مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

ولاية الفقه والفقيه لماذا...
حسن العالي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلي على محمد وآله عدد ما في علمك صلاة دائمة بدوام ملكك
لما كانت ظاهرة الغيبة الكبرى للقيادة الإلهية على الأرض تخلف فراغاً ظاهرياً في مرجع التشريع المجعول بالأصالة من الله تعالى، وتخلف جهلاً بالوظائف التشريعية عقيدة وفقهاً، فإن الحكمة الإلهية اقتضت أن تشرع وبقوة ولاية الفقه ومرجعية الفقهاء في الحلال والحرام.
ولما كانت الغيبة تمثل فراغاً في السلطة والأحكام الولائية والقضائية والمهمة التنفيذية، فإن اللطف الإلهي اقتضى أن يطرح ولاية الفقيه فيما يرتبط بحركة المتغيرات في جانب الاجتماع والسياسة... ولو قدر أن لا تطرح هذه الولاية بفرعيها وما يلزمها من آليات تشريعية من قبل المشرع تعالى فإن المحصل كما يقال في باب الشرعيات أن ينسد على المكلف باب العلم والقطع بالأمور وباب الظن المعتد به فيما من شأنه إصلاح واقع الحركة الإنسانية.. فمن خلال ولاية الفقه والفقيه تحدث الموازنة في أداء كل الوظائف وتكون هناك مرجعية تستوعب كل الحالات التي يحتاج إليها المكلف..
أقول: أتُرى، هل نتعقل حالة صحيحة للأمة في ظروف الغيبة تقطع فيها جميع القضايا والحوادث والإشكاليات بلا فقه ولا ولاية فقيه ؟!... وحتى تتضح أهمية ولاية الفقيه وحكومته، نشير إلى جملة من الأبحاث على نحو الاختصار..
البحث الأول: ويشتمل على مقدمتين:
الأولى: من الأمور المسلمة بين كل طبقات فقهاء الإمامية، أن الإمام الحجة (عليه السلام) قد نصّب الفقيه لمرجعية الحلال والحرام وبيان الأحكام الشرعية، وأنه من هذه الناحية حجة الإمام على الناس كما أن الإمام حجة الله تعالى عليهم، وأن أحكامه في حالة كونه جامعاً للشرائط مقررة وماضية ومجزية.. ولا يوجد خلاف أيضاً في أن للفقيه الجامع للشرائط أن يتسلم منصب القضاء والفصل في النزاعات والخصومات...
وهذه المسلمات المجمع عليها، مفيدة لنا جداً في طريق إثبات ولاية الفقيه.. فإن هناك ادعاء من قبل من لا فهم ولا مذاق له بروايات الشيعة ومطاوي كلمات علمائهم، يقول أن من لوازم الإيمان بالحجة والغيبة الكبرى، تحريم السعي لإقامة مشروع الحكومة الإسلامية!!
وهذه شبهة واضحة البطلان، لأن مرجعية فقهاء الشيعة التي أسس لها المعصوم عيه السلام لم تنقطع من زمان الصادق والباقر وانتهاءً بالغيبة الكبرى، والمرجعية الشيعية بحسب واقع ما تقوم به، تمثل مرافق الحكومة الحديثة بكل أجزائها ووزاراتها، غاية الأمر أنها حكومة غير مرسومة وغير معنونة.. وذلك لأنها تمارس (قوة القضاء) وهو ما يعادل وزارة العدل والشؤون الإسلامية في هذه الأعصار.
بل القول بوجوب إقامة القضاء معناه القول بوجوب إقامة ثلث جهاز الدولة والحكومة، لأن الدولة لها ثلاثة أجهزة رئيسية: منصب القضاء، والسلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية...
كما أن المرجعية الشيعية كانت ولازالت تمارس الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يساوي وزارة الدفاع والداخلية، بحسب الاصطلاح الحديث، ومن مهماتها أيضاً، السعي في مجال التبليغ والإرشاد الثقافي والديني، وهو تعبير آخر عن وزارة الثقافة والمعارف.. وللمرجعية الشيعية مصارف مالية، تستعين بها في توزيع الحقوق والأموال في الجهات المقررة شرعاً، وهي تلتقي مع مهمة (وزارة المالية والاقتصاد)، وهناك حوزات للعلم والمعرفة الدقيقة، وتهذيب النفوس، وهو ما يعادل وزارة التربية والتعليم...
الثانية: ثبوت القضاء والإفتاء دليل الولاية.. بعد أن بينا أعمال الفقيه والسلطات الثابتة له والتي لا خلاف فيها، وأنها تعادل الوزارات الحديثة، تتبين نقطة أساسية وهي أنه لا يمكن أن تكون للقضاء والإفتاء هوية كاملة النتيجة إلا أن يكون هناك قوة تنفيذية وقانونية، تحت سلطة المرجعية الدينية... ويقرر هذا المطلب المهم العارف الشيخ الجوادي بقوله أن هناك نتائج ثلاث، للقول بمنصب الإفتاء والقضاء مفادها...
1 ـ امتلاك المرجعية الدينية قوانين مدونة محترمة تدرس وتفهم...
2 ـ لابد من تطبيق تلك القوانين، لأنه دون التطبيق تختفي القيمة العملية، فلابد من قوى الأمن والسجون، لمراقبة حفظ عملية التطبيق..
3 ـ لأن القضاء والإفتاء يشملان حتى العلاقات الدولية، فلابد من وجود سفراء للمرجعية يحملون هوية الدولة ويدافعون عن مصالحها الخارجية..
ونتيجة المقدمتين / أن منصب الإفتاء وقوة القضاء تحتم القول بالولاية والحكومة لتكتمل الدولة الإسلامية من خلال ولاية الفقيه، ويكون الجمع بين القول بلزوم القضاء والإفتاء للمرجعية، والقول بحرمة الحكم والولاية غير منسجم ولا متوافق، بمعنى أننا إذا اعترفنا بمنصب الإفتاء والقضاء، وكونهما من شؤون ومسؤوليات المرجعية، فإن إنكار جعل وإرساء قواعد الحكومة الإسلامية على ذمتهم تهافت وتناقض بين، لأن الإفتاء والقضاء ثلاثة أرباع أجهزة الدولة كما هو واضح (بمعنى السلطة القضائية والسلطة التشريعية) وهما يحتاجان إلى جهاز آخر يكمل الدور ويحصل النتائج السابقة وما ذلك إلا جهاز السلطة التنفيذية...
البحث الثاني:
هناك شبهة مفادها وجود نهي عن إقامة الحكومة في عصر الغيبة، أو السعي والترتيب لمشروع الدولة الإسلامية، فما هو الجواب ؟! هذه إحدى شبهات أحمد الكاتب، حيث يعتقد أن للعلماء الأوائل الذين قامت على جهودهم وتبلورت حركة الفكر الشيعي موقفاً سلبياً من حركة الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وأنهم لا يجوزون إقامة مشروع الدولة الإسلامية، بل ويحجمون حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك إنما هو ثمرة الإيمان بالغيبة الكبرى، وقانون الانتظار للإمام المغيب!!وهذا يجرنا إلى التفريق بين مسائل قد خلط بينها من لا خبرة له بالفقه والمصطلحات الفقهية ورتب على ضوئها أن المراجع الشيعة لا يتبنون الإيجابية والحركية في الشأن السياسي والاجتماعي..
المسألة الأولى: إن قولهم بعدم جواز الجرح و الضرب في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هو تحديد للوظيفة الفردية للأشخاص، لا تحديد لوظائف الفقيه في دولته، فإن الأمر بالمعروف من قبل الفقيه، مسألة أخرى غير المسؤولية الفردية، وعدم جواز الممارسة الفردية لا يشكل دليلا على عدم جواز ممارسة العمل المؤسساتي والحكومي.
المسألة الثانية: إن مسألة استئذان الإمام والزعيم في بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يراد بها الزعيم المعصوم الأصل، وإنما يراد به كمصطلح فقهي الولي الفقيه صاحب الدولة وقائد المشروع السياسي... ونتيجة ذلك، أن للولي الفقيه إقامة الحدود، ونتائج محكمة القضاء وغير ذلك من المسؤوليات، وليس للفرد المسلم أن يمارس ذلك إلا تحت مظلة الفقيه العارف بالدين والزمان...
يقول أحد علمائنا المجتهدين، أن القول بجواز إقامة الحكم الإسلامي، هو رأي المشهور من علماء الإمامية المتقدمين، بل هناك قول بوجوب ذلك مع تمكن الفقيه، وأمنه الضرر ووجوب معاونة الناس له في ذلك..
وهناك مسألتان أخريتان..
الأولى: لا يجوز مبايعة غير المعصوم على أنه إمام، وهذا غير المسألة.
الثانية التي نحن بصددها وهي: إقامة الحكومة من قبل الولي الفقيه ومبايعة الناس له، لأن المسألة الأولى بصدد بيان أنه لا إمامة اعتقاديه لأحدٍ غير المعصوم، وهي قضية عقائدية خص بها الله رسوله والأئمة (عليهم السلام).. والمسألة موضع البحث بصدد جعل إقامة الحكومة في ذمة الولي الفقيه كنائب عن المعصوم، وكحالة طولية مرتكزة على المعصوم وداعية لولايته لا كحالة عرضية مستقلة..
ومن لم يفرق بين الأمرين وقع في الاشتباه وظن أن إقامة الدولة من قبل الولي الفقيه من قبيل ادعاء الولاية المعصومة الأصلية له... ويفرق الشيخ الجواد كذلك بين مسألتين اشتبه بينهما، عند دراسة الروايات التي تنهى عن القيام وإدعاء الإمامة.
المسألة الأولى: من يدعي الإمامة ويقوم قبل قيام الحجة (عليه السلام)، فمشروعه محكوم بالفشل والسقوط.. والتي تعد مسألة تختلف عن المسألة الثانية التي نبحث فيها، وهي: قيام الفقيه بالدولة والدعوة إلى إمامة الحجة (عليه السلام)، لا إلى نفسه، لأنه في المسألة الثانية، يكون المشروع ناجحاً بكل المقاييس، ومهما كانت نتيجته، حتى لو كانت الشهادة، فإن ذلك المشروع يطور من حالة التمهيد لدولة الحجة (عليه السلام)...
يقول العلامة الجوادي في كتابه (ولاية الفقاهة والعدالة: لو افترضنا وجود رواية تصرح بحتمية فشل كل حركة وثورة قبل خروج القائم، فإن مثل هذه الرواية تكون مرفوضة لتعارضها مع الخطوط العامة في القرآن وسنة المعصومين، لأن القرآن والروايات آمرة بالجهاد، وإقامة حدود الله وهي عامة لكل الأزمان.
البحث الثالث:
هل ورد مشروع ولاية الفقيه في الأدلة الشرعية والروايات الشريفة أم لا ؟! استدل الإمام الخميني وهو مبلور ولاية الفقيه نظرياً ومجسدها عملياً، بأدلة متعددة..
الأول: سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) التي اشتملت على المرجعية بكل فقراتها الدينية والسياسية والاجتماعية.
الثاني: استدل بمجموعة وافرة من الأحاديث والروايات منها: " أن المؤمنين الفقهاء حصون الأمة ".. يقول الإمام في كتابه (الحكومة) بالمعنى: "إذا اعتزل الفقيه الفتوى من غير إقامة الحدود و تنفيذ العقوبات، وعدم الدفاع عن الثغور، وعدم إلزام الأغنياء بالحقوق الشرعية، فأين هي (حصون الإسلام) وماذا بقي من البناء. لقد أوشك البناء كله على الخراب.. " ويذكر الإمام هناك روايات متعددة، تراجع في محلها سنداً ودلالة...
الثالث: أخرج مسألة ولاية الفقيه عن بحثها التقليدي في كتب الفقه إلى بحثها الأصلي في كتب العقائد، واستدل عليها، بأن الحكومة ضرورة يدركها العقل، وكذلك العقلاء عملياً. وإذا قام العقل على ضرورة شئ فإنه سيكون شرعياً، إذا لم يردع عنه...
الرابع: وهو ما يشير إليه العلامة الجوادي في كتابة (ولاية الفقاهة والعدالة): أن النصوص صريحة فيما يتعلق بقضاء الفقيه، وهي بنفسها أدلة لإثبات منصب الولاية للفقيه، ولا حاجة لدليل مستقل، لملازمة القضاء في كل زمان لإقامة الحكومة والولاية كما تبين سابقا... وفي اعتقادي / أن الأخذ بمشروع ولاية الفقيه العادل الجامع للشرائط فيه كل الخير للأمة الإسلامية، فهو المشروع الذي:
1 ـ يملأ الفراغ الحقيقي لغياب الحجة (عليه السلام) وعلى جميع المستويات..
2 ـ يصحح مفهوم الانتظار، ويعطي التقية مجالها الصحيح والسليم..
3 ـ يعطي الأمة حالة إسلامية سليمة لتتعاطى بوعي وبصيرة في أجواء وظروف ظاهرة الغيبة الكبرى ويقدم قوة إستراتيجية رصينة تقوم في وجه الغرب الكافر لترفع إذلال الأمة وتجمع ما تشتت من مواردها وطاقاتها، وإن الوضع السياسي العام الذي تعيشه اليوم بلاد الإسلام وتعاني فيه قصة الانصياع الكامل وراء الهيمنة الأمريكية لأقوى دليل على حاجة الأمة للقوة الفقهية والسياسية، ولا أعتقد أن أحدا قد طرح مشروعا واعدا فاعلا مستوعبا كما هو المشروع في ولاية الفقيه الذي نحن اليوم بحاجة أكيدة لتبنيه عقيدة وسلوكا ولديمومة البيعة المخلصة لخطه القرآني المضيء في سماء القلوب والعقول والدروب..

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية