مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

دور الجماهير في فكر الإمام الخميني (قدس سره)
الشيخ حسن علي التريكي


البعد الجماهيري (الاعتماد على دعم الجماهير) يعتبر واحدا من أهم العوامل في انتصار الحركات الإصلاحية واستمراريتها، وإنجاح أهدافها. وأي حركة تغفل هذا البعد أو تتجاهله، فإنها حتى وإن نجحت في الوصول إلى السلطة بقوة النار والحديد، فإنها لن تنجح في الاستمرار والبقاء.
وقد أخذت الحركات الإصلاحية عبر التاريخ هذا البعد بعين الاعتبار وكانت تراهن عليه وتعتمد عليه، وحتى الشرائع السماوية أكدت على أهمية هذا البعد ودوره في دعم الأنبياء والرسل في إنجاح رسالاتهم ودعواتهم.
وفي مقابل ذلك كان الظالمون في كل زمان ومكان يحاولون الفصل بين الجماهير والقيادات الرسالية الإصلاحية، وذلك بإحدى طريقتين:
الأولى: محاولة الظالمين تشكيك الجماهير بمصداقية تلك القيادات الرسالية حتى يثبطوها عن نصرتهم.
مع صالح (صلى الله عليه وآله وسلم):{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الأعراف/75 _ 76).
ومع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ}(سبأ/7 _ 8).
الثانية: محاولة الظالمين تشكيك القيادة بأهلية الجماهير وقدرتها على النصرة.
مع نوح (عليه السلام):{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ}(الشعراء/111 _ 116).
كذلك مع نوح (عليه السلام):{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ}(هود/27 _ 31).
إدراك أهمية البعد الجماهيري:
ولكن القيادات الرسالية الإصلاحية كانت تدرك أهمية البعد الجماهيري في حركتهم ودعوتهم، لذلك لم تخضع لكافة أشكال الضغوطات، بل كانت تراهن وتلتحم بالجماهير، وهو ما رأيناه في الآيات السابقة
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}(الشعراء/112 _ 114).
{وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}(هود/29 _ 30).
فالجماهير كانت غاية ووسيلة في حركات الأنبياء والمصلحين عبر الزمن، ولذلك أكد القرآن الكريم على أهمية الاهتمام بالجماهير ودورهم في تحقيق أهداف الرسالات، وبين أن الأنبياء كانوا لا يفرطون بتلك الجماهير المؤمنة:
{وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}(الأنعام/52 _ 53).
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}(الأنفال/62 _ 64).
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }(آل عمران/159).
الإمام الخميني (قدس سره) والبعد الجماهيري:
وهذا ما جسده الإمام الخميني الراحل في مسيرته الجهادية الإصلاحية حيث كان البعد الجماهيري بعدا حاضرا في كل حركته، وكانت الجماهير المؤمنة من أهم العوامل في الانتصار الكبير الذي حققه وكانت نتيجته إقامة الدولة الإسلامية المباركة في إيران الإسلام.
فقد راهن الإمام الراحل(قدس سره) على الجماهير من أول لحظة لانطلاق حركته الإصلاحية، واستمر على هذا الرهان حتى آخر لحظة. وكان يعيش مع تلك الجماهير آلامها وآمالها لحظة بلحظة مما وثق عرى التواصل والالتحام بينه وبينها، ولذلك كان للإمام الراحل ذلك التأثير الكبير على الجماهير المستضعفة في كل مكان وفي جميع المستويات المحلية والإسلامية والعالمية.
وقد تمثل ذلك الاهتمام والاعتناء بالجماهير عند الإمام على مختلف المستويات والصعد من خلال الأمور التالية:
فعلى المستوى المحلي تمثل اهتمام الإمام الراحل (قدس سره) بالجماهير بالمواقف المواسية والمتلاحمة مع جماهير الشعب الإيراني في كل مراحل جهاده، بخطاباته لأمته واهتمامه بأسر الشهداء والمجروحين والمستضعفين والمحرومين.
وقد ظهرت نتائج ذلك الاهتمام من خلال استجابة الجماهير المؤمنة لذلك الاهتمام من خلال ذلك الاستقبال العظيم حين عودته لإيران بعد انتصار الثورة، وذلك التوديع الأعظم حين ارتحاله عن هذه الدنيا آمنا مطمئنا أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
وعلى المستوى الإسلامي تمثل اهتمام الإمام الراحل بالجماهير الإسلامية من خلال خطابات الإمام الموجهة للشعوب الإسلامية في موسم الحج والمناسبات الإسلامية المختلفة، ومن خلال الدعوة لأسبوع الوحدة الإسلامية ويوم القدس العالمي وغيرها من المناسبات الإسلامية.
وقد ظهرت نتائج ذلك الاهتمام من خلال تأثر الكثير من الحركات الإسلامية ذلك التأثر الكبير والواضح بحركة الإمام الراحل الجهادية الإصلاحية التي أعادة الروح والأمل لتلك الحركات الإسلامية بإمكانية تحقيق النصر في نهاية المطاف، وانتعاش الروح الجهادية في كل بقاع العالم الإسلامي وليس أدل على ذلك مما حدث في جنوب لبنان وفلسطين السليبة.
وعلى المستوى العالمي تمثل ذلك الاهتمام بخطابات الإمام الراحل لشعوب العالم حول أهمية تطبيق العدالة ونبذ الظلم ومن خلال الرسائل التي كان يوجهها لشعوب العالم بمناسبات مثل أعياد رأس السنة الميلادية والتهنئة بميلاد السيد المسيح(عليه السلام).
وقد ظهرت نتائج ذلك الاهتمام من خلال نظرة تلك الشعوب لشخص الإمام الراحل نظرة إكبار وإعجاب للقيادة الطاهرة الواعية المخلصة لأمتها والتي جسدت بحركتها حركة الأنبياء والصالحين في وقت كانت فيه القيادات الأخرى ملطخة أياديها بدماء شعوبها وتقوم بشتى صور القمع والاستبداد والطغيان، وتعيش في شتى صور الفساد الأخلاقي والمادي وغيرها.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية