مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

مسألة العقلانية
الدكتور محمد جواد لاريجاني


يتكرر استخدام مفهوم "العقلانية" في مباحث المشروعية والكفاءة، فتستخدم، تعابير مثل "حكومة العقل"، "العمل العقلاني"، "التفسير العقلاني" وما شابه... وذلك في الوقت الذي لم تتضح فيه دلالة هذا المفهوم بشكل كاف، الامر الذي يقتضي البحث بالتفصيل في دلالاته في جميع المجالات التي يستخدم فيها، علاوة على ايضاح الاختلاف الموجود حوله بين مختلف تصورات الباحثين. وهذا ما سوف نقوم به في ما يأتي.
العقلانية والعمل
اولا: من اجل الدقة في البحث، يمكننا البدء من مجال استخدام صفة العقلانية، فنقسمها الى قسمين: في القسم الاول نتناول الابحاث الفكرية التي قامت لاكتشاف الظواهر الموضوعية. فعندما نقول: هذا الكلام عقلاني، نقصد به "صحة" الحكم الذي ندعيه. وعلى هذا يكون معنى العقلانية، في القضايا الخبرية، هو الصحة، وتتمثل درجات العقلانية في مدى القرب من الواقع، فالحكم (أ) يكون اكثر عقلانية من الحكم (ب) عندما يكون (أ) اقرب للواقع من (ب). وقد استخدمنا مفهوم "القرب من الواقع"، هنا، بالمعنى العرفي له.
اما اذا اردنا بيانه بدقة اكثر، فهناك اساليب منطقية كثيرة لا محل لذكرها هنا. وفي القسم الثاني، هناك الاتصاف بالعقلانية، اي "العمل العقلاني"، وهو في الحقيقة محور بحثنا.. وفي هذا العمل، ليس باستطاعتنا، للتعبير عنه بسهولة، الاستفادة من مفهوم "الصحة" الذي استخدمناه في ما يتعلق بالمعطيات (القضايا الخبرية).
والواقع هو ان مفهوم صحة العمل لا بد من ان يكون محمولا على مفهوم عقلانيته! وهذا عكس ما عليه الامر في القسم الاول، حيث ان مفهوم "صدق الخبر" له معناه بشكل مستقل، وبمساعدته نقوم بتعريف عقلانية قضية ما.
ثانيا: ما هو العمل العقلاني؟ هذا السؤال لا يجد جوابه من دون وجود نظرية لطبيعة العمل. ومن هذه الناحية، فالمسالة شبيهة بتعريف "صدق المعطى"، حيث لا يمكن ذلك من دون وجود نظرية لبنية المعطى. وبنية "المعنى" تقوم على اساس المعطيات، ومن هنا يعرف "الصدق". وفي بيان مفهوم عقلانية العمل، ايضا، علينا اجتياز طريق مشابهة: في البداية نبين بنية العمل، ونبني العقلانية من الاسفل بمساعدة نظرية البنية تلك. والحقيقة هذه هي احدى استخدامات نظرية العمل الارادي العامة الاخرى التي تمكننا من تعريف "العمل الصحيح" او "العمل العقلاني".
ضابطة عقلانية العمل
لنفرض قيام العامل (ج) بالعمل (آ) في الوضع (ث)، وحسب النظرية الذاتية للعمل الارادي، فان جوهر هذا العمل يكمن في ثلاثة اركان مهمة هي: الوضع المفهوم (رژ ) والوضع المنشود ( حژ ) وبرنامج العمل (ت ). والعقلانية ترتبط بهذه الاركان الثلاثة (الجوهر). ولكن كيف؟ هنا لا بد من الحديث عن كل جزء بشكل مستقل:
1ــ العقلانية وفهم الوضع الحقيقي (رژ ): العقلانية، هنا، وبالمفهوم المطروح في الابحاث التوصيفية، تعني انه كلما كانت صورة (رژ ) قريبة من الوضع الحقيقي (ث) كان هذا الركن اكثر عقلانية. بعبارة اخرى، الواقعية هي الملاك الاساس للعقلانية في هذا الركن. ويصدق ذلك على العمل كله ايضا! رغم اننا نتحدث هنا عن ركن الوضع المفهوم.
2ــ العقلانية والوضع المنشود (حژ): الحقيقة هي ان هذا القسم هو اهم موارد البحث في عقلانية العمل واصعبه، في البداية ننظر الى الوضع المنشود، اذ نستطيع تقسيمه الى قسمين: القسم الاول، الوضع الوسيطي، اي ان الفرد يسعى الى تحقيق وضع معين ليهيى ء الارضية الى تحقيق وضع آخر.
والقسم الثاني، الوضع النهائي (الغائي) الذي يكون مورد ارادة العامل بشكل مستقل ولا يبتغي من ورائه وصفا آخر.
على سبيل المثال، يبذل احد التجار غاية جهده لنقل بضاعة من الهند الى القفقاز وبيعها. الوضع المنشود، في عمله، هو نقل البضاعة الى القفقاز وعرضها على المستهلكين. لكن هذا الوضع ليس غاية ما يريده وينشده، لان هدفه هو الحصول على مال كثير! واحيانا يكون الهدف الاخير، ايضا، ليس الهدف النهائي في نظره. فاذا كان التاجر رجلا فاسقا، فان هدفه، مثلا، من ذلك المال كله، هو الحصول على نساء حسناوات، اما اذا كان التاجر مومنا، فقد يكون هدفه من الحصول على المال هو انفاقه في سبيل الله والقرب من ذات الله، وبهذا الشكل يكون الهدف النهائي (الغائي) هو القرب من الله عز وجل، لانه يرى ذلك منتهى السعادة الحقيقية! وهنا نستطيع ان نبين عقلانية الوضع الوسيطي من خلال خصوصيتين:
الاولى: لا بد من ان يرشدنا الى الهدف. وهذا يعني انه يهي ء الارضية اللازمة لوضع آخر. و"التمهيد" يعني: فيما لو حصل الوضع المنشود، يمكن الوصول الى وضع آخر بوساطة عمل مناسب.
الثانية: "المشروعية"، حيث يمكن ان تكون على حالات متعددة: اشهرها الحالة "القانونية". فلو اراد شخص ما، مثلا، ان يتاجر بالمخدرات لكي يحصل على مال كثير (الوضع المباح)، فمن الطبيعي ان تكون جميع اعماله في نقل هذه المواد غير قانونية، والمسألة القانونية تتبع الظروف الحقيقية التي يعمل فيها، لان القوانين تختلف من مجتمع الى آخر. بينما المشروعية يمكن ان تكون على اساس الدين او اي شي ء آخر غير القانون.
على سبيل المثال، فقد يكون الزنا والقمار مباحين على اساس قانون في مجتمع ما، لكنهما في الاسلام، مثلا، محرمان.
لذلك، اذا كان العامل مسلما، فلا بد من تقييم عقلانية عمله على اساس الشريعة الاسلامية، لا على اساس قانون المجتمع الذي يعيش فيه.
وهل هذا هو نهاية بحث العقلانية؟ الجواب: لا، لان اساس المشروعية نفسه لا بد من ان يقيم عقلانيا. ويمكننا السوال:
كيف يمكن تقييم عقيدة ما عقلانيا؟ ولاننا سنواجه مثل هذا السؤال في اغلب مراحل بحثنا، لذلك سندرس هذه المسألة بشكل مستقل.
يرتبط الوضع النهائي، تماما، بفهم العامل لمعنى وجوده، وهذا الامر يعود بدوره الى المدرسة التي ينتمي اليها عمل الفرد، حيث يمكن لاسس وجود الفرد ان تكون وضعية او اصيلة تماما. فالليبرالية، على سبيل المثال، عقيدة مبنية على اساس الوصفية (الجعل). وقد ينتهي هذا الجعل الى نوع من الاختيار عندما يكون العامل فردا. بينما تصبح عقدية (من العقد) اذا كان العامل جماعة. في حين ان الاسلام، وباعتباره عقيدة، لا يؤمن بالوصفية (الجعل). والعقائد التي ليس هناك جعل في اسسها تقول بــ "كمال" العامل. وهذا الكمال بالنسبة للفرد هو "السعادة"، بينما هو للجماعة شي ء آخر. وعلى هذا فعقلانية الوضع المنشود تنتهي الى تقييم عقلاني لتلك العقيدة.
3ــ هنا نصل الى دراسة عقلانية الركن الثالث للعمل، اي برنامج التنفيذ (ت) وهو عبارة عن وصف سلسلة من الاجراءات التي يتصور العامل ان تنفيذها، بشكل متوال، يجعله يصل الى الوضع الذي ينشده، وعلى اساس هذا التصور يقدم على تنفيذه. ومن الطبيعي جدا ان تكون الخطوة الاولى، في تقييم عقلانية هذا الركن، هي البحث في هذا التصور، وبتعبير ادق: ان الاسئلة الآتية هي التي توضح اساس عقلانية برنامج التنفيذ.
هل تفي قدرات العامل وامكانياته بتنفيذ برنامجه؟ وهل برنامجه ممكن في الاساس؟ ما هو الجواب اذا كان برنامج العامل يتضمن خطوات خيالية مثل التحليق في الجو من دون اية وسيلة، او الاختفاء في بيضة مثلا! وعلى هذا الاساس يتم البحث في هذه المرحلة حول موضوعين مختلفين: احدهما قدرات العامل والآخر الامكانية العامة. والحصول على جواب سلبي في اي منهما يعني نفي العقلانية، وباي درجة وجدا تكون العقلانية في ذلك الركن بمثل تلك الدرجة.
الارشاد الى الهدف، اي لا بد من السؤال: هل البرنامج الموجود يؤدي الى تحقيق الوضع المنشود؟ وهذا السوال تقني بكل معنى الكلمة.
كيف يؤمن المخطط وصول العامل الى الهدف؟ وما هو ثمن ذلك؟ هذا السؤال ايضا تقني تماما، كما ان الثمن ليس بالضرورة ان يكون ماديا تماما، بل ان ميزان المخاطرة وحجمها قابلان للبحث والدراسة في اي مجال مهم بالنسبة للعامل.
وهل الخطوات المنظورة في البرنامج "مباحة "؟ وهذا غير الاسئلة التقنية، بل هو في باب المشروعية، وكما هو الحال في الوضع المنشود، يمكن ان يكون على اساس القانون او العقيدة. لذلك فهذا السوال، من حيث الماهية، يعد سؤالا حقوقيا او شرعيا او فلسفيا.
والآن اذ بينا العقلانية في ثلاثة اركان اساسية من العمل الارادي، نقول: "العمل المعقول هو الذي تكون جميع اركانه معقولة"، ويمكن ان نفهم العبارة المذكورة كما يأتي: ان الخلل في عقلانية الاركان الثلاثة هو بمثابة الخلل في اركان العمل جميعها، كما ان مدى عقلانية الاركان يؤثر في عقلانية العمل.
وان كمال عقلانية العمل يكون في كمال عقلانية اركانه الثلاثة.
العقيدة ومسألة العقلانية
اولا: انتهى بنا البحث في مسألة عقلانية العمل، وفي عدة مجالات، الى مفهوم "العقيدة" وضرورة ادخالها في عملية التقييم العقلاني. وفي هذه الفقرة سنبحث هذه المسألة بدقة اكثر، ونكمل ايضا عملية التقييم العقلاني للعمل.
و"العقيدة"، في رأينا، اطار نظري يهدي الى "العمل". بعبارة اخرى: لها مفاهيم وقواعد توجه العامل في اعماله. ولان دائرة الاعمال بحاجة الى اتجاه واسع جدا، لذلك على العقيدة ان تتناول الجذور وتعالج المصدر. والمصدر هو الذي يقدم، على الاقل، معنى لوجود الانسان، بحيث يمكن تعريف الكمال على اساسه، والسعادة هي الوصول الى الكمال، لذلك فان للسعي الى السعادة توجها وتسويغا عقلانيين.
اما لماذا قلت: على الاقل؟ فلان العقيدة يمكنها القيام بهذا الحد الادنى (الاقل) بمساعدة مجال اوسع: يمكن للعقيدة ان تقدم معنى للوجود، من هنا يمكن تعريف مكانة الانسان في الوجود، ومن هناك يمكن بيان كماله وسعادته.
وتقديم معنى للوجود يعني البحث في جذوره، وهذه المسألة تقع في اطار الحكمة الاولى (الميتافيزيقيا). اما مفهوم "العقيدة" فقد اشتهر بين المتاخرين باسم "الايديولوجية" او النظرة الى العالم، لكن افضل اسم له هو "الحكمة العملية"، وهو اسم له امتداد في كتابات ارسطو. الا ان الحكمة العملية توحي بنوع من البحث والجهد في الوصول الى العقيدة، والعقيدة نتاج، وبحثنا يدور حول هذا النتاج! ثانيا: نلاحظ، في كتابات ارسطو، مفهوم "البراكسيس" الذي يستخدم في الغالب بمعنى الحكمة العملية. و"البراكسيس" يعني العلوم والابحاث النظرية لفهم مبنى العمل الارادي للفرد. ثم يقسم مجال هذا العمل الى ناحيتين مهمتين: الاولى، العمل الانفرادي للفرد الذي يتكفل علم الاخلاق البحث فيه. والثانية عمل الفرد ضمن الجماعة، حيث يبدأ من العمل ضمن الأسرة وينتهي بالعمل ضمن "الدولة". وبما ان القسم الخاص بسلوك الانسان ضمن جماعة كبيرة (الدولة) هو الجوهر الاساس للسياسة، لذلك فقد اكتسب اهمية كبرى. لكن يمكن القول بوجود مفهوم محدد اكثر لــ "البراكسيس" في كتابات ارسطو، والذي اكتسب اهمية، في ما بعد، خلال القرون: الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وهو فهم "البراكسيس" باعتباره اساس السلوك السياسي للفرد، بمعنى وجود الفرد في الدولة (التجمع السياسي، البوليس). وقد بحث ذلك بكثير من السعة كل من هيغل وماركس وسارتر.
واذا اردنا تقديم صورة لما عرضناه في تاريخ الفكر الفلسفي، لا بد من ان نشير الى وجود ثلاثة مجالات مهمة على الدوام في الفلسفة. اما المجالات الاخرى فهي ثانوية وترتبط بهذه المجالات المهمة، وهي عبارة عن الحكمة الاولى (الميتافيزيقيا) ومبحث المعرفة والسياسة. ومحور كل مجال من هذه المجالات سؤال اساسي ومهم. ففي الميتافيزيقيا يكون السؤال الاساس هو جذور الوجود، وفي مجال المعرفة يكون كيفية توصل الانسان الى الحقائق الموضوعية الخارجية، وفي السياسة يكون سعادة الانسان وارتباط سلوكياته الفردية بها.
واذا نظرنا الى الموضوع من جانب آخر سنجد ان في مجالي المعرفة والسياسة، يكون الانسان هو المحور، باعتباره "عاملا" (فاعلا) يصدر منه الفعل الارادي، لانه ينظر في المجال المعرفي الى نوع خاص من سلوك الانسان، وهو "المعرفة"، او "السعي الى تحصيل المعرفة"، اي ان الانسان يطرح بوصفه عنصرا "عالما" او بعبارة ادق "ناطقا". اما في مبحث السياسة فيطرح بوصفه عنصرا "عاملا" من مختلف الاتجاهات. وبهذا الشكل تتكفل الحكمة الاولى، ايضا، بان توضح جذور الوجود الانساني لعدم وجود تمايز بين الموجودات في مبحث جذور الوجود، فاينما واجهنا موجودا تطرح مسألة جذور الوجود، وتسري مباشرة الى باقي الموجودات. وعلى هذا الاساس استطيع الادعاء بسهولة ان الفلسفة تدور تماما حول "الانسان"، وتتناول جذور وجوده او ماهية نطقه او حقيقة ارادته. والنطق والارادة هما الطريق الى "ناطقية" الانسان و"عامليته". وارى ان "الناطقية" ليست حيثية انفعالية مثل سائر الموجودات، بل اعدها جزءا خاصا من جوهر عاملية الانسان، لانني اؤمن بان "العلم" واحد من افعال الانسان الاختيارية!. وطبيعي فان "محورية الانسان" هذه، التي تحدثت عنها في ما سبق، لا ترتبط بفلسفة "الانسانية"، فهذه تعني "عبادة الانسان".
فالمحورية، في رأينا، مسألة تعليمية، كما انها تتمثل في البحث، وليس في عالم الوجود! والآن، حيث بينا المجالات الثلاثة في الفلسفة، نقول: ان "الحكمة الاولى تأتي، من بينها، في الصدارة، وان المجالين الآخرين بقيا، منذ زمن ارسطو وحتى القرن الثامن عشر، في المرتبة الثانية. ومنذ اواخر القرن الثامن عشر، وحتى اليوم، احتلت المعرفة المرتبة الاولى في عالم الفلسفة بينماعادت "الحكمة الاولى" الى جانب السياسة في المرتبة الثانية.
وقد ظهر، منذ اواسط القرن العشرين، اهتمام متزايد بطبيعة "عاملية" الانسان فاصبح اكتساب المعرفة احد فروع اعمال الانسان العامل. ولا شك في ان القرن الواحد والعشرين سيكون العصر الذي يلقي فيه مبحث الانسان، بوصفه عنصرا "عاملا"، ظلاله على مجالات الفلسفة جميعها. لقد التقى اليوم، في ما يتعلق بالانسان العامل، التقليد الارسطي في الفلسفة مع البراغماتية الامريكية والمذهب التحليلي المعاصر، وذلك على الرغم من اختلاف هذه المذاهب في زوايا البحث، وهذا الامر يعد منعطفا مهما في تاريخ الفكر الفلسفي.
شبهة الليبرالية
اولا على اساس ما قلناه حتى الآن، لا بد من ان يستند العمل العقلاني الى عقيدة او ايديولوجية معينة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال ضرورة التزام اي عامل (فردا او جماعة) بعقيدة او ايديولوجية.
يقسم ارسطو، في الفصل الاول من كتابه "الاخلاق النيقوماخوسية"، الناس، على اساس اعمالهم، الى ثلاثة اقسام:
القسم الاول، الذين يتبعون الاهواء ويدورون معها اينما دارت.
القسم الثاني، اصحاب الحياة السياسية.
القسم الثالث، الذين يعيشون على اساس تأملاتهم المعنوية.
ويرى ارسطو ان حياة القسم الثالث هي الحياة الخاضعة لسيطرة العقل بالكامل، لان الفرد يسعى الى توجيه اعماله دائما على اساس الصحة، وفي الوقت نفسه تراه يتأمل دائما في جذور الحسن والصحة واسسهما.
اما الحياة السياسية التي يقصدها ارسطو، فلها معنيان: الاول "القدرة" ضالة الفرد، وهو في سعي دائم للهيمنة. والثاني هو ان السياسة علم الوظيفة (ما يجب القيام به، علم الاعمال الصحيحة او معرفة الخير)، والحياة السياسية تعني ان الفرد الم بوظائفه وجعل جل همه القيام بها. اما الفارق بين هذا النوع والنوع الثالث فيكون في ان الفرد، هنا، قد لا يصرف وقتا طويلا في معرفة جذور الخير او الشر واساسه او اكتشاف الوظيفة، لكنه يقوم بوظيفته على اتم وجه.
وعلى هذا لا بد له من الرجوع الى شخص من اهل الخبرة في معرفة الطريق. اما القسم الاول فهم الضالون، وهولاء، برأي ارسطو، يندرجون في درجات ومراتب للضلال: فقسم جاهل ومطلع على جهله، لذلك فهو يستمع الى كلام العلماء.
وآخرون جهلة وغير مطلعين على جهلهم (جهل مركب)، لذلك فهم تائهون في عماهم. وفي هذا الصدد يستشهد ارسطو بابيات للشاعر اليوناني المشهور هزيود:
"افضل الناس من عرف كل شي ء، والحسن هو من تقبل قلبه كلام الحق، واذا ما تحدث اهل الفن في الحق يلين قلبه، اما الجاهل الذي لا يصغي الى معرفة غيره، فهو الجسم الفاقد لاية خصوصية!".
وملخص القول:
1ــ من اجل ان تكون اعمالنا عقلانية، لا بد من ان نكون مؤمنين بعقيدة معينة.
2ــ قد لا يهتم الناس بهذا الاساس، لكنه باستطاعتنا عمليا تحديد اسس عملهم بسهولة! ويمكن لهذا الاساس ان يكون ظرفيا وبمستوى متدن جدا، او ان يكون عقيدة اصيلة ودقيقة! ثانيا: تبدأ فكرة الليبرالية من خلال التشكيك في ضرورة "العقيدة". وهذا هو مصدر التعددية والعلمانية. ويمكن تقريرالتشكيك الذي ذكرناه اعلاه بشكل مجمل:
"لم تكن تجربة الفلاسفة الذين تناولوا مسألة العقيدة، بوصفها اساسا للعمل، تجربة ناجحة، وقد اتضح ان التساولات التي تدور حول جذور الوجود الانساني وكماله وسعادته تشبه التساولات المثارة حول جذور الوجود بشكل عام ومعناه، حيث لم نجد لها اجوبة مقنعة وواضحة. فالتضارب الموجود في اقوال الفلاسفة في هذا الصدد يعبر عن تشتت فكري يحول دون تكون معرفة جامعة، وعلى هذا يجب ان لا نضيع الوقت، بل نسعى الى ايجاد عمل عقلاني في الفرد او الجماعة من دون وجود عقيدة".
كان هذا ملخصا للفكرة الليبرالية في هذا الصدد، اما تبعات هذا الرأي فهي: ان اولى نتائج هذا التفكير، بل واهمها، هي حذف "العقيدة" من عملية تقويم عقلانية العمل. ولكن ماذا سيبقى اذن؟ نشاهد في بعض الكتابات الليبرالية ان الذي سيبقى هو "العقل التقني" في مقابل "العقل الاصيل" الذي يستند الى عقيدة، وهو ما نقول به. ولا يفكر العقل التقني الا بالنجاح، وفي ما بعد الامكانية العملية، او حساب المصارف والدخل، لا يبقى امامه سوى الاختيار، الذي ليس له اي دليل او سند معين، فلربما يكون مصادفة او على اساس حبه لعشيقته! والعقلانية التي تروج لها الليبرالية الديمقراطية، خلال القرون الاخيرة، وتعمل لبسطها في جميع المجتمعات، ما هي الا العقلانية التقنية، وفي الفقرة الآتية سنشير الى بعض قضايا الليبرالية ومسائلها وخصائص العقل التقني باعتباره اهم نتائج الاتجاه الليبرالي.
ثالثا: الابتعاد وعدم ابداء الرغبة في التساول عن الجذور، وهذه المسألة من اهم خصائص القرن العشرين، وعدم الرغبة غير الوقوف موقفا سلبيا من المسألة، فعدم الرغبة يعني تجاوز المسألة وعدم الخوض فيها، وبالتالي عدم اعطائها اهمية معينة! لان العقل التقني يتعطش دائما لانجاز الاعمال، ويختار اهدافه على اساس الوسائل، ولهذا السبب يعد "الامكان العملي" والمحاسبة، الملاك الواضح في الاختيار.
والعقل التقني محدود في محاسبة امكانياته ومنافعه، بالبيئة التي يعيشها، لان تجاوز هذه القشور الايكولوجية (البيئية) تورطه في مسألة الجذور، لذلك عندما نقول: "الدخل والمصروف" فانا نعني بهما مفهوما خاصا جدا، لان المفهوم المذكور،بمعناه الاصيل، غير ممكن الا بالنفاذ والتغلغل الى اعماق الوضع والاتجاه نحو الجذور.
ولكن لماذا نشاهد عدم الرغبة في مسألة الجذور؟ ولقد اشرنا في ما سبق الى احد اسباب ذلك، وقلنا: ان الشعور بالتيه والضياع وعدم الفائدة من الابحاث المتعلقة بجذور الوجود وماهية الانسان، وانه ليست هناك معرفة جامعة في ذلك. لكنني ارى ذلك مجرد تسويغ ليس له دليل، فعدم اعطاء الاهمية لمسألة الجذور قضية قديمة، وما ورد على لسان الائمة الطاهرين (ع) واهل العرفان بــ "النوم" و"الغفلة" بيان لهذه الحالة الذهنية، والاهتمام بالجذور يبدأ من "طفرة" او "صحوة" او "يقظة"، وقد يرجع الفرد ثانية الى حالة الغفلة! ومفهوم "الاشتغال" الذي ورد في الاخبار والروايات يوضح بدقة الهيكلية الفكرية الموجودة في العقل التقني! اقول: ان عدم ابداء الرغبة في مسألة الجذور من علامات السبات، والناس نيام! رابعا: البنية الاجتماعية ذات المصدر الليبرالي، تعد المفاهيم الآتية: الحريات الفردية، والتسامح "المطلق"، والنسبية في القيم والعقائد، وعلمانية الحكومة، مفاهيم اساسية ومحورية في الادبيات الليبرالية. وجميعها ينشأ عن نوع من البنية الاجتماعية التي تنشأ بدورها عن الفكرة الليبرالية. ومع الاخذ بخصوصية العقلانية "البتراء"، في هذا النهج، وتنزلها الى مستوى العقل التقني وانقطاعها عن الجذور، يمكننا فهم البنية الاجتماعية الليبرالية من خلال بيان الاصول الآتية:
الاصل الاول: ليس للبشر كمال حقيقي او اصيل يرتبط بجذور وجوده، لذلك فان اهم مسألة لكل فرد هي البيئة الحرة التي يعيش فيها، وفي تلك البيئة يقوم بابداع "تركيبات خاصة" من السلوك والتأليفات بارادته. وهذه الحرية من اهم اسس البنية الاجتماعية.
الاصل الثاني: يستلزم تعارض الحريات نوعا من الحسابات الرياضية على اساس العقل، كما يستلزم قبول جميع الاشخاص برسم حدود لحرياتهم. لكن ما هو الهدف من هذا التحديد؟ في جواب ذلك نقول: ضمان اوسع مجال ممكن لحرية العمل الفردي! وعلى هذا الاساس لزوم وجود "دولة" او "حكومة"، وهو كمال البنية الاجتماعية. ومن هنا تتضح الوظيفة الاساسية للدولة، وهي "استتباب الامن "! مقابل الاعتداءات الخارجية ومقابل التعرض لحقوق الآخرين.
ومشروعية هذه الحكومة تكون على اساس رضى العامة (العقد الاجتماعي) وتكون سيادتها واطاعتها عقلانيتين.
خامسا: التعددية على اساس الفكر الليبرالي:
نستنتج من الاصلين اللذين ذكرناهما لليبرالية انه في دائرة الحرية التي تحيط بالفرد، ليست هناك وصية غير حفظ الحدود ومراعاتها العمل العقلاني. وكما قلنا من قبل: ان العقل الليبرالي الفعال هو عقل تقني صرف، وهذا العقل التقني يتصرف، في اختياره، على اساس حسابات الدخل والصرف والامكانية العملية فحسب.
وعلى هذا الاساس، فــ "التعددية" من اولى ثمرات الديمقراطية الليبرالية، ومن الضروري الفصل بين التعددية من جهة وبعض التسامحات التي نشاهدها في المجتمع من جهة اخرى، لان الحاكم الدكتاتور، يمكن ان يعلن ان للناس الحق في التباحث حول كيفية زراعة الرز بشكل عام! وهذا لا يسمى تعددية، لان التعددية تعني ان الناس، في ظل حكومة ديمقراطية ليبرالية، يستطيعون بيان عقائدهم والترويج لها مهما كانت، لكنهم يجب ان لا يتعدوا حدود القانون من الناحية العملية، والقانون في الحكومة الليبرالية، بالطبع، يهدف الى ضمان اكبر حد ممكن من الحرية للناس، بشكل لا يكون معه اي تعارض. وهنا نتساءل: كيف يمكن الدفاع عن التعددية؟ وفي جواب ذلك يمكن القول بوجود ركنين للايمان بالتعددية:
الاول: الايمان المصلحي، ويعني ان الآراء جميعها ليست، في حقيقتها، في المستوى نفسه، فبعضها صحيح وبعضها الآخر خطأ، وبعضها حسن، وبعضها الآخر غير ذلك، لكن المصلحة تقتضي ان نغض الطرف، ولا نقول برجحان بعضها على بعضها الآخر. لان ترجيح فكرة معينة على اخرى يعني ان الدولة اصبح لها دور ارشادي وتوجيهي وان لها نوعا من القيمومة، ولهذا الامر تبعات لا تحمد عقباها، وستصاب الدولة بمرض الدكتاتورية والاستبداد بسرعة. لذلك من المصلحة ان لا يكون احد قيما على آخر، ولا ترجح الدولة فكرة او سلوكا معينا على آخر.
الثاني: الايمان بالتعددية اصالة، ويعني الايمان بحقيقة عدم رجحان فكرة على اخرى، او سلوك على آخر، لذلك لا يوجد مسوغ لفرض نوع من ذلك على المجتمع. وفي اثبات هذا الايمان بالتعددية تطرح قضية الانصراف عن مسألة الجذور ومسألة النسبية، فالانصراف عن قضايا الجذور مصدره الاحتمال الذي يواجهه السؤال عنها، وبالتدريج يصبح له وصفا صلبا، وهو ان السؤال عن جذور الوجود والانسان شي ء مهم وغير مفهوم. واصحاب هذا النهج يرون ان مدى البحث في جذور العالم يجب الا يتعدى ما ذهب اليه علماء الفلك. وفي فهم جذور الانسان تعين الحدود على اساس الانتروبولوجيا! وهذا يعني بطبيعة الحال حذف مسألة الجذور والامتدادات بالكامل.
سادسا: نقد الايمان الاصيل بالتعددية، فكما اشرنا من قبل، فان تفسير التعددية الاصيلة يستند الى امرين: الاول، حذف مسألة الجذور بشكل كامل، والاخر اثبات النسبية التامة في جميع العقائد (سواء الوصفية منها مثل العلوم ام القيمية مثل السلوكيات). ان الانصراف عن السؤال الذي يتناول الجذور، وبسبب عدم الرغبة فيه، يشبه ما تفعله النعامة عندما تدفن رأسها تحت الرمال، وتتعامى، لان السعي في حذف المسألة عن طريق اثبات "ابهامها وخلوها من اي معنى" انما هو من اضعف المغالطات التي طرحتها الوضعية في بداياتها واوضحها، وليس لها اليوم اي محل من الاعراب بين الفلاسفة التحليليين والمنطقيين. فالسؤال حول الجذور "متجذر" في لغة العقل العرفي بشكل لا يدعنا نتردد حوله. اجل ان مسألة الجذور مهمة وشاملة واولية تفرض نفسها على السائل فيضطر الى التعامل معها على خلاف الاسئلة العلمية التي لا تتصل بوجود الباحث. اما اولوية السؤال عن الجذور فليست من حيث المكان او الزمان، بل هي اولوية ذاتية وجوهرية، والسؤال عن الجذور يقع على رأس لائحة الاسئلة التي تواجه الفرد، لانها تطرح نفسها في كل خطوة او اجراء يقوم به، وتتصل بجميع خطواته واجراءاته. والسؤال عن الجذور ليس بذي معنى فحسب، بل له اعمق المعاني والتأثيرات، وليس على الفرد الا ان يواجهه! فبعض الحكماء يرى ان الانسان في حياته العادية ليس له حظ مواجهة هذا السؤال، فعادة ما تشغله دقائق الحياة ومشاغله عن ذلك، وفي حالات خاصة فقط يجد ذلك الحظ، منها عندما يصل الى طريق مسدود، ففي حالة "الانقطاع" التي تنتج عن ذلك يسائل نفسه: من هو؟ لماذا وجد؟ الى اين يسير؟ ومن الحالات الاخرى ما ينشأ عن النجاحات او الشوق الى الانتصار. ففي ذروة هذه الحالات يشعر الانسان بضرورة وجود شي ء آخر، بينما كان همه الاساس قبل ذلك هو الوصول الى هدفه.
وفي العقل العرفي ليس الحكم الوجودي فاقدا للمعنى. اجل، واذا كان بغض النظر عن الجذور فهو عادي جدا، اما الحقيقة فهي مطروحة بعد ذلك. لكن حكما عاديا، مثل "انا موجود"، يصبح منبع الاسرار عندما تطرح مسألة الجذور، بل يكون مصدر الاسرار جميعها! لاننا عندما نجتاز المستوى الموجود الى الجذور تتوحد آلاف الاشياء وتصبح في ذلك الواحد.
ولكن، ما هو مصدر "النسبية "؟ الجواب هو: ان هذا المصدر لا يخرج عن امرين، اما النسبية في مفهوم صدق القضايا او في ملاك كشفها. الفكرة الاولى هي جزء من علم المنطق (والمنطق الفلسفي)، والحقيقة انها تختص بنوع من نظرية الصدق. وقد يشاهد اتجاه نحو هذه الفكرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكن هذا الاتجاه ضعف بشدة بعد الاكتشافات التي قام بها "الفرد تارسكي" وآخرون في علم المنطق خلال الثلاثينات من هذا القرن.
على سبيل المثال، فان اشهر نظريات الصدق (نظرية تارسكي ونظرية ديفيدسون) تتكفل باثبات اطلاق مفهوم الصدق! والحقيقة هي ان مفهوم "الصدق" في العقل العرفي كان دائما مفهوما اساسيا، كما ان نظريات الصدق تسعى لبيان انموذج عن ماهيته وطرحه. اما الرأي الثاني، في الاعتقاد بنسبية وصولنا الى الحقائق، فمصدره نوع الفكر والنتائج "التاريخية" الناجمة عن ظاهرة التطور في العلوم. بعبارة اخرى، منذ ان فتح "فيثاغورس" باب التعليم المدرسي وحتى اليوم، اصبح العلماء يحتملون وقوع الخطأ في جميع المراحل. ومن البديهي ان ذلك لا يتعارض وحجم ثقة العالم بما توصل اليه.
والشك الذي يطرح هو غير ذلك. انني اطلق عليه "شك العامة" في مقابل "الشك العلمي" الذي تعرضت اليه بالتفصيل في كتاب "التدين والحداثة ". ومما قلته هناك هو: ان الشك العلمي ليس بالضرورة ان يتبعه شك العامة. ومن جهة اخرى، فان ثقة العلماء بالنتائج العلمية (وكذلك في امكانية الوصول اليها) تتزايد بشكل مستمر!. والى هذا الحد نكتفي في شرح الموضوع.
ورغم ان موضوع هذه الفقرة وجيز جدا الا انه يكفي لتوضيح ما ذهبنا اليه. ومن الطبيعي ان تفصيل مسائل الجذور في الحكمة الاولى من الفلسفة والمسائل الخاصة بصدق القضايا في المنطق وحتى مسألة الشك (العلمي او العام) نجدها في الفلسفة والابستمولوجيا (المعرفة).
سابعا: هنا نصل الى دراسة التعددية المصلحية، فاهم البراهين التي يستند اليها اصحاب هذا النهج، هو ازدياد امكانية استبداد القادة السياسيين، اذ يرى هؤلاء ان الدولة عندما تجلس على منبر الوعظ ويجد الحسن والقبح قيما لهما، سيتستر اصحاب السلطة بسرعة على اهوائهم خلف ما يسمى بــ "الحسن العام"، وسيقومون بقمع كل من يخالفهم وخنقه بحجة الانحراف.
والنتيجة هي الفاجعة بالنسبة للمجتمع واصابة النظام الحكومي بأسوأ امراضه، اي الاخفاق والدكتاتورية، لذلك كان من الافضل تحمل بعض المشاكل مقابل خلع الدولة عن كرسي الارشاد وان يقتصر تحملها على مسوولية حفظ الامن (بمعناه الواسع) فقط. اذ على الدولة ان لا تقوم بالدعاية الى اية "قيم" او "عقيدة" او "ديانة"، وان تترك حرية اختيار ذلك للناس انفسهم.
ان اول ما تواجهه التعددية المصلحية من مشاكل، في المجال العملي، هي مسألة الانحرافات الاجتماعية. لنأخذ المجتمع الامريكي في التسعينيات على سبيل المثال: اذا كان الاشخاص احرارا في ما يرتدونه من ملابس، فقد يحبذ بعضهم (رجالا ونساء) الخروج الى اعمالهم، او الى الشوارع، عراة او نصف عراة، او ان يمارسوا الجنس في الامكنة العامة، فهذا الامر من انواع الانحرافات الاجتماعية.
وطبيعي ان لا تتحمل الدولة شيوع الانحرافات. ولكن ما هو تفسيرها لذلك؟ لذلك نجدها تطرح قضية الامن الاجتماعي، وتستدل على ذلك بان "الانحراف يحل في الاخلاق العامة" وبما ان ذلك يهدد الامن العام، فهو ممنوع.
ولكن ما هو ملاك العفة والاخلاق العامة؟ يجيبون على ذلك بــ "العرف الذي يقره عقلاء كل عصر"!، بمعنى انه لو كان الذهاب الى العمل من دون ثياب شائعا او لو كانت الممارسة الجنسية في الشارع شائعة، فانهما لا يتعارضان مع العفة العامة، لان عقلاء العصر قبلوا ذلك. وبعبارة اخرى، فالناس الذين لا يقبلون بهذا الوضع الاجتماعي ويعدونه تهديدا لامنهم الاجتماعي هم مصدر المشكلة، لا المجتمع ولا الدولة! وهذا الامر يتضمن تناقضا واضحا مع نظرية الامن العام. لان التعددية المصلحية لا تنفي القبح والحسن الحقيقيين، وتقبل بــ "الفساد" حتى لو كان من اجل المصلحة. وهنا نتساءل: ما هو الدليل على ان اهمية الفساد العام اقل من فساد السلطة والاستبداد؟ ولماذا قبلنا بالفساد الاجتماعي من اجل الخلاص من فساد الحكم والاستبداد؟ اليس ذلك يشبه من يقطع يديه خوفا من ارتكابه جريمة القتل؟ الا يعني هذا الرضى بطريق مسدود تماما في ان يكون لنا مجتمع سالم وحكومة صالحة؟ كيف يمكننا الحديث عن حل بينما نحن نؤمن اساسا بالطريق المسدود؟!
ثامنا: التناقضات والمعضلات التي واجهتها الليبرالية على المستويين الفكري والعملي والتي بحثناها في الفقرات السابقة، كانت دائما محل اهتمام جماعة من كبار مفكري الغرب وعلمائه. على سبيل المثال، يكتب "هيغل" ناقدا التعددية بشدة، فيقول: "لو تجاوزنا جميع الاشكالات الاخرى، فمسألة كمال الفرد في حرية السعي لتأمين طلباته وحوائجه، ستودي الى ان تتحول المشاعر الآنية والاهواء في اية مرحلة الى عوائق في طريق تحقيق المتطلبات الاولية والاساسية ايضا، ولذلك فهي تسلب من سلوكياته وتصرفاته اي مضمون ومفهوم حقيقيين".
اما الفيلسوف الالماني الآخر "نيتشه"، فبعد ان يستنتج من الليبرالية موت الله في فكر الغرب وقلبه، يقول: "ليس امامنا (نحن الغربيين) الا طريقين: اما ان تتنزل البشرية الى صورة حيوانية تامة (انسان مصغر) وهو ما له من تبعات سلبية رهيبة، او ان نرفع الانسان الى مستوى ارفع عما هو عليه، وهو ايضا خيال موحش. اما عالم الاجتماع الكبير "ماكس فيبر" ففي نقده الحاذق لليبرالية الامريكية، يرى ان الامريكيين وضعوا انفسهم في قفص حديدي فاسد لقوم انقطعوا عن جذورهم تماما، ولهذا فنهايتهم واضحة: فاما ان يتحلل نظامهم (مع المجتمع) بشكل آلي، او يقع تحت سيطرة اخصائيين فاقدين لاية معنوية او روح، او يبلون بديانات وبدع خطرة ليواجهوا بها الثغرات الموجودة.
وهناك منتقدون اكثر لينا، لذلك عرف المنتقدون الذين يرون ان الليبرالية تواجه، في الاساس، تناقضا وطريقا مسدودا، بالمنتقدين "الراديكاليين". وفي مقابل هؤلاء نشاهد نوعين من الدفاع، فبعضهم، مثل "ليوستراوس" يجعل الاساس هو رفع الاشكالات العملية، اي انه يرى الاشكالات المطروحة عملية، وان الانسان الغريب عن البيئة الليبرالية يصاب بعوارض مختلفة، وما علينا الا البحث عن طريق لرفع هذه الاشكالات! اما النوع الثاني من الدفاع، فاكثر اندفاعا من الاول! فعلى سبيل المثال، نجد ان "الكسيس دوتاكويل" يرى ان الليبرالية تمتلك ما هو خاص بها من سعادة وشقاء او خير وشر، فهي بذاتها تعد اساسا! لذلك فالحياة الليبرالية تعني الحياة على اساس قيم ليبرالية! ويسعى دوتاكويل الى ايجاد اساس للديمقراطية الليبرالية الامريكية على ضوء النهج الارسطي!.
العقلانية الاصيلة والنظام الحقاني
اولا: نعود الى حكومة العقل، وقد قبلنا بما يأتي: "اولا، ان لا نوقف العقلانية عند مستوى "التقنية"، بل نتتبعها الى الاخير (حتى الجذور)، ثانيا، نسلم بامر العقل في جميع الاعمال (الفردية والجماعية) على الدوام، ومن خلال هذين الاصلين يتكون اساس الفكر الحقاني. (قارن هذين الاصلين مع اصول الليبرالية الاساسية)، ولكن لماذا نقول: الحقاني؟ لان العقل فيه متصل بالمصدر، بالحق الذي يعد المصدر والجذر. والاتصال بالحق يعني الاتحاد به، لذلك فالعقلانية المذكورة حقانية تماما!".
و"الحق" كلمة تبين، في الحقيقة، وبدقة، التيه الذي يعانيه البشر اليوم. والحق اليوم هو الامر المفقود بالنسبة للبشر! والحق نقطة اتصال الفكر بالعمل، تلك النقطة التي سعى بعضهم الى حذفها قبل قرنين! ثانيا: ومن المسائل المهمة التي لابد من الاخذ بها عند دراسة النظام الاسلامي وتقييمه، مسألة حقانية الدين. وتصبح هذه القضية جدية عندما نريد ربط مفهوم "المجتمع الديني" المتداول في كتابات علماء الاجتماع والمفكرين السياسيين المعاصرين بوضع النظام الاسلامي، فهل يقوم النظام الاسلامي ببناء "مجتمع ديني "؟ وهل النظام الاسلامي انموذج للحكومة الدينية حسب فهم ماكس فيبر؟ بعد الاجابة عن هذه التساولات، نعود الى موضوع اساس، وهو:
هل يمكن اعتبار الدين مجرد ظاهرة اجتماعية مستقلة عن الحقانية، وفي الوقت نفسه يمكن اكتشاف جوهره وجذوره وماهيته وتأثيراته الاجتماعية؟ بعبارة اخرى: عندما نعرف الدين على انه ظاهرة اجتماعية صرفة ونقيمه بشكل مستقل عن مسألة الحقانية، ما الذي سنفقده وباي مقدار؟ ومن اجل ادراك اهمية المسألة، نتناول ما ذهب اليه عالم الاجتماع المعروف "اميل دوركهايم" في بدايات القرن العشرين. ويعد كتابه المعروف في علم الاجتماع الديني اساس هذا الجزء من البحث.
واثر تأسيسه لــ"علم الدين" بمعنى معرفة البنية الحقيقية والجوهر الاساس لظاهرة الدين يصل الى قاعدتين مهمتين في بدايات ابحاثه! قاعدته الاولى تعني احترام اية "قيمة اصيلة" في العقائد الدينية، لذلك يقول بسهولة:
"في عالم الواقع، وعلى هذا الاساس، ليس هناك دين خطأ. فجميع الاديان صحيحة على اساس طرقها وتقاليدها، حتى لو اختلفت في الاجوبة التي تقدمها لما يرتبط بوجود الانسان.
ومما لا شك فيه يمكن وضع الاديان على مستويات متعددة، اذ يمكن ترجيح بعضها على بعضها الآخر على اساس استخدامها لمفاهيم نظرية اسمى وطرحها لقيم اكثر غنى وامتلاكها ترتيبا اكثر عقلانية و... ولكن على اية حال، بسبب التعقيد المتزايد ودرجة المثالية، لا يمكن ترتيب هذه الاديان في مجموعات مختلفة خارج نطاق الدين، لان كلا منها، وبشكل متساو، يعد دينا، كما نعد الكائنات الحية جميعها احياء، من ابسط الحلزونات الى الانسان".
لكن، كيف تكون الاديان جميعها صحيحة؟ الطريق الوحيد لحل هذه الاشكالية القول: ان كلا منها ليس حقا! فعندما ننظر الى "ظاهرة الدين"، بغض النظر عن الحقانية، سنواجه ظاهرة خارجية، وان استناد صحة الدين او خطئه في هذا المفهوم مبهمة جدا وغير واردة. ولهذا السبب لا يتناول دوركهايم البحث في مضمون الدين من اجل فهمه، بل يذهب الى "الصور الاولية للحياة الدينية"! (وهذه القاعدة الثانية التي يستخدمها دوركهايم في معرفة الاديان) لانه يعتقد بامكانية مشاهدة "الجوهر الذاتي" للعلاقات الاجتماعية بسهولة في بنية المجتمعات الابتدائية، وقد استتر هذا الجوهر الذاتي خلف مجموعة كبيرة من الغايات بعد تطور المجتمعات.
وللاصلين المذكورين تأثيرات كثيرة في نتائج هذه الابحاث، نأخذ الاسلام مثالا، فالايمان بالاسلام يشمل الاعتقاد بمجموعة من الامور والالتزام ببعض الفرائض من حيث العمل.
من جملة ذلك الاعتقاد بان النبي الامي، محمد (ص)، بعث بالاسلام في يوم معين، وهو بداية الدين الاسلامي، لكنه، وحسب مذهب دوركهايم: "مثل اي جزء آخر من الحياة الانسانية، لم يبدأ الدين من مكان او زمن معينين".
والاسلام من دون الحقانية، بالنسبة لدوركهايم، ظاهرة اجتماعية. جميع اسباب ظهورها تكمن في ارضيتها التاريخية، فقط. وليس هناك خالق او جبرائيل ووحي في تكوين هذه الواقعة. ولذلك نجد دوركهايم يحاول فهم جوهر الدين من خلال دراسة الجذور التاريخية، وان اختيار "المجتمعات الاولية" هو دليل ميتولوجي (منهجي) في ذلك.
ثالثا: لتقويم المكانة العلمية التي تحتلها الابحاث الفينومينولوجية (مقابل الحقانية) في ما يتعلق بالدين، لا بد من الالتفات الى بعض المسائل:
المسألة الاولى: نأخذ بعين الاعتبار دينا معينا ونترك مسألة الاديان: فعلى، سبيل المثال، نتحدث عن الدين الاسلامي.
ولهذا التخصيص تبعات مهمة في بحثنا، لان العبور من دين معين الى مجال واسع، مثل "الاديان"، ليس عبورا بسيطا.
المسألة الثانية: لا بد من التمييز بين "التدين" و "الدين".
فالتدين ظاهرة اجتماعية يمكن القيام بدراسات اجتماعية حولها. وفي ذلك ايضا، هناك قضايا اساسية، وهي حدود العوامل التي تتدخل في الظاهرة. فلو رأينا ان الارضية التاريخية السابقة على تلك الظاهرة، هي المجال العلي الممكن، فذلك يعني اتخاذ موقف اساسي ومنهجي. اما الايمان بان الهداية الالهية هي احد العوامل الموصلة الى الاسلام، ووضع مكانة لها في المنظومة العلية، فمن الطبيعي ان يكون الانموذج الناتج لبيان ظاهرة التدين يختلف باختلاف الاشخاص. وعلى الدراسات الاجتماعية بيان تدين اشخاص مثل ابي سفيان ومعاوية وكذلك تدين سلمان والمقداد وابي ذر! او بيان تدين معاوية ويزيد وتدين الامام الحسين (ع)! او بيان تشيع ايران اليوم وتسنن الشعب المصري و... هكذا. فمن السذاجة اذا السعي الى انموذج سلوكي بسيط في مجال التدين!
المسألة الثالثة: في التدين ركنان اساسيان: الاول، ركن ايماني يرتبط بعقائد الشخص المتدين، والآخر ركن سلوكي يرتبط بتقيد الشخص والتزامه بالفرائض. اما بلوغ الاشخاص الى الاعتقاد والدليل في تقيدهم العلمي فيمكن ان تكون له اسباب عديدة ومتنوعة. لكنه من السذاجة جدا تصور عدم امكانية الاشخاص الذين يسعون للوصول الى حقيقة العقائد الاسلامية بوساطة عقلهم السليم، وان يكون التزامهم العملي بلحاظ اخلاصهم وطلبهم للحقيقة! فلو لخصنا اسباب ظاهرة التدين بشكل تصنيفي، ومن ثم رأينا جذورها في الظروف الاجتماعية والارضية التاريخية، نكون قد اغلقنا باب مثل هذه العلل! نحن لا نقول: ان الجميع متدينون مثل علي (ع) وعمار وسلمان ويعملون مثلهم، بل نقول: ان الكثيرين تجار، والاغلب سطحيون يتلونون بالوان الجماعة، وهناك بعض المرائين. لكن الاشكال هو اننا نهبط بالجميع الى ادنى مستوى!
المسألة الرابعة: لنفرض ان زيدا من الناس مؤمن بالاسلام، فزيد هذا له عقائده وكذلك هو ملتزم عمليا وله انقياد معين للاسلام، ومن الطبيعي يمكننا السؤال: "هل عقائد زيد صحيحة؟"، ورغم عدم اهمية هذا السؤال بالنسبة لعلم الاجتماع، لكنه ليس سؤالا اعتباطيا ايضا. فعالم الاجتماع يسعى الى فهم اسباب تقديس زيد، وهذا ما نقبل به، لكن لماذا يجب علينا الاعلان ان "جميع الاديان صحيحة" او "ليس هناك ديانة خطأ"؟ فلو كانت عقائد زيد خطأ، فمن البديهي ان تكون هذه القضية حقيقة قابلة للاهتمام. حتى لو لم تكن مهمة بالنسبة لعالم الاجتماع المختص بالدين. لانه من الممكن ان تكون مهمة بالنسبة لزيد وعشرات الاشخاص الآخرين. والحقيقة انه يمكن دراسة ظاهرة تدين زيد من زاويتين مختلفتين تماما: الاولى، من زاوية علم الاجتماع، الذي لا ينظر الى "حقانية" تدين زيد، بل ينظر الى الجذور العلم واجتماعية (التاريخية والسلوكية) لتدينه، والآخر، من زاوية "حقانية"، وهي الزاوية التي نتساءل فيها: هل عقائد زيد صحيحة ام لا؟ وبالطبع يمكنني تقديم تفسير لظاهرة تهرب المفكرين الغربيين من التعرض لمسألة صحة العقائد او عدم صحتها:
لانهم لا يؤمنون باصالة الدين، فمن الطبيعي ان لا يهتموا بمسألة حقانية التدين! وهو موقف موجه وانحيازي في البحث العلمي، بينما يدعي الحياد دائما.
رابعا: هنا يمكننا القول: ان ما يسميه دوركهايم "علم الدين" هو تسامح (او مغالطة) واضح في استخدام الكلمات: فــ "دوركهايم" يبحث في علم التدين غير الحقاني فقط! وبديهي ان يكون التدين الحقاني خارجا عن دائرة بحثه. فهو لا يتناول الدين! اذن، ما هو الدين وما هو الحقيقي بالدين؟ لقد وجهت هذه الاسئلة الى العديد من اصحاب المذاهب والمناهج:
فقدم بعضهم الدين على انه عنصر ثقافي، وآخرون تعاملوا معه بشكل تفسيري (هرمانوتيك). اما ما ذهبنا اليه في كتاب "التدين والحداثة" والذي اسميناه بالمذهب الواقعي، فهو ان موضوع الدين هو حقيقة المبدأ والمعاد والصراط، وعلم الدين هو علم "حقاني" (محوريته الحقيقة) بهذا الموضوع.
وكلما كان المتدين على معرفة ادق بموضوع الدين يكون اكثر بصيرة في تدينه، وكلما كان اكثر التزاما بمعرفة الصراط في العمل، كان اكثر عملا، فالمبدأ والمعاد والصراط حقائق مستقلة عني وعنك وعن الآخرين وعن هذا الزمن والازمنة الاخرى!. وموضوع الدين في المذهب الحقاني (الواقعي) موضوعي تماما، كما ان المعرفة الدينية فيه محورها الحق تماما.
وعلى اساس هذا الرأي، فالاسلام بالنسبة لي انا الذي أومن به "صحيح" تماما، بينما يمكن ان يكون خطأ.
والمسيحية واليهودية ايضا فيها اجزاء صحيحة بينما يمكن ان تكون خطأ تماما! وعلم الدين مبني على اساس تقييم هذه "الصحة" و "الخطأ"، وليس على اساس الانقطاع الكامل عن الصحة والخطأ! والدين من الزاوية الحقانية والمعرفة الدينية الحقانية والتدين الحقاني ضالة البشر اليوم! وضالة علماء اليوم وفلاسفته، لانهم تصوروا حتى الآن شيئا آخر غير هذه المعرفة التي تدور على اساس "الحق"، بينما ذلك الشي ء لا يمكن عمله او الاجابة على شي ء اكثر مما اعطي له من قبل!
خامسا: لا تقتصر اهمية المباحث المذكورة على مسالة اسس علم الاجتماع الديني، او المباحث المعرفية (الابستمولوجية) الاخرى، بل هي مهمة جدا واساسية للفلسفة السياسية، وبخاصة مفهوم "المجتمع الديني" و"النظام الديني". لان النتيجة الطبيعية لافكار دوركهايم وفيبر هي ان النظام الاجتماعي المبني على الدين نظام غير عقلاني! في حين ان امكانية حقانية الدين تمكن مباشرة من امكانية البناء العقلاني للنظام الاجتماعي على اساس الدين، ولذلك فان النتيجة المذكورة غير مقبولة. وبعبارة اخرى، فان مباحثنا تدلل على: عقلانية النظام الاجتماعي المبني على الدين او لا عقلانيته (مثل اي عمل آخر مبني على الدين) ويرتبط بحقانية ذلك الدين، فلو ثبتت حقانية الدين، يصبح الابتناء العملي عليه عقلانيا تماما، ولذلك فكل نظام اجتماعي مبني عليه (مثل الحكومة) عقلاني تماما، وارى ان هذا النقد، يكشف عن خطأ فلسفي سياسي منظم ادى الى انحرافات وتبعات اجتماعية واسعة على امتداد القرن العشرين.
وبرايي ان الجوهر الاساسي لما بعد الحداثة يكمن في هذه النقطة، اي ان ما بعد الحداثة تذهب في اسسها العقلانية الى ما هو ابعد من مجرد العقل التقني!.
فعندما يذهب العقل الى ما هو ابعد من قشرة التقانة يضطر طبعا الى التوجه نحو الجذور. وهو ما يوجد اتجاها نحو الحقانية. فليس من العجب ان نبدأ القرن الحادي والعشرين باحياء هاجس "الحقانية" من جديد، لهذا السبب سيقدم الاسلام خدمات جليلة الى الحضارة الانسانية. ولن يستمر طويلا حتى يتضح ان حركة الانبعاث الاسلامي التي يسميها الغرب باطلاب الاصولية، انما هي حركة لاحياء الحق والمذهب الحقاني. وبالطبع فان تقارب حركة الانبعاث الاسلامي والاتجاه نحو ما بعد الحداثة يتبع عوامل وظروفا اخرى، لذلك فهي ليست ظاهرة بسيطة بالتالي.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية