ولاية الفقيه
قبل الدخول في بحث دور (الولي) أو (الفقيه)، لابد من الإشارة إلى موضوع هو من
الأهمية والخطورة بمكان، مما يستدعي الوقوف عنده وفهم أبعاده الخطيرة، ذلك هو مبدأ
(ولاية الفقيه) الذي يشكّل أحد المرتكزات الأساسية في النظرية الإسلامية في السياسة
والحكم.
وبمعرفتنا ـ خلال البحث ـ لمعنى الفقيه ، ومن يكون؟ ومعنى الولاية لذلك الفقيه،
وكيف تكون وفي أي المجالات؟ حينئذ سنعرف مدى أهمية دور (الفقهاء) في قيادة الأمة أو
في أحكام وتشريعات منطقة الفراغ الموكلة إليهم، باعتبار أنّ الفقيه امتداد طبيعي
لمبدأ الولاية العامة للأنبياء والأئمة عليهم السلام ـ على ما سيأتي بيانه ـ على
الناس، وهذا يستلزم وجوب الطاعة للفقيه أو المرجع الجامع للشرائط والتسليم له في كل
ما يصدر عنه من ممارسات أو يتصدى له في جميع الشؤون الحياتية، كما نخضع بالتسليم
والانقياد للنبي باعتباره الولي المطلق للإنسان دون غيره من البشر، وهو أولى بالناس
حتى من أنفسهم(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم..)[1] كذلك يأتي دور الأئمة عليهم
السلام بعد النبي محمد (ص) في ولايتهم على الناس وقيادتهم للأمة.
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..}[2]
ماذا تعني ولاية الفقيه
باختصار ولاية الفقيه تعني: حاكمية الفقيه الجامع لشرائط الولاية، من العلم والتقوى
والشجاعة والاطلاع على أوضاع الأمة وحمل همومها.
وعلى أساس هذا المبدأ ترتبط الأمة في (عصر الغيبة) بفقهائها وعلمائها، الواعين
المتقين الممحّصين في ذات الله والمخلصين في تحمّل مسؤولياتهم الرسالية الكبرى..
والتي من أهمها صيانة (الأمة الإسلامية) و(التجربة الإسلامية) من الانحراف ومن كيد
الخائنين، وإقامة أحكامها وفرائضها وشريعتها وإدارة المجتمع الإسلامي على أساس
منها. وهناك من النصوص الكثيرة التي تؤكد ذلك:
{.. ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..}[3].
(مجاري الأمور بيد العلماء)[4]
(إنّ العلماء ورثة الأنبياء)[5]
(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا)[6].
الفقاهة: العلم بالله وبأوامره
إنّ مبدأ ولاية الفقيه يبتني على فلسفة أساسية عامة وثابتة في كافة الرسالات
والشرائع الربّانية.. تلك هي (مرجعية العلم بالله وبأمره) في كل شيء وبالخصوص في
الحياة السياسية والاجتماعية للإنسان، ذلك أنّ النظرية الربّانية تجعل قيمة الإنسان
واعتباره على أساس مدى علمه بالله، وارتباطه به، وعلمه بأوامره وأخلاقه وتجسيده
لها، وهو بذلك استحق أن يكون خليفة الله في الأرض ومكرماً من قِبَله، وسيداً
الكائنات ومالكاً لها، يستخدمها في إعمار الأرض طبيعياً واجتماعياً وإنسانياً.
فلا غرو إذا كان أقدس وأشرف خصيصة في الوجود هي خصيصة ( العلم بالله وبأمره)، كما
لا عجب في أن تربط الحياة السياسية والاجتماعية للإنسان بالعلم الرباني العارف
بالله والملتزم بأوامره، فإن هذا المبدأ هو الكفيل بربط الإنسان بالقيم والحقائق
الكبرى في الوجود، وبإقامة العدل الإلهي والسلوكية الربانية في الأرض. ومن الطبيعي
أن يكون التفاضل بين بني الإنسان على أساس هذا المقياس فحسب{ ... يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[7].
ولاية الفقيه امتداد طبيعي لخط الأنبياء
ومن الطبيعي على أساس هذه القيمة الربّانية أن يكون النبي هو القائد والولي الأول
للبشرية في كل عصر؛ لأنه العالِم الأول بالله وبأوامره يأخذ علمه وعرفانه بالله منه
مباشرة، ومن ثم يأخذ الآخرون منه، ومن بعده يأتي خلفاؤه الأوصياء الأئمة عليهم
السلام.. ومن بعدهم الفقهاء المتخرّجون من مدرستهم حقاً وصدقاً، وهذه مراتب ودرجات
للعالم الرباني.
وبهذا نعرف أنّ مبدأ ولاية الفقيه من الناحية العقائدية والتاريخية ـ معاً ـ هو
امتداد لمبدأ الولاية العامة للأنبياء والأئمة في عصر الغيبة، وقد أفرد الأئمة
عليهم السلام وأصحابهم جهوداً جبارة لتركيز هذا المبدأ الأساس في ضمير الأمة
الإسلامية من خلال الكثير من المواقف والنصوص التي صدرت منهم للتأكيد على العلماء
من تلاميذهم وحملة تراثهم ورواة أحاديثهم.
وإنّ ممارسات أئمة المرحلة الأخيرة ـ وخصوصاً الإمام الحجة (عج) ـ في تثبيت وتكريس
هذا المبدأ مفهومياً وعملياً، واضحة جداً لمن يراجع تأريخهم وحياتهم، ويلاحظ
الأحاديث والمكاتبات الصادرة عنهم عليهم السلام.
ولاية الفقيه مبدأ لا نقاش فيه
وربما يتخيّل البعض بأن مسألة ولاية الفقيه مختلف فيها بين الفقهاء من الناحية
الفقهية، وأنّ هناك من يثبتها ومن ينكرها، وقد حاولت بعض الفئات المنحرفة أن تثير
هذه النقطة وتستغلها في صراعها مع خط الإمام وخط الجمهورية الإسلامية الأصيل في
بداية انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، ولكن تصدّي ومبادرة الإمام
القائد الخميني (حفظه الله تعالى) والواعين من العلماء الأعلام في علاج الموقف،
وشرح أبعاد هذا المبدأ المهم والخطير لجماهير الأمة قد أحبط تلك المحاولات اليائسة،
التي كانت تريد النيل من الإسلام والمسلمين على حساب مطامحها الشخصية، والواقع أنّ
كل هذا الضجيج كان مفتعلاً ولغايات خبيثة ضد الإسلام الحق، وربما سقط فيها أيضاً
بعض المغفلين من المسلمين بل حتى من بعض العلماء والأفاضل.
فولاية الفقيه مبدأ لاشك فيه ولا يمكن أن يناقش من الناحية الفقهية والعلمية..
بمعنى أنّ مسألة لزوم تولّي الفقيه الجامع لشرائط الولاية لممارسة دور قيادة
التجربة الإسلامية، وملء منطقة الفراغ التشريعية والتنفيذية والقضائية، والإشراف
على تطبيق أحكام الإسلام وإقامة حدوده وفرائضه مما لا خلاف فيها بين الفقهاء, ولا
يوجد فقيه يحتمل أن تكون هذه الولاية لأحد من أبناء الأمة الإسلامية دونهم، بل
المتسالم عليه فقهياً أنّ الفقهاء الواجدين لشرائط الولاية هم المتيقّن صحة تولّيهم
للقيادة دون غيرهم، وإنما الاختلاف بحسب الحقيقة في أمرين:
أولاً: في ثبوت الولاية للفقيه على حد ما هو ثابت للإمام عليه السلام أو اختصاصها
بخصوص الدائرة التي يتوقف عليها حفظ النظام الإسلامي وإدارة المجتمع على أساس
الإسلام.
ثانياً: في صحة بعض الأدلة والنصوص التي استدل بها لإثبات هذا المبدأ بعد الفراغ من
صحة الأدلة الأخرى على كل حال.
السياسة الإسلامية ذات طابع ديني
في النظرية الربّانية لا فصل بين الدين والسياسة؛ لأن الدين عبارة عن عقيدة وفلسفة
عن الحياة والمبدأ والإنسان ينبثق منها منهاج متكامل ينظم شؤون الإنسان، والتي من
أهمها حياته الاجتماعية والسياسية.
وليست فكرة الفصل بين الدين والسياسة إلا إحدى صنائع ومقولات الحضارة الغربية، التي
جلبت إلى بلاد الإسلام لإقصاء المسلمين عن دينهم وتراثهم وعزّهم المتمثل في الإسلام
المناهض لكل المستكبرين والطغاة، ولتحويل الدين الإسلامي الحنيف إلى مجموعة من طقوس
ونصائح عبادية وخلقية يؤديها الناس في خلواتهم، ثم تربيتهم في المجال السياسي
والاجتماعي ـ نتيجة للفراغ الحاصل حينئذ ـ في ضوء الأسس العلمانية الكافرة، لخلق
جيل من المسلمين قد مسخت شخصيته وإنسانيته، وارتبط داخلياً وفكرياً بالمستعمرين
وحضارتهم من حيث يشعر أو لا يشعر. كل ذلك لمزيد من السيطرة وبسط النفوذ الاستكباري
على بلاد المسلمين؛ لاستغلال ثرواتها وشعوبها.
ومن هنا كانت أول دعامة في المنهاج الإسلامي لتربية المجتمع الإنساني، هي مبدأ عدم
الفصل بين (الدين والسياسة) وأنّ المجال السياسي والاجتماعي من حياة الإنسان
كالمجالات الأخرى، بل قبلها مما يتناوله الإسلام ويوجّه الإنسان ويضع له فيها
منهاجاً وطريقة، ليجسّد خلافته لله من خلال ذلك المنهاج.
ومن هنا كانت (السياسة) جزءاً من صميم الشريعة والدين، وليكون الطابع الربّاني
حاكماً وسائداً على كل ألوان نشاط الإنسان الاجتماعي والسياسي والفردي في الحياة..
وهذه هي الميزة الوحيدة التي على أساسها تحتفظ (السياسة) بمعناها الصحيح السليم
والمفيد، الذي لا يمكن أن تنفك عنه حياة الإنسان الاجتماعية.
وبفقدان هذه الحقيقة (خصيصة الارتباط بالله وقيمه وشريعته) تخرج (السياسة) عن
معناها الحق، وتنقلب إلى ما يساوق الدجل والمكر والظلم والالتواء في سبيل الاستيلاء
على السلطة، وكسب المزيد من الامتيازات والنفوذ المادي والسياسي.. وهذا هو مصطلح
(السياسة) في المنظور الغربي المنحرف اليوم.
نظرية الولاية وآثارها الاجتماعية والسياسية
في حديث لإمامنا الصادق (ع) بعد أن يعدد أركان الإسلام، يأتي لمسألة (الولاية)
فيقول:
(ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية)[8]وهذه إشارة منه عليه السلام على مدى خطورة هذا
المبدأ وأهميته في النظرية الإسلامية، والواقع أنّ هذه الأهمية والخطورة تنشأ من
خطورة ودقة الحقل والمجال السياسي من الحياة الاجتماعية للإنسان، ذلك الحقل الذي
إذا ما ترك من دون وضع خطة ومنهاج رباني دقيق حاسم فيه كان منفذاً رئيسياً لانحراف
الأمة وتحريف التجربة الربانية، وتفشّي الظلم والفساد في البلاد والعباد. وفي
النهاية تصادر كل القيم والأخلاق والأحكام والسنن الإنسانية التي بشّرت بها
الرسالات والشرائع الربّانية.
إذاً فأقل تفريط أو تهاون في هذه النقطة يؤدي إلى الانحراف وانتهاء الأمة على المدى
الطويل، كما يشهد بذلك تأريخ الأمم والشعوب بصورة عامة.. وتأريخ التجربة الإسلامية
بصورة خاصة، وخطورة ودقة هذا الموقع ـ موقع قيادة الأمة ـ هي التي جعلت الشريعة
تربط بين تولّي هذا الموقع وبين مواصفات الإنسان الكامل الذي تتوفر فيه شروط
الاستخلاف الرباني، فاشترطت ابتداءً وبشكل عام أن يكون هذا الموقع مختصّاً
بالإنسان(المعصوم) من نبي أو إمام.
من هنا يمكن استخلاص ثلاثة معان من حديث الإمام (ع):
المعنى الأول
إنّ قيادة البشرية ككل لا يمكن أن تناط بصورة أساسية إلى غير (المعصوم)؛ لأنه لا
يتمكن غير الإنسان الكامل والخليفة الحق لله من القيام بأعباء هذه القيادة بالنسبة
للبشرية جمعاء، نعم, بالنسبة إلى القيادة النسبية الجزئية أي في مقطع خاص من الزمان
كعصر الغيبة، أو لمنطقة خاصة يمكن لغير (المعصوم) أن يتولّى القيادة والأمانة حسب
تفويض (المعصوم) وبالشروط الدقيقة التي يشترط (المعصوم) نفسه توفرها في (الولي).
وهذا هو المُعبّر عنه بمبدأ (ولاية الفقيه) في عصر الغيبة، وهكذا كان هذا المبدأ من
أخطر وأدق أركان الشريعة الإلهية، بل لا يمكن حفظ الشريعة وأركانها الأخرى إلا من
خلال صيانة هذا الركن, وإلا فسوف تصادر الشريعة والأمة المتشرّعة ـ معاً ـ كما وقع
ذلك كثيراً في الشرائع والأمم الرسالية.
المعنى الثاني
إنّ مسألة (القيادة السياسية) هي المسألة المركزية في صراعات بني الإنسان وتناقضهم
فيما بينهم؛ لأنها تشكّل النقطة الجوهرية من الحياة الاجتماعية التي يتنافس عليها
الناس، ويتهالكون في سبيلها بحسب طبعهم المادي والنفساني التوّاق إلى الجاه والسلطة
والنفوذ والمال. ومن هنا كانت المحنة البشرية ـ أساسها وأصلها ـ منطلقة من هذه
النقطة، وكانت الصراعات والتناقضات والحروب والفتن كلها تحوم حولها، وكان الاختيار
الإلهي الكبير في هذا المجال. وأكثر من سقطوا كان سقوطهم بشكل مباشر أو غير مباشر
من خلال هذا الامتحان الإلهي العسير.
المعنى الثالث
إنّ النظرية الربّانية والتفسير الإلهي للإنسان يجعله كائناً متميزاً على سائر
المخلوقات في نقطة أساسية هي: إنه الكائن الوحيد الذي يعكس صورة الله سبحانه وتعالى
بمعنى من المعاني، وإنه الكائن الوحيد الذي نفخ فيه من روح الله فأصبح موجوداً
قادراً على التطور والحركة إلى الأمام ونحو الكمال باتجاه الكمال المطلق وهو الله
سبحانه وتعالى، وهو الموجود الوحيد الذي يمكنه أن يتحرر من عالم المادة والناسوت..
ويرقى في مدارج الملكوت.. إلى الله ... ويتشبّه بأخلاقه وأسمائه الحسنى، وهذا الرقي
والعروج إلى الله والتكامل في الإنسانية لا يمكن أن يكون إلا من لدن إنسان ربّاني،
يتقدم ركب البشرية في كل عصر وزمان ويقودها بفضل الله سبحانه ولطف منه وهداية
متواصلة له إلى تلك المنازل والمراتب والدرجات. فإنه من دون وجود قائد رباني وإنسان
كامل إلهي يجسّد القيم والأسماء الحسنى في كل مناحي الحياة البشرية، وخصوصاً
الاجتماعية والسياسية.. لا يمكن للبشرية أن تهتدي عملياً وتسير إلى الله سبحانه
وتعالى وصفاته وأسمائه الحسنى.
وهكذا يتضح أنّ البشرية لا يمكن لها أن تستغني عن (مبدأ الولاية) إذا أرادت أن تسير
بالمنهج الرباني الحق. وأنّ الناس إنما يمكنهم أن يعيشوا حياة اجتماعية عادلة عامرة
بالقيم الخالدة ومرتبطة بالله سبحانه وتعالى وسالكة إليه في كل ألوان النشاط
الإنساني الفردي والاجتماعي والسياسي، فيما إذا كان لهم إمام يرشدهم السبيل ويسلك
بهم الطريق ويجسّد لهم المثل الصالح والأسوة الحسنة.
المرجع هو الولي
ومن النقاط المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هي:
أنّ التفكيك بين (المرجع) و(الولي) الجامع للشرائط أمر خطير بصورة عامة، وربما يؤدي
إلى انهيار(مبدأ الولاية) نفسه؛ لأن الرجوع إلى (المجتهد) في التقليد ليس على حد ما
يقال من أنه من الرجوع إلى (أهل الخبرة) في المسائل الفقهية فحسب، بل هو بمعنى
التبعية المطلقة (للمرجع) وإعطاء الزمام بيده في كافة مناحي الحياة وألوان النشاط
الفردي والاجتماعي والسياسي، وهذا يجعل منه (ولياً) بحسب الحقيقة للإنسان شاء أم
أبى, التفت إلى ذلك أو لم يلتفت، ونحن لا نريد الدخول هنا إلى الوجه الفقهي لعدم
صحة مثل هذا التفكيك، وإنما نقتصر على الإشارة إلى أنّ هناك وجهاً (فنياً) لهذا
المدّعى، كما أنّ هذا الفصل مما يؤدي إلى أخطار اجتماعية وسياسية كبيرة واضحة. من
هنا لابد من تأكيد الرجوع في التقليد إلى (الفقيه الولي) الجامع للشرائط والمتصدي
بالفعل لقيادة الأمة وهو الإمام القائد (الخميني) دام ظله في يومنا هذا.
ولاية الأمر ... والدولة الإسلامية
إنّ مبدأ (ولاية الفقيه) يعني وجوب إطاعة (الولي الفقيه) والتسليم له في كل ما
يمارسه ويتصدى له في قيادة الأمة أو أحكام وتشريعات(منطقة الفراغ) الموكل أمر ملئها
إليه من الناحية الفقهية، سواء في ذلك ما كان منها يصدر عنه مباشرة أم من خلال
الأجهزة والمؤسسات التنفيذية والتشريعية المُقَرّة من قِبَله، والتي يعبّر عنها
بـ(الدولة) في المصطلح القانوني الحديث. ذلك أنّ الدولة كشخصية معنوية لا تكون
معتبرة شرعاً إسلاميا إلا إذا كانت مستندة إلى حكم ولي الأمر أو إقراره وإمضائه،
وفي غير ذلك لا تكون الدولة إسلامية ويكون كل تصرف منها غصباً وفاسداً من الناحية
الفقهية.
ومن أجل ذلك فقد ثبت في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، أنّ رئيس الدولة رئيس
الجمهورية لا يمكنه أن يتولّى من الناحية القانونية منصب الرئاسة إلا إذا أمضى ولي
الأمر الفقيه انتخابه وتعيينه في هذا المنصب.
وهكذا يتضح أنّ ما قد يطرح في بعض الكتابات من الفصل بين الدولة الإسلامية و ولاية
الفقيه، وأنّ مبدأ ولاية الفقيه لا يعني وجوب الالتزام بمقررات الدولة الإسلامية
بأنه من الأغلاط التي ربما صدرت انسياقاً وتأثراً بخلفية المفهوم القانوني الغربي
للدولة وهو بالطبع غير المفهوم الإسلامي الفقهي عنها.
ثم إنه لا يسوّغ لأحد من
أفراد الأمة أن يجتهد في قبال المواقف والأحكام والتوجّهات التي ينتهي إليها ولي
الأمر, ناهيك عن أن يتخذ مواقف عملية مخالفة لها.. حتى إذا حصل له اليقين بصحة رأيه
في تشخيص المصالح العامة؛ لأن من حق (ولي الأمر) على الناس الإتباع والتسليم بعد
اتخاذ القرار من قِبَله، كما أنّ من حقّهم عليه المشورة والنصح{ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ}[9]ولولا ذلك لما بقي لمبدأ الولاية معنى معقولاً، ولم يكن حينئذ
كيان ونظام موحّد لإدارة البشرية سياسياً واجتماعياً، فولاية الأمر تستبطن لا محالة
أن يكون الحسم والموقف النهائي في الممارسات الاجتماعية والقيادية بيد ولي الأمر
فحسب.. ويجب على الجميع إطاعته والانقياد له والتسليم لحكمه{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[10]
العلماء وقيادة الأمة
ثم إنّ مبدأ ولاية الفقيه وإن كان يعني حرفياً ولاية الفقيه الجامع لشرائط الولاية،
إلا أنه ينبغي أن يعرف أيضاً أنّ هذا المبدأ يستبطن بشكل وآخر إعطاء دور القيادة
الاجتماعية والسياسية للعلماء بالله وبأوامره، كل بحسب درجة علمه ومقدار تمثيله
للولي الفقيه. ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ النظرية الإسلامية الحقّة في السياسة
وقيادة المجتمع هي نظرية قيادة العلماء، وقد جاء في الأحاديث:
(مجاري الأمور بيد العلماء)[11].
و(الفقهاء أمناء الرسل)[12]
و(الفقهاء حصون الإسلام)[13]
وهذه منهجية وإستراتيجية أصيلة ودقيقة ينبغي الالتفات إليها في فَهْم النظرية
الإسلامية للقيادة والحكم.
دور الفقيه في التشريع
وبعد تلك اللمحة الوجيزة عن ولاية الفقيه نأتي إلى بيان الدور الذي يضطلع به
الفقهاء في التشريعات الإسلامية، حيث إنّ لهم دورين أساسيين ضمن النظرية الإسلامية
في التشريع:
الأول: دور الكشف وتفسير التشريعات الإسلامية الثابتة في أصل الشريعة والإفتاء بها
من قِبَل الفقيه، وهو في هذا المجال ككل مكتشف يبتغي الوصول إلى الواقع الموضوعي
المُشرّع من قِبَل الله سبحانه وتعالى أو الرسول (ص) ومن خلال الأدلة والقواعد
المقررة لعملية استكشاف الحكم الشرعي والتي يعبّر عنها (بالاجتهاد).
فالاجتهاد لا يعني التشريع ... بل يعني استكشاف ما هو مشرّع والوصول إليه عن طريق
أدلّته المتوفّرة.
الثاني: دور ملء منطقة الفراغ بوصفه ولياً للأمر بناءً على النظرية السياسية التي
ذهب اليها أكثر علماء (الإمامية) من ثبوت الولاية الصغرى في عصر الإمام المهدي(عج)
للفقهاء العدول الأتقياء.
وهكذا يتضح أنّ الفقيه بوصفه (مجتهداً) ليس مشرّعاً بحسب الحقيقة، وأنّ الاجتهاد لا
يعني التشريع، كما توهّم البعض... بل يعني التوصّل إلى ما هو مشرّع في الإسلام.
ولذلك ربما يقع خطأ في عملية الاستكشاف، فلا يصيب الاجتهاد الواقع التشريعي كما
فرضه الإسلام.
وعلى هذا الأساس أيضاً يحصل الاختلاف بين الفقهاء، فليس ذلك راجعاً إلى خلل في
التشريع الإسلامي أو تناقض فيه، وإنما مرجع ذلك إلى المجتهد نفسه، وإن كان له أجر
فيما أخطأ وله أجران فيما أصاب. باعتبار أنّ فتوى المجتهد هي الحجة في حق غير
المجتهد.
من هنا تكتسب فتاوى الفقهاء قوة التشريع علمياً وواقعياً في حياة الناس، حيث إنهم
ملزمون بمتابعة من تجتمع فيه شرائط التقليد في كل ما يتوصل إليه ويستنبطه من
الأحكام الشرعية، إلا أنّ ذلك بوصفه دليلاً مثبتاً لها على حد دليلية رواية الحديث
عن المعصومين التي يعتمدها الفقهاء بدورهم في إثبات الشريعة وأحكامها، ويترتب على
ذلك أنّ النتائج التي ينتهي إليها الفقهاء ليست على أساس ما يرونه من مصالح
ومناسبات تشريعية يرتؤونها أو يرون صلاحها كما يفعل المشرّعون للقوانين الوضعية، بل
ربما لو كان قد أوكل أمر التشريع إلى الفقيه نفسه، كان يستحسن ما يخالف ما استنبطه
من الأدلة الشرعية، فهو مقيّد بالاستدلال على الحكم الشرعي من طرقه ومصادره الثابتة
في أصول الفقه.
وهذه الخصيصة في الوقت الذي تجنّب الفقيه والتشريعات الإسلامية التي اجتهد في
التوصّل إليها، عن التأثّر بالأنظار الشخصية والنزعات الذاتية إلى حد كبير، وتحددها
بالضوابط الموضوعية المقررة لعملية الاجتهاد. واستنباط الحكم الشرعي يجعل الأمر
صعباً من ناحية أخرى على الدولة الإسلامية في مجال تطبيق الأنظمة الإسلامية في
المجتمع، فإنه ربما يقع اختلاف وتضارب بين فتاوى الفقهاء بشأن جانب من تلك الأنظمة،
ويكون لكل منهم جمهرة من المقلّدين في ذلك الرأي الفقهي المختلف فيه.
وهذا ما وقع فعلاً في الجمهورية الإسلامية في إيران بعد انتصار الثورة، إذ ليست
المسألة التي انتهى إليها هذا الفقيه أو ذاك معبّرة عن نظره الشخصي لكي يمكنه
التنازل عنها، وإنما يعبّر ـ في نظره ـ عن حكم الشريعة الإسلامية الذي توصّل إليه،
فكيف يمكنه التنازل عنه؟ ويمكننا إعادة صيغة السؤال الذي طرحناه آنفاً وهو: كيف
يمكن أن نعالج الاختلاف في فتاوى الفقهاء فيما يرتبط بالجانب الثابت من التشريعات؟
وهذه المسألة بحاجة إلى علاج، حيث إنّ هناك طرق عديدة يمكن أن توصل للعلاج نذكر
منها اثنتين:
أولاً: في صورة تصدّي (فقيه) واحد لتولّي الأمور باعتباره الأكفأ والأعلم الذي يرجع
إليه الناس عموماً، وتمكنه من تجسيد ذلك من خلال ممارساته القيادية[14]، فينبغي على
الدولة ـ حكومةً وشعباً ـ إتباع فتاوى ذلك الفقيه القائد، واعتبارها المعيار في
تنظيم الحياة الاجتماعية وأحكامها وسياساتها العامة.
وعلى الجميع الالتزام بذلك؛ لأن هذا هو فحوى أدلة ولاية الفقيه الجامع لشرائط
الولاية العامة والمتصدي فعلاً لممارستها في المجتمع، وأي توجّه آخر يوجب زعزعة
القيادة والولاية الإسلامية ولو في جزء من أجزائها أو يوجب تضعيفها يعتبر مرفوضاً
ومخالفاً مع مضمون تلك الأدلة بحسب روحها وجوهرها.
ثانياً: في صورة تعدد الفقهاء المتصدين وتكافئهم، فخير صيغة عملية لحل هذا الإشكال
هي ما طرحه دستور الجمهورية الإسلامية في هذا المجال،من تشكيل مجلس قيادة فقهائية،
يمكن للفقهاء في هذا المجلس أن يتوافقوا على أنظمة اجتماعية محددة ـ ولو اختلفت في
بعض جوانبها مع فتوى بعضهم ـ أما على أساس المصلحة الاجتماعية الأهم التي يتوقف
تحقيقها على وجود نظام موحّد، أو على أساس أنّ الإفتاء ليس واجباً على كل فقيه في
قبال فتوى أخرى تمتلك الشرعية، وإنما الواجب على الناس تقليد من يرجعون إليه من
الفقهاء إذا كان له فتوى وإلا رجعوا إلى غيره، وعلى هذا الأساس يمكن الانتهاء إلى
صيغ قانونية موحّدة في المجالات الاجتماعية والقانونية التي يتوقف تنظميها وإدارتها
على وجود صيغة واحدة، وتكون تلك الصيغة في كل أبعادها ـ ولو بالتلفيق ـ معتمدة على
اجتهاد فقيه جامع للشرائط.
وهكذا يمكن التغلب فقهياً على مشكلة التضارب والاختلاف في آراء الفقهاء بأحد هذين
الأسلوبين.
ثم عوداً على السؤال الثاني الذي طرح في مقدمة البحث وهو: ما هي ضوابط ممارسة ولي
الأمر لمسؤوليته التشريعية في المساحة المتروكة له؟
وللإجابة عن السؤال فإن هناك بعض النقاط التي لابد للحاكم الإسلامي أو الولي
مراعاتها وتطبيقها وهي كما يلي:
أ ـ أن لا تكون القوانين التي يشرّعها تخالف التشريعات الثابتة أي لا تتجاوز
المساحة المسموح للحاكم ملؤها ولو بحسب الروح والجوهر.
ب ـ أن تُسنّ هذه القوانين سواء في الدائرة الأولى أم الثانية أم الثالثة بما يحقق
الأهداف والاتجاهات المرسومة في الشريعة والمستفادة من القسم الثابت من التشريعات
المستنبطة من الكتاب والسنّة.
ج ـ أن لا تتضارب بالمبادئ التي ينادي بها مع المبادئ الأخلاقية والقيم التي لا شك
في اهتمام الإسلام بها.
د ـ أن تكون القوانين المشرّعة على طبق غبطة المجتمع الإسلامي الحق وصالحه.
هـ ـ وأخيراً أن تكون تلك القوانين بعد المشورة مع ذوي الاختصاص والكفاءة والإيمان،
حرصاً على المطابقة للواقع أكثر فأكثر{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[15] {
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[16].
ومن هنا تبرز أهمية مجالس الخبرة و الشورى وغيرها من الدوائر التي تكون جميعاً في
خدمة تشريع القوانين في الدائرة المتروكة للحاكم الإسلامي.
وبالمقارنة بين خصائص هذا النحو من التشريع وبين التشريعات الوضعية يظهر أنّ طريقة
التقنين في النظرية الإسلامية تتميز على الطريقة المتّبعة في الأنظمة الوضعية وذلك
في:
أولاً: اعتمادها على التشريعات الثابتة المُقرّة من قِبَل الله سبحانه وتعالى
العالم بمصالح العباد، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً.
ثانياً: في المساحة المتحركة من علاقات الإنسان، التي هي بحاجة إلى سياسات قانونية
تفصيلية من قِبَل (الحاكم الإسلامي) حيث يجب عليه في هذه الحالة أن يملأها معتمداً
في ذلك على منهج الاستشارة والاستفادة من الخبرات التخصصية وضمن الاتجاهات والأهداف
المرسومة في القسم الثابت من التشريع كما مرّ بنا.
وهذه خير طريقة للتقنين تجمع بين خصائص وامتيازات الشورى وكفاءة التخصص والخبرة،
وفي إطار قيم الرسالة وأهدافها واتجاهاتها ومؤشراتها الأساسية.
________________________________
[1] سورة الأحزاب، الآية: 6.
[2] سورة النساء، الآية: 59.
[3] سورة النساء، الآية: 83.
[4] مستدرك الوسائل ج3، ص 181 حديث 30.
[5] أصول الكافي ج1، ص 39 حديث 2.
[6] وسائل الشيعة، ج18 ، ص 101 طبعة/5 طهران 1401هـ.
[7] سورة المجادلة، الآية: 11.
[8] وسائل الشيعة ج1، ص 10، ط/6 طهران 1403هـ.
[9] سورة آل عمران، الآية: 159.
[10] سورة النساء، الآية: 65.
[11] مستدرك الوسائل ج3،ص 189، حديث 30.
[12] اصول الكافي ج1 باب المستأكل بعلمه والمباهي به حديث 5.
[13] أصول الكافي ج1 باب فقد العلماء ص 38 حديث 3.
[14] كما في زماننا هذا حيث تمثلت القيادة الشرعية للأمة في الإمام المفدى
الخمينيدام ظله.
[15] سورة الشورى: 38.
[16] سورة آل عمران: 159.
دور الأمة في التشريع
قد يتصور البعض على أساس ما تقدم، أنه لم يبق دور حقيقي للأمة في مجال تشريع
القوانين وأنظمتها الاجتماعية، إلا أنّ هذا التصور بعيد عن روح وواقع الشريعة
الإسلامية، بل يبقى للأمة دورها الخطير في هذا المجال يمكن تحديده ضمن الدوائر
التالية:
1ـ في اختيار الفقيه الأعلم والأكفأ والرجوع إليه في التقليد والولاية، فإن هذا
بحسب الحقيقة بيد الأمة نفسها، ضمن شروط الكفاءة والتقليد المقررة لرجوع الناس إلى
المرجع. وهذا يعني أنّ تشخيص القيادة أو المرجعية إنما هو من مسؤولية الأمة
واختياراتها، فيكون لها الدور الأساس والأول في ذلك، وفي كل ما ينجم عنه من نتائج
قانونية وتشريعية.
2ـ تحديد موضوعات الأحكام وتشخيصها، فإن الأمة تستطيع ـ ولو من خلال مجلس الشورى
الذي تنتخب هي أعضاءه ـ أن تتدخل في تحديد الأحكام المشرّعة من قبيل تشخيص الضرورات
والعناوين الثانوية، والتي يكون حكمها الشرعي ثابتاً في الشرع، كتشخيص موارد الضرر
والضرورة وموارد الحرج والعسر، وموارد اختلال النظام إلى غير ذلك من موضوعات
الأحكام الأولية والثانوية.
3ـ ويقوم المجلس المنتخب ـ الذي يمثل رأيه وحكمه رأي الأمة وحكمها ـ بتحديد الصيغ
والقوانين الإدارية التنظيمات الإدارية المرتبطة بأجهزة الدولة نفسها، وكيفية
قيامها بإدارة شؤونها وتعاملها مع الناس، وتنظيمها بشكل لا يتنافى مع التشريعات
الإسلامية، وينسجم مع روح الشريعة واتجاهاتها والأهداف التي ترسمها، ويتناسب ـ في
الوقت نفسه ـ مع متطلبات الظروف والمصلحة العامة.
4 ـ كما يقوم المجلس أيضاً بإعداد ودراسة التشريعات المحتاج إليها لملء منطقة
الفراغ في المساحة المتحركة من التشريع الإسلامي، المتروك ملؤها لولي الأمر على ضوء
المتطلبات والمصلحة اللازمة، وتقديمها إليه لإقرارها أو تفويض إقرارها إلى المجلس
نفسه.
5ـ ومن الأدوار المهمة الأخرى التي يلعبها ممثلو الأمة هي تشريع القوانين المرتبطة
بشؤون الناس الزمنية والمدنية، كالتخطيط لسائر مرافق البلد المدنية، مما لابد فيها
من تواضع الناس وتوافقهم فيما بينهم على صيغة نظامية موحّدة، يتفقون عليها لإدارة
أوضاع معاشهم وتمشيتها.
فإن هذا التوافق والالتزام المتقابل فيما يرجع اختياره إلى إرادة أفراد المجتمع
أنفسهم، يمكن أن تتخذ له صيغة نوعية عقلائية في بعض الأحيان، ولعل منها انتخاب
ممثلين ووكلاء عن الأمة في مجمع أو شورى يتولّون وضع صيغة معيّنة لتنظيم شأن مصلحة
خاصة أو عامة نيابة عن أفراد المجتمع.
الترابط بين التشريع والعقيدة
ومن النقاط التي تجدر الإشارة إليها في خاتمة هذا المبحث، توضيح مدى عمق الارتباط
والصلة بين التشريعات التي يريد الإنسان أن ينظم على أساسها حياته، وبين النظرة
الكونية والعقائدية التي يؤمن بها ويحمل أفكاراً عنها. فإن أي نظام للحياة وأي
تشريع لأحكامه لابد وأن يبتني على قاعدة فكرية ونظرة عقائدية خاصة، تنبثق عنها تلك
التشريعات وتتلاءم معها، وتحقق الأهداف والتوجّهات المرسومة فيها، ولا يمكن بحال من
الأحوال افتراض الفصل بين تشريع الأنظمة والقوانين التي تحكم حياة الإنسان وبين
معتقداته وفلسفته التي يحملها عن الحياة والإنسان والوجود.
ولم تكن دعوى الفصل هذه التي تبنتها الحضارة الغربية ردحاً من الزمن، إلا من أجل
التضليل والخداع وتمرير الفلسفة والنظرة المادية إلى الحياة بأسلوب خبيث ماكر، إلى
النفوس من خلال معطيات تلك التشريعات والأنظمة التي قد يخلعون عليها طابع العلمية
والموضوعية، وكان من أجزاء وأبعاد هذا المخطط الشيطاني مقولة الفصل بين الدين
والسياسة بل الفصل بين الدين وسائر الأنظمة الاجتماعية والمدنية الأخرى، حيث قالوا:
إنّ الدين على أفضل تقدير يتكفّل تنظيم علاقة الإنسان بربّه في المعبد، في ضوء
المعتقدات والتصورات المثالية التي يعتنقها كل إنسان بينه وبين نفسه. وأما الحياة
الاجتماعية فلابد وأن ترسم معالمها وأنظمتها من خلال الناس أنفسهم، فيضعون من
القوانين ما يرونه مناسباً وصالحاً لتنظيم معاشهم وترتيب أوضاعهم وعلاقاتهم
المتنوعة.
ومن حسن الحظ أن تنتهي الحضارة الغربية إلى تزييف هذا الاتجاه على يد الشطر الآخر
لها، حيث اتضح الحال بعد ظهور الاتجاهات والأفكار (الراديكالية)، فقد أثبت انبثاق
تلك الاتجاهات عن أنّ العلاقات الاجتماعية لا يمكن تفسيرها وتنظيمها منفصلة عن
فلسفة الإنسان عن الوجود وعن الحياة والتاريخ، وعن المبدأ والمصير.
لأن الإنسان موجود واع هادف، يعبّر في كل حركاته وسلوكه عما يدركه ويتعقلّه، ويشخّص
فيه هدفاً مرسوماً لديه، وليس كائناً ميكافيلياً يتحرك حركة مرسومة له في عالم
الطبيعة والفيزياء، من هنا لابد وأن تتشخّص لديه قبل كل شيء الرؤية والنظرة التي
يعي بها نفسه وحياته ومبدأه ومصيره، كما لابد وأن يدرك الهدف من وجوده، وما هي
حقيقته وحقيقة قدراته وحاجاته؟ وما هي الجهة التي يكون مسؤولاً أمامها؟ وما هي تلك
المسؤوليات وحدودها؟
كل هذا الأسئلة لابد وأن يحصل الإنسان على جواب مقنع قبالها، قبل أن يطالب بتنظيم
حياته الفردية أو الاجتماعية ضمن تشريعات وأنظمة معيّنة.
وكيفية الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد تلك التشريعات واتجاهاتها، وتفسّرها
وتبررها في الوقت نفسه, فمثلاً إذا كان الجواب عن السؤال عن حقيقة الإنسان وقدراته
وحاجاته، بأنه كائن مادي ومسيّر، على حد سائر الموجودات ومحكوم لقوانين طبيعية
حتمية، كانت الأنظمة والقوانين الحاكمة عليه حتمية وقسرية لا محالة أيضاً، فلا مجال
لأن يتجه إلى تفصيلها وتشريعها في ضوء المصالح والعدالة وغير ذلك، بل سوف تحكمه تلك
القوانين القسرية كنظام طبيعي لا يمكن الخروج عنه أو تعديله.
وإذا كان الجواب عن السؤال بأن الإنسان كائن (واع) وهادف له الحرية والاختيار ولو
في المجال الاجتماعي، إذاً يتعيّن عليه أن يرسم لنفسه أهداف تحركه ويُسيّرها
بإرادته وفكره، فإذا كانت نظرته عن تلك الأهداف محدودة بفترة عمره في هذه الحياة،
فسوف ينظم حياته بما يوفر له أكبر قدر ممكن من هذا الهدف المادي المحدد، ولو كان
على حساب كثير من القيم والمبادئ وقبال آمال الآخرين، فهم لا يشكّلون لديه إلا
مانعاً عن وصوله إلى كامل أهدافه. وإذا كانت نظرته ممتدة إلى حياة أعمق وأبعد من
هذه الحياة، ويرى لوجوده بقاءً وخلوداً في حياة واقعية أصيلة ما دامت السماوات
والأرض، فسوف تختلف المعايير والأهداف لديه ويتحتّم عليه عندئذ أن ينظم علاقاته
الاجتماعية بما ينسجم مع تلك الأهداف والمعايير. وهكذا تكون الإجابات عن تلك
الأسئلة مركزية ومصيرية، وبمثابة الأساس لكل البنى القانونية والاجتماعية الفوقية
التي يحتاج إليها الإنسان في حياته.
وقد عرفنا في ضوء ما سبق، أنّ الإيمان بالله خالق الإنسان،... وواهبه الوجود ،...
والمنعم عليه والذي يجب شكره وطاعته (وهو مبدأ فلسفي في حقيقته)، يعتبر الأساس
لمبدأ المسؤولية القانونية، بحيث لا نتعقّل من دونه معنىً للقانون والتشريع، وإذ
يكون القانون من دون الإيمان بالمبدأ الأعلى للوجود والكمال ـ مهما كان مصدره
التشريعي ومهما ادعي في محتواه ومضمونه من المنافع للإنسان ـ فارغاً من عنصر النفوذ
والإلزام المشروع، ولا يمكن جعل الناس مسؤولين أمامه إلا بالقهر والقوة والظلم
والتحكّم عليهم، أو إيجاد قناعة طوعية لدى كل فرد تجاه كل بنود الأنظمة والقوانين ـ
حتى الفرد المحكوم عليه بها ـ الأمر الذي ذهبت إليه نظريات العقد الاجتماعي، وهو
مطلب واه وغير واقعي, كما هو واضح.
الحكومة أو الجهاز التنفيذي
تمهيد
في المبحث الأول تقدّم الحديث عن مصادر التشريع في الحكومة الإسلامية، فاستعرضنا
مجالات التشريعات الإسلامية، ثم عرفنا مَنْ هو المشرّع الإسلامي, وكيف أنّ ولاية
التشريع تنتهي في سلّم التدرّج إلى الفقهاء الجامعين للشرائط والمتصدّين لشؤون
المسلمين حيث تؤول إليهم ولاية الأمر.
وفي هذا المبحث نلقي بعض الضوء على موضوع الحكومة الإسلامية أو ما أسميناه بالجهاز
التنفيذي الذي يتولّى إدارة حياة الناس بكافة جوانبها وعلى أساس الشريعة الإسلامية
كما مرّ بنا، لكي نتبين أسس الحكم في النظرية الإسلامية وأشكاله.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ شكل الحكم أو النظام السياسي ـ أيّاً كان ـ ينبغي
أن يقوم على أسس ومبادئ معيّنة يرتكز عليها وينشئ نظريته في الحكم على ضوء من تلك
الأسس والمبادئ التي يؤمن بها ذلك النظام، والتي تشكل عنده المباني الأولى
والأساسية لمعتقداته التي لا يتنازل عنها بأي حال من الأحوال.
من هنا لا ينبغي الفصل بين تلك الأسس أو المبادئ والنظام السياسي، على أساس أنّ تلك
القيم والأدبيات إنما ترسم من خلال الممارسات والتطبيق في الحياة العملية لذلك
النظام، صورة وشكل النظام، وبالتالي فهي تقود تشريعاته وقوانينه باتجاه القيم
والمبادئ التي يدعو اليها ويسعى إلى تطبيقها.
وعلى هذا فـ(الايديولوجية) الإسلامية هي الأساس والمرتكز الذي تبتني عليه الحكومة
الإسلامية، بالإضافة إلى مجموعة من القيم والمبادئ التي تشكّل أسساً دستورية مباشرة
لنظرية الحكم في الإسلام وتحدد شكله. وهذا ما أشرنا إليه في مقدمة البحث، والذي
سنتناوله في الفصلين الآتيين.
أسس الحكم في النظرية الإسلامية
يمكننا ونحن نريد استعراض أسس الحكم أن نشير إلى عدة مبادئ تعتبر الأساس الذي تقوم
عليه الحكومة الإسلامية التي لابد وأن تنطلق من خلالها وتسعى إلى تجسيدها في واقع
حياة المسلمين، واليك جملة منها:
الأساس الأول
خلافة الإنسان
إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يكون خليفته في الأرض، من خلال
تجسيد(القيم) التي أراد الله سبحانه أن تسود المجتمعات البشرية. وعلى هذا الأساس
فنظرية الحكم تبتني على تلك النظرية للإنسان:
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً}[1].
فهذه الآية تؤكد المبدأ الأول الذي ترتبط به نظرية الحكم في الإسلام وتقوم على
أساسه، والإنسان ـ في النظرية الإسلامية والمفهوم الذي يطرحه القرآن ـ لابد وأن
ينظر إليه كخليفة لله.. مسؤول عن عمران الأرض بما يريده الله سبحانه وتعالى، وإقامة
الحياة البشرية والإنسانية فيها على أساس الاستخلاف.
ونظرية الحكم عندنا ترتبط بمبدأ الخلافة ـ خلافة الإنسان ـ وتقوم على أساس منه، وأي
نظام سياسي لا يؤمن بهذه النظرية، ليس له حق القيام بإدارة حياة الإنسان؛ لأن هذه
الإدارة لابد وأن تكون بالشكل الذي يريده الله سبحانه وتعالى لخليفته في الأرض.
الأساس الثاني
عدم التمايز الطبقي
إنّ النظرة الإسلامية تعتبر البشر جميعاً ـ على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم وأعمالهم
ـ متساوين أمام الله،... وكلهم عباده... لا تمييز لأحدهم على الآخر... ولا يحق
لأحدهم إخضاع الآخرين لرأيه وحكمه. ولا يوجد امتياز لبعضهم على بعض إلا على أساس
الارتباط بالله سبحانه وتعالى،. وعلى أساس التقوى:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[2].
ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
(ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)[3]
الأساس الثالث
المؤاخاة في الدين
إنّ الرابطة التي يعتمدها الإسلام ـ ويأمر أتباعه بالإيمان بها وتطبيقها في واقعهم
الحياتي ـ ويجعل لها مصاديق عملية، ... وعلى أساسها يفسّر معنى المجتمع والجماعة
البشرية، هذه الرابطة تنحصر في أمر واحد هو رابطة (الأخوة في الدين والعقيدة).
من هنا لا يكون للقوميات والجنسيات المتنوعة والطبقيات والأحساب والأنساب موقع في
النظرية الإسلامية، فالجماعة البشرية أو المجتمع الإسلامي يعرف ويشخص بهذه الرابطة
فقط.
وعليه (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وهذا من أحد مصاديق الأخوة في الدين،
والإيمان والإسلام.
الأساس الرابع
الحرية
هذا المبدأ الأصيل الذي يشتمل على حرية الفكر وحرية العقيدة، يشكّل أحد الأسس
المهمة في النظرية الإسلامية للحكم. ويراد من الحرية الفكرية والحرية الدينية هنا،
هو أنّ العقيدة الإسلامية اعتُبِرَت هي الأساس الأول لأي علاقة بين الأفراد، وهي
الرابط والمشخص الوحيد لهوية الجماعة الإسلامية.
وعقيدة الإنسان ـ من منظور الإسلام ـ إنما تقام على أساس المنطق والفكر والعقل
السليم، ولا تقام على الإكراه أو التزييف والتضليل.. كما تمارسه المجتمعات غير
الإسلامية. والإسلام يمتلك من القوة والمنطق والدليل ما يجعل هذا المنفذ مفتوحاً
لكل إنسان، وهو يدعو الناس إلى الإيمان والتسليم على أساس هذا المنطق، وعلى أساس
الأدلة المتنوعة التي تكفي لبيان الهدى والرشد للناس جميعاً، فلا حاجة بعد ذلك إلى
إعمال الضغوط، أو محاولات إخضاع الناس وإكراههم على الدين بأساليب لا موضوعية.
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[4]
إلا أنّ هذا لا يعني أن يفسح المجال لمحاولات التضليل والتحريف المضاد مطلقاً،
فلابد من عدم خلط هذه الحقيقة وهذا الأساس مع شيء آخر ربما يثار بوجه النظرية
الإسلامية بشبهة أنّ الحكومة الإسلامية تقمع الأفكار و(الايديولوجيات) الأخرى غير
الإسلامية.
فالإسلام في الوقت الذي يعترف بأنه لا إكراه في الدين، لا يدع مجالاً ـ في المجتمع
الإسلامي والحكومة الإسلامية ـ للتضليل والتحريف والتشويه للحقائق، فكل أولئك الذين
يحاولون تضليل الناس والوقوف بوجه المنطق والحق الذي يؤمن به الإسلام.. هؤلاء لا
مجال لهم ولا حرية لهم في المجتمع الإسلامي؛ لأنهم يعتمدون ـ من خلال استغلالهم
للحرية الفكرية والعقائدية ـ الهدم وتضليل الناس، وحرفهم عن جادة الصواب.
فكل ألوان التضليل والتحريف والاستعباد العقائدي بأساليبه المعقدة الخبيثة ـ في هذا
العصر ـ يمنع عنها الإسلام، ويقف بوجهها بكل صلاة وشدة، وربما يضطر ـ في بعض
الحالات ـ إلى قمع هذه البؤر ومواجهتها بعنف. فالإسلام لا يسمح بأن يستغل أعداء
الدين هذه الحريات لتضليل الناس وخداعهم، والتشويش على أفكارهم.
ومن هنا نستطيع القول بعد هذه المقدمة: بأن الحرية ـ الفكرية والعقائدية ـ كانت من
أهم عوامل تحرر الإنسان ـ في التاريخ ـ من كل القيود، ومن جميع أشكال الاستعباد،
وكان للإسلام الدور الأكبر والرائد في تحرير العقول من الاستعباد الفكري والعقائدي،
ومن الجاهليات والخرافات التي طالما قيّدت بأغلالها عقول البشر، وشوّهت فطرتهم
السليمة.
فالإسلام هو المحرر الحقيقي لعقول الناس من الأوهام والأباطيل،.. ومُرجِعُها إلى
فطرتها والى المنطق والعقل الجمعي.
الأساس الخامس
الولاية لله تعالى
إنّ الولاية والحكم لا يكونان إلا لمن له حق الطاعة على المحكومه، وحق الطاعة هذا
لا يمكن أن يكون إلا على أساس الخلق أو الإنعام أو الملك الحقيقي للأفراد، وعلى
تفصيل واختلاف في الحيثية التي هي المصدر الحقيقي لهذا الحق، تؤكد النظرية
الإسلامية على أنّ الحاكمية لا يمكن أن تكون إلا لله وحده.
هذه الحقيقة التي تطلقها بعض الآيات القرآنية، وترد في مفاهيم الثقافة الإسلامية ـ
باعتبارها من المسلّمات ـ تقوم على أساس أنّ الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي
يمكن أن يحكم على العباد وينفذ حكمه على الناس؛ لأن الله هو الولي الحقيقي لهم، ولا
توجد مولوية لغيره إلا إذا كانت مستندة وراجعة إليه، والى أمر منه سبحانه وتعالى؛
لأن الحكومة تعني نوعاً من المولوية والنفوذ، والمولوية لا تكون إلا على أساس الخلق
أو الملك أو الإنعام ـ كما أسلفنا ـ الأمر الذي يستحق على أساسه الشكر من المنعم
عليه. وقد جاءت الآيات ـ التالية ـ تؤكد هذه الحقيقة:
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[5]
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}[6]
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}[7]
وهذا الأساس يؤدي بنا وبالنظرية الإسلامية إلى أن ترفض ولاية أي أحد على أحد، إلا
إذا كانت تلك (الولاية) أو الحكم مستنداً إلى الله سبحانه وتعالى، أو إلى تعيينه
وتنصيبه ـ الذي هو بحسب الحقيقة ولاية الله وإطاعة لأمره ـ وهذا يعني أنّ مبدأ
الولاية ومبدأ الحاكمية في الإسلام، لابد وأن يكون من الأعلى دائماً.. من قِبَل
المولى الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، وأية ولاية أو حاكمية أخرى تكون مرفوضة إذا
لم تكن مستندة إلى المبدأ الأعلى، وهذا هو جوهر وروح فكرة التنصيب أو النص التي
تؤكد عليها نظرية الفقه الإمامي.
فالتأكيد على ضرورة النص أو التنصيب عند الشيعة الإمامية في مسألة الولاية والإمامة
يأتي من خلال هذه القاعدة العقلية، التي يدركها العقل العملي، والتي يؤكد عليها
القرآن الكريم أيضاً، حيث إنّ الإسلام والنظرية والفلسفة الإسلامية تبتني على أساس
الإيمان بالله وتوحيده.. على أساس الإيمان بوجود الخالق والمبدأ الأعلى. وهنا
والحالة هذه لابد وأن تكون (الحكومة) مستندة إلى هذا المبدأ، لذا فقد ارتبطت
الفلسفة العملية والاجتماعية، بالفلسفة النظرية والعقيدة الإسلامية، التي هي عقيدة
التوحيد.
الأساس السادس
مستويات الولاية
إنّ الولاية أو الحاكمية في الإسلام يمكن أن تكون بأحد مستويين:
المستوى الأول
الولاية الكبرى: والتي تعني الإشراف المطلق من قِبَل الله سبحانه وتعالى على
البشرية، من خلال إنسان معيّن. ويتمثل هذا اللون من المولوية في ولاية الأنبياء ومن
ثم الأوصياء المعصومين، ولهذا المستوى من الولاية خصائص نذكر منها:
* إنّ الولاية في هذا القسم تكون نيابة وخلافة خاصة ومباشرة من قِبَل الله سبحانه
وتعالى على البشر.
* إنّ الولاية في هذا المستوى تكون ولاية مطلقة تشمل كل أنحاء وجود الإنسان بجميع
أبعاده.
*لزوم أن يكون الولي (معصوماً)؛ لأن هذه الولاية تعني الحجة من قِبَل الله سبحانه
في كل شيء، في العقيدة، في التشريع، في التنفيذ، إلى غير ذلك، فالشخص المتميز بهذا
اللون من الولاية لابد أن يكون معصوماً؛ ومن هنا جاء مبدأ العصمة ـ عصمة الأنبياء
والأولياء ـ في الفكر الشيعي الإمامي.
* إنّ الولي بهذا المعنى الخاص ـ الولي المباشر ـ يتحمّل مسؤولية ضخمة في التأريخ
هي: مسؤولية صنع الإنسان على مرّ العصور[8]، وربطه بعالَم الغيب من الناحية الفكرية
والروحية والاجتماعية.
* إن الولي بهذا المعنى يبقى وليّاً حتى بعد وفاته؛ لأن ولايته تمتد إلى الأجيال من
بعده، كما في ولاية النبي (ص) والأئمة المعصومين عليهم السلام، فولايتهم تمتد مع
عمر البشرية.
* إن لهذه الولاية معنى وبُعداً آخر أيضاً، وهو أنّ الولي بهذا المعنى العام
والمباشر من قِبَل الله سبحانه وتعالى، إنما يجسّد حقيقة أخرى من الحقائق التي تؤمن
بها الفلسفة والعقيدة الإسلامية، وهي أنّ هذا الولي هو مركز الاتصال بين عالَمي
الغيب والشهادة في حياة الإنسان، فنحن نعتقد بأن عالم الإنسان (الشهادة) لابد وأن
يكون بينه وبين عالم الغيب حبل ممدود ومتصل بين السماء والأرض؛ لأن الله سبحانه
وتعالى عندما خلق الخلق لم يتركهم سدى، بل ظل يمارس ويباشر تربيتهم وهدايتهم؛ لكي
يحققوا خلافته في الأرض،.. فلابد إذاً أن يكون هناك اتصال حقيقي مجسّد بين
العالمين... عالم الغيب والشهادة.
فالنبي أو الإمام الوصي المعصوم الذي يمثل الإنسان المرتبط بالسماء لابد وأن يكون
تمثيله سارياً مع مسيرة التاريخ البشري في كل زمان ومكان(لولا الحجة لساخت الأرض
بأهلها) وهذه أيضاً من جملة الأسس والخصائص التي يتميز بها الفكر الإمامي في مسألة
الولاية بالمستوى الأول.
المستوى الثاني
القيادة العامة: بتعبير آخر الولاية العامة لحياة المسلمين، وإدارة شؤونهم
اجتماعياً وسياسياً، وإقامة الشريعة والعدل في حياة الناس، وهي على عكس المستوى
الأول، تكون لأي شخص ضمن الشروط والموازين المرعية والثابتة في هذا المجال.
وهذا المستوى من الحاكمية أو الولاية هو الذي يدّعي الفكر الشيعي الإمامي ثبوته
للولي الفقيه الجامع لشروط الولاية في عصر الغيبة الكبرى.
وهذه الولاية لها خصائص نذكر جملة منها:
*إنها جزء من الولاية الكبرى ـ المستوى الأول ـ المتمثلة في المعصوم في كل زمان.
*إنها تكون نيابة عامة، لا نيابة خاصة ضمن شروط ومواصفات معينة ومحددة، حيث إنّ
الإمام المعصوم لم يُعيّن في فترة الغيبة الكبرى شخصاً معيّناً يكون وكيلاً عنه،
بالخصوص في هذه الفترة من حياة الأمة الإسلامية.
إنما وضع شروطاً ـ على رأس هذه الشروط الفقاهة واستيعاب الإسلام والتقوى والكفاءة ـ
إذا تمّت في شخص، حينئذ تتمثل هذه القيادة (الولاية) فيه.
* إنّ الحاكم الإسلامي ـ بالمستوى الثاني ـ لا يكون مشرّعاً، إنما يكون منفّذاً
لشريعة الله، ومجسّداً للقيم والمبادئ الإلهية وأهدافها في حياة الناس، ولا يمكن
بأي وجه من الوجوه أن يكون هو المشرّع ـ كما هو حال الولي في المستوى الأول ـ وقد
مرّ بنا إيضاح ذلك أثناء شرح دور الفقيه في التشريع خلال المبحث الأول.
* إنّ الحاكم الإسلامي لابد وأن يكون في مجمل شروطه ومواصفاته أفضل الناس، وأكثرهم
تجسيداً للمبادئ، ولقيم الرسالة الإسلامية، وتمثيلاً لخلافة الإنسان لله في الأرض،
وشاهدا على مسيرة الاستخلاف (خط الشهادة).
* إنّ الحاكم الإسلامي ـ في هذا المستوى من القيادة ـ لابد وأن تكون أعماله
وممارساته القيادية في المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، قيادة يشرك فيها الأمة
الصالحة، وأن لا تكون قيادته هذه بعنوان التآمر والتسلط على المسلمين، وإنما بعنوان
الخدمة لهم، وتطبيقاً للقيم التي جاء بها الإسلام وأمر بإشاعتها, وردعاً للمحرمات
والمنكرات والمظالم التي نهى عنها الإسلام.
من هنا فلابد وأن يكون شكل الممارسات القيادية منسجماً مع هذا المبدأ ـ الشورى ـ
والخصيصة من خصائص القيادة الإسلامية.
* ومن مستلزمات هذه الخصيصة الشورى الأساسية التي ذكرنا آنفاً ـ على ما سنشير إليه
في شكل الحكم في الفصل التالي ـ أن يوفر الحاكم الإسلامي القناعة التفصيلية للنخبة
الصالحة من أبناء الأمة بممارساته القيادية الاجتماعية، ولو من خلال المشورة
والاستشارة المتواصلة مع الصفوة من ذوي الخبرة والكفاءة والاختصاص؛ لكي يكون التحرك
القيادي وتحرك الحكومة الإسلامية من خلال حركة الأمة والنخبة الصالحة.
الأساس السابع
دور الأمة في الحكم
وكما مرّ في المبحث الأول من أنّ للأمة دوراً في التشريع، فإن لها أيضاً دوراً في
إدارة دفّة الحكم، ويتمثل دور الأمة في الحكومة الإسلامية في أمرين هما:
اختيار القيادة الصالحة:
حيث إنّ من الأمور التي لا بد أن يشار إليها ضمن أسس الحكم هي: أنّ الأمة الصالحة
مسؤولة عن إقامة الحق والعدل في الحياة.
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[9].
إذاً فالناس مكلفّون بأن يقوموا بالقسط، وهم من أجل ذلك لابد وأن يبايعوا القائد
المنصوب من قِبَل الله سبحانه وتعالى؛ كي يهيّئوا له فرصة إقامة القسط. وهذه
مسؤولية الأمة أيضاً، إذ إنّ من أصول الفكر السياسي في الإسلام البيعة لولي الأمر
المنصّب من قِبَل المبدأ الأعلى أو وليّه بشكل خاص، أو بالشكل العام ضمن الشروط
والمواصفات المعينة المعروفة، كما يسمى عند الفقهاء بـ(القضية الحقيقية) ولا نقصد
بالبيعة جانبها الشكلي أو الصوري، وإن كان ذلك أيضاً محموداً ولازماً، وإنما نقصد
بها لزوم الطاعة لتمكين هذا القائد الحاكم من القيام بدوره القيادي في إقامة الحق
والقسط بين الناس، وذلك لا يكون إلا من خلال المبايعة وإقرار الطاعة له.
الإشراف والمراقبة
إنّ للأمة الصالحة دور المراقبة والإشراف على الحكومة الإسلامية والحاكم الإسلامي،
والذي نريده هنا من الحكومة والقيادة المستوى الثاني منها كما مرّ معنا.
فإذا لاحظت الأمة من الحاكم الإسلامي خطأ في مقام التطبيق فعليها أن تقوّم هذا
الحاكم وتقدّم له ما يحتاج من النصح والمشورة، وعليه حينئذ أن يلتزم بذلك ويستفيد
من مشورة الأمة له، والآيات القرآنية التالية تؤكد على هذا المبدأ:
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[10]
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ
اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[11].
إلى هنا نأتي على أهم أسس نظرية الحكم في الإسلام، لننتقل بعدها إلى بحث آخر نتعرف
فيه على شكل الحكم أو الحكومة الإسلامية.
____________________________
[1] سورة البقرة:30.
[2] سورة الحجرات: 13.
[3] نهج البلاغة: تنظيم صبحي الصالح، الكتاب 31 ص 401.
[4] سورة البقرة: 256.
[5] سورة يوسف: 40.
[6] سورة الشورى: 9.
[7] سورة الكهف: 44.
[8] إذ إنّ مهمة الأنبياء ومن بعدهم الأوصياء ع تستهدف صياغة الإنسان، عبر محاكاة
فطرته، ومناغاة ضميره ومشاعره، وفق الشروط الخاصة المعينة من قبل الله تبارك وتعالى
في رسالة ذلك النبي أو الرسول، وهذه تكون ثابتة بثبوت تلك الرسالة، أو تكون من خلال
سلوك النبي أو الوصي في حياته العملية، أو من خلال وصاياه وأحاديثه مع الناس،
فينعكس هذا السلوك على الأفراد الذين يعاصرونه، ثم تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل
باعتبار أن هذا النبي أو الإمام، إنما هو القدوة الحسنة في المجتمع، وتصرفاته
وكلامه يعتبران مقياساً ونموذجاً صالحاً، مما يحدو بأصحابه ومريديه وأتباعه ـ في كل
زمان ـ لتمثيل ذلك السلوك في واقعهم وحياتهم العملية، هذا فضلاً عن أنهم مكلفون من
قبل الباري عز وجل بامتثال أوامر النبي ونواهيه، ونحو السلوك الذي ينتهجه.
[9] سورة الحديد: 25.
[10] سورة الشورى: 38.
[11] سورة آل عمران: 159.
شكل الحكم
نستطيع في ضوء الأسس المتقدمة أن نستخلص شكل الحكم ونظام الحكومة الإسلامية من خلال
خصائص عديدة نعرض لها على التوالي كما يلي:
الارتباط بالله وخلافته
إنّ القيادة الإسلامية لابد وأن تأتي بتعيين من أعلى. أي من قِبَل المولى الحقيقي
وهو الله تبارك وتعالى وهي نيابة خاصة كما ذكرنا آنفاً، أو من قِبَل وليّه وهي ما
أشرنا إليها بـ(النيابة العامة)، وهذا يعني أنّ شكل الحكم في الإسلام يأخذ طابع
الاستخلاف أو النيابة عن ولي الأمر وهو ـ في معتقدنا ـ النبي (ص) أو الإمام
المعصوم(ع).
وبذلك فإن الخصيصة الأولى ـ هذه ـ تعطي للحكم وللقيادة ربّانية وارتباطاً خاصاً
بالله سبحانه وتعالى، باعتبار أنّ هذا القائد خليفة ولي الله على الناس، وهو بالأصل
خليفة الله في الأرض.
من هنا نستطيع أن نشير إلى ما ورد في مصطلح الفقه الإسلامي من التعبير عن الحاكم
الإسلامي بـ(الخليفة). فهذا المصطلح لم يرد جزافاً واعتباطاً هكذا، بل إنّ شكل
الحكم الإسلامي يستبطن مبدأ الخلافة.. خلافة الله المتمثلة في النبي أو خلافة ولي
الله وإمامته ـ الإمام المعصوم ـ أو خلافة تلك القيادة المتمثلة في شخص قد عيّنه
النبي أو الإمام بشكل خاص، أو من خلال الشروط العامة بنحو القضية الحقيقية.
إذاً فهناك في الأصل خلافة من الله سبحانه وتعالى. وشكل الحكم هنا يقتضي أن يكون
نظام خلافة بوصفه يشير إلى صفة الربانية والارتباط بالله تعالى وخلافته.
الارتباط بالمعصوم
أشرنا إلى أنّ النيابة العامة هي عن الولي ـ الإمام المعصوم ـ في عصره بتعيين منه،
أو هي في عصر الغيبة الكبرى عامة للفقهاء الأتقياء، سواء اشترطنا في ذلك انتخاب
الأمة ـ شرطاً آخر كما قد يدّعى ذلك ـ أم لا، وهذه الخصيصة الثانية ـ لشكل الحكم ـ
تتضمن خاصية ارتباط الحاكم بالمعصوم، إذ لابد وأن يكون الحاكم الإسلامي مرتبطاً
بالإمام المعصوم عليه السلام، إما ارتباطاً خاصاً من خلال التعيين الخاص، كما كان
الحال مع وكلاء الإمام الحجة (عج) في عصر الغيبة الصغرى، أو من خلال التعيين العام،
كما هو الحال في عصر الغيبة الكبرى.
وهذا هو معنى ما اشترطه الفقه الإمامي من لزوم النص في الحاكمية. وطبيعي فإن أدلة
التعيين العام في عصر الغيبة للفقيه الكفوء العادل ـ ولاية الفقيه ـ أدلة متنوعة
متروكة للبحوث الفقهية.
مشاركة الأمة
والخصيصة الثالثة، وهي خصيصة مشاركة الأمة في تشخيص الولي؛ لأن الولاية ـ حتى في
التنصيب العام والقضية الحقيقية ـ بحاجة إلى أن تتعيّن في مقام التجسيد والتنفيذ في
شخص معيّن أو أشخاص معينين، فإن هذه القضية لا يمكن أن تبقى قضية حقيقية ـ كما يقول
علماء الأصول ـ إنما يجب أن تتجسد في مجال الفعلية في شخص أو أشخاص معينين.
وهنا توجد عدة نظريات في كيفية تشخيص ولي الأمر وفي جميع هذه النظريات على
اختلافها.. الأمة لها المشاركة الحقيقية، إن لم يكن على مستوى الانتخاب والتعيين،
ففي الأقل على مستوى التشخيص لهذا الولي. وملاحظة ما إذا كان يتميز بتلك المواصفات
والشروط التي لابد وأن تتوفر في الولي العام في عصر الغيبة الكبرى.
وهذا اللون من مشاركة الأمة مهم جداً في تعيين الولي أو الحاكم ولكنه يختلف عن
الانتخاب المصطلح في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، حيث تبرز نتائج وآثار سلبية
وسيئة نتيجة لطريقة الانتخاب المتّبعة في هذه الأخيرة، وتختلف هنا النظرية
الإسلامية عن النظرية الديمقراطية في عدة نقاط أهمها:
1ـ إنّ رأي الأمة أو الأغلبية في النظرية الإسلامية يكون كاشفاً ومُخبراً عن الحاكم
لا مُعيّناً. ولا يكون الحاكم عندئذ مفوّضاً من قِبَلهم في حكومتهم، بل هو مسؤول
مكلف من الله بذلك. غاية الأمر في صورة عدم تشخيص الأمة ورجوعها إليه. قد يسقط عنه
هذا التكليف؛ لعدم توفر القدرة على ممارسته.
2ـ الأفراد الناخبون ـ في نظريتنا ـ لا يكون لهم حق إعمال رغبتهم وأذواقهم أو
مصالحهم الشخصية، إذ إنهم ليسوا أصحاب الولاية لكي يعطوها ويفوّضها لمن يحبّون.
إنما هم بذلك ينطلقون من تكليفهم الشرعي ـ أيضاً ـ في الفحص والتحرّي عمن جعلت له
الولاية عليهم من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وطبقاً للشروط والمواصفات الموضوعية
المقررة في النظرية التي شرحناها آنفاً.
فليست مسألة الحكومة والحاكم متروكة إلى أهواء الناس وأذواقهم ـ كما في النظرية
الديمقراطية ـ لكي يترتب عليها ما يترتب في الأوضاع الديمقراطية، من المفاسد
والسلبيات والمفارقات الفظيعة في عملية جمع الأصوات وشراء الآراء في المعارك
الانتخابية المتبعة اليوم.
3 ـ بالإضافة إلى الموضوعية التي أشرنا إليها، تكون عملية انتخاب المرجع والولي ـ
أي تشخيصه ـ متّصفة بالأمانة والصيانة الذاتية؛ لأن المُنتخِب ينطلق في ذلك من
تشخيص تكليفه الشرعي وإطاعة خالقه وعبادته، فهو ملزم من خلال إيمانه بالله سبحانه
وتعالى، بالتحرّي الدقيق والالتزام بالشروط والتعاليم المشرّعة من قِبَله تعالى
بهذا الصدد. وبذلك لن تبتلى الانتخابات ـ بهذا المعنى ـ بالتأرجح يميناً وشمالاً،
كما هي في الأنظمة (الديمقراطية)، بل تتمركز في دائرة ضيّقة محدودة جداً؛ لأن الأمة
إذا تَرَبَّت على التصدّي لتحرّي الشروط الموضوعية، سوف تكون النتائج متقاربة
ومتطابقة غالباً؛ لسهولة تشخيصها فيمن يتمتع بها بعد وضوح تلك الشروط والمواصفات.
4ـ ومن الفوارق المهمة: إنّ الانتخاب هنا ليس عملية نصب وتعيين وتفويض حتى لا يمكن
الرجوع عنه إلا بعد انتهاء المدة مثلاً أو غير ذلك، بل هو عملية تشخيص لشروط
الولاية الشرعية.
فكلما اختلف نظر المقلد، ورأى أنّ مَنْ كان يجد فيه الشروط الموضوعية للولاية غير
واجد لبعضها أو جميعها فينتهي حينئذ تشخيصه بالنسبة إليه، أو بتعبير آخر إلى سحب
الثقة منه، وبذلك يسقط هذا الولي أو الحاكم اعتبارياً ولا يمكنه ممارسة ولايته
وحاكميته بعدها على الناس. وهذا يعني أنّ مشاركة الأمة في تشخيص ولي الأمر ثابتة
حدوثاً وبقاءً، وأنّ الأمة لها الإشراف التشخيصي على ولايته، وأنّ الولي ملزم
بالتجسيد الدقيق لكل تلك الشروط الموضوعية الصعبة الدقيقة التي عيّنها الإسلام لولي
الأمر. فلا يمكنه الخروج عنها وتجاوزها، وإلا سقط طبيعياً عن الصلاحية للولاية كما
قلنا، وهذه من أهم مميزات النظام الإسلامي عن غيره من الأنظمة الأخرى في ما يتعلق
بعملية تعيين الحاكم وانتخابه أو عزله وإقالته من منصبه.
5 ـ ومن نقاط الافتراق الأخرى: إنّ هذا النوع من الانتخاب ـ باعتباره معتمداً على
مبدأ الطاعة لله وأداء التكليف الشرعي وإبراء الذمة منه ـ يستبطن لا محالة مرتبة من
الانشداد والتفاعل والارتباط المعمّق والممتد والمستوعب بين القائد والمقود (الناخب
والمُنتخِب) بما لا يمكن أن يتوفر مثله في الأنظمة الديمقراطية المقارنة.
هذه أهم نقاط الاختلاف وربما بقيت هناك فوارق أخرى أيضاً لا مجال للتعرض لها. وهناك
نظريتان فقهيتان أخريتان في قبال نظرية: (إنّ الولاية تكون لكل فقيه جامع للشرائط)
هما:
النظرية الأولى:
نظرية تبنّاها بعض الفقهاء الأعلام أخيراً، من أنّ الثابت بأدلة ولاية الفقيه مجرد
الصلاحية للولاية لدى الفقيه الكفوء العادل، وأما فعلية تلك الولاية فبحاجة إلى
انتخاب الأمة والشورى بحيث يكون للانتخاب دور الانشاء وتفويض زمام الأمر وولايته
إليه.
النظرية الثانية:
تدّعي هذه النظرية أنّ تشخيص الولي من بين الفقهاء الواجدين لشروط الولاية جميعاً،
يكون بيد الفقهاء أنفسهم أيضاً.
فعليهم أن يختاروا واحداً من بينهم إن رأوا ذلك، أو يجعلونها في دائرة من الفقهاء.
وتفصيل الحديث عن أدلة كل واحدة من هاتين النظريتين ومناقشة ما يمكن مناقشته منها،
متروك إلى محله في البحوث الفقهية.
قيادة خط المرجعية
إنّ النصوص والتشريعات الصادرة عن الله تبارك وتعالى والرسول (ص) والأئمة المعصومين
عليهم السلام جعلت القيادة ـ بالمعنى أو المستوى الثاني ـ منحصرة في دائرة خاصة،
وهي دائرة العلماء والفقهاء. ومن هذه الخصيصة قد ينفذ النافذون الذين يريدون أن
يثيروا على النظرية الإسلامية في الحكومة شبهة الاستبداد أو الطبقية. وهنا لابد من
القول: إنّ هذه الولاية.. وهذا الشكل من نظام الحكم في الإسلام، يمتلك خصيصة
الصيانة الذاتية على مستوى الحاكم والمحكومين معاً، تنفي كل تلك الأخطار المحتملة
أو المثارة؛ لأن القيادة الإسلامية ـ بالشكل الذي أشرنا إليه ـ تمتلك عوامل تجعلها
مصونة من الانحراف لدرجة كبيرة جداً، وهذه العوامل عديدة، بالالتفات إليها يظهر كيف
أنّ هذه القيادة مصونة في الأغلب الأعم؛ لأنها لا يمكن أن تتسرّب فيها الأهواء
والانحرافات والاستبداد والتلاعب بالمقدرات، ومن جملة هذه العوامل:
* صعوبة الشروط اللازمة لولي الأمر في عصر الغيبة الكبرى، فإن هذه الشروط ليست مما
يمكن أن تتوفر لكل أحد، بل لا تتحقق إلا للأوحدي الأمثل الأصلح من الناس، الذي يتلو
المعصومين في المنزلة العلمية والاجتماعية وفي التقوى والورع.
*إنّ تشخيص تلك الشروط يكون بيد الناس، فلا يمكن لمن لا تتوفر فيه الشروط أن يتلاعب
أو يتحايل على الناس، فيظهرها لهم ادّعاء ورياء ـ فيشخّصها الناس فيه ـ من غير أن
تكون لديه؛ لأن هذه الشروط نابعة من صميم القيم المعنوية والربّانية، التي يصعب
تظاهر إنسان بالتحلّي بها فترة طويلة دون أن تكون فيه. كما أنّ تلك القيم إذا ما
توفرت في إنسان رسالي قادته لا محالة إلى الصلاح والهداية والتجرد عن كل الأهواء
والمصالح المادية بصورة تلقائية، وبهذا تعرف ـ أيضاً ـ خصوصية أخرى في النظرية
الإسلامية للولاية هي: أنّ دور الأمة في انتخاب الولي الجامع للشرائط ـ على القول
بلزوم الانتخاب ـ ليس كما هو في الأنظمة الديمقراطية التي يرتبط الانتخاب فيها
برغبات الناس وميولهم كيفما ساقتهم إليه أهواؤهم ومصالحهم.
بل.. يأتي هنا ـ دور الأمة ـ في تشخيص من تتوفر فيه الشروط والقيم اللازمة
والمناسبة لتولّي الأمر. فالناخب إذاً مسؤول أمام الله وأمام الأمة أن يشخّص من
يتمتع بتلك الشروط فينتخبه، سواء أكان ذلك ـ الشخص المنتخب ـ على طبق ميوله ورغباته
أم لا، فهو بذلك يؤدي مسؤولية وواجباً شرعياً خطيراً، ويرتبط من خلال ذلك بمن
يشخّصه ارتباطاً دينياً قدسياً وولائياً.
وهذه الخصيصة ـ وهي الرابعة ـ تبعد حقيقة الانتخاب للمرجع أو ولي الأمر عما تعارفت
عليه النظم الديمقراطية المستحدثة، وتجعله مُبايناً لها تماماً.
* إنّ الشروط الرسالية الخاصة للولي لابد وأن تكون ميدانية وواقعية، أي من خلال
أداء من له صلاحية الولاية العامة لدوره الحقيقي الرسالي في الأمة، المُعبّر عنه
بخط الشهادة على الرسالة وصيانتها، ... وصيانة الأمة من الانحراف عنها عملياً
وميدانياً. بحيث يكون هو أيضاً صانعاً لواقع الأمة الرسالية أو مساهماً في صنعه.
وهذا يعني أنّ القيادة الإسلامية ذات صفة واقعية، ومثل هذه القيادة تكون مصونة عن
النفوذ والتسلل اليها من قِبَل المتلاعبين والمنحرفين عادة. وهذا هو الذي يفسّر لنا
أمانة ونقاء خط المرجعية والقيادة الشرعية في تأريخنا الإسلامي منذ مئات السنين،
وعدم تلوّثها رغم كل ما مُنِيَ به التأريخ في فترات النهوض أو الضمور، وعدم
انجرافها مع أعداء الإسلام كما شهد بذلك العدو والصديق.
أداء دور الشهادة
قلنا أنّ للقيادة الإسلامية صفة الواقعية والعملية, بمعنى أنّ القائد الإسلامي: هو
ذلك الشخص الذي قد ساهم فعلاً في صنع الأمة الرسالية، وكان جزء من خط الأنبياء
والأئمة ووارثاً لهم، لا في العلم والتقوى والكفاءة فحسب، بل وفي أداء دور الشهادة
الحقيقية على الأمة ورسالتها من خلال تصدّيه الميداني لذلك. ومن هنا يكون الحاكم أو
ولي الأمر في النظرية الإسلامية قائداً يعززه الواقع الميداني للأمة الرسالية؛ لأنه
صانع تلك الأمة أو مساهم في صنعها، فالقيادة ليست منحة تعطى ـ لشخص هو أجنبي عن
واقع الأمة أو رسالتها ـ بمجرد التصويت أو الانتخاب كما يصنع في الأنظمة
الديمقراطية، فيتولّى الحكم أشخاص ربما يكونا بعيدين كل البعد عن الحياة الاجتماعية
للناس، وجملة منهم كانوا قبل ذلك يعيشون بمعزل عن تحمّل كل مسؤولية إنسانية فضلاً
عن الاجتماعية،...وإنما جاء بهم إلى الحكم الآراء والانتخابات المزيّفة، من أجل
أغراض وأهواء شركات أو أحزاب أو طبقات خاصة في المجتمع، أرادت ذلك فتلاعبت في كيفية
وصولهم إلى الحكم.
وهنا يبرز الالتقاء العضوي بين خط الشهادة و خط الولاية في النظرية الإسلامية
للحكم، والذي هو من أروع فصول هذه النظرية وأمتن خصائصها. فلا يمكن لولي الأمر أن
يكون خارجاً عن هذا الخط؛ لئلا يتاح لمن لا يكون أميناً على الرسالة أن يقفز إلى
الحكم الإسلامي الصحيح، فيستولي على رقاب العباد والبلاد. ومن هنا كانت النظرية
التي يتبنّاها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في الحكم تقف دوماً بوجه كل أولئك
الظالمين، الذين كانوا يدّعون لأنفسهم الخلافة على المسلمين تحكّماً وادّعاءً،
وظلماً وطغياناً، وهم لم يكونوا يتمتعون بأدنى شرائطها، وهذه النظرية المتميزة
الفريدة في شكل الحكم السياسي ـ نظرية الولاية ـ هي التي كلّفت أتباع هذا المذهب ما
كلّفتهم عبر التاريخ الطويل من المعاناة السياسية، وتحمّل الظلم والاضطهاد،
والمحاربة والتصفية من قِبَل الظالمين، سواء الغاصبين زوراً لمنصب ولاية الأمر داخل
جسم الأمة الإسلامية أم المستعمرين الغازين الذين نفذوا إلى بلاد المسلمين في
القرون الأخيرة.
ولم تكن حالات التقية والتكتّم والتشريد والتهجير التي كانت تنتاب هذه الطائفة من
المسلمين بعد فترات المعارضة والمواجهة الدموية مع الظالمين، إلا تعبيراً تاريخياً
عن مدى تمسّك هذه الطائفة بنظريتها هذه في الحكم وولاية الأمر، وإيمانها المعمق
بخطورة هذه النظرية، وكونها أساساً أوّلياً… بل أهم أساس من أسس الإسلام ودعائمه،
التي تقوم بها سائر الدعائم والأركان، حتى جاء في الروايات:
(ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية)
وهكذا لابد وأن يكون الحاكم الإسلامي أو ولي الأمر شاهداً على الأمة. ممارساً لدور
شهادته عليها.. ذلك الدور الخطير الذي يتحمّله كل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام
والعلماء، في صيانة الأمة الرسالية وحفظها، سواء تسلّموا الحكم وتمكّنوا من القيادة
والولاية المباشرة أم لا.
الشورى
وهنالك بعد هذا وذاك، المرونة في الإدارة لصيغة الحكم الإسلامي، التي يتّبعها ولي
الأمر في إدارته للأوضاع الاجتماعية، فإنه موظف بإدارتها ضمن حدّين:
حدّ ثابت لا يمكن تجاوزه، وهو المستخلص من روح الإسلام وتعاليمه المنصوص عليها في
كيفية إدارة شؤون الناس والمرسومة أهدافها وقيمها وصيغها الثابتة.
وحدّ متغيّر يستمد شكله من المصلحة الزمنية وما تقتضيه في كل مرحلة أو منطقة،
وتقتضيه الخبرة الميدانية والتجربة الإسلامية الصالحة، في سبيل تحقيق تلك الأهداف
والقيم، مستعيناً على ذلك بخبرة الفقهاء والعلماء الصالحين ومستشيراً لأهل الحل
والعقد من أبناء الأمة الرساليين، وهذا يستلزم ـ عادة ـ تشكيل لجان ودوائر مختلفة
من أهل الحل والعقد والعلم والصلاح، من أبناء الأمة في مرحلة التطبيق وإنجاز
الإدارة السياسية والاجتماعية الإسلامية، كل دائرة تتكفّل جانباً من الجوانب التي
تحتاج إليها إدارة البلاد، ويكون لولي الأمر المباشرة والإشراف الكامل على تلك
الدوائر وهدايتها، بما يضمن عدم الانحراف أو الخطأ أو الابتعاد عن الأهداف والطريقة
المرسومة للأمة الإسلامية من قِبَل الشريعة في مسيرتها التاريخية الرائدة.
وهنا يتأكد ما أشرنا إليه سابقاً ضمن الأسس من ضرورة إشراك الأمة الصالحة ميدانياً،
بل وتوسيع دائرة من يشترك بالفعل في تحمّل مسؤولية الإدارة السياسية، واعتماد
الجماهير العريضة حقيقة من خلال تربيتها رسالياً، وإعدادها وتوعيتها على تحمّل
مسؤولياتها التاريخية، في إقامة العدل والقسط والحكم الإسلامي في الحياة. وهذا يعني
أنّ أسلوب الممارسة الإدارية من قِبَل ولي الأمر لابد وأن يكون بنحو تتجسّد فيه
بالتدريج هذه الخصيصة الأساسية, وأدلة الأمر بالمشورة والشورى ناظرة إلى هذا المعنى
إذا استبعدنا دلالتها على نظرية الانتخاب بالمعنى الذي تفترضه بعض المذاهب
الإسلامية.