مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

ولاية الفقيه مشروع متكامل لاعادة الثقة إلى الإنسان المسلم
نبيل على صالح


شكلت نظرية ولاية الفقيه «القديمة – الجديدة» انجازا فكريا وسياسيا عمليا للثورة الإسلامية في إيران من خلال مساهمتها الجبارة في إخراج الطاقات الكامنة للذات الإسلامية الأصلية إلى ساحات الفعل العملي الحي.
قامت الثورة الإسلامية في إيران على أساس الدعوة إلى التزام الإسلام كرسالة إلهية، وفكر سياسي اجتماعي قادر ـ من خلال إمكانياته وطاقاته الذاتية والموضوعية ـ على إيصال البشرية إلى شاطئ وبر الأمان.
ويبدو لنا أن تركيز مفاهيم وأفكار الثورة على قدرات الإسلام وإمكانياته الهائلة ـ بمالها من دور هام وحيوي في صياغة وبناء مجتمع الإسلامي، يتكامل على مستوي الفرد والأمة ـ لم ينطلق من مجرد الادعاء بأن الإسلام أفضل من الجميع (جميع الحلول على الساحة حالياً)، وإنما تعداه إلى الميدان العملي من خلال استلهام (تلك الثورة) لروح القرآن الذي اعتبر أنّ الإنسان هو المحور الأساسي في أي مشروع نهضوي حركي، لأنه يختزن في داخله قدرات غير محدودة وطاقات هائلة غير منظورة (بالمعني الروحي والمادي للكلمة) يمكن أن تفسح المجال أمامه، وتتيح له المساهمة الفعالة في تغيير الواقع، والعروج به (بالإنسان) في سلم التكامل الروحي والمادي.
ولاية الفقيه في وجدان الأمة
وطالما إنّ الإنسان قد بات ـ في الثورة الإسلامية ـ هو القاعدة الأساسية والمفصل الحركي والحيوي الخاص بنهوض المجتمع وبناء امة مقتدرة، لابد إذاً من وجود فكر ومعرفة اجتهادية جديدة تعمل على تحفيز وإثارة كفاءات وقدرات ومواهب هذا الإنسان، ودفعها باتجاه المشاركة الإرادية الكثيفة والمنتجة في نهضة الأمة، وتحملها لمسؤولياتها التاريخية كاملة. وهذا بالذات تكمن الإضافة النوعية والعملية الهامة التي قدمتها الثورة الإسلامية في إيران للفكر الإسلامي المعاصر. إنها نظرية «ولاية الفقيه» التي سبق لعلماء وفقهاء ومفكرين إسلاميين أن نظروا لها بعد غيبة الإمام المنتظر(عج)، ولكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (رض) استكملت طرحها، وعمقت جذورها في وجدان الأمة، ووضحت معالمها، واستطاعت أن تحولها من إطارها الفكري النظري إلى حيز التطبيق والتجربة الواقعية.
وقد تمكنت هذه النظرية ـ بالرغم من الأسئلة والإشكاليات والجدل الواسع الذي أثير حولها، وحول مختلف الجوانب والعناصر المكونة لها، والمتفرعة عنها ـ من الوصول إلى مختلف القواعد الجماهيرية والشعبية الكبيرة، الأمر الذي أهلها لتكون ضمانه حقيقة لتحرير الأمة من قيود الاستبداد، والتخلف، والسكون الروحي والمفاهيمي، وإيقاظها من كبوتها وغفلتها الحضارية التي سيطرت عليها فترة طويلة من الزمن, وتركيز العمل باتجاه الفعل والإثمار الحضاري. وبالمقابل كان تحرر الأمة, وتحملها لمسؤولياتها التاريخية الإنسانية ضمانه لتعزيز دور الولاية الحركي.
إعداد الأرضية للنهوض والتطور
إذاً ثمة معادلة متوازنة ـ انطلقت عناصرها ومكوناتها الداخلية بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي المعاصر ـ بين تطور الأمة وتحقيقها الأكيد لنهضتها الإسلامية المستعادة, وبين ولاية الفقيه فيها. فالولاية والأمة يرتبطان الواحدة مع الأخرى. ارتباط الروح بالجسد، ولا انفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الإلهية لا تعني وجود السلطان الجائر. أو الملك العضوض, أو الثيوقراطية وادعاء الحق الأهلي المقدس، ومادام تحرك الأمة ـ قائماً على الوعي بالذات الحضارية الإسلامية, ورفض التبعية والاستلاب للآخر, والتماهي في داخله.
بهذا المعني شكلت نظرية ولاية الفقيه «القديمة ـ الجديدة» انجازاً فكرياً وسياسياً عملياً للثورة الإسلامية في إيران من خلال مساهمتها الجبارة في إخراج الطاقات الكامنة للذات الإسلامية الأصيلة إلى ساحات الفعل العملي الحي, والعودة بها من جديد إلى تنظيم رؤية وخطاب معرفي سياسي واجتماعي يستطيع ـ في نهاية القرن العشرين ـ إقامة دولة إسلامية طموحة تتحرك بهدوء‌ وثقة وثبات على طريق التكامل الروحي والفكري, بعد أن أصاب اليأس والإحباط الكثيرين الذين اعتقدوا أنّ الإسلام هو دين الماضي البعيد، وليس دين الحاضر والمستقبل, أو أنّ الإسلام دين طقوسي (شعائري) جاء لينظم العبادات فقط، ولا علاقة له بالشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكلت حالياً النظرية الوحيدة المتكاملة والناضجة (على المستوي العملي), والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً (مع منطق وضرورات الأحداث والوقائع في إيران) بحيث تمكنت من إيجاد مواقع قوية لها في الواقع الإسلامي المعاصر، في طبيعة تحديدها الحاسم لأصول ومرتكزات النظام السياسي الشرعي في عصر غيبة الإمام الحجة(عج)، فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظرين لها ـ في داخل إيران وخارجها ـ من الوقوف الواعي والطويل أمام التساؤلات والإشكاليات المثارة حولها، ومحاولة البحث والتحقيق فيها من جديد, والإجابة الجادة والمسؤولة عنها.
النقد بطريقة حضارية
وطالما أنّ الحديث قادنا إلى ضرورة تقديم إجابات نقدية واضحة وحقيقة عن التساؤلات الكثيرة المطروحة حول نظرية ولاية الفقيه، فإننا نجد ضرورة أخرى ـ في هذا المجال ـ في أن نؤكد هنا على أنّ مرحلتنا الراهنة التي نشهد فيها متغيرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وإعلامية كبيرة ذات تعابير وخصوصيات دقيقة ومتنوعة، هي في أشد الحاجة إلى بناء عملية النقد بطريقة حضارية تتسع للجميع, وفي نفس الوقت هو (أي النقد) بحاجة إلى توعية وترشيد فكري وسلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعله, وقادرة على الاستجابة للتحديات الحضارية الحديثة, من اجل تحسين وضع امتنا العالمي الراهن بين الأمم والحضارات الأخرى, وذلك من خلال البحث عن أسس وخصائص جديدة تطور من مشروعها, ومن وعيها الذاتي لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين في الاتجاه الواقعي الحضاري الذي يحفظ الذات والكرامة والقيمة الإسلامية العليا.
اجل لقد أضافت الثورة الإسلامية إلى الفكر الإسلامي المعاصر الكثير الكثير من المعالم (لعل من أبرزها ـ كما ذكرنا ـ تفعيل وتنوير وتثمير حضور السياسة في الإسلام من خلال حركة ولاية الفقيه) وأكسبته المزيد من الثقة بنفسه, وبقدرته على انجاز الكثير من طموحاته الفكرية والسياسية العملية. لكننا نعتقد بالمقابل إنّ تلك الإضافة النوعية الهامة تحتاج ـ مع تغير الأيام والظروف وتحول الأدوار والمواقع (اختلاف الأزمنة والأمكنة) ـ إلى تطوير جديد يحفظ لها الأصل، ويجدد لها الإطار بما يتناسب مع المستجد المتغير.
من هنا يأتي تأكيدنا الدائم ـ في هذا المجال ـ على أنّ أي مسعى للخروج من الأزمات العميقة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (والتي نعتقد بضرورة انخراط مفكري ومثقفي الثورة الإسلامية أكثر في إبداء‌ الرأي النقدي حولها) بما فيها أزمة عدم وجود نقد موضوعي هادف, لابد وان يبدأ ـ كما نظرت وفعلت ثورة إيران الإسلامية ـ بإصلاح واقعنا السياسي, ونظرتنا إلى السياسة بحد ذاتها. أي أن نعمل على تطوير أدائنا وممارستنا السياسية الجماعية من خلال توفير فرص المبادرة والمساعدة المشتركة لجميع الناس في المشروع الكبير لإعادة اكتشاف الإنسان (واجتراح سبل النهوض) في ثقافتنا الدينية والدنيوية الحضارية، بحيث يؤهلنا ـ هذا الاكتشاف العملي ـ أن نكون امة واعية تفرض وجودها ـ كمل تفعل إيران الإسلام الآن ـ في مواجهة المعادلات التي فرضتها الدول الكبرى (والحكومات الدائرة في فلكها) علينا. ولاشك بأنّ السبيل الوحيد (و المخرج الممكن إلى ذلك) هو تغيير ما بالنفس كأساس لتغيير ما بالواقع. «إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية