بعضهم يتجاوز الاستفزاز ولا يكتفي به، ويتحول الى الارهاب الفكري
وغير الفكري في طرح القضايا الثقافية ذات المساس بالمجتمع. وهؤلاء،
حين تنظر اليهم من بعيد تجدهم أحرص الناس على الدعوة الي الحوار
العقلاني، ولكن حين تقترب وتتفحص مقولاتهم وتفككها جيداً تجدهم
ارهابيين من الطراز الأول، ذلك انهم يمارسون الارهاب الفكري بابشع
صورة، تارة بالرمي بالتجهيل، وتارة بالتضخيم والتهويل، وتارة ثالثة
بإقحام مناهج وسوق مصطلحات لا دخل لها بالموضوع، وربما لم يقف
كاتبها على محتواها بشكل تام!
موضوع الغزو الثقافي في الساحة العربية وفي بلاد المسلمين تعدى
دائرة الحوار الفاعل، ليدخل دائرة المزايدة المشار اليها. حصل ذلك
على مستوى المقولة نفسها فيما تدل عليه من مواقف ازاء ثقافة الغرب.
اذ لا يمكن الحديث عن الغزو الفكري والثقافي لبلاد المسلمين دون ان
يرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً برؤية معينة للغرب عامة ولثقافته وفكره
خاصة. بديهي نجانب الانصاف اذا وضعنا الجميع في دائرة واحدة دون
تمييز، ومع ذلك من المفيد ان نمر على الذين يمارسون ارهاب الفكر
بمقولات الفكر وبغيرها، ليحجبوا واقعاً يظل يفرض نفسه باستمرار.
بلاد المسلمين تعيش حال ضعف مشهود لا مجال لانكاره. وهذه الحال
ليست وليدة الساعة بل تتلابس في خلفيتها مجموعة من العوامل. وعلى
ارضية الضعف نشأ تيار الهجوم الفكري المضاد وتبلور في مصطلح الغزو
الثقافي او الغزو الفكري. ومع ذلك تجد من يتحرك ضد البداهة ويروم
ان يحجب الشمس بغربال.
قال بعضهم لا معني للغزو الثقافي او الفكري، ولا معني للافكار
المستوردة، لان الغزو مصطلح عسكري، والاستيراد مصطلح الاقتصادي!
(د. فؤاد زكريا والناقد على حرب مثالاً) عجيب امر هؤلاء وهم لا
يكفون في لغتهم الحديثة عن استخدام مصطلحات: حفريات المعرفة،
منتجات العقل، تقنيات، آليات، البيئة الفكرية، مع ان الحفريات تختص
بعلم الارض، والمنتجات مصطلح اقتصادي، والتقنيات والآليات من
مصطلحات علم الميكانيك، والبيئة من مصطلحات الجغرافيا؟
ويحمل بعضهم على الغزو الثقافي لكونه شعاراً آيديولوجيا يخدم
اغراضاً سياسية، ويغطي على واقع ضعيف.(صادق جلال العظم وكمال
عبداللطيف مثالاً).
ولا ندري اذا كان الاستخدام الخاطئ والتوظيف السياسي يغيران من
الواقع شيئاً ام لا؟ كل مصطلح مرشح للاستخدام الخاطئ وللتوظيف
السياسي ايضاً، ولكن ذلك لم ولن يمنع البشر من معالجة واقعهم، كما
ان التزوير وان كان يحجب الحقائق ويدلس على وعي الناس لزمن، الا
انه لا يقوي على تغيير الواقع.
ثم لماذا يستمرئ بعض المثقفين في الساحة حديثاً عن الهوية يتزايد
في المانيا، وآخر عن الغزو الاميركي للثقافة الفرنسية يتصاعد بعنف
في فرنسا، ويذعن باصالة اليابان وذاتيتها، ولكن يرفض على العالم
الاسلامي، وعلى المسلمين حقهم في ذلك؟
واذا كان ليس من هدفنا الآن، ان نمارس بحثاً مطولاً حول مقولة
الغزو الثقافي في الاتجاهات السائدة في الثقافة العربية وتيارات
الفكر في بلاد المسلمين الاخرى، فاننا نكتفي بعرض رؤية حول الموضوع
نعتقد انها تحمل مميزات خاصة سنستعرضها بعد قليل.
رؤية حول الغزو الثقافي
في ايران طرح آية الله السيد علي الخامنئي رؤية حول مقولة الغزو
الثقافي: وظل يتابع الموضوع على مدى سنوات، حتى تجمعت من حصيلة هذه
المتابعة نصوص شكلت كتاباً ضخماً حمل عنوان «الثقافة والغزو
الثقافي».
ما يميز رؤية السيد الخامنئي هو اللغة المباشرة والتوجه نحو
الواقع، لماذا؟ لان سماحته لا يمارس مسؤولية في هذا المضمار من
واقع كونه منظراً ثقافياً، بل من واقع كونه مسؤولاً.
ومع ذلك لم نجد هذ الرؤية غائبة عن مرتكزاتها الثقافية في معالجة
الغزو الثقافي والتمييز بين هذه المقولة ومقولة التفاعل أو التبادل
الثقافي. ولكي نعين القاريء على اختصار المسافة، فان أهم افكار هذه
الرؤية، هي ما يلي:
* نحن ايرانيون مسلمون، كلمات تتردد بكثرة في طي هذه النصوص. ولكن
لا تعني لا الاسلامية ولا ايرانية ان ننأى عن التعلّم من الآخر.
فالآخرون لهم أشياء وافكار جيدة، ولكن من الافضل تذويب ما يكتسب من
الآخرين في بنية الثقافة الذاتية.
* لا ضير من أخذ ثقافة الآخرين بشرط ان نملك حرية الاختيار،
والقدرة على الهضم فنأخذ ما ينفعنا. والذي نرفضه هو القسر والاجبار
في تلقي ثقافة الآخر. واذا كان الآخر عدواً، فلنا ان نتصور ماذا
يدفع لنا من ثقافته.
* الغزو الثقافي وان كان يأتي من جهة الغرب، فهو يتحرك بآليات
محلية وعلى ارضية ضعفنا في الداخل، بل لا معنى للغزو من دون ضعفنا،
فلضعفنا يتم الغزو؛ وضعفنا هو ارضية الغازي.
وطريق المواجهة لا يتمثل باقامة السدود وحدها ووضع المتاريس بل
بابداع الفكر وابتداع الحلول وتقويه البناء، اي يتجاوز الضعف.
* ليس لدينا حساسية من الغرب لكونه غرباً، بل نحن نعترف بتقدمه،
والاكثر من ذلك بوجود افكار ومنتجات مفيدة في ثقافته، وعلينا ان
نأخذها، بل نسعى اليها بجد. ولكن بشرط ان نملك حرية الاختيار، لا
ان يدفع لنا الآخر ما يشاء، كيف يشاء من ثقافة استهلاكية مسخ
تأتينا باسم الحداثة وغيرها.
كما لا يحسن ان نتعامل مع ثقافة الغرب وكأننا فاضون من اي شيء
تماماً كالطبل الأجوف او الورقة البيضاء!
* الانفتاح شرط في كسب المناعة، والتواصل مع ثقافات الشعوب فرصة
لإنماء الحياة الثقافية ولخصوبتها.
* يتركز هجوم النص على دعاة التغريب الاوائل في ايران، فاولئك مهما
كانت ظروفهم، ذهبوا الى تعميمها، ودعوا الى تغريب ايران بحسب نص
تعبير احدهم – السيد تقي زادة- ظاهراً وباطناً، في الثقافة والمعاش
واللباس! وهذا المسخ لا يرضاه اعتى دعاة العالمية!
ولو كان رواد التغريب الاوائل قد اكتفوا بالدعوة لكسب العلم الغربي
لما اعترض عليهم أحد.
* اخيراً، بين الغزو والتبادل او التفاعل الثقافي خطوط ينبغي ان
تكون واضحة فالغزو فرض وقسر والتبادل اختيار. والغزو يفرض على
الامة لاستئصال ثقافتها والتبادل ضرورة للتكامل. والغزو يكون في
حال الضعف، في حين يقوم التبادل على الندية والتكافؤ.
نصوص الرؤية
لم يكتب آية الله السيد الخامنئي هذه النصوص، بل هي مقتطعات من
خطابات وبيانات قيلت في مناسبات مختلفة، جمعناها وقمنا بترجمتها،
آملين ملاحظة الفرق بين النص المكتوب لغرض التأليف، وبين الكلام
المقول.
«نحن ايرانيون، فعلينا اذن ان نبحث عما يرتبط بنا، ونعثر عليه.
بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلم من محاسن الآخرين. فالانسان يتعلم
مما عند الآخرين من محاسن واشياء جيدة، ولكن من الافضل ان يذوّب ما
يكسبه، في ثقافته، ثم يستفيد منه.
لقد تحدثت مرة عن الثقافة وقلت لاضير من أخذ ثقافة الآخرين، ولكن
على نحو يتم فيه التمييز بين كيفيتين. ولتقريب المسألة نضرب لها
مثالاً من عمل جسم الانسان. فجسم الانسان يتعاطى مع العناصر
الغربية بكيفيتين؛ ففي الكيفية الاولى يتناول الانسان طعاماً يحوي
فيتامينات مختلفة.. يخلط الطعام باللعاب ويدفعه الى داخل المعدة،
وحينئذ تمتص المعدة ما تراه مفيداً للجسم مناسباً له، وتدفع الباقي
وتلفظه.
هذا هو التعاطي الايجابي. وبإزائه ثمة نوع آخر من التعاطي، اذ نأتي
بالانسان ونرسف يديه بالقيود، ثم نزرق في بدنه مادة لا يريدها ولا
يرغب بها. هذه الحالة غير الحالة الاولى في كيفيه تعاطي الجسم مع
العناصر الغريبة عليه.. وكان يمكن للمسألة ان تهون لو ان التزريق
في الحالة الثانية يتم من قبل طبيب عارف، وحريص على الإنسان. ولكن
ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يزرق في جسم خصمه؟
يلخص هذا المثال قصتنا مع الثقافة الغريبة (ثقافة الآخر) فنحن
اليوم، مع الاسف، نستهلك الثقافة الاجنبية، وهي تجد طريقها سالكاً
الى اجسامنا من دون ان يصدر عنا رد فعل. وهذا هو ما يصطلح عليه
بالغزو الثقافي.
يتخيل بعضهم انه هو المعني بالقضية. الا ان المسألة تأخذ بعداً
آخر، فالغزو الثقافي يأتينا من جهة معادية.. من جهة الغرب، وعلينا
ان نستيقظ ونعي المسألة.. فنحن لا يسعنا ان نقول للعدو لا تتعامل
معنا بعداوة وخصومة، لان العداوة من طبيعة العدو.
لذلك لا نملك –أنا وانتم – سوى ان نستيقظ وتلتزم جانب الحذر.
أجل، لو عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا ان نجذبه،
ونتعاطى معه كما يتعاطى الانسان السليم مع الغذاء؛ اذ هو يجذب
المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال مع – ثقافة الغرب – اذ علينا
ان نتعامل معها تعاملاً عضوياً للجسم الحي، نأخذ ما يفيدنا ونلفظ
ما لا ينفعنا.
في ضوء ذلك لا يصح لنا، أن نتعامل مع ثقافة الآخر تعامل الانسان
الخالي من اي شيء.. الفاقد لكل خلقية، كما لا يصح ان نتعامل معها
تعامل الانسان الحائر الثمل.
لا أدري ماذا دهانا حتى تزرق الثقافة الغربية بمثل هذا الشكل في
ابداننا، في حين نملك امكانية الاختيار؟ ما هو حاصل الآن؛ ان موج
الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال المذياع والتلفاز
وكتب الموضة والموديلات والمجلات، ومن خلال الموج الدعائي والصخب
الاعلامي.
اذا انفتح مجتمع ما على المعارف والمعلومات، فستزداد مناعته مقابل
العدو. واذا كان للمجتمع حساسية ازاء العلم، فسيبادر حين تتاح له
فرصة التواصل مع البلدان والمجتمعات الأخرى، لكسب العلم واخذه
منها.
لقد مارست القدرات الاستعمارية نشاطها في ايران منذ سنوات وعندما
جاء الحديث عن التبادل والتفاعل بين بلدنا والبلدان الاخرى رأينا
المسألة تأخذ مساراً معاكساً. فبدلاً من ان نعرض ثقافتنا العظمية
امام العالم ليتعلم منها الآخرون، ونستفيد نحن في المقابل من علوم
الآخرين، رأينا انفسنا – وهذا مجرد مثال- نعرض صناعاتنا اليدوية في
معارض الآخرين أو نمنحهم نفطنا لكي يديروا عجلة مصانعهم.. ونبقي
بالمقابل بلا حراك أو رد فعل ايجابي، بانتظار ان يهبوننا ثقافتهم
الفاسدة!
هذه هي خلاصة قصة طلائع دعاة ارتباط ايران ثقافياً مع الغرب.
فأولئك الرموز والرواد الاوائل، لم يدعوا مواطنيهم الايرانيين
ابداً الى كسب ما يستطيعون كسبه من العلم الغربي، ولو كانوا قد
دعوا الى ذلك لاستقبلنا دعوتهم.
ونحن الآن نعلنها صراحة، ان العالم شهد تقدماً في العلوم، وأبقانا
متخلفين قرنين او ثلاثة قرون عن ركبه.. علينا ان نلحق بالركب ونبلغ
التقدم.. علينا ان نستفيد من علومهم ونكسبها.
التعليم والتعلم هما أمران ضروريان.. وعلى كل واحد منا ان يتعلم..
وحين نعود الى الاسلام في الحديث المشهور «اطلب العلم ولو في
الصين» نجد انه لم يكن بلد ابعد من الصين عن وطن المسلمين يومئذ.
ومؤدى المثال، ان يكابد المسلم المشاق، ليكسب العلم ويتعلم. هكذا
علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين.. ونحن اليوم على
هذه العقيدة.. علينا ان نستفيد من جميع العلوم، ولكن شرط ان يكون
مبتغانا تعلم العلم ونيله، وليس كسب مفاسد الاخلاق.. التلوث
الاخلاقي.. الادمان.. الامراض الخطيرة المميتة كالطاعون الاميركي
المسمى بالايدز، وبقية ضروب المفاسد الاخلاقية.
يحصل احياناً أن يكون العلم بيد اعدائنا، فنذهب اليهم وننحني
أمامهم لكسبه.. ليس في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأواً من ان ينصرف عنه
الانسان، لعداوة مع من يستحوذ عليه، ولكن ما يعنينا في هذا المضمار
هو ان يخضع الانسان الى تأثير العدو، ويكون تبعاً له، وتحت سلطته،
وذلك في المسائل التي لا تنتسب الى العلم.. اي في السياسة والثقافة
وما شاكل ذلك. ان ما يراد للعالم الثالث، وما يخطط له، هو التبعية
الثقافية والسياسية.. لقد رتبوا الامور على نحو لا يتم فيه تبادل
العلم والتكنولوجيا.
ويمكن ان ندرج في هذا المضمار معضلة فرار العقول وهجرة الادمغة،
التي يعاني منها العالم المتخلف منذ عشرات السنين.. فهم يخطفون
افضل الطاقات والعقول التي تتحلى بها بلادنا، بل ولم يسمحوا - في
اطار ابقاء حالة التخلف وترسيخ التبعية- للطاقات المستعدة التي
تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، ان تعود للخدمة، الى بلادها.
ثم فارق بين الغزو الثقافي، وبين التفاعل او التبادل الثقافي..
التفاعل الثقافي يعبر عن ضرورة تحتاج اليها الشعوب. فليس ثمة شعب
من الشعوب يستطيع الاستغناء عن التعلم من معارف الشعوب الأخرى، بما
في ذلك الثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي.
ومسار التأريخ كان ابداً كاشفاً عن حالة التفاعل على هذه، وشاهداً
عليها باستمرار.
قادت العلاقة بين الشعوب، والتواصل فيما بينها، الى تفاعلها على
صعيد آداب العشرة.. الاخلاقيات العامة.. العلم.. شكل اللباس.. طراز
الحياة.. اللغة.. المعارف.. والدين.. وهذا الضرب من التفاعل يفوق
في أهميته عملية التبادل الاقتصادي وتبادل السلع.
لقد شهدنا طوال التأريخ أمثلة قاد فيها التفاعل (التبادل) الثقافي،
الى تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل في شرق آسيا على سبيل المثال؛
أي في شرق المنطقة الاسلامية، هو دخول الاسلام الى اندونيسيا
وماليزيا، وأجزاء مهمة من شبه القارة، عن طريق افراد قلائل (آحاد)
من ابناء الشعب الايراني. ولم يتم انتشار الاسلام هناك عن طريق
ممارسة المبلغين للدعوة.. فعن طريق حركة التّجار والسيّاح
الايرانيين تحوّل الشعب الاندونيسي الذي ربما يعد اكبر الشعوب
الاسلامية، الى الاسلام.
فالاسلام لم يصل الى تلك المنطقة للمرة الاولى، لاعن طريق الدعاة
والمبلغين الدينيين، ولاعن طريق السيف والحرب والقتال، بل كانت
الفضيلة لعملية التزاور والتبادل الثقافي.
لماذا نذهب بعيداً، ونحن نجد ان شعبنا تعلم اشياء كثيرة طوال
تأريخه من الأمم الأخرى.
ان حالة التفاعل والتبادل هذه باتت أمراً ضرورياً للعالم برمته،
لكي تبقي الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحياة
والتجدد.
هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي والمطلوب.
الهدف من التبادل الثقافي هو إثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو
التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف لاستئصال الثقافة الوطنية
واجتثاثها.
وفي مسار عملية التبادل الثقافي تأخذ الامة ما تراه لائقاً جيداً
من ثقافة الآخرين، وما تميل اليه.
افرضوا مثلاً، ان الشعب الايراني رأى في الشعوب الأوروبية انها
تتسم بصفات العناد (بمعنى الصبر والمجاهده والاصرار على انجاز
العمل) والتوثب وروح المغامرة، فلو انه اخذ هذه الصفات عنها، لكان
ذلك امراً حسناً.
يبادر الشعب اذن، في التبادل الثقافي الى النقاط الايجابية، وما
يقود الى التكامل والثراء في ثقافتة، فيتعلمه، تماماً كالانسان
الذي يصاب بالضعف في بدنه، فينكب على تناول الغذاء الجيد أو الدواء
المناسب لكي يتعافى وتعود له السلامة مجدداً.
اما في الغزو الثقافي، فان الأمة المستهدفة به، تغذى بإمور سلبية
وثقافة ضارة. على سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي، الغربي
لبلدنا، لم يصطحب الاوروبيون معهم قيماً ايجابية من قبيل روحية
احترام قيمه الوقت.. الشجاعة.. تحمل الاخطار في مواجهة الأمور..
وروحية التدقيق والمثابرة في البحث العلمي، ولم يريدوا لشعبنا ان
يتربى على هذه القيم ويتبعها، لكي لا يكون شعباً يقظاً يتحلى
بالمسؤولية في الانكباب على العمل، وبالمثابرة العلمية. كل الذي
جلبوه معهم الي هذه البلاد هو التحلل والاباحية الجنسية.
اذا شئنا تشبيه الأمة التي تتلقى ثقافة الآخر عبر التبادل الثقافي
بمثال من الحياة الانسانية، فيمكن ان نستفيد من حال الانسان الذي
ينزل الي السوق وينتخب ما يشاء من الطعام والدواء. اما في الغزو
الثقافي فإن الشعب المستهدف كالمريض الذي لا يقوى على الحراك.
فيأتيه العدو منتهزاً الفرصة، ويزرقه بدواء، وحينئذ نعرف طبيعة
الدواء الذي يزرقه العدو في جسم خصمه؟
الفرق واضح بين الحالين.. بين ان تنتخب انت الدواء او الغذاء
المناسب لحاجة بدنك، وبين ان يختار لك عدوك.
وعليه، يكون التبادل الثقافي، مبادرة تنطلق من جانبنا، أما الغزو
فهو مبادرة يمسك العدو بزمامها ويمارس عبرها، الهجوم ضدنا، لكي
يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي إيجابياً، أما
الغزو فهو ممارسة سلبية. ومن جهة أخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي
في زمن قوة الأمة وقدرتها وامتلائها، أما الغزو فيكون في زمن ضعف
الأمة وهزالها.
الاستفادة من ثقافة الآخرين، أمر يبعث على التكامل. ولكن ثمة فرق
بين حال يمتلك فيها الانسان حرية انتخاب الطعام او الدواء الذي
يلائم جسمه وصحته، عن وعي ومعرفة وصحو وتنبه، من بين مئات الاطعمة
والادوية، وبين ان يجبر على تناول طعام أو دواء يكون بضرره.
لنقرض ان احدنا بحاجه الي فيتامين (C) فحينئذ يركز جهده بحثاً عنه،
ثم يتناوله على قدر حاجه جسمه له، وهذا فعل إيجابي، لا ضير فيه،
حتى لو كان من منتجات الاجانب وصناعتهم.
وثمة الى جوار هذه الحالة، حالة ثانية يسقط فيها الانسان مغشياً
عليه، فيأتي احدهم ويزرق جسمه بدواء ما.. لا نعرف طبيعة هذا
الدواء.. ولا مقداره وكميته.. وفيما اذا كان مخدراً ضاراً أوسماً
زعافاً.. نافعاً او مفيداً، في مثل هذه الحال يعدم الاختيار، ولا
يكون ثمة معنى للانتخاب.
هذه امور يجب ان نتنبه اليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي
البائد، هو ممارسة من هذا القبيل، حيث كان هذا الشعب يغذي بثقافة
الأجانب. بمعنى ان اخذ ثقافة الآخر، لم يكن في الماضي بهدف تحقيق
التكامل، بل بهدف إغراق الشعب بمستهلكات الثقافة الاجنبية التي لا
قيمة لها.
إضافة الى ان المسألة لم تكن تستند الى الاختيار، ولو كانت تقوم
على حرية الانتخاب لكان الأمر سليماً.
واذا شئنا الانصاف، فان ثقافة الغرب الآن تنطوي على عناصر ايجابية
مفيدة، وهي مصيرية بالنسبة الينا.. علينا ان نجذبها ونتعلمها..
الاشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة.. واذا لم يكن ثمة وجود لهذه
الاشياء النافعة لم يكن الغرب يصل الى ما وصل اليه اليوم.
فالفساد الواسع الذي يضرب المحيط الغربي بجرانه، كان يفترض ان يأتي
على الغرب ويستأصل وجوده من الجذور، بيد ان سبب بقاء كيانه
واستمراره، يعود الى وجود عناصر، هي حقاً عناصر متينة في كيانهم،
من قبيل كون انسانهم انساناً منظماً.. مثابراً.. كثير العمل.. لا
يتعب.
لذلك كله يجب علينا ان نأخذ العناصر الايجابية في ثقافتهم ونستفيد
منها.
حين نعود الى اولئك الذين فتحوا أبواب البلاد طوال السنوات
المتمادية. امام الثقافة الغربية، لا يصح ان نقول (اعتذاراً عنهم)
انهم لا يكونوا على علم بالثقافة الوافدة، ولم يدركوا الموقف؛
وانهم أخذوا بالأمر الواقع، واضطروا هذا الضرب من الثقافة
المستوردة التي دخلت الى ايران. أبداً، بل اقبلوا عليها لسبب كونها
ثقافة اجنبية، وهم من عباد الاجنبي ومحبيه.. يستشعرون النقص من
ذواتهم، لذلك فتحوا ابواب البلاد، وأمسى مثلهم في ذلك – في التنصل
من ذواتهم والانسلاخ عنها والميل الى عبادة الاجنبي، الغربي
تحديداً – مثل الطفل الجاهل الذي لا يقيم وزناً لقيم ابيه، وانما
تدفعه الجهالة للتماهي والارتباط بشخص بعيد والميل اليه، رغم انه
اقل من ابيه.
ثمة فرق بين العلم والتكنولوجيا وتبعاتهما، وبين الثقافة. فهما
مقولتان منفصلتان، وان كان العلم يعد فرعاً من الثقافة. فالثقافة
بمعناها الخاص، بالنسبة الى أمة من الأمم هي عبارة عن الافكار
والمعتقدات والسنن والآداب، والذهنية العامة، والذخائر الفكرية
والعقلية لتلك الأمة. ومن هذه الجهة بالذات لسنا فقط غير متأخرين
عن ركب العالم المتقدم علمياً وتكنولوجيا، بل نحن متفوقون عليهم،
في الكثير من هذه الجهات التي ترتبط بالمعني العام للثقافة.
بديهي لا نريد ان ننساق وراء الاغراق والمبالغة، ولا أن نسقط في
هوة الاحكام المطلقة، فالاجانب والاوروبيون بالذات متقدمون علينا
في بعض فروع الثقافة.