مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

الموقف في ظل الدولة الشرعية والمرجعية القائدة
الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي


من حصائل الصراعات الفكرية بين حضارتنا الإسلامية والحضارة الغربية الوافدة، أن تطور أسلوب الدراسات النظرية الإسلامية، وتطور نمط البحوث العلمية في المراكز والجامعات الإسلامية، حيث اخذ يتجاوز الأطر التقليدية في الدرس الشرعي المقصور على دراسة الكتب المقررة حوزوياً، والدوران في فلكها توضيحاً وتحشية وشرحاً، إلى مس واقع حياة المسلمين الراهن، وتحسس مشكلاتهم الاجتماعية على اختلاف ألوانها، فكان أن امتزجت الفلسفة القديمة بالفلسفة الحديثة في خط مقارنة بينهما ناقدة ومنتجة، فقرأنا في مقدمة كتاب (فلسفتنا) للشهيد الصدر (قدست نفسه الزكية)، وكان أن طارح الفكرُ الاقتصادي الإسلامي الفكر الاقتصادي الرأسمالي والفكر الاقتصادي الاشتراكي، ومن أضخم ما مثّل هذا وخرج بنتيجة انتصار الفكر الاقتصادي الإسلامي كتاب (اقتصادنا) للشهيد الصدر أيضا.
وكان أن رأينا الفقيه المرجع الذي حرّمت عليه قيود الحوزة الكلاسيكية وضغوطها الدخيلة التطرق للسياسية حتى من خلال الكلمة الشفوية، لان رجل الدين ـ كما يقول التخدير الاستعماري ـ لا علاقة له بالسياسية، ولا تدخل له فيها، يحاضر في موضوع الحكومة الإسلامية، وتدون محاضراته وتنشر وتقرأ ويرجع إليها، وذلك ما كان في الكتاب الثائر (الحكومة الإسلامية) للإمام الخميني (طيب الله ثراه).
إن هذا التطور في مجال الفكر الديني طرح وفي قلب الساحات العلمية أكثر من قضية من قضايانا المعاصرة التي لم يقدر لها أن درست من قبل.
ولأنها أصبحت موضع حاجة ومما تعم به البلوى ـ كما يطلق عليها في لغة الفقه ـ يكون البحث فيها ودراستها دراسة وافية أمرا ضرورياً، وملحاً في ضرورته.
ومن هذه القضايا مسألة الدولة وموقف الفرد المسلم مجتهداً ومقلداً تجاه ما تصدره من أحكام دستورية وأنظمة أخرى تتفرع عنها.
وأيضا منها مسألة المرجعية وتحديد مفهومها تحديداً حياً يلتقي ومتطلبات حياة المسلمين المعاصرة بكل ما تطورت إليه وبكل ما حدث فيها من تغيرات جذرية وهامشية.
من هنا كنت قد طرحت هاتين المسألتين في أكثر من محاضرة عامة وأكثر من ندوة فكرية عامة.
ولأني رأيت مجلة «الفكر الجديد» قد تبنت عن طريق الأقلام الواعية التي أسهمت بالكتابة فيها هذا الطرح آثرت أن اطرح حصيلة الفكرة على صفحاتها آملاً أن تكون بداية جادة لبحث هذا الموضوع الهام الذي يمس حاضر الأمّة ومستقبلها.
وبدءاً لا أراني بحاجة إلى أن أوضح أن المراد بالدولة الحكومة الشرعية في رأي الفقه الإسلامي، وان المراد بالمرجعية الزعامة الدينية عند الشيعة الإمامية، لوضوح ذلك من قرائن وملابسات الموضوع.
تحرير المسألة:
ووفقاً لمنهج البحث الفقهي لابد من تحرير المسألة، أو تنقيح الموضع ـ كما يعبر عنه في لغة الفقهاء ـ وذلك لما يلقيه تحديد الموضع وتوضيح المقصود منه من أضواء كاشفة تساعد الباحث في وضع خطوات البحث، والسير الواعي في طريق الوصول إلى الحكم.
على أساس من هذا نقول: إن من الأحكام الشرعية ما تناط مسؤولية تشريعها وتطبيقها بالدولة، تقوم الدولة عن طريق السلطة التشريعية المؤلفة من مجلس أو هيئة الفقهاء بتقنين مواد هذه الأحكام دستوراً وأنظمة، ثم تقوم بتطبيقها عن طريق السلطة التنفيذية المؤلفة من الوزارات وفروعها.
ومنها الأحكام الأخرى الفردية التي تخص الإنسان المسلم بصفته الفردية لا باعتباره مواطناً وعضواً في مؤسسة الدولة، وهذه كأكثر العبادات، وغير قليل من المعاملات.
وهنا يطرح السؤال الذي يحرر المسألة بتحديد نقطة ومرتكز البحث، وهو: هل على المواطن في مثل هذه الحال إذا كان مجتهداً أن يعمل وفق اجتهاده حتى لو خالف اجتهاده حكماً من أحكام الدولة المشار إليها، أو يعمل بحكم الدولة باعتباره مواطناً لان أحكام الدولة تسري على كل مواطن وتنفذ في حق جميع المواطنين دون استثناء.
وكذلك إذا كان مقلداً واختلف رأي مرجعه في التقليد مع حكم الدولة، هل له أن يعمل وفق تقليده أو عليه الأخذ بحكم الدولة؟
هذا إذا كانت هناك دولة شرعية تتولى شؤون الأحكام العامة تشريعاً وتنفيذاً.
وإذا لم توجد دولة شرعية وكانت هناك مرجعية تقوم بدور القيادة العامة لكل أبناء الأُمّة الذين هم خارج حدود الدولة الشرعية.
فهل على الأفراد من مجتهدين ومقلدين الأخذ بحكم المرجعية في القضايا العامة حتى لو خالف اجتهادهم أو تقليدهم؟
هذا هو تحرير المسألة، وهو يتطلب منا منهجياً قبل الدخول في الخطوة التالية من خطوات البحث أن نوضح مجالاتها، وهي:
1ـ قد يعيش الإنسان المسلم في ظل دولة شرعية.
2ـ قد يعيش في ظل دولة غير شرعية.
3ـ وفي الحالة الثانية قد تكون هناك مرجعية قيادية، وقد لا تكون، أي إنّه يعيش في كنف فقهاء مفتين لا يتمتعون بوظيفة الزعامة الدينية لافتقادهم مؤهلاتها وشروطها.
وفي ضوئه يكون موضع السؤال المطروح هو فيما إذا كان الإنسان المسلم يعيش في ظل دولة شرعية، أو في ظل زعامة دينية.
ثم يتفرع على السؤال سؤال آخر يرتبط بتحرير المسألة أيضاً، وهو: إن الإنسان المسلم الذي يعيش خارج حدود الدولة الشرعية هل تشمله أحكام الدولة الشرعية؟
أ ـ في حالة وجود زعامة دينية خارج حدود الدولة.
ب ـ في حالة عدم وجود زعامة دينية.
ونجلّي الموضوع أكثر ببعض الأمثلة;
* لو أصدرت الدولة قراراً بمقاطعة شركة من الشركات الأجنبية، فهل على المسلمين الذين يقطنون خارج حدود الدولة الالتزام بهذا القرار؟
* لو تعرضت الدولة الشرعية لاعتداء عسكري من طرف محارب. فهل يجب على المسلمين الذين يقطنون خارج حدود الدولة المبادرة وإعلان النفير لمناصرتها عسكرياً والدفاع عنها؟
أم يكفي المناصرة من مواقع أخرى وذلك عن طريق الدعم المادي والإعلامي وبعبارة أخرى هل يجب الوقوف دائماً في الخط الأول للجهاد دفاعاً عن دولة الإسلام وان لم يكن الفرد المسلم يتمتع بالحقوق والامتيازات في حدود تلك الدولة ولم يساهم في صياغة النظام من خلال البيعة ونحوها.
أم يكفي الوقوف في خطوط خلفية أخرى وإسناد الدولة الشرعية في معركتها ضد أعدائها.
تاريخ المسألة:
لم يقدر لهذه المسألة وأمثالها إن بحثت بحثاً كافياً ووافياً يلم كل أطرافها ويشمل جميع فروعها.
اللهم إلا ما ذكر استطراداً أو بشكل مقتضب حول نفوذ حكم المجتهد على غير مقلديه من مجتهدين ومقلديهم.
ويرجع هذا إلى أن هذه المسألة لم تكن ـ سابقاً ـ مما تعم به البلوى.
وسبب كونها من المسائل غير المبتلى بها يعود إلى:
1ـ عدم وجود دولة شرعية بالمعنى الخاص، وعدم وضوح المرجعية لأن أمر تحديد وظائف المرجع كانت مرتبطة باجتهاده ورؤيته لواقع الحياة حوله.
2ـ الثقافة الغربية ودور الإعلام في طمس معالم أمثال هذه الأفكار والمفاهيم في ذهنيات أبناء المسلمين.
أما الآن فالوضع يختلف تماماً عما سلف، وذلك لوجود الدولة الشرعية، وتبلور مفهوم المرجعية إلى ما يتمش ومتطلبات الحياة المعاصرة في أذهان الفئات المثقفة والواعية بتأثير الصحوة الإسلامية المعاشة.
ومن هنا كان على البحث الفقهي أن يثيرها ويعالجها استدلالاً وفتوى، وعلى الدرس الفقهي أن يدرجها ضمن مواده العلمية ومقرراته الدراسية.
منظور المسألة
وأنا هنا لا أروم الإفتاء لأنه من شأن واختصاص المعنيين به والمسؤولين عنه.
وإنّما أحاول ـ ومحاولة متواضعة ـ أن أثير الحوار والنقاش في المسألة وحولها، ليكون هذا نقطة الانطلاق في محاولة الوصول إلى النتيجة.
والقضية لا تنتهي ـ فيما أرى ـ في فتوى يصدرها فقيه وفق ما يصوره المستفتي له من واقع، لأنها أوسع وأعمق من هذا، فهي تفتقر ـ وبكل إصرار ـ إلى دراسة علمية متأنية وشاملة.
وقد نفيد في بحثها من:
* مبدأ تقديم المصلحة العليا للإسلام والمصلحة العامة للمسلمين على المصلحة الخارجية.
هذا المبدأ المستفاد من مجموعة حوادث متفرقة هنا وهناك في التاريخ والفقه، وأعطت بتجميعها هذا المبدأ العام.
* مبدأ سيرة العقلاء.
ذلك أن تاريخ الأنظمة على مختلف مديات الحياة البشرية يعطي أن أحكام الدولة نافذة على الجميع، وان حكم الحاكم العادل الذي لم يجانب الصواب والعدل الاجتماعي جائز في حق الكل.
وعليه نقول:
1ـ في ظل وجود دولة شرعية لا نحتاج إلى مرجعية قيادية، وذلك لان الدولة تقوم بمهمة القيادة.
وان حكم الدولة نافذ على الجميع مجتهدين وغير مجتهدين.
وان هذا لا يمنع من وجود مراجع تقليد يرجع إليهم في الأحكام التي لا تتعارض وأحكام الدولة، كأكثر العبادات وغير قليل من المعاملات ـ كما ألمحت آنفاً.
2ـ خارج حدود الدولة الشرعية لابد من وجود مرجعية قيادية «زعامة دينية» تتمثل:
أ ـ أما في شخص مجتهد واحد يتمتع بمؤهلات القيادة، يتولى إصدار الفتاوى في الشؤون العامة، وتنفذ فتاواه في حق الآخرين مجتهدين وغير مجتهدين.
وفي غير الشؤون العامة يرجع إلى المجتهدين الآخرين الذين هم مراجع تقليد فقط أن كان لهم مقلدون.
ب ـ وأمّا في شخصية مؤسسة تتألف من أكثر من مجتهد وخبير ومستشار، تتولى إصدار الأحكام في الشؤون العامة ومتابعة قضايا المسلمين الفكرية والاجتماعية والسياسية.
وبهذا ـ إن تم علمياً ـ تتحقق للمسلمين، وبخاصة أتباع مدرسة أهل البيت (ع) منهم وحدتهم ومصلحتهم في الحق والحكم.
والله تعالى ولي التوفيق وهو الغاية.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية