مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

وجدانية الحقوق ترفض الاعتداء على المقدسات
الشيخ محمد على التسخيري


ربيع الأول وربيع الثاني 1427 هـ 2006 م
من نافلة القول: التأكيد على قضية الحوار بين الأديان (وهو جوهر الحوار بين الحضارات) انطلاقا من تعاليم الإسلام الأصيلة القائمة على الواقعية التي يتحلى بها.
وقد انطلقت دعوة الحوار بين الأديان على أسس منطقية سليمة، وراحت تترك أثرها الجيد في مجال تحقيق التفهّم والتفاهم المنشود وتقليل مناطق الصدام، وتوفير مجالات التعاون المستمر على صعيد خدمة القضية الإنسانية والقضية الدينية، والقيم المعنوية.. ونحن نرجو لها التوسع من مرحلة التفاهم بين المتخصصين إلى مرحلة صيرورتها ثقافة عامة تعشقها الشعوب وتتعامل على أساس منها في مختلف قضايا التماس الحضاري بعيداً عن محاولات الاستغلال والتشكيك، والموانع التي تقف عقبات كأداء في طريقها.
ومن أوليات قضية الحوار ـ أي حوار كان ـ ضرورة الانطلاق من قناعات متفق عليها مسبقاً.. لتكون هذه القناعات هي الاضوية الكاشفة التي تحل العقد وتفتح السبل المسدودة لعملية الحوار، وتقضي في موارد الخلاف.
وما نتصوره أنّ الإيمان بالفطرة والوجدان الأخلاقي هو من القناعات المشتركة بين جميع الأديان السماوية:
والمقصود بالفطرة هو أنّ الإنسان مخلوق الهي أودعت الحكمة الإلهية في وجوده وطينته الأصلية مجموعة من القضايا البديهية والقدرات العقلية والميول والغرائز والوجدان اللوام التي تضمن له سيراً طبيعياً نحو تكامله المرسوم له.
وإنّ الأديان إنّما جاءت لتثير له دفائن العقول ـ كما يعبر الإمام علي(عليه السلام) ـ وتهيئ الجو المناسب لبروز هذه الطاقات كامنة على سطح حياته فتهديه سبيلاً إنسانياً يختلف كل الاختلاف عن السلوك الذي تسلكه الحيوانات العجماء التي لا تتمتع بما يتمتع به من طاقات.
أمّا القضايا البديهية فهي التي تمنحه القدرة على المعرفة معرفة نفسه ومعرفة الكون والواقع، وفلسفة الوجود والعلاقات القائمة بين الأشياء وتلك من قبيل: الإيمان بمبدأ العلية، والإيمان بمبدأ استحالة التناقض (الجمع بين النقيضين، وارتفاع النقيضين) و(بعض القضايا الأخرى) فهذه قضايا مغروزة في القناعة والوجدان الإنساني لا يحتاج للاستدلال عليها وإلاّ دخل في طريق مسدود لأنّ الاستدلال نفسه يتوقف عليها كما هو واضح.
أما القدرات العقلية فهي نفس قدرة النفس الإنسانية على التأمل والتفكير وتجريد القضايا من ملابساتها والصعود من مرحلة الجزئيات إلى مرحلة الكليات، والقيام بقياس الأشياء للوصول إلى تصورات جديدة والتخطيط الذهني
لمراحل غير موجودة على صعيد الواقع القائم.. أنّ هذه القدرة الذهنية هي من مختصات الإنسان وهي سرّ مسيرته التكاملية وإبداعه ونموّه.
وأمّا الميول الغريزية فهي التي تقوده نحو كماله وتدفعه للاستفادة من طاقاته في هذا المجال:
ومن هذه الميول: ميله نحو الكمال، والسير نحو الكمال المطلق، ومحاولة سد جوانب العجز في وجوده، والركون إلى هذا المطلق القادر وأداء حقه وشكر نعمه والقيام بحق طاعته ـ فهذه أمور يجدها الإنسان مغروزة في الطينة الإنسانية وان اختلفت تجلياتها وتعددت أساليبها وربما غطت الشبهات على هذه الميول وكبتتها.
ومنها أيضاً غريزة حب الذات والعمل على تحقيق طموحاتها فهي من الغرائز الأصلية في الإنسان والتي لا يمكن تجاوزها والقضاء عليها، كما تصورت الماركسية يوماً ما أنها ظاهرة فوقية يمكن حذفها من الوجود الإنساني من خلال تحريم الملكية.
ومنها التذوق الفني: والابتهاج لعناصر الجمال التي يزخر بها هذا الكون.
ومنها هذه النفس اللوامة والوجدان الأخلاقي الذي يشخص إجمالاً نوعية الحقوق ويحدد حدودها ويتابع الإنسان – أيا كان – إذا تخطاها.
ولسنا نريد استعراض كل العناصر الفطرية وإنّما نريد أن ننطلق إلى هذه الحقيقة وهي: أنّ الاقتناع بأنّ (العدالة شيء حسن دائماً) و(أن الشيء الحسن ينبغي فعله) هي من القناعات الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل... فإذا اقتنع الإنسان بان الموضوع المعين حسن اقتنع بأنّه مما ينبغي فعله دونما تشكيك فهو موضوع مطلق كما أنّ من المواضيع المطلقة حكم الوجدان الإنساني بان قضية (إطاعة المنعم الحقيقي، والمالك الحقيقي للكون والإنسان) هي قضية مطلقة لا تتخلف أيضاً وهناك من القضايا التي زرعت في الوجود الإنساني
كمصاديق لمسألة العدالة (أصلاً) كالصدق، والأمانة، والرحمة، والإيثار، والسلام.
فهذه الأمور حسنة في أصلها، ونقصد من عبارة (في أصلها) أنها قد تطرأ عليها بعض الحالات التي تفقد معها حسنها الطبيعي الفطري وتخرج من كونها تجليات للعدالة ومصاديق واقعية لها لتعود من تجليات الظلم والتعدّي.
ونستنتج من هذا ان الفطرة الإنسانية تحكم بنوعين من الحكم:
أحدهما مطلق من قبيل: العدالة نفسها وطاعة الخالق الحكيم.
والثاني مقيد ونسبي من قبيل: الصدق والسلام.
فقد يكون الصدق في بعض الأماكن نتيجة ما يؤول إليه من تبعات ظلماً لا عدالةً وكذلك السلام أحياناً بما يؤدي إليه من جرأة على حرمات الإنسانية فإذا كانت العدالة قيمة مطلقة فان السلام قيمة نسبية نعمل على تحقيقها إذا عادت وجهاً من وجوه العدالة، ونرفضها إن كانت ظلماً ولكن التساؤل الأساسي هو: ما هي معايير العدالة؟ وكيف نتأكد من تحققها.
إنّ الأديان السماوية كلها تؤكد على معيارين:
الأوّل: معيار تعبدي نستفيد فيه من علم العالم المطلق وهو الله تعالى وهو تعليمات الدين الثابتة، والتي نتأكد من كونها صادرة من الله سبحانه ذلك إنّنا نتأكد قبل ذلك من علم الله الشامل، ومن لطفه ورحمته بالإنسان المخلوق ومن عدالته وتمتعه بكل صفات الكمال، فهو لا يريد بالإنسان إلاّ الخير ولا يخدع الإنسان وإنّما يكشف له كل الواقع ويريد له كل الخير.
الثاني: معيار وجداني يكفي فيه التأمل في الأعماق وقناعاتها أو فلنعبّر يكفي فيه الرجوع إلى الفطرة نفسها.
وما يساعدنا في اكتشاف العمق الفطري هو كون هذه القناعة ـ أيّة قناعة كانت ـ من ملازمات الطبيعة الإنسانية ولذلك نجدها متوفرةً لدى كل أبناء الإنسان في مختلف ظروفهم وحالاتهم الفردية والاجتماعية وأزمنتهم وأمكنتهم.
ومن هنا كان الوجدان المعيار الوحيد الذي يفصل في الأمر حتى بين من لا يؤمنون بالأديان.
ولكي نتأكد من هذا المعنى نستطيع ان نطرح هذا السؤال على أي إنسان (هل تعتبر السلوك الفلاني سلوكاً إنسانياً أم سلوكاً حيوانياً؟) مثلاً (قتل اليتامى والعجزة والمستضعفين للتلهي والتشهي) مثل هذا السلوك يعد سلوكاً وحشياً من قبل أي إنسان بلا ريب. والقرآن الكريم أحياناً يعيد الإنسان إلى تأمله الوجداني وقناعته الفطرية {أحلّ لكم الطيبات}(المائدة: 5) ويترك امر تعيين الطيبات للإنسان (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}(الأعراف: 33) ويترك أمر تعيين الفواحش أيضاً ويعتبر الخروج عن الحالة الإنسانية (فسقاً) وانحرافاً عن الطبيعة {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(الحشر: 19).
وهكذا ننتهي إلى هاتين الحقيقتين وهما:
الأولى: إنّ الأديان تؤمن بالفطرة الإنسانية، وان الفطرة تقرر كون العدالة مطلوباً مطلقاً وكون السلام مطلوباً إذا شكل مصداقاً من مصاديق العدالة وتجلياً لها ومن هنا كان التأكيد الدائم على (السلام العادل) تأكيداً إنسانياً صحيحاً.
الثانية: أنّ الوجدان هو الحكم الفصل في مجال تقرير الحق الإنساني كما انه هو الحكم أيضاً في مجال تحديد هذا الحق بحدود تضمن له إنسانيته وتبقيه في حدود (العدالة) فإذا تجاوزها عاد ظلماً وفقد (حقيّته) ومن هنا ننطلق إلى القول بأنّ (الحرية) وإن كانت تمتلك جذوراً وجدانية إلاّ أنها تبقى محدودة بحدود قد يدركها الوجدان كما في تحديدها بعدم الاعتداء على الآخرين وكراماتهم. وقد يوحي بها الله العالم بما يصلح الإنسان، والمانح للإنسان كل حقوقه.
ومن الطبيعي فان الله تعالى منع الإنسان من الاعتداء على كرامة الآخرين وهذا أمر واضح مقرر في الشريعة الإسلامية وهو يمتد مع الإنسان في حياته وبعد مماته وبذلك اعتبرت حرمة الجنازة من الحقوق الإنسانية في الإعلان الإسلامي. وهذا ما نجده بشكل اقل وضوحا في الإعلان الدولي حيث تقرر المادة التاسعة والعشرون البند (ب) أنّ الحريات المذكورة فيه مقيدة بالاعتراف بحريات الآخرين ورعاية المقتضيات الأخلاقية الصحيحة، ولا ريب أنّ من أهم المقتضيات الأخلاقية كرامة الإنسان الفرد وبالأحرى المجتمع.
وقد قلنا أنّ الوجدان هو معيار الحق وحدوده (في المنطق الإنساني العام) ويأتي الدين ليعطي الإنسان معياراً أوسع وأدق ويتم تطبيقه طبعاً في الوسط المؤمن به.
ومن أهم ما يقوم كرامة الإنسان المقدسات والمطلقات التي يؤمن بها ونحن نجد القرآن الكريم يصف الله تعالى بالملك القدوس، ويسمي الوادي الذي كلف به موسى بحمل الرسالة الكبرى بـ(الوادي المقدس) والملك الذي يحمل الوحي بـ (روح القدس) وارض فلسطين بـ(الأرض المقدسة) لأنها ارض أنبياء الله. فأية إهانة لها تعنى تعدياً على الكرامة الإنسانية ويزداد الأمر وضوحاً عند ما ندرك أن عنصر الإيمان في الأديان السماوية وخصوصاً في الإسلام يشكل احد مقومات الشخصية بل تؤكد الآية القرآنية الشريفة {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}(الحديد: 16) إنّ الإيمان يبقى ناقصاً مالم يصبغ العواطف والمشاعر ويترك القلوب مطمئنة خاشعة، وان بعض الأمم عندما تبتعد عن منبع إيمانها تصاب بقسوة القلوب.
وخصوصاً إذا كان الأمر يرتبط بشخص الرسول الكريم الذي يعشقه المؤمنون.
وتلك حقيقة قد لا يدرك أبعادها الملحدون.
إنّ حب الله ورسوله مقدم لدى المسلمين على كل حب يقول تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة : 24).
ويقول (ص): لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهلي أحب إليه من أهله وعترتي أحب إليه من عترته وذاتي أحب إليه من ذاته) (رواه أبو داوود).
وهذا الكلام بعينه يأتي في المجتمع المسلم، فان المقدسات توجه عواطفه ومشاعره وكل حبه وكرامته وعليها يبني شعاراته ووحدته فهي توجه سلوكه وحركته الحضارية وخصوصا إذا كانت محورية كقدسية القرآن والرسول(ص) وأهل بيته وصحابته.
وفي الختام فاني أدعو المسلمين جميعاً لنصرة رسولهم الكريم وأصحابه الكرام وأهل بيته الطاهرين والدفاع عن مقدساتهم وبذل الغالي والرخيص في سبيل ذلك أما الأعداء والحاقدون من الصليبيين والصهاينة فلن ينالهم إلاّ الخزي والعار والدمار، ولن يجدوا منا إلاّ صلابة في الحق ووحدة وتماسكاً واعتصاماً بحبل الله المتين. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.(الشعراء 227)
كما أؤكد على نقطتين مهمتين:
أولاهما: إنّ الرد يجب أن يكون إنسانياً إسلاميا بعيدا عن الإفراط والتطرف والعنف الأعمى الأهوج كما حدث من بعض الأعمال الغريبة على الروح الإسلامية سواء بعد الاهانة لشخص الرسول الأكرم(ص) أو بعد تفجير المرقدين الطاهرين للإمام الهادي(ع) والإمام العسكري(ع) من إحراق وتدمير للمساجد والأماكن العامة وقتل وتهجير للآمنين، فهو أمر وحشي لا يقبله عقل أو دين ونحن ندينه بشدة ولا يقوم به إلاّ السخفاء أو العملاء.
وثانيتهما: أنّ خير نصرة للرسول العظيم تكمن بالعمل الجاد المنظم على تطبيق شرع الله في الأرض، وتحقيق الخصائص القرآنية لهذه الأمة ومنها الوحدة والترابط والتوازن والوسطية والتعاون والتكافل ونشر الدعوة ومحو المفاسد الخلقية والإعداد العلمي والاقتصادي والمساهمة الحضارية الرائدة في المسيرة الإنسانية الصاعدة.

{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية