. فقال علي عليه السلام: ليس ذلك اليكم، انما ذلك إلى اهل بدر فمن رضى به (اهل بدر) فهو خليفة"[18].
4 ـ وفي كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة: "فقام الناس فاتوا علياً في داره، فقالوا نبايعك فمد يدك، لابد من امير، انت احق بها، فقال: ليس ذلك اليكم، انما هو لاهل الشورى واهل بدر. فمن رضى به اهل الشورى واهل بدر فهو خليفة"[19].
5 ـ وفي تاريخ الطبري: "فلما اجتمع اهل المدينة قال لهم اهل مصر: انتم اهل الشورى، وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الاُمّة"[20].
6 ـ وفي ارشاد المفيد: عن الامام الحسين عليه السلام: "واني باعث اليكم اخي وابن عمي وثقتي من اهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب الي انّه قد اجتمع رأي ملتكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم فاني اقدم اليكم وشيكاً"[21].
فهذه اربعة عناوين في صدر الإسلام كل منها يعتبر تطبيقاً لاهل الحل والعقد الذين يحكمون محل الاُمّة في انتخاب ولي الامر وهي (المهاجرون والانصار) (اهل بدر) (اهل المدينة) (اهل الحجى والفضل).. وهذه العناوين كما ذكرنا لا تتجاوز ان تكون تطبيقاً للعنوان العام لاهل الحل والعقد الذي ذكرناه، وتختلف هذه العناوين من ظرف إلى ظرف آخر.
* * * *
_______________________
[1] عيون اخبار الرضا 2/101 الباب 34 الحديث 1. وعلل الشرائع 1/254 الباب 182 (باب علل الشرائع) الحديث 9.
[2] اصول الكافي 1/178 كتاب الحجة باب ان الارض لا تخلو من حجة ج1.
[3] رواه المجلسي في البحار 25/106.
[4] الاحكام السلطانية للماوردي ص9 مطبعة مصطفى السباعي بمصر 1386هـ.
[5] الاحكام السلطانية لابي العلي، ط اندونيسيا 1394هـ.
[6] الروضة الندية في شرح الدرر البهية للسيد صديق حسن، 413، ط المطبعة الاميرية ـ مصر.
[7] بحار الانوار 2/266، ج25.
[8] بحار الانوار 2/267، ج28.
[9] الخصال 1/42.
[10] اصول الكافي 1/404 ـ 405.
[11] نهج البلاغة صالح/248 خطبة 173.
[12] نهج البلاغة، صبحي صالح /366. الكتاب(6).
[13] صفين لنصر بن مزاحم 290.
[14] نهج البلاغة صبحي صالح 266.
[15] انظر تاريخ الطبري 6/3075 ط ليدن.
[16] نهج البلاغة، صبحي صالح/366 الكتاب6.
[17] شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 4/17.
[18] تاريخ الخلفاء للسيوطي 109.
[19] الامامة والسياسة لأبن قتيبة 1/47.
[20] تاريخ الطبري 6/3075.
[21] ارشاد المفيد 5/18.

السابق

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية