مركز الصدرين للدراسات السياسية

مصدر التشريع ونظام الحكم في الإسلام  -1-
آية الله السيد محمود الهاشمي

تقديم
لا شكّ أنّ أي تجمّع بشري مهما قلّ أفراده بحاجة إلى نظام مُعيّن يحكم وينظّم علاقاتهم بعضهم ببعض.
فالأمم والشعوب على اختلافها بحاجة إلى رعاية وحماية من خلال تشريعات وقوانين صادرة إما عن مُشرّع ومقنّن عارف بأحوال الإنسان ومطلّع على احتياجاته ومتطلّباته، وهو بمعتقدنا الله سبحانه وتعالى أو مَنْ يفوّضه صلاحية التشريع.. كذلك فهي بحاجة أيضاً إلى من يديرها ويحكمها، ويرعى شؤونها ومستلزمات أفرادها وحمايتهم.. وصيانة حقوقهم. أي أنّ الحاكم أو (الولي) يكفل حماية الأفراد من خلال حمايته للدستور من التلاعب والتغيير، وضمان المحافظة على القانون من التجاوز والاختراق.
ومن الطبيعي أن يستشري الفساد.. وتعمّ الفوضى والاضطراب. ويبتزّ القوي الضعيف، في حالة غياب القانون أو النظام عن مسرح الحياة؛ ذلك لأن (الإنسان مخلوق يحب ذاته، وحب الذات هذا أمر غريزي لديه، فهو يريد أن يستحوذ على كل شيء وإذا ما انصاع يوماً ما لقوانين أو التزامات اجتماعية فلأن الضرورة تضطرّه إلى ذلك ولا يجد مناصاً منه، وعند عدم وجود هذه الضرورة فإن الفرد غالباً ما يمتلكه الحرص، وحب الذات، والسعي للإستحواذ على كل شيء والتفريط بحقوق الآخرين كلما تسنح الفرصة له).
من هنا تنشأ الحاجة التي ما فتئت تلازم الإنسان منذ وجوده الأول على الأرض، إلى النظام أو القانون الذي يحكم الأفراد، وينظم العلاقات والشؤون الحياتية في إطار الموازين العقلية أو العقائدية؛ وذلك دفعاً للباطل والانتهاك أو التعرّض لمصالح الآخرين من جهة، وإحقاقاً للحق من جهة أخرى.
ولقد اقتضت السّنن الإلهية أن لا يتمّ صلاح المجتمع إلا بإتّباع الأحكام الإلهية الحقّة, التي تكفل للإنسان عيشاً كريماً بعيداً عن كل أنواع الظلم والطغيان.
وقد تكفّل سبحانه وتعالى للإنسان القانون والحكم العادل والقيادة الصالحة، ومن هنا يأتي القول: بأن الأرض لا تصلح بغير إمام عادل؛ ولذلك كان ولابد من شريعة عالمية ومنهاج شامل ينقذ البشرية المعذّبة التائهة من تخبّطها، بعد أن حرفت الديانات السماوية السابقة عن خطّها الأصيل، وتلاعبت الأهواء والأفكار البشرية المحدودة والقاصرة بمصير الإنسانية ومسيرتها الصحيحة، فجاءت بالنظريات والأنظمة الوضعية التي دمّرت الإنسان ومزّقته من داخله، وفصلته عن فطرته السليمة, كما دمّرته من خارجه من خلال الحروب والمآسي التي يرزح تحت وطأتها وظلمها آلاف المعذّبين من بني الإنسان.
ويأتي الإسلام الخالد، الأكمل نظاماً.. والأكثر إحاطة وشمولاً بجوانب الحياة المختلفة، كونه خاتماً للأديان والشرائع، ليبشّر بزوال صروح الظلم والاستكبار، ويؤذّن بقرب حلول عصر جديد يسود فيه العدل والنظام بدلاً من الخبط والعشواء، إنها الرسالة العظيمة جاءت لتعيد صياغة الإنسان من جديد وترقى به في مدارج الكمال، وترفعه من حالته البهيمية التي كان عليها إلى عالم الإنسانية.. عالم السمو الروحي والملكوت، وهكذا تكفّل النظام الإسلامي الدقيق والشامل كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ووضع برامجها ورسم خطوطها العامة والتفصيلية.
وعليه فإن الدراسات والبحوث في طبيعة النظام الإسلامي ومصادر التشريع فيه، والأسس التي يقوم عليها، تكتسب لدينا أهمية كبيرة، حيث نستطيع من خلالها أن نستوعب مختلف جوانب إسلامنا العظيم بصورة أكبر، وأن نعرف بدقّة وحكمة القوانين أو التشريعات الإسلامية ومواكبتها لكل عصر، وصلاحها لكل زمان.
ومن هذا المنطلق، فقد تعرّض سماحة السيد الهاشمي في بحثه الموجز الذي كان قد قدّمه إلى أحد المحافل الفكرية إلى الخطوط العامة مع شرح واف سواء لمصادر التشريع أم للحكومة الإسلامية، وعَرْض للعناوين الرئيسية بشكل أعطى للموضوع نصيبه من الناحية الفنية دون أن يخوض في تفاصيل العناوين الجانبية؛ لذا فقد يلحظ القارئ الكريم أنّ البحث قد أغفل بعض الجوانب من الموضوع، وتحدّث عن أخرى بشكل موجز، فإن هذا مرجعه إلى طبيعة طرح الأبحاث فيمثّل تلك المحافل.
والبحث هذا.. ما هو إلا محاولة أو عرض يُضمّ إلى المحاولات الأخرى التي تبرز دور الإسلام الرائد في قيادة الأمم والشعوب على اختلاف قومياتها وانتماءاتها، كما أنها توضّح دقّة النظام الإسلامي، وحكمة المُشرّع في تقنين الأحكام والتشريعات اللازمة لكافة جوانب الحياة الإنسانية دونما استثناء، وهذه ظاهرة غير ملحوظة في أي نظام وضعي اليوم أيّاً كان ومهما كانت شموليته.
والتشريع(القانون) الإسلامي يكتسب فاعليته وشرعيته في التطبيق على جميع أفراد البشر؛ لأن مصدره الرئيس هو الله سبحانه وتعالى أو من يخوّله صلاحية التشريع، هذا بالإضافة إلى تفصيلات أخرى استهلّ بها المبحث الأول وهو ما سُمّي بمصادر التشريع، ونتيجة لذلك تجد أنّ التشريع أو القانون الإسلامي يُطبّق بكل دقة من قِبَل الأتباع المؤمنين ومن دون تهاون أو تململ حتى مع عدم وجود الرقابة الحكومية. وهذه أيضاً حالة نادرة وفريدة لا توجد في أي نظام وضعي آخر في العالم وعند أي من الأمم الأخرى، أضف إلى ذلك نتيجة أخرى هي أنّ الحكم أو القانون الإسلامي يكتسب قوة في الردع، وهيبة في النفوس، بل التزاماً ذاتياً على التطبيق إن لم نقل تسابقاً عليه حتى في التشريعات الثانوية، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة.
وبالإضافة لتعرّض البحث إلى أنواع التشريعات ودور كل من الحاكم والأمة والراعي والرعية في التشريع، فإنه قد بيّن أيضاً المرتكزات الأساسية للحكم في النظرية الإسلامية، وأشار إلى أنّ تلك المرتكزات أو ما عبّر عنها بـ(الأسس) إنما تشكّل الأعمدة الأساسية في بناء الدولة الإسلامية الحديثة.
وبتعرّض البحث لخصائص الحكومة الإسلامية إنما أراد أن يعطي صورة واضحة عن طبيعة الحكم الإسلامي وشمولية نظامه، وقدرته على مواكبة التطورات العصرية، كما أثبت أنّ الإسلام يضمن سلامة وصلاح الحكم، سواء على مستوى القيادة العليا للدولة(ولي الأمر) أم على مستوى أصغر اللجان والدوائر التي من خلالها تدار دفّة الحكم وقطاعات الدولة المختلفة.
والخلاصة فإن البحث قد وطّأ لمنهجية الدراسة الشاملة والمستوعبة في هذا المضمار، وهو في النهاية يوصلك إلى نتيجة هي: إنّ الإسلام(دين ودولة) وأنه وحده القادر على تحقيق العدالة والرقي لكل الشعوب والأمم، وتوفير الأمن والسلام في ربوع المعمورة، شريطة أن تكون الأمة ـ الحاكم والمحكوم ـ بالمستوى الذي يريده الله تبارك وتعالى وبهذا تتحقق الدولة النموذجية الفاضلة.
والحمد لله رب العالمين
ذي الحجة/1407
مكتب السيد محمود الهاشمي.


بين يدي البحث


(الولاية) أو (الحكومة الإسلامية).. نعني بها: تولّي إدارة حياة الناس بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفق شريعة الله، وتنظيمها على أساس منهج الإسلام، وهذا المعنى يستلزم مجموع أمرين يشكّلان محوري البحث في هذا الكتاب:
الأول: وجود أنظمة وقوانين تنظم علاقات الإنسان المتنوعة، وتحدد له الحقوق والصلاحيات. وهذا ما اصطلح عليه (بمصادر التشريع) وهو ما تناوله المبحث الأول.
الثاني: تنفيذ الأنظمة والقوانين ـ المشرّعة ـ وتولّي تطبيقها في الخارج وإدارة الحياة في ضوء منها، وهو ما جاء في المبحث الثاني والذي اصطلح عليه (بالجهاز التنفيذي).
ويتوقف على ثبوت الولاية للحاكم في المبحثين معاً، أن تكون له ولاية في تشريع القوانين اللازمة من جهة، وولاية على تنفيذها من جهة أخرى، ومعنى هذا أنّ أي شخص أو جهة تريد أن تحكم جماعة من الناس لابد أن تكون لها ولاية تشريعية(سلطة تشريعية) وولاية تنفيذية (سلطة تنفيذية).
وقد ارتأينا أن يكون الدخول في هذا البحث من باب المصادر التشريعية؛ بغية الوصول إلى بحث الحكومة الإسلامية, وهو ما اصطلحنا عليه بالجهاز التنفيذي أو (السلطة التنفيذية).
وقد قسّم المبحث الأول إلى فصول خمسة كما يلي:
الفصل الأول: أسس التشريع والولاية التشريعية.
الفصل الثاني: أنواع التشريع في النظرية الإسلامية.
الفصل الثالث: دور الفقيه في التشريعات الإسلامية.
الفصل الرابع: دور الأمة في التشريع.
الفصل الخامس: الترابط بين التشريع والعقيدة.
فالفصل الأول اشتمل على أساسين ـ سيأتي شرحهما فيما بعد ـ هما:
1ـ المسؤولية.
2ـ الصلاح والعدالة.
أما الفصل الثاني فقد بحث فيه أنواع التشريع في النظرية الإسلامية، وقد أشرنا إلى نوعين أساسيين من التشريعات في الإسلام هما:
التشريعات الثابتة: وهي تشريعات حددت في أصل الشريعة ـ لتبقى دون تغيير ـ من قِبَل الله سبحانه أو النبي(ص) أو الإمام المعصوم(ع) ، وتستفاد من الكتاب والسّنة، ومن قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
التشريعات المتحركة: أو ما يصطلح عليها( منطقة الفراغ) وهي المساحة التي ترك أمر ملئها إلى (ولي الأمر).
وهنا يبرز بحثان:
الأول: بحث صغروي: في من هو (ولي الأمر) بعد الرسول(ص) والنظريات الإسلامية في ذلك ثلاث:
1ـ الشورى
2ـ النص
3ـ ونظرية ملفقّة بين النص والشورى، أي الشورى فيما لم ينص على ولاية شخص فيه (وهو ما سيأتي بحثه في الفصلين الثالث والرابع إن شاء الله تعالى).
الثاني: بحث كبروي: في الصلاحية التشريعية لولي الأمر، ولزوم إطاعة الناس لأحكامه التي يشرّعها في المساحة الثانية، أي في (منطقة الفراغ) وهذا ما نستفيده من قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[1]، ومن الروايات الواردة في الحقول السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو المجالات القانونية المتنوعة، حيث تنيط أمر تنظيمها إلى الحاكم الإسلامي أو (الوالي) كما ورد في باب التعزيرات والأنفال من الفقه الإسلامي.
ويدور بحث الفصل الثالث حول دور الفقيه (ولي الأمر) في التشريع الإسلايم. وقد وطّأنا للبحث بموضوع مهم ذلك هو مبدأ ( ولاية الفقيه) ليكون مدخلاً لفهم دور الولي الفقيه في قيادة الأمة، وفي مجال التشريعات الإسلامية.
ويأتي دور الفقهاء في التشريع هنا ضمن أمرين:
الأول: استكشاف النوع الأول من التشريعات (التشريعات الثابتة)، إذ ينقلون ما شرّعه الله تعالى أو النبي أو الإمام عن طريق مصادره المقررة في أصول الفقه من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهذا هو دور (الإفتاء) وهو غير (الحكم).
الثاني: ملء تشريعات منطقة الفراغ(ولاية التشريع في المنطقة المتحركة) ـ وهي تشتمل على ثلاث دوائر سيأتي بيانها خلال البحث ـ وإيكال صلاحية التشريع فيها إلى الفقهاء. ولا ينبغي التشكيك حينئذ في صحة هذه التشريعات، حتى لو قلنا بوقوع التشكيك في اختصاص الولاية ـ على التنفيذ ـ بهم على فرض؛ لأن طبيعة التشريع ضمن الشريعة الإسلامية تقتضي أن يتصدّى له(المطلع) و(المستوعب) لأحكام الشريعة وأبعادها، فإن ملء هذه المنطقة لابد وأن يكون في ضوء الأهداف والخطوط العامة لأحكام الشريعة وهذا لا يمكن أن يطّلع عليه بدقة إلا(الفقهاء).
على أنّ الأدلة اللفظية التي يُستدل بها على أنّ (مصائر الأمور إلى الفقهاء) وأنهم (حجتي عليكم) وأنهم (ورثة الأنبياء)... القدر المتيقن من مدلولها هذا المعنى أي الولاية في التشريع.
من هنا يبرز سؤالان يطرحان نفسيهما:
الأول: كيف نعالج الاختلاف بين فتاوى الفقهاء فيما يرتبط بالجانب الثابت من التشريعات الإسلامية؟
الثاني: ما هي ضوابط ممارسة ولي الأمر لمسؤوليته التشريعية في المساحة المتروكة إليه؟
فبالنسبة للسؤال الأول: ذكرنا ـ خلال البحث ـ أنّ هناك عدّة طرق لعلاج هذه الحالة، أوردنا شرح اثنين منها.
وأما بالنسبة للسؤال الثاني: فإنه توجد ضوابط لابد للحاكم الإسلامي من مراعاتها منها: أن لا تتجاوز تشريعات المنطقة المسموح بها، وأن تحقق الاتجاهات والأهداف الأساسية التي تتوخاها الشريعة من خلال عملية التشريع المتروكة للفقيه، ثم أنْ تكون هذه القوانين موافقة للمبادئ والقيم الأساسية التي ينادي بها الإسلام.
وغير ذلك من الضوابط مما سيأتي تفصيله.
وأما الفصل الرابع فإنه سيتناول موضوع دور الأمة في التشريع في ضوء ما تقدم في الفصول السابقة، ويجد القارئ أنه قد عُرِضَ لذلك بصورة تبرز أهمية دور الأمة في التشريع أيضاً، وبذلك يجاب على أباطيل من اتّهم النظام الإسلامي بالاستبداد (الدكتاتورية).
والفصل الخامس والأخير ـ من هذا المبحث ـ وظّفناه لتوضيح مدى العلاقة الوطيدة بين التشريعات والأنظمة الاجتماعية، وبين العقيدة والنظرة الكونية إلى الحياة والوجود، ولطبيعة الإنسان والمجتمع والتأريخ، وهذه من النقاط المهمة التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتفصيل.
وبتمام هذا الفصل نكون قد أتينا على نهاية المبحث الأول، لندخل في المبحث الثاني ونستطلع موضوع(الحكومة الإسلامية) أو (نظام الحكم) الذي يتولّى إدارة حياة الناس على أساس الشريعة الإسلامية كما أسلفنا، وأسميناه بالجهاز التنفيذي, حيث إنّ طبيعة أي (نظام حكم) أو (حكومة) لابد أن يبتني على مبادئ وأسس معيّنة، ولا يمكن بأي وجه من الوجوه أن نتخيّل صورة للحكم، أو لنظام معيّن ـ أيّاً كان ـ من دون مبادئ وأسس يقوم عليها ذلك النظام.
ولذا فالفصل بين (أشكال الحكم) وأنظمته وبين (المبادئ) التي يقوم عليها النظام، فصل غير واقعي.
وعليه فالحكومة الإسلامية بدورها تبتني على (الأيديولوجية) الإسلامية بشكل عام، وعلى مجموعة من المبادئ التي يمكن اعتبارها أسساً مباشرة دستورية لنظرية الحكم وشكله في الإسلام، بحيث لا يمكن الفصل بين تلك الأسس وبين النظام السياسي للإسلام. كما لا يمكن فَهْم أبعاد هذا النظام من دون فَهْم تلك الأسس والمبادئ.
ومن هنا فقد اقتصر البحث في باب (نظام الحكم) على فصلين: تضمّن الفصل الأول أسس الحكم في النظرية الإسلامية، وقد عرضنا لسبعة من تلك الأسس وهي على التوالي:
خلافة الإنسان: من حيث تكريمه من قِبَل الله سبحانه وتعالى، واستخلافه في الأرض.
عدم التمايز الطبقي: إذ لا فوارق ولا امتيازات بين أفراد البشرـ هنا ـ إلاّ على أسس التقوى والقرب من الله، كما أنها تقضي بإقرار قيم المساواة بين الناس.
المؤاخاة في الدين: ذلك أنّ الإسلام يعتمد ـ أساساً ـ الأخوة الدينية، حيث إنّ هذه الرابطة هي من أقوى الروابط لبناء المجتمع الإسلامي المتماسك والمتكافل.
حرية الفكر والعقيدة
الولاية لله: إنّ الحكم .. بل الولاية المطلقة لله تعالى، كونه الخالق المنعم وإليه يرجع مصير كل شيء، فهو المولى الحقيقي المطلق للناس ولا مولوية لسواه على أحد إلا إذا كانت تلك الولاية مرتبطة به سبحانه وتعالى مباشرة أو تؤول إليه, كما سيأتي تفصيله في ضوء الأساس السادس الذي تعتمده النظرية الإسلامية في الحكم.
مستويات الولاية: حيث إنّ هذا الأساس يعتمد الآية الشريفة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}[2] في تنظيم الحاكمية وفي مَنْ تكون له، ومواصفات الوالي أو الحاكم والشروط التي يجب أن تكون فيه، وبذلك تتوفر لهذه الولاية ـ خاصة على المستوى الثاني منها ـ خصائص سنتعرض لها خلال البحث إن شاء الله.
دور الأمة في الحكم: وسيأتي البحث في أنه كما (للأمة) دور في التشريع، كذلك لها دور بارز باختيار(الحكومة) ومراقبة فعاليتها في جميع المجالات، وعليها أيضاً مسؤولية إقامة (العدل)، وتمكين الحاكم الإسلامي من القيام بدوره الولايتي على الناس. فالممارسة السياسية في نظر الإسلام ليست حكراً على طبقة معيّنة من الناس، ولا على أفراد معينين في سدة الحكم، إنما يفتح الباب أمام الأمة بمختلف قطاعاتها للمشاركة في إدارة عجلة الدولة وفي شتى المجالات، من خلال إبداء (النصح والمشورة) كما سيأتي بيانه.
وعسى أن نوفّق في توضيح تلك الأسس بشيء من الشرح والتفصيل.
وفي الفصل الثاني بيّنا شكل الحكم(الهيكل الأساس) في النظرية الإسلامية، والخصائص الأساسية السبع التي تشكّل بمجموعها صورة وصيغة(الحاكم) و(الحكومة الإسلامية) في إطارها العام.
وبعد هذا العرض الموجز يأتي الحديث المفصّل عن المواضيع التي أشير اليها آنفاً.
والله الموفق أولاً وآخر
____________________________
[1] سورة النساء: 59.
[2] سورة المائدة، الآية: 55.
 


المبحث الأول

مصادر التشريع

تمهيد
الإنسان كائن يتميّز على غيره من الكائنات بقوة (العقل) و(الإرادة) وامكانية ترجمة إدراكه ووعيه إلى واقع موضوعي أثناء تجربته الحياتية، وتفاعله مع الحقائق والموجودات.. كما أنه مزيج من مجموعة (غرائز وميول) مادية حيوانية تمثل وجه اشتراكه مع سائر الكائنات العضوية، ومجموعة عناصر وقيم أخلاقية وروحية تشكل الوجه المعنوي لديه وتُميّزه ـ أيضاً ـ عن سائر الكائنات الأخرى، كما تشكل الأساس والركيزة فيه للسمو والتعالي والكمال في مضمار علاقته بمبدأ الكمال والحق.
ومن هذه الخصيصة ـ المعنوية ـ ينشأ لدى الإنسان مبدأ (المسؤولية) بمعنى أنّ الإنسان يكون مسؤولاً أمام المنطق العقلي والوجداني تجاه ما يدركه من الحقائق الكبرى، والتي من أكبرها حقيقة الباري عز وجل، الذي هو مصدر الوجود ومبدعه.
كما أنّ الإنسان ـ بوصفه كائناً اجتماعياً ومدنياً في حياته ـ افتقر منذ وجوده الأول على الأرض إلى الأنظمة والقوانين التي تنظم دائرة التصرفات المسموحة له في سيره وسلوكه، ومجموعة الحقوق الثابتة عليه تجاه الآخرين، لتحافظ الحياة على معادلاتها ضمن المنطق الإنساني والموضوعي، ولئلا تختل صيغ التعامل الفردي والاجتماعي أثناء فصول الحياة.
وعلى أساس هاتين الخصيصتين الذاتيتين في الإنسان تنشأ الحاجة إلى وجود قوانين وأسس ترضي المجتمع بالإحتكام إليها، سواء عن قناعة وجدانية بعدالة تلك القوانين أم عن طريق الخشية من العقاب المترتب على مخالفتها.
والتشريع يعني: عملية وضع القوانين التي تتكفل تنظيم الحقوق بين الناس وإلزامهم بحدودها.
ومن هنا لا يمكن أن يتحقق مجتمع بشري منظم ومستقر، من دون وجود تشريعات في داخله، تنتظم على أساسها بشكل وآخر المسؤوليات والحقوق بين الأفراد.



أسس التشريع
مما تقدم نستنتج أن أي (تشريع) أو (قانون) لا يمكن أن يكون حقيقياً وثابتاً في الحقل الإنساني علمياً وموضوعياً، إلا إذا ارتكز على أساسين مرتبطين بالخصيصتين المذكورتين. والأساسان هما:
أولاً: أن يكون الإنسان مسؤولاً أمام التشريع، أي أن يحكم العقل بوجوب تنفيذه على الإنسان، ووجوب الالتزام والطاعة له.
ثانياً: أن يكون مشتملاً على صلاح الإنسان ذاته، والصلاح في التشريعات يتحقق بتوفر ثلاث أمور رئيسة:
1ـ الانسجام مع فطرة الإنسان.
2ـ تحقيق العدالة والمصلحة في حياة الناس عموماً.
3ـ الإعداد لتربية الإنسان وتطويره باتجاه حركته التكاملية التصاعدية في سلّم الوجود.
واستناداً إلى ذلك، فإن النظرية الإسلامية ترى، بأن مصدر التشريع ينحصر في الله سبحانه وتعالى، حيث إنّ أي مصدر آخر لا يمكن أن تشتمل تشريعاته على الأساسين المذكورين، وهذا ما سنوضّحه ونبرهن عليه خلال البحث الموجز في كل من هذين الأساسين للتشريع.
الأساس الأول
مصدر المسؤولية
لقد أشرنا آنفاً أنّ مبدأ (المسؤولية) إنما وجد لدى الإنسان، نتيجة امتلاكه لصفتي (الوعي والحرية) أو (الإدراك والإرادة) وهذا يعني: أنّ المرجع الذي لابد وأن يشخّص للإنسان حدود المسؤولية، والجهة التي يكون مسؤولاً أمامها إنما هو عقل الإنسان ذاته، أي أنّ العقل هو الذي يستطيع أن يدرك أبعاد هذا الأساس(مصدر المسؤولية).
وهذا يعني أنّ(مصدر المسؤولية) أمر واقعي، ولا يمكن بحال أن يكون وضعياً وتشريعياً، حيث إنّ التشريع ـ على ما ذكرناه ـ لا يصحّ إلاّ إذا كان يرتكز على أساس المسؤولية، فكيف يعقل أن تكون هي نفسها بالتواضع والتشريع؟
(ومصدر المسؤولية) هذا يشخّصه العقل السليم، فيما نصطلح عليه (بالمولوية) الحقيقية والذاتية، والتي تنشأ من إسباغ نعمة الوجود على الإنسان؛ مما يجعل شكره عليها واجب بحكم العقل( مبدأ وجوب شكر المنعم)، وذلك عن طريق إطاعة أوامره وأحكامه، والذي يعبّر عنه( بحق الطاعة).
فمن دون أن يكن المشرّع ـ واضع القانون ـ مُنعماً ومتفضلاً على الإنسان، لا يمكن معه أن يقبل العقل لزوم طاعة الإنسان له ومسؤوليته تجاه تشريعاته، مهما فرض في المشرّع من مواصفات أخرى(كالقوة والقدرة) أو (العلم والمعرفة) ومهما فرض في تشريعاته من الحكمة والمنفعة للإنسان؛ لأن تحميل حكم ما على الإنسان رغم إرادته وعلى خلاف قناعته ورغبته من قِبَل من ليس له (حق الطاعة) عليه ليس إلا ظلماً وتجنّياً على الإنسان، وإن افترض في ذلك مصلحة له ونفع.
ومصدر(حق الطاعة) هذا وهو (الإنعام والإحسان)، كلما كان حجمه أكبر ودرجته أعلى، كانت دائرة الحق والطاعة والمسؤولية تجاهه أكبر، وكلما كان حجمه وحقله أقل، تقلّصت دائرة الطاعة والمسؤولية أيضاً.
ومن هنا نستطيع أن نتبين السبب في أنّ (المولوية) و(المشرّع المطلق) ينحصر في ذات الله تبارك وتعالى، باعتباره الخالق للإنسان، ومصدر وجوده وكماله، ... بل هو مصدر مطلق الوجود.
لذا فإن حق طاعته والمسؤولية تجاهه لا حدّ لها؛ لأنه أنعم على الإنسان بنِعَم ليس لها حدود، فتكون مسؤولية الإنسان ـ بشكره وطاعته ـ لا حدّ لها أيضاً.
وهناك مراتب أقل بكثير من هذه المرتبة، في سلّم الإنعام والإحسان فيما بين الناس أنفسهم، تستلزم لا محالة مراتب أدنى للطاعة والمسؤولية فيما بينهم، وبملاكات ترجع كلها إلى المصدر الذي أشرنا إليه.. ولكنهما جميعاً مراتب ضعيفة ودانية لا يمكن أن تبلغ مرتبة تشريع أنظمة حياة الإنسان، إلا إذا كان ذلك بتفويض من (المولى) الحقيقي وهو (الله) سبحانه على ما سوف يأتي شرحه، وهذا يعني أنّ تلك التشريعات تكتسب نفوذها وشرعيتها من المولى الحقيقي، ومخالفتها تصبح مخالفة له بحسب الحقيقة.
ومن هنا يأتي القول: بزيف وبطلان النظريات الوضعية في التشريع، والتي تجعل التشريع من حق الحاكم أو المجتمع أو التأريخ، أو من حق منتخبي الشعب على أساس نظريات(العقد الاجتماعي)، فإنها جميعاً ـ رغم كثرة ما قيل في شرحها وتخريجها ـ لا تستطيع أن تجيب عن السؤال المركزي الذي أثرناه وهو: لماذا يكون الإنسان مسؤولاً أمام المشرّعين وواضعي القوانين من البشر؟ ولماذا يتوجب عليه إطاعتهم والالتزام إزاء أنظارهم التشريعية؟ .. إلى درجة الحكم عليه (بالموت) نتيجة اختراق قانون منها،.. فطالما لا ميزة ولا مولوية لهؤلاء المشرّعين عليه بهذا المقدار، بل لا مولوية لهم عليه أصلاً في غالب الأحيان، فلا مبرر لمسؤوليته تجاههم.. كما لا أساس لنفوذ تشريعاتهم في حقّه. ومجرد افتراض قدرتهم على تشخيص ما هو صالح للمجتمع ـ لو صح ـ لا يبرر ترتّب المسؤولية تجاه تشريعاتهم، ولا يجوز إرغام إرادة الإنسان ومصادرة حريته وحياته على هذا الأساس.
الأساس الثاني
مصدر صلاح التشريع
أما الأساس الآخر للتشريع، الذي نريد بيانه في هذا المقام فهو (صلاح التشريع وعدالته) أي صلاحه للإنسان.. وإمكانية اشتماله على معالم العدل والتوازن الإنساني، فقد يتصور إمكان توفرهما ـ الصلاح والعدالة ـ في التشريعات الوضعية على أساس تجربة الناس لحياتهم الاجتماعية ومتطلباتها على مرّ العصور، والوصول من خلالها إلى سنن الحياة الاجتماعية ومعادلاتها العادلة وغير العادلة، والمعتبرة وغير المعتبرة والمفيدة والضارّة.
إلاّ أنّ هذا زعم باطل ينشأ من قياس (التجربة الاجتماعية) على التجربة(الطبيعية)، فإن الإنسان ربما يتمكن من الوصول إلى الحقيقة العلمية في ميدان التجربة الطبيعية عن طريق البحث والفحص والملاحظة، ولكنه أعجز من أن يصل إلى الحقيقة ـ كل الحقيقة ـ في التجارب الاجتماعية من خلال ذلك، إذ إنّ التجربة في الحقل الاجتماعي تفتقد أكثر مميزاتها العلمية، وبذلك تفتقد قيمتها الموضوعية في الكشف الدقيق عن الحقيقة الاجتماعية المطلوبة. ونستطيع أن نستخلص أهم نقاط الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية فيما يلي:
أولاً: إنّ حقل (التجربة الاجتماعية) حقل واسع، لا يمكن أن يقع تحت ملاحظة إنسان واحد، سيّما وأنه محدود زمانياً ومكانياً وطبيعياً، فيضطر معها إلى الاعتماد على الحدس والنقل والتخمين، وهي أمور تعتمد وترتكز على أسس غير موضوعية في أغلب الأحيان.
ثانياً: تأثّر(التجربة الاجتماعية) بظروف المجرِّب نفسه (الباحث)، الذي هو أيضاً من صنع مجتمعه المحدود، والمتأثر بأفكاره وفلسفته التي لها الأثر الأكبر في نظرته إلى المجتمع والإنسان والتاريخ، ومجمل القوانين والتشريعات التي يريد استكشاف الصالح منها للمجتمع والتاريخ.
ثالثاً: تأثّر (التجربة الاجتماعية) بالمنافع والعوامل الذاتية، والمصالح الخاصة الفردية والطبقية والقومية التي يتأثر بها الإنسان(المجرِّب) نفسه، بوصفه إنساناً له حاجات ومصالح شخصية أو طبقية أو قومية أو فئوية يحبّها بحسب ذاته، ويندفع باتجاه ملاحظاتها وحفظها، وهذا بخلاف (التجربة الطبيعية) البعيدة عن مثل هذه المؤثرات.
رابعاً: إذا كان بالإمكان تشخيص النفع والمصلحة العامة أساساً من خلال التجربة، فتشخيص (العدالة) أمر غير ممكن بالتجربة. إذ ليست العدالة كالمصلحة حالة موضوعية قابلة للتشخيص والملاحظة؛ بل .. إنها قابلة للتشكيك والمغالطة بسرعة وسهولة، كما أنها لا تدرك إلا على أساس الفطرة السليمة والعقل العملي الثاقب والمتحرر من جاذبية الأهواء والمطامع.
وهكذا نستطيع أن نصل إلى سرّ فشل التجارب الاجتماعية للإنسانية المعذّبة، وعدم تمكّنها ـ من خلال الاعتماد على التجارب الخاطئة ـ من معالجة أوضاعها الاجتماعية بما يكفل للناس السعادة والعدل والصلاح، رغم نجاح الإنسان وتقدمه الكبير في حقل التجارب الطبيعية العلمية.
من هنا تفترض النظرية الإسلامية، أنّ هذا الحقل ـ أعني حقل التجربة الاجتماعية ـ لا يمكن أن تعالَج وتُحَل مشكلة الإنسانية فيه، إلا من خلال مصدر للتشريع فوق أفق الإنسان وقدراته، .. لذا فالأنبياء عليهم السلام الذين بعثهم الله سبحانه وتعالى لهداية الناس وأنزل معهم الكتب والشرائع، كانوا يعالجون بالأساس مسألة صنع الإنسان، وصنع مجتمعه، وكانوا يهدون الإنسانية إلى التشريعات والأحكام الصالحة العادلة لتنظيم حياتها الفردية والاجتماعية في كل أبعادها، ولم يكونوا دعاة( علوم طبيعية) تبحث عن المعادلات الصمّاء.. بل تناولوا الحقل الإنساني، وراحوا يسعون لبنائه وتشييده وفق مقولات الحق والعدل والسعادة الحقيقية.
ومن مجموع ما تقدم نخرج بحصيلة هي: إنّ مصدر التشريع لحياة الإنسان لا يمكن أن يكون إلا (الله) سبحانه وتعالى ذلك للعديد من الحيثيات، من جملتها:
أولاً:هو (المولى) الحقيقي المطلق للإنسان، الذي يثبت(حق الطاعة)له وتترتب (المسؤولية) تجاه تشريعاته وأحكامه.
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}[1]
{ ثُمَّ رُدُّواْ إلى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[2].
ثانياً: هو (العارف الخبير) بالإنسان وبما يحتاجه، بحسب نظام خلقته وفطرته في جميع مراحل وجوده وتأريخه.
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[3].
ثالثاً: هو (العالم والمطلع) على ماهية العلاقات الاجتماعية وكيفية تنظيمها العادل والنافع، وبالنظر إلى جميع العوامل والعلاقات والسنن الطبيعية والاجتماعية.
{..أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[4]
{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[5].
رابعاً: هو (الغني المتعال) الذي لا يشرّع إلا ما فيه صلاح الإنسان وخيره، وما يحقق له السعادة والعدل. فلا يتوهم في حقه التشريع المتأثر بنزعة مصلحية أو ذاتية.
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}[6]
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}[7]
خامساً: هو (القادر والمالك) لكل شيء وهو مصدر كل خير، فلا يقع تحت تأثير أية حاجة أو ضغط أو تعصب لصالح شريحة أو طبقة أو قبيلة.
{ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[8]
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}[9].
سادساً: هو مبدأ (الكمال المطلق)، وبذلك تكون سبل كمال الإنسان وتساميه متناغمة ومنبثقة من خلال هذا المبدأ، فإن القوانين إذا لم تكن صادرة عن جهة أعلى وأسمى من الإنسان... فلا تكون قادرة على تطوير الإنسان والإنسانية والسير بهما نحو مدارج الكمال، بل لا تكتسب الاحترام والتقدير أو القناعة اللازمة لتنفيذها.
وهذه ميزة مهمة تتميز بها التشريعات السماوية على الوضعية حتى في مجال الأنظمة والأحكام، فضلاً عما يرتبط منها بالعقائد والمعارف أو الأخلاق والقيم والسلوك الإنساني العام مما تفتقده التشريعات الوضعية طرأ.
_________________________________
[1] سورة الكهف، الآية: 44.
[2] سورة الأنعام: الآية: 62.
[3] سورة الملك، الآية: 14.
[4] سورة العنكبوت، الآية: 62.
[5] سورة طه، الآية: 98.
[6] سورة الأنعام، الآية: 133.
[7] سورة الرعد، الآية: 9.
[8] سورة الأحقاف، الآية: 33.
[9] سورة فاطر، الآية: 13.
 


أنواع التشريع الإسلامي
في ضوء ما تقدّم يتضح أنّ الأحكام والتشريعات لابد وأن تنتهي جميعاً إلى (الله) سبحانه وتعالى بصورة مباشرة؛ لأنه المولى الحق ومصدر التشريع النافع للإنسان، فلا يحق لأحد أن يشرّع قانوناً بحق غيره ممن هو مثله إلا بإذن الله، كما لا يحق لأحد أن يدين بالطاعة لغير الله إلا بإذنه، فإنه لا طاعة إلا لله سبحانه وتعالى المتفرد في حق الطاعة على العباد والخلائق جميعاً.
ومن هنا جاء في الآيات والروايات بأن الرجوع في التشريعات والأحكام إلى غير (الله) نوع من الشرك والكفر به تبارك وتعالى.
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[1] .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[2].
وفي رواية أبي بصير عن الصادق(عليه السلام) قال: (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم)[3].
إلا أنّ هذا لا يعني أنّ التشريعات الإسلامية كلها من نوع واحد، وأن مصدرها واحد أيضاً، بل هي على عدة أنواع كما يلي:
1ـ ما يكون مشرّعاً من قِبَل الله سبحانه وتعالى مباشرة وهذا يغطي المساحة الكبيرة والأساسية للتشريع الإسلامي. فإن التشريعات قد نظمت بصورة مباشرة من قِبَل الله سبحانه من خلال ما أنزله على النبي الأعظم (ص) في كتابه الكريم أو ما أخبره به من الأحكام والقوانين التي لا يمكن أن تستغني عنها الإنسانية في أي وقت، ومصدر استكشاف هذا النوع من التشريعات هو الرجوع إلى كتاب الله أو سنة نبيّه أو خلفائه المعصومين الذين يمثلون امتداده الشرعي.
2ـ ما فوّض الله أمر تشريعه إلى النبي(ص) فهو الذي ينهي عنه أو يأمر به، وعلى الناس إتباعه وامتثال أوامره، مثلما يأتمرون وينتهون عن أوامر الله ونواهيه.
3ـ ما فوّض الله أمر تشريعه إلى الإمام (ع).
وهذا القسم من التشريع، إضافة إلى القسم الثاني، يغطّيان دائرة محدودة من التشريعات، مما لم يتضمّنه التشريع والفرض الإلهي في القرآن الكريم، ولعل من أفضل الأحاديث التي ترسم لنا هذا التنويع ما ينقله الصدوق عن كتاب سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله المسمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الإمام الرضا عليه السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله(ص) في الشيء الواحد فقال(ع):
إنّ الله حرم حراماً وأحلّ حلالاً وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله (ص) لم يكن يحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه، كان في ذلك كله متبعاً مسلّماً مؤدياً عن الله، وذلك قوله الله: { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فكان (ص) متبعاً لله مؤدّياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة، قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله(ص) مما ليس في الكتاب وهو في السنة ثم يرد خلافه، فقال: كذلك قد نهى رسول الله(ص) عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله فوافق في ذلك أمره أمر الله، فما جاء في النهي عن رسول الله(ص) نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخص فيه رسول الله(ص) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله(ص) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله(ص) أو نحرم ما استحل رسول الله (ص) فلا يكون ذلك ابداً، لأنّا تابعون لرسول الله (ص) مسلّمون له كما كان رسول الله(ص) تابعا لأمر ربه مسلّماً له، وقال الله عز وجل:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[4] وإن الله نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل اعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين، ثم رخّص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله(ص) نهي اعافة أو أمر فُضّل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه، إلى أن قال: فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنّة رسول الله(ص)، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله(ص) أمر الزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله(ص) وأمره إلى أن قال: وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا الينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا[5].
ونورد هنا مجموعة من الأحاديث التي تبيّن لنا التشريعات التي سنّها رسول الله(ص) مما لم يتضمنه القرآن الكريم كما ذكرنا:
مجموعة الأحاديث
وفي صحيح فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عز وجل أدّب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}[6]، ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: {.. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[7]، وإنّ رسول الله (ص) كان مُسدّداً وموفقاً ومؤيداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يُخطئ في شيء مما يسوّس به الخلق، فتأدب بآداب الله، ثم إنّ الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله فصارت الفريضة سبع عشر ركعة، ثم سنّ رسول الله (ص) النوافل أربع وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتين بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسنّ رسول الله(ص) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل ذلك وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله(ص) المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله (ص) أشياء وكرها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهي اعافة وكراهة، ثم رخص فيها فصار الآخذ برخصة واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله(ص) فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول الله(ص) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل، بل الزمهم ذلك الزاماً واجباً، لم يرخص شيئاً ما لم يرخصه رسول الله(ص)، فوافق أمر رسول الله (ص) أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى[8].
وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: وضع رسول الله(ص) دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله(ص) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه[9].
وفي رواية اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى ادب نبيه(ص) فلما انتهى به إلى ما أراد، قال له: (وإنك لعلى خلق عظيم)، ففوّض إليه دينه فقال: (..وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وأن الله عز وجل فرض الفرائض ولم يقسم للجد شيئاً وأن رسول الله(ص) أطعمه السدس فأجاز الله جل ذكره له ذلك وذلك قول الله عز وجل : {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[10]
وفي رواية محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن الله عز وجل أدّب رسوله حتى قوّمه على ما أراد، ثم فوّض إليه فقال عزّ ذكره: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} فما فوّض الله إلى رسوله (ص) فق فوّضه الينا[11].
وفي صحيحة أبي اسحاق النحوي قال: دخلت على ابي عبد الله عليه السلام فسمعته يقول: إنّ الله عز وجل أدّب نبيّه على محبته فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ثم فوّض إليه فقال عز وجل: {... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وقال عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} قال: ثم قال: وإنّ نبي الله فوّض إلى علي وائتمنه فسلّمتم وجحد الناس فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا[12].
4ـ ما ترك من (منطقة الفراغ) التي يكون أمر التشريع فيها إلى ولي أمر المسلمين حسب الظروف والملابسات بالشكل الذي يراه مناسباً، وضمن أطر التشريع العامة بحكم قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم..}[13].
والواقع أنّ هذا التوزيع في التشريعات ينشأ من طبيعة الحاجة والمساحة التي يريد أن يغطّيها التشريع نفسه، فإذا كانت الحاجة خطيرة وذات قيم ومصالح أساسية ثابتة على مرّ التاريخ والعصور، وتتناول دوائر ذات أهمية في حقول التربية والنظام.. فإن التشريع هنا ينتقل إلى القسم الأول بمعنى أن(الله) سبحانه يشرّع أحكامها الثابتة الدائمة، والتي لا تقبل التغيير أو النسخ.
فإذا كانت تلك المساحة متأثرة بطبيعة حركة الرسالة وما يشخّصه قائدها الأعظم من المصلحة لأمته وللتجربة الرسالية، فقد فوّض تشريع أحكامها إلى (النبي) أو (الإمام) كلٌ بحسب دوره التاريخي ومرحلته الرسالية.
وإذا كانت المساحة من المتغيرات، تختلف من ظرف لآخر وتتأثر بملابسات الزمان والمكان،... فإن أمر التشريع هنا يكون بعهدة (ولي أمر المسلمين)، وهذه المنطقة المتحركة من التشريع تنشأ من طبيعة التحرك والمرونة ضمن قسم من حاجات الإنسان وعلاقاته الاجتماعية فلا يكون فراغ التشريع المباشر فيها دليلاً على نقص في الصورة التشريعية أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع، بل على العكس، تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأن هذه المنطقة لم تترك بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، بل حددت لها أحكامها بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء (ولي الأمر) صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف.
ومنطقة الفراغ هذه تشتمل على ثلاث دوائر:
أولاً ـ دائرة (المباحات) والعلاقات المسموح بها في صيغها التشريعية الأولية، فإنه يحق (لولي الأمر) أن يحدّ منها، فيما إذا لاحظ مصلحة في التحديد، فمثلاً يسمح (للإنسان) في الحالة الأصلية الاستفادة من الثروات الطبيعية الأولية المباحة له، كالتجارة واستيراد السلع أو الإنتاج، أو التصرف في أمواله أو غير ذلك، ولكن يجوز (لولي الأمر) أن يحدد ذلك بما يراه مناسباً وفقاً لمقتضيات الظروف، فيمنع الانتفاع بالثروات الطبيعية، إلا ضمن حدود خاصة، أو يمنع التجارة الخارجية أو التصرف ضمن صيغ معيّنة تكفل صلاح المجتمع والفرد، وهذا هو المستفاد من أدلة الولاية كتاباً وسنّة.
ثانياً: دائرة التكاليف والحدود التي تحدد واجبات ولي الأمر بوصفه(ولياً للأمر) من قبيل ما فوّض إلى تشخيصه وتقديره في تحديد العقوبات التعزيرية في التشريع الجنائي الإسلامي، فإنه أوكل إلى (الوالي) قدر ما يراه مناسباً في ردع الناس وتأديبهم.
ومن قبيل ما كلّف به (الولي) من حفظ النظام(السياسي) و(الاقتصادي) و(العسكري)، وتوفير متطلبات الحياة الاجتماعية والمعيشية للناس حسب السياسات التي يضعها، مستفيداً في ذلك مما أعطي له من صلاحيات (سياسية) و(قانونية) وإمكانات مالية وضعت في الأصل تحت تصرفه، أو سمح له باستحصالها من الناس من خلال (الضرائب) الثابتة أو غير الثابتة. فإنه مسؤول على أساس من ذلك، عن وضع أنظمة وسياسات صالحة وعادلة في كل مجال منها باتجاه تحقيق الأهداف الاجتماعية التي شخّصتها(الشريعة) بشكل عام، وأوكلت أمر تحقيقها وتجسيدها إلى (ولي الأمر) فإن هذه المسؤولية تستتبع الصلاحية لا محالة.
ثالثاً: في الحالات الاستثنائية التي تفرض ضرورات خاصة، تقتضي رفع اليد عن (الحكم) الأصلي وإن كان حكماً الزامياً ثابتاً في أصل الشرع، باعتبار شخوص عنوان ثانوي أو مصلحة إسلامية أخرى أهم من مصلحة الحكم الأولي.
ففي المسائل الاجتماعية والسياسية العامة يترك أمر تشخيص الصالح إلى الحاكم الإسلامي، فله صلاحية تشخيص وترجيح الأهم على المهم واتخاذ القرار المناسب فيه.
هذه هي أهم الدوائر في (منطقة الفراغ) التي ترك أمرها إلى (ولي الأمر)، فيجب عليه أن يضع لكل منها التشريعات المناسبة وفقاً لمقتضيات الظروف ومستجدّاتها في إطار الأصول والاتجاهات التشريعية الثابتة في الأقسام الثلاثة الأولى من التشريع.
و(ولي الأمر) في الوقت الذي له صلاحية ملء(منطقة الفراغ) هذه، مسؤول أيضاً عن ملئها بالنحو الأمثل الأصلح، من هنا كلّف شرعاً بالمشورة والاستعانة والاستفادة من كافة الطاقات والخبرات اللازمة من أجل بلوغ هذا الهدف الخطير، وهنا تبرز أهمية وجود مجالس (الخبراء) و(الشورى) في النظام الإسلامي، فإنه يتعين على (ولي الأمر) الاستعانة بها كإسلوب أمثل في الوصول إلى الكيفية الفضلى في ملء هذه المنطقة، والتي قد تكون بهذا الأساس أقرب إلى الواقع المطلوب وأبعد عن الأخطاء أو السلبيات, إلا أنه تبقى المسؤولية والصلاحية النهائية مرتبطة به بوصفه (ولياً للأمر).
وهكذا يتضح أنّ الثابت في النظرية الإسلامية يختلف عما في النظريات الوضعية، التي تقسّم التشريع إلى:
التشريع الدستوري: وهو ما يقوم به مجلس الأمة أو هيئة دستورية، ويصادق عليه الشعب من خلال استفتاء عام.
التشريع العادي: وهو ما تقوم به دوائر قانونية متخصصة ثم يعرض على مجلس النواب بغية المصادقة عليه.
التشريع الثانوي: أو ما يصطلح عليه (بالتشريع الإداري) وهو ما تقوم به الحكومة أو مجلس الوزراء.
إنّ هذا التوزيع لا وجود له في الشريعة كتنويع أصلي، وإنما يمكن استحداثه واعتباره اسلوباً تمهيدياً لأعمال(ولي الأمر) وصلاحياته التشريعية من النوع الرابع أي في المساحة المحددة المتروكة إليه من أجل أن تكون تلك التشريعات (الولايتية) أوفق وأقرب للصواب، كما أنه يمكن أن تقوم مثل هذه المجالس أعني مجالس(الشورى) أو (الخبرة) بدور التوفيق والإشراف على القوانين والأنظمة وتكييفها بما لا يخالف القواعد الشرعية ولا يصادر توجهات الشريعة الإسلامية.
___________________________________
[1] سورة يوسف: 67.
[2] سورة المائدة: 44.
[3] وسائل الشيعة ج18 ص 18 طبعة/5 ، طهران ـ 1401هـ.
[4] سورة الحشر، الآية: 7.
[5] وسائل الشيعة ج18، ص 81 طبعة/5 ، طهران ـ 1401هـ.
[6] سورة القلم، الآية: 4.
[7] سورة الحشر، الآية: 7.
[8] أصول الكافي ج2، ص 5 ط/ طهران 1385هـ. الحديث 689.
[9] أصول الكافي ج2، ص 8ط/طهران 1385هـ.الحديث 692.
[10] نفس المصدر السابق ص 7 الحديث 691.
[11] نفس المصدر السابق ص 8 الحديث 694.
[12] أصول الكافي ج2 ص 2 ط/طهران 1385هـ، الحديث 686.
[13] سورة النساء، الآية: 59.

مركز الصدرين للدراسات السياسية