مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

حكومة الفقيه وغير الفقيه
الشيخ عيسى أحمد القاسم


قبس من خطبة الجمعة لسماحة الشيخ عيسى أحمد القاسم‏‏
الحُكْمُ هو منع الغير من التصرف المخالف لإرادة الشخص أو الجهة الآمرة، وهو الضبط والسيطرة وفرض الأمر والقرار على الآخرين.
والحكم دائماً يقوم على القوّة، إلّا أن القوّة مرّة تكون متبوعة بالتشريع، ومرّة تكون تابعة للتشريع. هناك حكمٌ قائم على قوّة التشريع أولاً ثمّ على القوّة الخارجية، وحكمٌ آخر يقوم على القوّة الخارجية أولاً ثمّ على قوّة التشريع.
السيطرة بالسيف تُعطي قوّة في الخارج، قوّة المال وقوّة الجند، وقوة السجون، وقوّة الشرطة تُمكِّن لحكومة فرد أو جماعة، ثم يأتي التشريع ليُسند هذه القوة التشريعية، ويكون قوةً أخرى معاضدة لها. هذا لون من الحكم.
ولونٌ آخر من الحكم يقوم أولاً على التشريع كما في حال الديمقراطيات، وكما في حال الحكم الإلهي.
الحكم الإسلامي يقوم على قوّة التشريع أولاً، وأن قوة التشريع، والتسليم لهذا التشريع من الآخرين يسمح ببناء قوة خارجية داعمة لقوة التشريع.
فالمنطلق مرّة يكون منطلقا تشريعيا، ومرة يكون منطلقا آخر من خلال القوة الخارجية، وقد يكون من لغة الغاب، والقوّة المتحصّلة عن الظّلم والانقضاض على الآخر من غير حساب للقيم الأساسية.
ثمّ إنه لا حكومة بلا في الحكم، ولا معنى لأن تكون حكومة ولا حقّ لها في الحكم، ولا السيطرة أساساً، وأن يُساوي أمرها أمر الآخرين، وأن تكون قدرتها على التصرّف فيما يتّصل بالشأن العام، بالثروة العامة، وبالوضع الأمني العام، وضع الحرب والسلم، قدرةً مشلولة تماماً، وغير معترف بها نهائياً عند المحكومين. فلا حاكم بلا حاكمية، ولا حكومة بلا حقٍّ في الحكم.
أما مساحة الحكم فهي: الشأن العام بما يشتمل عليه من حقوق وواجبات، وما يتطلّبه من حفاظ على هوية المجتمع والأمة، وما يتطلّبه من تنمية مستدامَة صالحة للإنسان وأوضاعه الكريمة ومنجزاته النافعة، وثروته المادية والمعنوية التي تتمثّل فيها قوة المجتمع أو الأمة، وتنبثق منها عزتهما وكرامتهما وسعادتهما.
ما هي الممارسة الحكومية؟
الممارسة الحكومية تتمثل في تطبيق أحكام الشأن العام المأخوذة من الدستور والقانون الوضعي أو الشرعي على موضوعاتها بعد تشخيص هذه الموضوعات، فالحكم لا بد أن يتحدّد عند الحاكم، وهذا الحكم إمّا أن يكون مصدره الشريعة وإما أن يكون مصدره مصدراً آخر من التشريعات الوضعية.
قد يختلف الخبراء؛ خبراء الدستور، وخبراء القانون مع الحاكم في معرفة الحكم، في تحديد الحكم، فأيّ رأي محكّم هنا؟ رأي الحاكم أو رأي المحكومين؟
حين يختلف خبراء الدستور على فهمٍ معيّن بغضّ النظر عن كون الحاكم عادلاً أو ظالماً، وأن ادّعاءه هذا الفهم المعيّن ادّعاءٌ يقوم على الفهم الصحيح وعلى الموضوعية والإخلاص، أم كان هذا الادّعاء ادّعاءاً فارغاً وله منطلقاته الشخصية الأنانية الأخرى، فإن حكومته تقتضي أن يكون المأخوذ به في مجرى العمل هو فهمه لا فهمٌ آخر.
الحاكم له مستشارون، وله خبراء، وقد يختلفون معه، ولو كان هو نفسه خبيرا دستورياً، فهل عليه أن يتنازل عن رأيه ويأخذ برأي الآخرين في الفهم، أو أنه له أن يُحكِّم رأيه؟
واضحٌ جدّاً من خلال منصب الحاكمية أن لو اختلف الخبراء مع الحاكم الذي هو خبير دستوري أيضاً في الفهم الدستوري فإن المُحكّم سيكون هو فهمه الدستوري، وكذلك لو لم يكن خبيرا دستوريا، وكان له خبراء دستوريون فإن حاكميته وبغض النظر عن ظلمه أو عدله ستعطيه أن يُحدّد الرأي من بين الرأيين المختلف عليهما بين الخبراء الدستوريين أو القانونيين.
الحاكم حين يكون فقيهاً، وحكمه على أساس الشريعة، ويختلف رأي الفقيه الآخر معه، أو حين يختلف الفقهاء على الرأي الفقهي بين فريقين، ويكون هذا الفقيه الحاكم من أحد الفريقين بأيّ رأي سيأخذ؟ بأيّ رأي يصحّ أن يتعبّد؟ لا بد أن يكون أخذه برأيه، ولن يعوّل على الرأي الآخر في الحكم.
فهذه المسألة الأولى؛ مسألة تحديد ما هو الحكم، تحمّل فهم معيّن للحكم والبناء عليه، البناء على الحكم في فهم معيّن، إنما يرجع إلى الحاكم بمقتضى حاكميته لا إلى المحكوم.
ثمّ يأتي دور تشخيص المصلحة والمفسدة، دور تشخيص الموضوع، أن الظروف الموضوعية تقضي بالحرب، أو تقضي بالسلم، تقضي باستمرار الحرب أو تستدعي الصلح والهدنة.
حين يكون اختلاف على الموضوع ما معنى الحاكمية؟ لا معنى للحاكمية إلا أن يكون المُحكَّم في تشخيص الموضوع من موضوعات الشأن، من موضوعات القضايا المتعلقة بالشعب والأمة للحاكم نفسه.
أما حين يختلف رأي الحاكم في الموضوع ورأي المحكومين، وتكون الحاكمية لرأي المحكومين فمعنى ذلك انقلاب النسبة، بأن يكون الحاكم محكوماً والمحكوم حاكماً.
هل يُمكن حين يختلف التشخيص على الموضوع أن تُحكّم كل الآراء؟ معنى ذلك أن تكون عندنا حكومات بمقدار أفراد الشعب، أو بمقدار الأحزاب، وبمقدار الفئات والجمعيات، ومعنى ذلك الفوضى والحرب وغرق السفينة.
فمن تجنّب الفوضى، وتجنّب الاحتراب في أي مجتمع من المجتمعات لا بد أن تكون هناك فئة واحدة حاكمة أو فرد واحد حاكم على اختلاف المشارب، وحاكمية هذا الفرد أو الجهة أو قيادة فرد أو جماعة لأمة أو لشعب أو لحزب لا يمكن أن تعني إلا أن يكون لهذه الجهة أو لهذا الفرد الرأي الأخير فيما هو الحكم، وفيما هو الموضوع من موضوعات الشأن العام.
والحكومة دائما أيها الأخوة فيما يُرى هي حكومة فرد معيّن، أو حكومة فرد على البدل، أو حكومة ثلاثة من تسعة على البدل، أو أربعة من اثني عشر على البدل مثلاً.
إما أن يكون الحاكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي حكومة فرد،طبعاً وهي ليست حكومة هوى. حكومة الفرد قد تكون حكومة هوى وقد تكون حكومة دين وحكومة من عبدٍ خاضع لتشريع إلاهي معيّن، وحكومة النبي صلى الله عليه وآله حكومة فوق الهوى، وهي حكومة دين وتقوى وعقل ومصلحة جازمة. هذه حكومة فرد معيّن.
أما حكومة الأغلبية لو كان هناك مجلس حكم، وليس فردا، فكيف سيكون الحكم؟ قد يكون الحكم حكم الأغلبية المطلقة، وأن زيادة فريق بواحد على الفريق الآخر يعني أنّ له الحكم، وأن رأيه هو الرأي الذي تتحرّك على ضوئه القوّة الخارجية، تخضع له كل الوزارات، يخضع له الجيش، تُوضع كل الإمكانات في سبيل تحقيقه وتنفيذه على من يرضى ومن لا يرضى.
حين يكون الفريق الحاكم تسعة أشخاص، فيُصوِّت خمسة في اتّجاه، ويصوّت أربعة في اتجاه آخر، معنى ذلك تعارض أربعة (نعم) مع أربعة (لا) وتساقط الأربعتين. تعارضا تساقطا، وبقي التاسع، فالحكم في الحقيقة لمن هنا؟ للصوت المفرد التاسع.
ولو كان الحكم بأغلبية الثلثين، فلنفرض أن هؤلاء تسعة، صوّت ستّةٌ في اتجاه، وصوّت ثلاثةٌ في اتّجاه، فالتّصويت ثلث في مقابل ثلثين، تساقط ثلاثة (لا) مع ثلاثة من ستة (نعم) وبقيت ثلاثة فقط، فصار الحكم لثلاثة، فحقُّ الحكم للأقلية وليس للأغلبية، وإن كانت قد تحصل غالبية ساحقة في بعض الموارد.
الحاكم الفرد إما أن يكون حاكماً هزيلاً في عقله، هزيلا في نفسيته، حاكما غير عادل، فيكون الترجيح دائما للأخس، وإما أن يكون المعصومَ، أو يكون مالك الأشتر، أو سلمان الفارسي وهو في قمّة الإيمان من بعد المعصوم عليه السلام فهنا سيكون الترجيح دائما بيد الأكفأ والأحسن.
وبالنسبة للديمقراطية لأن الترجيح لواحد على البدل، فمرة يتمثل في أشرِّ التسعة، ومرّةً يتمثّل في أكثر التسعة خيراً، وحين يكون الترجيح بالثلثين، فمرة يكون الترجيح للثلاثة المتآمرين على الأمة، وأحيانا يكون الترجيح للثلاثة المخلصين للأمة، فالترجيح بالبدل فيه مخاطرة شديدة، ومغامرة، وقد يحكم أخس الآراء، وقد يحكم أحسن الآراء.
أما حكومة الفقيه العادل الخبير الذي اختارته نخبة الفقهاء، والذي أيّده إسناد الأمة وبيعة الأمة فلا بد أن يحفّ نفسه بمستشارين وخبراء، وسينقسم هؤلاء في العادة إلى رأيين أو ثلاثة، والترجيح هنا بعد الموازنة والمقارنة والدراسة الموضوعية المتأنّية إنما سيكون بيد أكفأ الآراء وأعدل الآراء وأرجحها.
29 / 5 / 1427هـ

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية