مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

طاعة الولي
الشيخ نبيل قاووق


الحجّ تثبيت للولاية الإلهية:
الوفادة إلى بيت الله، وتمثُّل سفر الآخرة بأعمال الحج، تهيّىء القلب وتعدّ الروح لتجديد الميثاق مع الله بالعبودية وخلوص الطاعة، حيث تتجلّى روح تلك الأعمال في توحيد الله إيماناً وعبادة وطاعة، ونفياً للشرك وطاعة الشيطان.
قال الله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً}.
وفي آية أخرى: {أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً}.
فالبيت الحرام أسس على نفي الشرك، كل الشرك من الأصنام والأوثان والأرباب والطواغيت وكل من كان على شاكلة الأصنام التي تعبد.
والقاصد لبيت الله، يجد مخرجاً وملاذاً مما كان فيه من انغماس في شأن الدنيا وهوى النفس ومن كل شائبةِ طاعةٍ وولاءٍ لغير الله، {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. فتأخذ أعمال الحج بالمؤمنين للانعتاق والتحرر من هيمنة طواغيت العصر، وعبودية أئمة الكفر والمستكبرين في الأرض، لتكون الطاعة والولاء لله وحده {إن الحكم إلا لله}.
آية الطاعة للولي بلسان إسماعيل:
عندما يقول العبد {لبيك}، يريد إجابة النداء الإلهي بالاستعداد للطاعة، لا يمكنه إلا أن يستحضر موقف إسماعيل الغلام الحليم.
فهل هو مستعد لأن يتخذ موقفاً كإسماعيل؟
إسماعيل ما إن سمع من وليّ الأمر رؤياه حتى سارع ممتثلاً ملبياً مستعداً للذبح...
عندما تمتحن السرائر، ويرتجف القلب قبل أن يتمكن اللسان من أن يقول: "لبّيك اللهم لبّيك".
ذلك أنه في تلك الواقعة التي خلّدها الله تعالى، أدّى إسماعيل واجب الطاعة والتسليم لأمر الله، بموقف فيه من السمو والعظمة ما جعله عبرة تتمثلها الأجيال، ودرساً بليغاً وسراً عميقاً من دروس وأسرار الحج الإبراهيمي.
إبراهيم هو الأب المشفق على ولده إسماعيل، وهو النبي وولي الأمر الذي فرض الله طاعته... يرى في المنام أنه يذبح ابنه! الولد الذي تحمل مشاق الهجرة والغربة والعطش والأعز على قلب أبيه {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}. فيقدم إسماعيل نموذجاً في خالص الإيمان والتسليم المطلق لأمر الله وأمر وليه. {افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
ورُوِي عن تلك الواقعة أن إسماعيل قال لإبراهيم يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب، واكْفُف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيء فتراه أمي، واشحذ شفرتك وأسرع من السكين على حلقي... فقال له إبراهيم: نِعم العون أنت على أمر الله.
فعلّم الأجيال كيف يكون الامتثال لأمر ولي الله، لدرجة أن يقدم نفسه للذبح إيماناً وتسليماً بأن ما ينطق به إبراهيم من أحكام وأوامر ونواه لا ينطق به عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى، وأن أمره أمر الله ونهيه نهي من الله. وبمقدار ما يعرف العبد ربه يطيع وليه، ويسلم له، والمؤمنون في أدائهم لمناسك الحج يتمثلون موقف إبراهيم، فيمتحن الله قلوبهم بالإخلاص، والتسليم لأمر الله إلى حد ذبح أعز الأولاد، ويتمثلون موقف إسماعيل، الذي كان الولاء والطاعة لإمام زمانه أولى به من نفسه.
ذلك هو التمحض بالعبودية، قد تجسد بالمشاهدة والعيان، آية في التوحيد ومعلماً في الدين الحنيف.
الرابط الوثيق بين الحج والولاية
إن في إدراك مقاصد وأسرار الحج، الوصول إلى طاعة ولي الأمر الذي فرض الله طاعته. فالقلب الذي ثبت فيه توحيد الله، وتجرد عن كل ما سوى الله وسلم أمره لله، يدخل في ساحة طاعة أوليائه، وكلما ارتقى في توحيده لله، ارتقى مثلها في درجات الطاعة.
فإن توحيد الله لا يكتمل ولا يتم إلا بالولاية، وهذا ما بيّنه الإمام الرضا عليه السلام بقوله لأهل نيسابور: "كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي"، وبعد هنيهة التفت ليسترعي انتباه الناس، وأضاف "بشروطها، وأنا من شروطها" (عيون أخبار الرضا، ج2، ص135).
ويمكن الإشارة هنا إلى واقعة غدير خمّ حيث بلّغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالوحي الذي جاءه بولاية أمير المؤمنين عليه السلام بعدما أتموا أعمال الحج، وقبل أن يتفرقوا إلى أوطانهم.
وبذلك يتضح أنه كما لا حج بلا توحيد، فإنه لا توحيد بلا ولاية.
اختبار الناس بالولاية
لطالما تردد سؤال عن مغزى اختبار الناس من الأولين والآخرين بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وقد جعلها الله بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً.
وإذ يشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الاختبار يقول: "لكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق لكتبه والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته.." (خ192، نهج البلاغة).
