مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

الاتجاهات السياسية الفكرية في الوسط الإسلامي
د. منصور الجمري

 
خلال السنين الماضية دخل الإسلاميون الحياة السياسية من أوسع أبوابها وتحديداً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وكثر الحديث عن برنامج الإسلام ـ السياسي، وتصاعدت حدة الأحداث واختلطت الأفكار في خضم الحروب الإقليمية والمواجهات بين الحكومات والحركات الشعبية ـ الإسلامية التي بلورت المعاني المختلفة للأفكار المطروحة على الساحة.
انطلق الإسلاميون لممارسة دورهم في الحياة بحسب تفسيرهم ووجهة نظرهم النابعة من المصادر الإسلامية المعتبرة لديهم، بينما انطلقت أيضا بعض النخب العلمانية المثقفة لممارسة دورها بحسب ما استوعبته من مصادر ومناهل فكرية خارج الجسد الإسلامي. هذا الاختلاف في المنطلق أدى للاصطدام الفكري بين الاتجاهين، التحديثي العلماني من جانب، والإسلامي «الأصولي» من جانب آخر. المائة عام المنصرمة وفرت فرصا لكلا الاتجاهين وعرضتهما لامتحانات عديدة دفعتهما ـ سياسيا ـ إلى اليمين أو اليسار، إلى الدكتاتورية أو الديمقراطية، إلى الاقيلمية أو الأممية، الخ.
التطرق لموضوع الاتجاهات الفكرية تعترضه حساسيات مفرطة من جهات متعددة. فهناك من يحاول قولبة الأفكار الإسلامية وتطبيقاتها الاجتماعية داخل مصطلحات قد تكون دقيقة عندما نصف بها المجتمعات الغربية‎، مثلاً، ولكنها تفقد تلك الدقة عندما نحاول استخدامها لتحليل الحركات والمجتمعات والأفكار الإسلامية. من جانب آخر هناك من يتحسس من ذكر أي مصطلح لم يرد في آية قرآنية أو حديث نبوي، ويرفض الأسس والأساليب والمصطلحات التي أنتجها الفكر الفلسفي الغربي. بين هذا وذاك، يضيع الموضوع عندما تضاف له الحساسيات الشخصية أو المذهبية، ويتحول بذلك الحوار الفكري إلى جدل عقيم.
يشير السيد محمد باقر الصدر (1980) في كتابه «مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن»، بأن عملية التغيير الاجتماعي ـ السياسي لها جانبان: جانب رباني يختص بالمحتوى والمضمون (الوحي)، وجانب إنساني/بشري، لأن التغيير عملية اجتماعية تتجسد في أناس. الجانب الرسالي، جانب الوحي، يرتبط بالله سبحانه وتعالى، أما الجانب الإنساني فإنه يخضع لسنن التاريخ، لأنه تعبير عن جهد بشري في مواجهة جهود بشرية أخرى، حسب تعبير السيد الصدر.
إذا استطعنا أن نفهم الاتجاهات الإسلامية وطريقة تعاملها مع التحديات المطروحة أمامها بأنها عملية إنسانية/بشرية، فإن بالإمكان إخضاع تلك الاتجاهات للتمحيص العلمي دون الإخلال بالجانب الرباني (الوحي). على هذا الأساس، فإن الاتجاهات الإسلامية الفكرية والأساليب التي اتبعت للتعبير عن نهج تلك الاتجاهات، جميعها هي الجانب الإنساني القابل للتحليل، والموافقة أو الاختلاف معه. الاختلاف مع هذا الجانب الإنساني لا يمثل اختلافا مع الوحي، الجانب الرباني للرسالة الإسلامية. وهذه النقطة هامة جداً، وترد مباشرة على الاتجاهات التكفيرية والتفسيقية التي ترفض أي وجهة نظر مخالفة لأي من التفاسير المطروحة. هذه الظاهرة الخطيرة هي التي سمحت لكثير من الأشخاص والأحزاب لمحاولة إلغاء الطرف الآخر من خلال تفسيقه أو تكفيره أو اتهامه بالعمالة الفكرية أو السياسية أو المصلحية، وهي التي وفرت للبعض أن يعتبر فكر معين صادر من جهة معينة يمثل الله وكلمة الله، بدلا من تمثيله لتفسير إنساني وفهم بشري (ضمن تفاسير ومفاهيم مختلفة) للوحي الإلهي (الجانب الرباني من العملية التغييرية).
الاتجاهات الفكرية على الساحة الإسلامية يمكن تقسيمها من وجهة النظر المتعلقة بدور الإسلاميين في الحياة العامة. وهذا التقسيم يتخطى التقسيم المذهبي أو الحزبي أو الفردي، ويبرز صورة تساعد على فهم الأطروحات السياسية للإسلاميين. ويمكن تقسيم تلك الأطروحات إلى ثلاثة اتجاهات أساسية: اتجاه تطبيق الشريعة، اتجاه الحاكمية/الولاية والاتجاه التعددي.
هذا التقسيم ليس حدياً، فقد نرى البعض يؤمن بأطروحات تتداخل بين الاتجاهات الثلاثة ولكنهم في العادة يغلبون اتجاهاً معينا أثناء تحركهم.
اتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية:
يشير وليد نويهض (1994) في كتابه «النخبة ضد الأهل»، إلى أبرز نتائج حملة نابليون على مصر في العام 1798، التي أسفرت عن احتلال فرنسا لمصر، وهي إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية واستقدام خبراء أجانب في القانون الفرنسي لصياغة قانون مدني يحل مكان الشريعة الإسلامية. كان العالم الإسلامي غارقا في الدكتاتورية السياسية والتخلف الناتج عن ذلك، ولكن كانت هناك القاعدة الاجتماعية القائمة ضمن إطار الشريعة الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة.
تطبيقات الشريعة كانت تخضع لظروف الحكم ولهذا انحصرت في مجالات محدودة وانحسر التشريع الإسلامي عن مواكبة التطورات الكبيرة التي كانت تواجه العالم الإسلامي.
غير أن اتجاه المستعمر لإلغاء الشريعة الإسلامية مثل تحديا مباشرا للمسلمين وهو إلغاء مصدر مهم للمسلمين وحضارتهم. المستعمر والنخبة التي نشأت برعايته استهدفت روافد الثقافة الإسلامية ربما «من أجل السيطرة على البلاد الإسلامية». وجهة النظر هذه حركت المسلمين وشكلت عقلياتهم وهم يكافحون الاستعمار. ومع سقوط الدولة العثمانية وإقامة العلمانية المتطرفة في تركيا ومحاولة فرض تلك العلمانية على البلاد الإسلامية بالقوة في العشرينات من هذا القرن، نشأت الدعوة للعودة للدين الإسلام ي من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية على مجالات الحياة بأسلوب تدريجي مهما ومتى ما سنحت الفرصة بذلك. وعودة تطبيق الشريعة الإسلامية يستلزم وجود القاعدة الاجتماعية القابلة بذلك، ولذلك استلزم الدعوة لبناء تلك القاعدة بالتدريج. هذا هو أسلوب الأخوان المسلمين بقيادة الأمام حسن البنا، وعدد غير قليل من الإصلاحيين الآخرين.
العاملون من أجل تطبيق الشريعة يؤمنون بأن الإسلام «عقيدة وشريعة»، وأن الفقه يوضح أحكام الإسلام المتعلقة بمعاملات الناس وأحوالهم. والفقه الإسلامي يحتوي على ثروة هائلة من الحلول الناجعة لصلاح البشر. الاجتهاد في الفقه الإسلامي توفر أجوبة لمتطلبات العصر ومستجدات الحياة الإنسانية. وانطلاقا من هذا الفهم فإن الإسلاميون يطرحون ردودهم حولا لشبهات المتعلقة بقضايا المرأة، والحدود، والأقليات غير الإسلامية التي تعيش مع المسلمين.
ونلاحظ أن هذه الفكرة، ومع قليل من التحوير، هي ما طرحت في الأوساط الإسلامية بمختلف مذاهبها الفقهية. والإشارة هنا للمذهبية الفقهية هي للتوضيح بأن حزب الدعوة الإسلامية (الشيعي) اتبع نفس الاتجاه الذي اتخذه الأخوان المسلمون (السني) بقيادة الإمام حسن ألبنا. ولذلك نلاحظ أن السيد محمد باقر الصدر (أحد مؤسسي حزب الدعوة) طرح حلول الشريعة الإسلامية للتحديات المطروحة في الخمسينات والستينات (الاقتصاد الإسلامي والبنك الإسلامي.. إلخ). والسيد الصدر لم يتوان عندما طلب منه التنظير لإنشاء «بنك لاربوي» في الكويت، بل سارع لكتابة كتابه «البنك اللاربوي في الإسلام»، لإثبات أن الشريعة الإسلامية قادرة على مواكبة تطور العصر. هذا الاتجاه يركز على استخدام أسلوب الإقناع الفكري والعمل التدريجي للصعود بالمجتمع إلى مرحلة يتقبل فيها تطبيق حكم الإسلام. كما أن هذا الاتجاه قد يقبل بتطبق الشريعة الإسلامية في جانب من جوانب الحياة لإثبات قدرة الإسلام للتصدي لتحديات العصر.
إذن، الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية صاحبتها حركة فكرية سعت لإثبات أن الفقه الإسلامي قادر على مواكبة تعقيدات العصر وتقديم الحلول المنافسة والمتفوقة في جوانب عديدة على ما يطرحه القانون المدني ـ الوضعي. غير أنّ المطارحات الفكرية تركزت على مواقع معينة وحساسة أكثر من غيرها، مثل قانون العقوبات. واستخدم هذا الموضوع من قبل بعض الحاكمين لإعلان «أسلمة» أنظمتهم وتفادي الضغط المتزايد من الحركة الإسلامية. غير أن حصر تطبيق الشريعة في مواضيع بذاتها وإغفال المجالات الواسعة و شروط وظروف تطبيق ما ورد في القرآن والسنة أعطى صورة مشوهة لمفهوم تطبيق الشريعة لدى الكثير.
الناشطون الإسلاميون اتجهوا للاستفادة من الأساليب الحديثة أثناء دعوتهم لتطبيق الشريعة الإسلامية. وكان الأسلوب الحزبي ـ التنظيمي، قد أثبت فاعليته في عدد من البلدان غير الإسلامية، ووجد الإسلاميون هذا الأسلوب فعالا لإعادة المجتمع للإسلام وأحكامه. ولهذا اتبع الكثير من الإسلاميين أسلوب التنظيم الحزبي الهرمي، واعتقدوا بوجوبه لأنه «مقدمة للواجب».
الأحزاب الإسلامية التي سعت لبناء القاعدة الاجتماعية آمنت بالأسلوب الحزبي المقارب (من الناحية التنظيمية) لما اتبعته الكثير من الحركات الأوروبية (لاسيما الاشتراكية) للوصول إلى الحكم. الأسلوب الحزبي واجه تعقيدات كثيرة خصوصا الحساسية المفرطة تجاهها داخل المجتمع الإسلامي، إضافة إلى الحساسية الناتجة عن تضارب السلطات الحزبية التنظيمية مع السلطات الدينية التقليدية.
يدافع السيد محمد حسين فضل الله عن أسلوب التنظيم الحزبي قائلاً «إنّ حكاية ارتباط وسائل التنظيم المعاصرة بالذهنية الغربية، قد يكون معقولا من بعض الجوانب في توزيع المسؤوليات وإطاعة الأوامر فيما لا تكون الأمور جارية على الموازين الشرعية، ولكن ذلك لا يعني التنكر للموضوع من حيث الأساس. بل إنّ كل ما هنالك أنّ نعمل على تركيزه على الأسس الشرعية الإسلامية، ليتم لنا من خلال ذلك التنظيم الإسلامي الجاري وفق الموازين الشرعية، فنحصل على ايجابيات الفكرة ونتخلى عن السلبيات» (انظر «القيادة الإسلامية في خط الم رجعية»، مجلة طريق الحق ـ فبراير 1982).
اتجاه الحاكمية/ الولاية:
الصدمة التي واجهت الكثير من الإسلاميين هي عدم إمكانية عودة الإسلام من خلال تطبيق الشريعة بصورة تدريجية منظمة (باستخدام التنظيم الحزبي) لبناء قاعدة جماهيرية تؤمن بالإسلام وتطالب به، مع وجود التحديات الكبيرة المتمثلة بالنفوذ العالمي/ الأجنبي والدكتاتورية المحلية. ولهذا تعززت فكرة الحاكمية، أي تحكيم الإسلام في الحياة عبر استلام السلطة وتوجيه المجتمع من أعلى القمة. الحاكمية تستلزم القطع بعدم إمكانية التعايش في ظل أجواء غير إسلامية تحارب الإسلام.
فحتى لو آمن جميع الشعب بإمكانية الحكم الإسلامي وقدرته، فإن دبابة واحدة كافية لقمعه. ولهذا فإن ضرورة الحكم الإسلامي وتنفيذ حاكمية الله وولايته على خلقه تعني ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية. ولعل أبرز رواد هذا الاتجاه الأساسيين هم أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، والإمام الخميني. مرة أخرى فإن المذهبية الفقيهة إنما أعطت لغة أخرى لنفس المفهوم. فـ«الولاية» لدى الشيعة قريبة جدا من «الحاكمية» المستخدمة لدى السنة، والمفهوم يتجه باتجاه واحد يقصد منه إقامة المجتمع الإسلامي من خلال استبدال الجاهلية (حكم ال طاغوت) بحاكمية الله (الولاية).
اتجاه الحاكمية يركز بدرجة اكبر على الأسلوب الثوري (الانقلابي) الحاسم متى ما سنحت الفرصة لذلك للوقوف أمام الجاهلية أو حكم الطاغوت ولإفساح المجال من اجل تطبيق الشريعة الإسلامية، حسب ما يوضح ذلك الحديث القائل «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». اتجاه الحاكمية/ الولاية واجه ويواجه تحديات أكبر من اتجاه تطبيق الشريعة. فالشريعة الإسلامية المكتوبة في الكتب الفقهية لا تحتوي على حلول لكل شيء مطروح في العصر الحديث. ولهذا يأتي الدور المركزي للفقيه، لحسم الكثير من الأمور التي لا يوجد لها نص أو حديث. ويلاحظ أيضا اعتماد اتجاه الحاكمية/ الولاية، على مفهوم «المصلحة الإسلامية العليا»، بمعنى أن القرارات التي يتم اتخاذها دون وجود نص لها تعتمد على مفهوم حمايته المصلحة الإسلامية حسب ما يحدده أهل الخبرة والمتصدون للموضوع المطروح للمعالجة.
من الناحية التنظيمية، لم يختلف اتجاه الولاية/الحاكمية عن اتجاه تطبيق الشريعة في ضرورة الاستفادة من الأساليب الحديثة لإدارة شؤون الحياة. بل أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أقامت نظاما دستوريا اعتمد جميع الأساليب والمؤسسات الحديثة لإدارة شؤون الدولة، مثل البرلمان والانتخابات الرئاسية وغيرها. غير أن وجهة النظر تجاه العمل التنظيمي الحزبي اختلف بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. إذ ظهرت حركة جماهيرية تعارض العمل الحزبي النخبوي، وعليه فإن كثير من الإسلاميين انتقلوا م ن مفهوم العمل التنظيمي الحزبي الصارم إلى مفهوم العمل العام المنطلق من المساجد والقائم على المؤسسات التقليدية فقط. هذه الحالة الجماهيرية قد تكون أكثر فاعلية في حالة الهيجان الثوري الشعبي، أما في الحالات الاعتيادية فإن العمل السياسي بحاجة إلى التنظيم الحديث.
من الصحيح القول أن اتجاه الولاية/الحاكمية وفر أسلوباً حاسماً عجزت عنه التنظيمات السياسية الهرمية وتمكن بسبب قدرة الحسم لاجتياز كثير من الصعوبات. وعامل الحسم هذا هو محور الحديث عندما يتطرق منظرو اتجاه الحاكمية إلى «الأحكام الولائية» (مصطلح فقهي شيعي) أو «الأحكام السلطانية» (مصطلح فقهي سني). فهذه الأحكام هي قرارات سياسية وإجرائية لدفع المسيرة بأسلوب أكثر فعالية من أساليب العمل الحزبي الهرمي. ولكن هذا العامل (عامل الحسم) ليس بالضرورة خاضعا لمعطيات الفكر لوحدها، وإنما يس اعد على ذلك طبيعة الظروف والأشخاص المتصدين للقيادة.
اتجاه الولاية (الحاكمية) ينظر إلى الإسلام كدين ودولة، وإن العبادة هي عين السياسية والسياسية هي عين العبادة، ولا فصل بين إقامة الصلاة وإقامة نظام حكم. بل أن الإمام الخميني قال بأن «الحفاظ على الجمهورية الإسلامية من أكبر الواجبات» وأهم من الواجبات العبادية الأخرى.
اتجاه الحاكمية (الولاية) تمكن من تجربة تصوراته الفقهية والفكرية ولديه فرصة الآن لمراجعة كثير من التصورات والمباني الفكرية. فلو قارنا ما يجري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية نجد أنّ النظام السياسي القائم على نظرية «ولاية الفقيه» تبنى الكثير من النظم الإدارية الديمقراطية لتسيير شئون الحكم إلى الدرجة التي ينص فيها الدستور الإيراني بعدم إمكانية حل البرلمان تحت أي ظرف من الظروف. ولذلك فإن الحوارات والحديث ينطلق إلى مدى اشتمال هذا الطرح لمفاهيم التعددية داخل المجتمع وإمكانية الأطراف الأخرى التي قد لا تؤمن بالمنطلقات الفكرية لهذا الاتجاه بالمشاركة في الحياة السياسية تحت هذا النوع من الحكم.
الاتجاه التعددي:
الاتجاه الثالث في الوسط الإسلامي حاول ويحاول اتخاذ الإسلام كقاعدة فكرية للدخول في الساحة السياسية والقبول، بل وتبني، الكثير من الأطروحات المعاصرة حول الديمقراطية، وحقوق الإنسان والتعددية السياسية (بين الإسلاميين أنفسهم، وبين الإسلاميين وغير الإسلاميين)، والدستورية، وغيرها من الأطروحات المتداخلة مع مفاهيم المجتمع المدني والحريات السياسية العامة طالما انها لا تتعارض مع أساسيات الدين. ولعل هذا الاتجاه يواجه تحديات أكبر من الاتجاهين الآخرين، لأن أصحاب هذا الاتجاه لا يستطيعون الحصول على دعم كبير من التراث الموروث.
فالحركات الدستورية في إيران وتركيا ومصر في مطلع القرن العشرين شهدت ظهور قيادات إسلامية ومراجع فقهية تتبنى أطروحات التمثيل النيابي والتقييد الدستوري لنظام الحكم والإيمان بالحقوق الأساسية للأفراد والمجتمعات، ولكنها أيضاً ووجهت من قبل إسلاميين آخرين تحدوا ـ من وجهة نظر إسلامية ـ هذا الطرح.
إذا كانت الأسس التي اعتمد عليها الاتجاهان الآخران «نقلية» ـ بالأساس ـ تعتمد على الحديث والسنة، فإن الأسس التي يعتمد عليها هذا الاتجاه هي «عقلية» على الأغلب، تحاول «إعادة قراءة النص» بصورة غير تقليدية. والتركيز الأساس، كما هو الحال مع الإمام محمد عبده (مصر) والشيخ محمد حسين النائيني (إيران) في مطلع القرن، هو محاولة الالتزام بالأصول الدينية من جانب، ومواكبة تطورات العصر من جانب آخر. الملاحظة الهامة الأخرى هي أن محاولة استخدام العقل تخضع لضوابط وأصول معينة يناقشها الفقهاء باستمرار.
الاتجاه التعددي يركز على عدم إلغاء الطرف الآخر سواء كان ذلك الطرف إسلاميا (من الناحية السياسية) أم غير إسلامي (من الناحية السياسية والدينية). وهذا القول ربما لا ينطبق على جميع القائلين بهذه الأفكار، ولكن الاتجاه العام يدفعهم إلى هذه النتيجة. هذا الاتجاه برز على السطح في مطلع القرن العشرين في تركيا ومصر وإيران، ولكنه ضمر بعد ذلك، ليعود مرة أخرى في العشر سنوات الماضية. وهناك كثير من الكتاب والمثقفين والمفكرين الإسلاميين المدافعين عن هذا الاتجاه من زوايا ووجهات نظر مت عددة.
الداعون لهذا المنطق يعيدون قراءة النص الديني ويحاولون التفريق بين الأصول الدينية الثابتة وبين الكم الكبير من الأحكام التشريعية التي تحركت مع تطور الحياة وتعقدها وتراكم الخبرات الإنسانية بشأنها. وإذا كان الاتجاهان الآخران يركزان على موضوع الواجبات الدينية على الإنسان، فإن هذا الاتجاه يركز على موضوع الحقوق الأساسية المترتبة للإنسان بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. وهذا الطرح، بطبيعة الحال، يقترب من الأطروحات السياسية المعاصرة المنادية بحقوق الإنسان واعتبارها نقطة مركز ية ينبغي أن تتمحور حولها النظم التشريعات وهو أيضا ما يجعله هدفا سهلا لاتهامه بالتأثر بالأفكار غير الإسلامية.
التعايش والحوار:
التعايش والتسامح بين الجماعات له جذوره في الإسلام عندما نسترجع كيف عاش اليهود والنصارى (وغيرهم عندما توسعت الرقعة الإسلامية) تحت حكم الإسلام، ولكن ومع الأسف فإن ذلك التعايش يتم التغاضي عنه. ولا ينظر إلا إلى الجانب التقنيني الخاضع لمعطيات ذلك العصر (مثل الجزية وغيرها). الأوروبيون من جانب آخر لم يعرفوا أي معنى للتعايش والتسامح في تاريخهم إلا بعد انتهاء القرون الوسطى (بعد 1500) وبعد الحروب الدينية الأوروبية في القرن السابع عشر. أما ما قبل ذلك ولقرابة الألف عام فقد كانوا يحاربون التسامح والتنوع والتعدد. خرج الأوروبيون من عصورهم المظلمة بعدما وصلت بعض الأفكار من الشرق الإسلامي (كأفكار ابن رشد وغيرها) وبدأوا ينظرون إلى حياتهم بمنظار عقلاني يختلف عما كانت تفرضه الكنيسة الكاثوليكية. الانفتاح الأوروبي على العقلانية أوصلهم للتعايش فيما بينهم وبين الآخرين، ومكنهم من الصعود بأفكارهم ومدنيتهم إلى مستويات أعلى من السابق. وبينما كانت أوروبا تخرج من عصور ظلماتها إلى نهضتها وتنويرها، كنا نحن المسلمين نتراجع من عصور عقلانيتنا وإرادتنا إلى عصور متخلفة كرسها أسلوب الحكم الفاسد الذي سيطر على البلاد الإسلامية.
إن هذا كله يستدعينا أن نراجع الأفكار التي قد تتسرب إلى أي اتجاه من الاتجاهات الإسلامية السياسية والتي لا تقبل بالتعايش السلمي بين مختلف الأطروحات. فالإسلامي إذا لم يستطع أن يتعايش مع الإسلامي الآخر، فإنه يغلق الباب أيضا على إمكانية التعايش فيما بين الإسلامي وغير الإسلامي. والمقصود بغير الإسلامي هنا، سواء كان مسلما ولكن لا يعتنق فكرا سياسيا إسلاميا، أو غير مسلم بالأساس. هذه الدعوة لم تعد تنطلق من حناجر الأشخاص الذين لا يرتبطون بالحركة الإسلامية، وإنما من أولئك الذين نشأوا وترعرعوا وخدموا مجتمعاتهم، وقلوبهم ومشاعرهم وأفكارهم وأعمالهم لم تنفك عن الإسلام.
الدعوة للتعايش السلمي (من خلال حكم القانون الدستوري) والتنوع والتعدد في الطرح هي العناوين الرئيسية الداخلة في أطروحة «المجتمع المدني»، التي لم تعد محتكرة من قبل فكر معين، خصوصا بعدما طرحها الرئيس الإيراني محمد خاتمي في ديسمبر 1997، أمام رؤساء وملوك الدول الإسلامية وفتح بذلك آفاق الحوار بين الحضارات والمجتمعات، لا سيما داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ونحن نشارف على دخول القرن الواحد والعشرين هو مدى العمق والرسوخ والجدية المتوفرة في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية لإنعاش حالة الحوار بصورة سليمة تستفيد من جميع الخبرات، وهل أن ظهور حالة الانفتاح مؤخراً ما هي إلاّ نشوة تعود للمسلمين كل مائة عام ثم تختفي؟
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية