بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الولي الذي دنا من عباده برحمته التي وسعت كل شيء، وشملهم
بلطفه فلم يتركهم حيارى في مدلهمات الفتن.
وأرسل إليهم أنبياءه ورسله ليدلوهم على سبل نجاته.
وأتم عليهم حجته، فله الحجة البالغة ولا حجة لأحد عليه.
والصلاة والسلام على خير العباد ونور الأنوار وفاتح أبواب الخيرات
محمد المصطفى وعلى آله الذين هم أبواب مدينته وسبل هدايته.
لقد عين الحق تعالى بمقتضى لطفه ورحمته صراطا واحدا للوصول إليه,
لئلا يختلف الناس ويتنازعون ويسفكوا دمائهم، ويفسدوا في الأرض.
ودل سبحانه عليه بالفطرة الصافية والعقل السليم، وأرسل من يظهر
حقيقته ونصب من يحفظ منهجه. فالهالك من يهلك عن بينة، والشقي من
عاند وجحد بعد يقينه.
هذا الصراط الهادي والمنقذ من الحيرة والضلالة، ينتشل الإنسان من
أزمة القلق والاضطراب، حيث يجيبه عن كل سؤال يهمه ويبعث في النفس
روحا وراحة وطمأنينة، تكون سببا لشقوته واندفاعه وبهجته وحبوره.
فيرى كل شيء مشرقا بنور الرب المتعال، وتستحيل العوالم إلى قبضة
بيده.
انه صراط الله العزيز الحميد، وانه صراط رب الإنسان الكامل، {إن
ربي على صراط مستقيم}.
إنه الصراط الوحيد من الإله الواحد, الذي بيده كل شيء، ولا كمال
ولا جمال ولا قدرة لغيره. ففيه يرى الموحد كل الوجود مظهر وجوده
سبحانه, ويرى الأشياء كلها تسبح بحمده.
ولكن مشهدا بغيضا يتراءى له في هذه اللوحة المقدسة، حيث يرى مجتمع
الإنسان يريد أن يقف مقابل إرادته، ويتمرد على سلطانه الذي غلب كل
شيء.
فمن أدرك هذا الصراط تنبعث من أعماق وجدانه أحاسيس المسؤولية
الكبيرة تجاه المجتمع البشري، الذي يسود صفحة الجمال الكوني
بمعاصيه وأخطائه.
ولا تزال هذه المشاعر الجياشة تتفاقم في نفسه, حتى تحمله على
الخروج إلى الناس لدعوتهم إلى التوحيد، وإيقاظهم من سبات الغفلة,
وهدايتهم إلى سر الوجود.
إن الموحد لا يمكنه أن يقبل بمجتمع بشري لا يسلك سبيل التوحيد.
التوحيد الذي يعني رؤية كل الأشياء في فلك واحد حول محور واحد...
التوحيد الذي يعني الانقياد التام، والخضوع المطلق للرب الواحد
الذي يدبر كل عوالم الوجود...
ثم إن الموحد يرى أن الطريق إلى المجتمع التوحيدي هو توحيد
المجتمع.
كما أن وحدة المجتمع الإنساني هي علامة تحقق التوحيد. ولا يمكن أن
يوجد مجتمع موحد دون أن يكون متحدا. فالوحدة الاجتماعية لأبناء
البشر، التي تعني زوال جميع أشكال الاختلافات والنزاعات والصراعات
من بينهم، هي الطريق لصيرورة هذا المجتمع مجتمعا توحيديا.
وهناك تتحول الدنيا إلى آخرة وتنتفي كل أشكال الحجب بين الإنسان
وربه.
وتتغير الدنيا من أرض الغربة إلى جنة اللقاء، وتتحقق المدينة
الفاضلة التي هي مظهر لقاء الحق وسر السعادة للبشرية في جميع
مراتبها.
الوحدة الاجتماعية الكاملة، التي هي سر المدينة الفاضلة، لا تتحقق
إلا بزوال كل أسباب الصراع والاختلافات.
وإن هذه الصراعات التي شهدناها ونشهدها في حياة البشرية, وإن كانت
تتخذ أشكال النزاع الاقتصادي على المصالح والثروات طورا, وأشكال
النزاع السياسي على أنظمة الحكم وطرق إدارة البلاد طورا آخر، أو
شكل النزاع العقائدي بين أتباع الديانات والمذاهب طورا ثالثا, إلا
أن مرجع وأصل جميع هذه الصراعات هو هذه الأنانية التي تظهر بصور
وأشكال مختلفة.
ولهذا، ما لم تتحقق الوحدة الروحية بين أبناء المجتمع الإنساني، لن
يصل المجتمع إلى الوحدة الحقيقية الكاملة، التي هي ظهور حقيقة
التوحيد، وسبيل تحققه.
نعم إن الطريق الموصل إلى هذه المرتبة الشامخة, يمر عادة بالوحدة
الاقتصادية (أو وحدة المصالح)، ثم بالوحدة السياسية (أو وحدة
القضية والمصير)، ثم بالوحدة العقائدية التي تعني اجتماع الناس على
مبادئ الفكر والرؤية الكونية واتفاقهم على أجوبة محددة للأسئلة
المصيرية في الحياة.
فإذا وصل المجتمع إلى هذه الوحدة يصبح على قاب قوسين أو أدنى من
الوحدة الروحية التي تعني اضمحلال كل أشكال الاختلاف, حيث الوحدة
في المسلك والارتباط والتفاني الكامل بفناء الأنانيات.
إن أساس جميع هذه المراتب من الوحدة الاجتماعية هو أن يكون الناس
ملتفين حول محور واحد يكون مرجعا لحل اختلافاتهم.
ومن بين جميع أشكال المحاور المتصورة، لا يوجد أضمن وأقوى من محور
الشخص أو الإنسان الذي يعبر عنه بالإمام. وإذا ارتبط الناس به على
هذا الأساس يكون وليا لهم وهم أولياؤه. فهذه هي الولاية.
وفي مدرسة الإسلام التوحيدية، التي لا توجد غيرها على مستوى
التوحيد في العالم بأسره، يكون الولي هو العامل الأصلي لتحقيق
الوحدة الاقتصادية من خلال طرحه لبرنامج الوحدة السياسية الذي يقوم
على أساس الرؤية الكونية العقائدية التوحيدية.
ففي مدرسة الولاية, التي هي مدرسة الإسلام، تتحقق الوحدة
الاقتصادية التي تزول معها كل أشكال الفوارق والامتيازات الطبقية
القائمة على توزيع غير عادل للثروات.
ويستحيل أن ينجح مجتمع بشري في بناء وحدة اجتماعية اقتصادية
بالمعنى المذكور، إلا في ظل عدالة اجتماعية. وهذه غير ممكنة إلا في
ظل تعاليم الإسلام.
عندما يدور المجتمع في حركته الهادرة حول محور هذه الولاية, يكتسب
مرجعية قوية وضامنة لحل جميع خلافاته.
وإذا تمكن هذا المجتمع، ببركة هذه الولاية، من حل خلافاته على صعيد
ما، فإنه يصبح مرشحا للانتقال إلى مرحلة أعلى.
وتكون الولاية الإلهية جاهزة كمرجعية في هذه المرحلة الجديدة أيضا.
وهكذا ينتقل المجتمع عبر مراتب الوحدة والاتحاد من خلال التصاقه
بالولاية، إلى أن يصل إلى المرتبة الأخيرة.
وفيها عليه أن يذوب في شخص الولي وأن يفنى فيه. فلا محور دوران،
ولا قطب دائرة: هناك الولاية لله.
ولاشك بأن هذا الذوبان التدريجي لا يحصل إلا بعد أن يرى المجتمع في
الولي مرجعا فكريا، ويعد أفكاره وتوجيهاته منارة دربه وبوصلة سفرة.
ولاشك أيضا، بأن هذا الرجوع، بل الاهتداء الفكري لا يمكن أن يتحقق
بدون الاطلاع على أفكاره.
إننا نرى التولي بدون التبعية الفكرية ادعاءا أجوفا، حتى ولو كان
منطقيا من نوايا صافية، فإنه سرعان ما يصبح في الخط المعاكس لحركة
الولي، اللهم إلا أن تكون هذه النوايا الصافية سببا ملهما للاتجاه
نحو التبعية الفكرية.
وهذا بحمد الله ما بدأنا نشهد إرهاصاته على الصعيد العام.
حيث بدأ الناس ينظرون إلى أفكار الولي بنحو من التمايز. هذا
التمايز الذي لا ينطلق من اختلاف المشرب أو نوعية الدليل أ وقوة
البيان أو سعة الاحاطة، بل أنه بالدرجة الأولى من عمق حركة الولاية
التي تتجه بالأمة نحو الوحدة الاجتماعية الكاملة في مشروع كبير نح
وحقيقة التوحيد.