وقد بيّن الإمام الباقر عليه السلام ذلك بقوله: "إنّما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم" (وسائل الشيعة، ج 10، ص 252).
ولعلّ من أبلغ ما عبّر عن مدى الرابط القوي بين الحج والولاية ما ورد عن أبي جعفر عليه السلام بقوله: "تمام الحج لقاء الإمام" (الكافي، ج 4، ص 549). ومثله عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل {ثم ليقضوا تفثهم}.
بالولاية تقبل الأعمال:
إن التأمل في المناسك التي تتوافق وسفر الآخرة والاستعداد للموت والقبر والبعث والقيامة والحساب، تضع الإنسان أمام حقيقة الحاجة الملحة في سيره إلى الآخرة من الادلاء على الطريق، وهم الأئمة الطاهرون عليهم السلام الذين يصفهم الإمام الرضا عليه السلام بقوله: "الادلاء على الله... الذين من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله ومن عرفهم فقد عرف الله ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، ومن تخلّى منهم فقد تخلّى من الله عزّ وجلّ" (الزيارة الجامعة).
بل قد ورد في النصوص أن قبول أعمال العباد متوقف على ولايتهم وطاعتهم عليهم السلام.
فعن الصادق عليه السلام: "نحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا".
وعن الحسين عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله عز وجل وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا يشفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا" (الهيثمي في المجمع، ج 9، ص 172).
وفي دعاء الندبة: "فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك". وفي الزيارة الجامعة: "وبموالاتكم تُقبل الطاعة المفترضة".
منعة الأمة بطاعة الولي الفقيه:
إن في استعادة المؤمنين في بيت الله الحرام لوقفة وأعمال الأنبياء والأوصياء في تلك البقعة المقدسة، دعوةً لهم لتجديد العهد والميثاق مع الله بصدق الولاية والالتزام بالطاعة، {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
وما أحوج الأمة إلى أن تلتزم بطاعة قائدها وولي أمرها، وبغير ذلك تبقى أسيرة الضياع وسيطرة الطواغيت وهيمنة الأعداء...
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله الأمر فإنه نظام الإسلام" (الأمالي 14، المجلس الثاني، ج 2).
وهذا ما جسدته الأمة في إيران، حيث صدقت ولاءها لنائب الإمام رحمه الله فقادها إلى شاطئ النصر وأسس الدولة الإسلامية، وأسقط أعظم امبراطورية في القرن العشرين، المدعومة من أمريكا، أعتى قوة عسكرية في العالم، وحقق بذلك النصر العظيم الذي هزّ أركان الدنيا.
وليس ذلك إلا لأن التزام الأمّة بطاعة الإمام الخميني رحمه الله كان امتداداً لطاعة الله تبارك وتعالى، فكان الله معها ناصراً ومعيناً.
وكان الإمام الخميني رحمه الله يؤكّد دوماً أنه طالما التزم الناس بطاعة ولاية الفقيه فإن البلد في مِنعة وأمان من كل خطر.
وإن الحديث عن شواهد من مسيرة الإمام الخميني والتزام الشعب بطاعته هو طلب الجزء من الكل لأنه في الواقع كانت كل مواقف الإمام الخميني التي اقترنت بطاعة الشعب، هي عبارة عن شاهد مستمر ومتواصل.
آيات الطاعة في مسيرة المقاومة الإسلامية:
إن الوقوف عند دور طاعة الولي الفقيه في حركة المقاومة الإسلامية هي وقوف عند الروح التي كانت تهب الحياة والحركة للمقاومة وتوفر لها القوة والاطمئنان.
ولكي نضيء وبوضوح على رابط العلاقة هذا، فلا بد من الإشارة والتأكيد على أن هذه المقاومة عندما انطلقت، إنّما إنطلقت على أساس الطاعة والتكليف.
فالولي الفقيه المتمثّل بالإمام الخميني رحمه الله هو الذي أعطى إشارة البدء وحرّك مسارها وحدّد خطواتها، ومن بعده تصدى السيد القائد الخامنئي دام ظله، فواكبها وقادها بالشجاعة والحكمة ولا يزال.
ولولا الطاعة الصادقة، لكانت المقاومة عرضة لكثير من الأخطار، وهي المسيرة التي واجهتها العوائق والتهديدات منذ انطلاقتها، بل من الأجدر القول، أنه لولا الولاية والطاعة لما تشكّلت هذه المسيرة ولما نالت قدسيتها ولا تجمّع المجاهدون ولا بلغت ضفاف النصر.
إن الطاعة للولي هي أصل في الانتصار وحفظ الانتصار، الذي أذلّ إسرائيل ومن ورائها أمريكا، وأوجب عزّ الأمّة ومجدها.
هذه الطاعة لقائد المقاومة، وقائد الأمّة كانت تتّصل بطاعة أهل البيت عليهم السلام، فكان لها التأييد والتسديد ما أنجاها من الشدائد وأوجد لها الفرج من حيث لا تحتسب. هذه الطاعة هي التي كانت تدفع بالمجاهدين للثبات واقتحام مواقع العدو، وحصونه غير عابئين بالقتل وهم ينتظرونه في كل لحظة، حتى بلغت الطاعة أنها كانت تحرك الاستشهاديين بشوق للشهادة مجسدين صدق الولاء وعزّ العبودية لله تبارك وتعالى.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية