مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

الخروج على الحاكم الظالم
الشيخ حسين المؤيد

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى أن استيعاب البحث عن هذه المسألة التي تعد من مهمات مسائل ‏الفقه السياسي الإسلامي ـ والتي هي بحاجة إلى دراسة معمّقة وتنقيح، خاصة ‏مع كون المؤمنين في معرض الإبتلاء بها ـ يحتاج إلى الكلام من عدة جهات، ‏نتناول في هذا البحث بعضاً منها تاركين البحث عن البعض الآخر إلى ‏فرصة ثانية إن شاء الله تعالى.‏
الجهة الأولى: في استعراض الأدلّة التي قد يستدل بها على مشروعية ‏التصدي للحاكم الجائر أو وجوبه، والبحث في إمكان الإستدلال بها على ذلك. ‏وهي:‏
أولاً: أنّ التصدي للحاكم الجائر يندرج تحت عنوان الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر فيتمسك بأدلة وجوبهما لإثبات وجوبه.‏
وقد يلاحظ على ذلك أنّ نهج هذا المسلك يوجب ضيق دائرة وجوب ‏التصدي أو مشروعيته، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا من ‏الواجبات المطلقة، وإنّما هما من الواجبات المشروطة بشروط منها الأمن من ‏الضرر، وهو منتف غالباً في موارد التصدي لحكام الجور.‏
والتحقيق أنّ ما دلّ من الآيات والروايات على وجوب الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر مطلق نظير قوله تعالى: {يَا‎ ‎بُنَيَّ‎ ‎أَقِمِ‎ ‎الصَّلَاةَ‎ ‎وَأْمُرْ ‏بِالْمَعْرُوفِ‎ ‎وَانْهَ‎ ‎عَنِ‎ ‎الْمُنكَرِ‎ ‎وَاصْبِرْ‎ ‎عَلَى‎ ‎مَا‎ ‎أَصَابَكَ‎ ‎إِنَّ‎ ‎ذَلِكَ مِنْ‎ ‎عَزْمِ‎ ‎الْأُمُورِ}، ‏وقوله تعالى: {وَلْتَكُن‎ ‎مِّنكُمْ‎ ‎أُمَّةٌ‎ ‎يَدْعُونَ‎ ‎إِلَى‎ ‎الْخَيْرِ‎ ‎وَيَأْمُرُونَ‎ ‎بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ‎ ‎عَنِ‎ ‎الْمُنكَرِ‎ ‎وَأُوْلَـئِكَ‎ ‎هُمُ‎ ‎الْمُفْلِحُونَ}، وقد ورد في معتبرة بكر بن محمد، عن ‏أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أيّها الناس آمروا بالمعروف ‏وأنهوا عن المنكر فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقرباً أجلاً ولم ‏يباعداً رزقاً. ولو تم سند الرواية المنقولة في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (‏عليه أفضل الصلاة والسلام) في تفسير قوله تعالى على لسان لقمان: {واصبر ‏على ما أصابك} بإرادة تحمّل الأذى والمشقة على الأمر بالمعروف والنهي ‏عن المنكر لعزز استفادة الوجوب المطلق من الآية الكريمة.‏
وأمّا ما استدل به على اشتراط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن ‏المنكر بالأمن من الضرر، فروايات أكثرها مخدوش سنداً، ولكن فيها ما هو ‏تام السند، وهو:‏
‏1 ـ رواية يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد الله (عليه ‏السلام): إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم ‏فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.‏
ويحيى الطويل وإن كان لم ينص على توثيقه، إلاّ أنّ رواية ابن أبي ‏عمير عنه كاشفة عن وثاقته على المختار.‏
إلاّ أنّ هذه الرواية ليست لها دلالة على الشرطية المدعاة، وإنّما الظاهر ‏منها أو لا أقل من الاحتمال الموجب للإجمال هو أنّ الذي يطلب أمره ‏بالمعروف ونهيه عن المنكر هو من يؤثر فيه ذلك، وأمّا صاحب السيف أو ‏السوط فبلحاظ عدم تأثيرهما فيه فلا يطلب أمره بالمعروف أو نهيه عن ‏المنكر. وعلى هذا لا تدل الرواية على عدم مطلوبية أمر صاحب السيف أو ‏السوط بالمعروف ونهيه عن المنكر مطلقاً بل تختص بموارد عدم التأثير، بل ‏قد ينساق إلى الذهن العرفي من هذه الرواية أنّ محط النظر فيها هو المرتبة ‏اللسانية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث أنّ صاحب السيف أو ‏السوط لا يرتدع بهذه المرتبة، أو أنّ النحو الذي يؤمر بالمعروف وينهى عن ‏المنكر به المؤمن الذي يرجى اتعاظه أو الجاهل الذي يلتفت إلى الحق لا ‏يؤتى به مع صاحب السوط والسيف فإنّ هذا النحو لا يؤثر فيه.‏
‏2 ـ رواية المفضل بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لي: يا ‏مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق ‏الصبر عليها.‏
وسند الرواية معتبر بنفس البيان المتقدم في الرواية السابقة.‏
إلاّ أنّ هذه الرواية كما يظهر من التدقيق في لسانها ليست بصدد تقرير ‏شرط الأمن من الضرر، بل اطلاقها شامل للبلية غير المترقبة، فكأنّها في ‏مقام امساك مخاطبيها عن التعرض للسلطان الجائر، ولابد أن يحمل ذلك على ‏صورة مرجوحية التعرض شرعاً، وإلاّ فإنّ عدم إطلاقها مقطوع به، إذ أنّ ‏الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قد تعرض للسلطان الجائر وأصابه ‏من البلايا ما لم يصب غيره، بل أنّ الأخذ بإطلاق الرواية ينافي ما هو ‏المعلوم من الشرع من لزوم مقاومة الظلم والجور والانحراف وقد كان ذلك ‏من سمات الأنبياء والأوصياء والصالحين، فمناسبات الحكم والموضوع ‏تقضي بأنّ محط النظر هو الموارد التي يكون التعرض فيها للجائر مرجوحاً ‏شرعاً.‏
‏3 ـ رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه الصلاة والسلام) أنّه كتب ‏إلى المأمون: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا أمكن ولم يكن ‏خيفة على النفس.‏
ويرد على الاستدلال بها:‏
أولاً: ضعف سندها، فإنّ الشيخ الصدوق (قدس سره) أوردها بطرق ثلاثة ‏الأوّل منها مخدوش بعلي بن قتيبة النيسابوري، والثاني بمحمد بن سنان، ‏والثالث بعلي بن شاذان.‏
ثانياً: أنّها اشترطت عدم الخوف على النفس لا مطلق الأمن من الضرر ‏فهي أخص من المدعى.‏
ثالثاً: أنّ الأخذ بإطلاقها ممنوع كما تقدم في مناقشة الاستدلال بالرواية ‏السابقة، بل أنّ مواقف الأئمة عليهم السلام كانت بحسب الحقيقة نهياً عن ‏المنكر وكان فيها خوف على النفس.‏
فالصحيح أن يقال إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث المبدأ ‏والأساس غير مشروطين بالأمن من الضرر، وإنّما تتفاوت مواردهما ففي ‏بعض الموارد يكون الضرر أو الحرج موجباً لارتفاع التكليف، ولا يكون ‏كذلك في موارد أخر.‏
وعلى هذا فإنّه يصح التمسك بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏لإثبات وجوب مجابهة الحاكم الجائر في غير الموارد التي يكون الحرج أو ‏الضرر موجباً فيها لارتفاع التكليف.‏
الدليل الثاني: التمسك بجملة من الروايات الدالة على وجوب التصدي ‏للحاكم الجائر، وهي: ‏
‏1 ـ ما ورد عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين (عليه أفضل ‏الصلاة والسلام) أنّه قال: أيها الناس إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ‏قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة ‏رسول الله (صلى الله عليه واله وسلّم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم ‏يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.‏
والرواية واضحة الدلالة على وجوب التصدي للحاكم الجائر المتصف ‏بالمواصفات المفادة في متنها.‏
‏2 ـ ما ورد عن سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه قال: ألا ‏ترون أنّ الحق لا يعمل به وأنّ الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ‏الله محقاً فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما.‏
والرواية دالة على مشروعية التصدي لإحقاق الحق وإبطال الباطل ولو ‏كلف الإنسان حياته.‏
‏3 ـ ما ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال: وددت لو أنّ ‏الخارجي خرج وعليّ نفقة عياله.‏
‏4 ـ رواية سدير الصيرفي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ‏فقلت له: والله ما يسعك القعود فقال: ولم يا سدير قلت: لكثرة مواليك وشيعتك ‏وأنصارك والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما لك من الشيعة ‏والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي ـ إلى أن قال: ـ فسرنا حتى ‏صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير لو ‏كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.‏
والرواية واضحة الدلالة على وجوب التصدي للحاكم الجائر لقلب حكمه ‏عند القدرة وتوفر الإمكانات.‏
فالمتحصل أنّه لا إشكال في دلالة هذه الروايات على المطلوب، إلاّ أنّها ‏جميعاً مبتلاة فنياً بالخدشة في السند.‏
الدليل الثالث: ما دلّ على عدم جواز الرضوخ للظالم والاستسلام له ‏كقوله تعالى: {وَلاَ‏‎ ‎تَرْكَنُواْ‎ ‎إِلَى‎ ‎الَّذِينَ‎ ‎ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ‎ ‎النَّارُ}. والركون بمعنى ‏الميل والسكون، وبما أنّ الاستسلام للظالم ركون إليه وهو حرام بنص الآية ‏الكريمة، فيجب إذن مجابهته ومواجهته.‏
الدليل الرابع: إنّ جملة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة دلتنا على ‏حرمة طاعة المفسد والمنحرف، كقوله تعالى {وَلَا‏‎ ‎تُطِيعُوا‎ ‎أَمْرَ‎ ‎الْمُسْرِفِينَ *‏‎ ‎الَّذِينَ‎ ‎يُفْسِدُونَ‎ ‎فِي‎ ‎الْأَرْضِ وَلَا‎ ‎يُصْلِحُونَ} وقوله تعالى {وَلَا‏‎ ‎تُطِعْ‎ ‎مَنْ‎ ‎أَغْفَلْنَا‎ ‎قَلْبَهُ‎ ‎عَن‎ ‎ذِكْرِنَا‎ ‎وَاتَّبَعَ‎ ‎هَوَاهُ‎ ‎وَكَانَ أَمْرُهُ‎ ‎فُرُطًا}، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ‏‎ ‎لِحُكْمِ‎ ‎رَبِّكَ‎ ‎وَلَا‎ ‎تُطِعْ مِنْهُمْ‎ ‎آثِمًا‎ ‎أَوْ‎ ‎كَفُورًا} وورد في مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي ‏عبد الله (عليه السلام) قال: من أطاع رجلاً في معصية فقد عبده، وفي الخصال ‏بسنده، عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قال: أربعة من قواصم ‏الظهر إمام يعصي الله ويطاع أمره...‏
وعلى هذا فالتمرد على الجائر واجب، ولا ريب في أنّه نحو من أنحاء ‏المجابهة له.‏
الدليل الخامس: إنّ من المقرر فقهياً أنّ الأمور التي يهتم الشارع بعدم ‏وقوعها خارجاً يجب المنع من وقوعها، وقد مثلوا لذلك بقتل الأنفس ‏المحترمة، وترويج البدع. وبما أنّنا علمنا من الآيات الكثيرة والروايات ‏المتظافرة اهتمام الشارع بعدم وقوع البغي والظلم والفساد بين الناس وجب ‏المنع من وقوع هذه الأمور، فاذا كان تولي الجائر موجباً لوقوعها وهو كذلك ‏وجب التصدي له للمنع من وقوعها.‏
ولنستعرض عدداً من الآيات الكريمة الواضحة في اهتمام الشارع ‏الأقدس بعدم وقوع الظلم والفساد بين الناس.‏
‏1 ـ قوله تعالى: {لَقَدْ‏‎ ‎أَرْسَلْنَا‎ ‎رُسُلَنَا‎ ‎بِالْبَيِّنَاتِ‎ ‎وَأَنزَلْنَا‎ ‎مَعَهُمُ‎ ‎الْكِتَابَ ‏وَالْمِيزَانَ‎ ‎لِيَقُومَ‎ ‎النَّاسُ‎ ‎بِالْقِسْطِ}. وهي واضحة في المطلوب إذ بلغ اهتمام ‏الشارع الأقدس بقيام الناس بالقسط حداً كان العلّة في إرسال الرسل وإنزال ‏الكتب.‏
‏2 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا‏‎ ‎تَوَلَّى‎ ‎سَعَى فِي‎ ‎الأَرْضِ‎ ‎لِيُفْسِدَ‎ ‎فِيِهَا‎ ‎وَيُهْلِكَ‎ ‎الْحَرْثَ‎ ‎وَالنَّسْلَ‎ ‎وَاللّهُ لاَ‎ ‎يُحِبُّ‎ ‎الفَسَادَ}.‏
‏3 ـ قوله تعالى: {وَلَقَدْ‎ ‎أَهْلَكْنَا‎ ‎الْقُرُونَ مِن‎ ‎قَبْلِكُمْ‎ ‎لَمَّا‎ ‎ظَلَمُواْ}.‏
‏4 ـ مجموعة من الآيات الكاشفة من حيث المجموع على الأقل بعدم ‏رضا الشارع بوقوع البغي والظلم والفساد، كقوله تعالى: {وَلاَ‏‎ ‎تُفْسِدُواْ‎ ‎فِي ‏الأَرْضِ‎ ‎بَعْدَ‎ ‎إِصْلاَحِهَا}، وقوله تعالى: {وَلا‏‎ ‎تَبْغِ‎ ‎الْفَسَادَ‎ ‎فِي‎ ‎الارْضِ}، وقوله ‏تعالى: {وَيَنْهَى‏‎ ‎عَنِ‎ ‎الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ‎ ‎وَالْبَغْيِ}، وقوله تعالى: {وَلاَ‏‎ ‎تَتَّبِعْ ‏سَبِيلَ‎ ‎الْمُفْسِدِينَ}، وقوله تعالى: {وَاللّهُ‏‎ ‎لاَ‎ ‎يُحِبُّ‎ ‎الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {وَاللّهُ‎ ‎لاَ‎ ‎يُحِبُّ‎ ‎الْمُفْسِدِينَ}. فان هذه التأكيدات مضافاً إلى ملاحظة سياقات ‏بعض الآيات المتقدمة توجب الوقوف على قضية اهتمام الشارع بعدم وقوع ‏البغي والظلم والفساد في المجتمع.‏
الدليل السادس: إنّ تولّي الجائر يصطدم مع نهج الشريعة المقدسة ‏ومقاصدها السامية، ذلك أنّ الله تعالى أراد للإنسان أن يسير على هداه، ‏ويتكامل من خلال قانونه، وأراد للمجتمع أن يكون ربانياً، وما إرسال الرسل ‏وإنزال الكتب إلاّ لهذه الغاية، ولم يسمح الشارع الأقدس لكل أحد أن يتصدى ‏لحكم الناس، وإنّما شرع الحكومة وأناطها بالنبي والوصي ونائبه، وجعل لهم ‏القيمومة على المجتمع لتحقيق الأهداف المزبورة. فولاية الجائر تصطدم مع ‏هذا النهج وتوجب الانحراف عنه، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) ‏قوله: إنّ في ولاية الجائر دروس الحقّ كله وإحياء الباطل كلّه وإظهار الظلم ‏والجور والفساد وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم المساجد وتبديل ‏سنة الله وشرائعة.‏
وإذا كان الأمر كذلك فلا ريب في مشروعية التصدي للجائر لموافقته ‏لمذاق الشارع، واقتضاء أغراضه له، وإذا تم الإلتفات إلى أنّ القضاء على ‏الظلم والبغي والفساد مما يهتم الشارع بعدم وقوعه اهتماماً بالغاً إنّما يتأتى من ‏خلال تطبيق شرع الله تعالى وتجسيد نهجه في المجتمع، فسوف يتم الوقوف ‏على مدى اهتمام الشارع بذلك الأمر القاضي بوجوب التصدي للجائر.‏
الدليل السابع: التمسك بقيام الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ‏فإنّ فعله كمعصوم مصدر للفقيه في استنباط الحكم الشرعي، فيتمسك به ‏لإثبات المشروعية.‏
وقد يناقش في هذا الدليل بأحد أمور:‏
الأوّل: أنّ قيام الإمام الحسين (عليه السلام) فعل لا مجال للأخذ بالإطلاق ‏في مورده، ومن المحتمل وجود عنصر خاص دعى إلى القيام وهو أنّ ‏خلافة بني أمية ويزيد بالذات كانت في طريق محو الإسلام فخرج الإمام ‏الحسين عليه الصلاة والسلام دفاعاً عن بيضة الإسلام وهو أمر لا ريب في ‏مشروعيته، وقد يستشهد لذلك بما روي عنه (عليه السلام) من قوله الشريف: ‏وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد.‏
والحاكم الجائر قد لا يكون بهذا المستوى بحيث يشكل خطراً على بيضة ‏الإسلام، فلا يمكن التمسك بعمل الإمام (عليه السلام) لإثبات مشروعية التصدي ‏لمثل هذا الحكم.‏
الثاني: أنّ عمل المعصوم (عليه السلام) إنّما يكون مصدراً للتشريع إذا لم ‏يكن العمل من مختصاته، وأمّا إذا كان كذلك فلا مجال للاستدلال به لإثبات ‏حكم لغير المعصوم وقد كان قيام الإمام الحسين (عليه السلام) تكليفاً خاصاً ‏وراءه نكات غيبية. فهو قضية في واقعة، ولا مجال للاستدلال به على ما ‏نحن فيه.‏
الثالث: أنّ الصادر من الإمام (عليه السلام) هو رفض البيعة للطاغية يزيد (‏لعنه الله تعالى) فكان أن قوتل لأخذ البيعة، وهو غير مسألة القيام الإبتدائي ضد ‏الحاكم الجائر.‏
أمّا المناقشة الأولى فهي تواجه من الناحية المنهجية مشكلة، ذلك أنّ ‏الخطر على بيضة الإسلام إنّما يتحقق في موارد معينة كتعرض المسلمين ‏لهجوم يستهدف استئصالهم والقضاء عليهم، أو تعرضهم لهجوم يستهدف ‏تبديل عقيدتهم وردّهم عن الإسلام، أو تعرضهم لهجوم يستهدف تذويب كيانهم ‏وشخصيتهم كأن يحكم الكفّار المسلمين بأحكام الكفر، وهذه الأمور لم تكن ‏متحققة آنذاك، ولم يكن يترقب تحققها في ذلك المقطع التاريخي لعدم قدرة ‏أولئك المفسدين على ذلك، وإنّما الذي كان قد حصل آنذاك هو أنّ الدولة على ‏الرغم من قيامها ظاهراً على أساس الإسلام إلاّ أنّ الحكم والحاكم يشذ في ‏تصرفاته عن القاعدة الإسلامية عن هوى وعمد. صحيح أنّ هذا الانحراف لو ‏قدر له أن يستمر فسوف يشكل على مدى أطول خطراً على القاعدة التي يقوم ‏عليها كيان المسلمين، إلاّ أنّ الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قام ‏في ظرف لم يكن للطاغية يزيد ولا لبني أميه على الرغم من نواياهم المبيّتة ‏القدرة على تشكيل خطر فعلي على بيضة الإسلام، فيمكن التمسك بفعله (عليه ‏السلام) لإثبات مشروعية التصدي لحاكم جائر من هذا القبيل، فضلاً عن ‏مشروعية التصدي لحاكم جائر لا تقوم دولته على أساس الإسلام بل على ‏أساس النظم الوضعية. اللهم إلاّ أن يقال إنّ قيام الإمام الحسين (عليه السلام) لو ‏لم يتحقق في ذلك المقطع الزمني لتعذر التغيير فيما بعد حينما يشكّل الحكم ‏خطراً على القاعدة التي يقوم عليها كيان المسلمين.‏
إلاّ أنّه على الرغم من ذلك يمكن التمسك بفعله (عليه السلام) إذا كانت ‏الظروف مشابهة كما هو الحال بالنسبة لأنظمة الحكم الوضعية في زماننا.‏
وأمّا المناقشة الثانية، فيلاحظ عليها أنّها دعوى بلا برهان، والإستشهادات ‏المذكورة لا تدل على أنّ قيام الإمام الحسين (عليه السلام) قضية غيبية خاصة، ‏وإنّما غاية ما تدل عليه هو أنّ استشهاده والصفوة من أهل بيته وأصحابه ‏وسبي النساء والأطفال أمر مكتوب في لوح القدر، وهو لا ينافي أن يهبّ ‏الإمام (عليه السلام) للقيام بما تقتضيه الوظيفة الشرعية، فيكون قد كتب عليه ‏السلام أن يكون هو القائم بهذه الوظيفة العظمى والشهيد في هذا السبيل.‏
ويعزز ما ذكرناه فهم المسلمين والشيعة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) ‏ذلك، دون أن تفهم حركة الإمام الحسين (عليه السلام) على أنّها مسألة غيبية ‏خاصة، ولم يصدر من الأئمة (عليهم السلام) شيء ـ فيما وصلنا بطريق ‏معتبر ـ يوحي بذلك، مع أنّهم (عليهم السلام) كانوا يستطيعون في معرض ‏الجواب عن سبب قعودهم وعدم مواصلتهم نهج الإمام الحسين (عليه السلام) أن ‏يعزوا قيام الإمام (عليه السلام) إلى قضية خاصة به.‏
وأمّا المناقشة الثالثة فنلاحظ عليها:‏
أولاً: أنّنا لم نستدل بخصوص ما جرى في كربلاء من قتال الإمام (عليه ‏السلام) لجيش الطاغية اللعين يزيد، وإنّما نستدل بمجموع حركة الإمام (عليه ‏السلام)، فإنّه استجاب لنداءات أهل الكوفة وكان مستعداً لتصعيد المواجهة إلى ‏حد القيام بتقويض حكم يزيد الفاسد.‏
ثانياً: إنّنا نبحث عن حكم التصدي للحاكم الجائر الأعم من القيام المسلح، ‏ورفض الإمام (عليه السلام) للبيعة وإعلانه التمرد على يزيد واستعداده ‏للإستشهاد على هذا الموقف كاشف عن مشروعية هذا النحو من التصدي ‏للحاكم الجائر.‏
الدليل الثامن: إمضاء الأئمة (عليهم السلام) لقضية التصدي لحكام الجور ‏ولو كان ذلك التصدي مسلحاً. وقد تجلّى ذلك في قيام زيد بن علي، إذ وردت ‏روايات عديدة في مدح حركته المسلحة، وبعضها وإن كان ضعيف السند ‏كرواية عبد الله بن سيّابة، عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ‏عند الله احتسب عمّي أنّه كان نعم العم، إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ‏مضى والله عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله ‏وسلّم) وعلي والحسن والحسين (صلوات الله عليهم).‏
ورواية الفضل بن يسار، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: يا فضيل ‏شهدت مع عمي زيد قتال أهل الشام قلت نعم فقال: كم قتلت منهم قلت: ستة ‏قال: فلعلك شاك في دمائهم. قلت: لو كنت شاكاً ما قتلتهم فسمعته وهو يقول: ‏اشركني الله في تلك الدماء، ما مضى والله زيد عمي وأصحابه إلاّ شهداء مثل ‏ما مضى عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه.‏
ورواية ابن أبي عبدون، عن أبيه، عن الرضا (عليه السلام) في حديث أنّه ‏قال للمأمون: لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنّه كان من علماء آل ‏محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غضب لله فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ‏ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنّه سمع أباه جعفر بن محمد (عليهما السلام) ‏يقول: رحم الله عمي زيداً أنّه دعا إلى الرضا من آل محمد (صلّى الله عليه ‏وآله وسلّم) ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، استشارني في خروجه فقلت إن ‏رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك فلمّا ولّى قال جعفر بن ‏محمد ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه.‏
أقول: هذه الروايات وإن كانت مبتلاة بضعف السند، إلاّ أن معتبرة ‏العيص بن القاسم كافية في إثبات الإمضاء فإنّه روى عن أبي عبد الله (عليه ‏السلام) قوله: فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما ‏دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولو ظهر لوفى بما ‏دعاكم إليه إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه.‏
وقد يقال إنّ هناك روايات ذامة لزيد وغير مؤيدة لخروجه. ولكنها ‏ضعيفة سنداً ولا يستفاد منها كون الخروج على الجائر حراماً، بل في مرسلة ‏موسى بن بكر بن داب ورد قول الإمام (عليه السلام) لزيد: فلا تعجل انّ الله لا ‏يعجل لعجلة العباد ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك. وهو ظاهر في ‏أنّ النهي الوارد إنّما هو بلحاظ عدم مواتاة الظرف للخروج لا بلحاظ عدم ‏مشروعية الخروج على الجائر.‏
وأمّا معتبرة أبان المروية في أصول الكافي في كتاب الحجة باب ‏الاضطرار إلى الحجة، فلا تنافي معتبرة العيص، إذ أنّ إمضاء الإمام (عليه ‏السلام) لموقف الأحول وإقرار حجته في معتبرة أبان كان قبل خروج زيد، ‏ولعل زيد آنذاك لم يكن يريد أن يدعو إلى المعصوم (عليه السلام)، أو لم يكن ‏يريد أن يستأذنه. بينما معتبرة العيص واضحة في إمضاء قيام زيد الكاشف ‏عن تطابقه مع الموازين الشرعية.‏
هذا كلّه فيما يرتبط بقيام زيد (رضوان الله تعالى عليه). وأمّا قيام الحسين ‏المقتول بفخ، فهناك عدة روايات واضحة في إمضاء قيامه نظير ما روي عن ‏الإمام الكاظم (عليه أفضل الصلاة والسلام) أنّه قال للحسين: إنّك مقتول فأحد ‏الضراب فإنّ القوم فساق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا ‏إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عصبة. وما روي عنه (عليه السلام) من ‏قوله بعد المجيء برؤوس الحسين وأصحابه: مضى والله مسلماً صالحاً ‏صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله، وما ‏روي عن الحسين نفسه أنّه قال: ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا وشاورنا ‏موسى بن جعفر (عليه السلام) فأمرنا بالخروج. وغير ذلك من الروايات، ‏ولكنها مبتلاة بضعف السند، ومن ثم فقد سلك البعض طريقاً آخر لإثبات ‏إمضاء الإمام (عليه السلام) لقيام الحسين حاصله أن عدم ورود خبر واحد في ‏ذم خروج الحسين قد يبعث على الإطمئنان برضا الإمام (عليه السلام) بخروجه ‏وإلاّ لكان يكثر النص على عدم رضاه ولكان يصلنا بعض تلك النصوص ولو ‏بأسانيد ضعيفة خاصة وأن الإمام (عليه السلام) كان يعيش حالة التقية المناسبة ‏للنص على عدم الرضا.‏
ونلاحظ عليه: إنّ مجرد عدم ورود خبر عن الإمام (عليه السلام) في ذم ‏خروج حسين فخ لا يكشف عن إمضاء الإمام (عليه السلام) لهذا الخروج، ‏لإمكان أن يكون امتناع الإمام (عليه السلام) لهذا الخروج، لإمكان أن يكون ‏امتناع الإمام (عليه السلام) عن ذلك لأجل أن لا يعطي للحاكم الجائر فرصة ‏الإستفادة من موقفه لتقوية سلطانه، والإمعان في الجور على الشيعة، ومن ‏الممكن أنّ الإمام (عليه السلام) على الرغم من كونه يعيش أجواء التقية إلاّ أنّه ‏لم يسلط عليه ضغط يدعوه إلى إظهار عدم الرضا. وفي سكوت الإمام ‏العسكري (عليه السلام) عن ثورة الزنج ما يدلل على صحة ما ذكرناه منهجياً، ‏فإنّ الإمام (عليه السلام) لم يردنا عنه أي ذم لهذا القيام مع قطعنا بعدم إمضاءه ‏له، إذ أنّه قيام لا يدعو إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ‏ولم يكن على صلة بالإمام (عليه السلام)، مضافاً إلى ارتكابه ما يخالف الشرع ‏من القتل والنهب، فمع ذلك سكت الإمام (عليه السلام) كي لا يكون إظهاره عدم ‏الرضا موجباً لتقوية سلطان الجور وتدعيم حكمه.‏
هذه هي عمدة الأدلّة التي يمكن أن تقام لإثبات مشروعية التصدي للحاكم ‏الجائر ولو بالقيام المسلح، وقد ظهر أن جلّها تام في إثبات المطلوب.‏
الجهة الثانية: في دراسة ما قد يستدل به على عدم مشروعية أو عدم ‏وجوب التصدي للحاكم الجائر، فقد يستدل على ذلك بأمور:‏
الأول: الروايات الناهية عن التصدي المسلح وما شاكله. وقد عقد ‏المحدث صاحب الرسائل (قدس سره) باباً بعنوان حكم الخروج بالسيف قبل قيام ‏القائم (عليه السلام)، أورد فيه كثيراً من هذه الأخبار، وهناك أخبار أخرى بهذا ‏المضمون لم يوردها في هذا الباب. وجل هذه الأخبار ساقط سنداً، وفيها عدد ‏يسير يحظى باعتبار السند.‏
ولكن هذه الأخبار لابد أن توضع في الإطار الفني حتى يمكن فهمها ‏جيداً، إذ الاحتمالات الثبوتية فيها أربعة:‏
الاحتمال الأول: أن يكون النهي عن التصدي للجائر بلحاظ كون الحكم ‏الواقعي الأوّلي هو حرمة الخروج على الجائر ووجوب الرضوخ له ‏والسكون إزاءه.‏
الاحتمال الثاني: أن يكون النهي عن التصدي للجائر تقييداً لما دلّ على ‏وجوب التصدي أو مشروعيته، غاية الأمر يكون هذا التقييد أزمانياً، بمعنى ‏أن ما دل على وجوب التصدي أو مشروعيته له إطلاق أزماني ولكن هذه ‏الروايات تقيده أزمانياً.‏
الإحتمال الثالث: أن يكون مفادها الحكم الثانوي حالها حال الروايات ‏المفيدة للأحكام الثانوية الطارئة.‏
الاحتمال الرابع: أن تكون في مقام بيان حكم ولائي من المعصوم (عليه السلام) نظير الأحكام الولائية الصادرة منهم (عليهم السلام) في موارد مختلفة.‏
أمّا الاحتمال الأوّل، فمضافاً إلى بعده عن سياق هذه الروايات، بل هو ‏مخالف لظاهر أو صريح بعضها كما هو واضح لمن أعطى النظر حقّه في ‏مفاد تلك الروايات فلاحظ معتبرة العيص بن القاسم (إن أتاكم آت منّا ‏فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد فإنّ زيداً كان عالماً ‏وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلّى ‏الله عليه وآله وسلّم) ولو ظفر لوفّى بما دعاكم إليه إنّما خرج إلى سلطان ‏مجتمع لينقضه فالخارج منّا اليوم إلى أي شيء يدعوكم إلى الرضا من آل ‏محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا ‏اليوم وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا). ‏أقول مضافاً إلى ذلك فإنّها على فرض ورودها بهذا اللحاظ المشار إليه في ‏هذا الاحتمال تكون ساقطة عن الاعتبار مهما علا اعتبار أسانيدها وقويت ‏دلالاتها، لأنّها تكون منافية لما هو المقطوع به من أصل مشروعية التصدي ‏للمنكر وحرمة السكون إزاء الظلم والجور. ومن الواضح أنّ الشارع الأقدس ‏لا يتعبدنا بما نقطع بخلافه.‏
وأمّا الاحتمال الثاني، فمضافاً إلى بعده عن سياق جملة من الروايات ‏نظير معتبرة العيص ومرفوعة ربعي ومرسلة الشريف الرضي في النهج وما ‏رواه زر بن حبيش، أقول مضافاً إلى ذلك فإنّ مجيء هذه الروايات في مقام ‏التقييد الازماني غير محتمل فقهياً بحيث يكون الحكم الواقعي القاضي ‏بالتصدي للظلم حكماً مقطعياً محدوداً زمنية وجيزة، مضافاً إلى اباء جملة من ‏أدلة مشروعية التصدي للظالم عن التقييد بهذا النحو.‏
وأمّا الاحتمال الثالث، فيدفعه أنّ حمل هذه الروايات على الحكم الثانوي ‏بنحو يكون تكليف الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة ‏والسلام) وإلى زمان ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه) هو العمل بحكم ثانوي ‏مهما اشتد الظلم ومهما كانت الظروف مساعدة على التغيير ولو بنحو ‏الموجبة الجزئية غير عرفي، وحمل الروايات على ذلك بمنزلة التقييد ‏الازماني للحكم الواقعي الأولي من حيث النتيجة. مضافاً إلى إمكان أن يقال ‏أنّ لسانها ليس لسان بيان حكم ثانوي كلي نظير الروايات الواردة في بيان ‏حكم ثانوي كلي يترك تطبيقه إلى المكلف كما في معتبرة زرارة، التقية في كل ‏ضرورة وصاحبها أعلم حين تنزل به. فإنّ لسان روايات النهي عن الخروج ‏لسان تعيين الوظيفة خارجاً للشيعة.‏
وأمّا الاحتمال الرابع، فهو لا محذور فيه إذ لا يصطدم مع حكم قطعي أو ‏ضرورة فقهية أو نحو ذلك، بل هو المنسجم مع لسان تلك الروايات، ولكن ‏مناسبات الحكم والموضوع تقضي بأن لا يكون هذا الحكم الولائي مستمراً ‏وبنحو قاعدة عامة، فإنّ فترة طويلة من الزمن تستبطن الكثير من التحولات ‏السياسية والإجتماعية، مضافاً إلى أنّ اتخاذ سياسة السكون بنحو عام لا يكون ‏في مصلحة الشيعة على طول الخط، بل قد يكون نقضاً للغرض وموجباً ‏لانحلال إرادة الأمة، وإمعان حكام الجور في الظلم والتعدي، مضافاً إلى أنّ ‏القيام ضد الجائر وان لم ينته إلى إسقاطه في بعض الأحايين لكنه قد يوجب ‏تحجيمه وإضعافه، كل ذلك يوجب أن يفهم من هذا الحكم أنّه محدود في ‏موارد خاصة وأنّ الاستمرارية غير مرادة منه.‏
ومن الجدير ذكره أنّ من المترقب جداً أن تصدر مثل هذه الروايات في ‏مقام التقية، لاقتضاء ظروف الأئمة (عليهم السلام) لذلك، أي أنّ الظرف كان ‏يقضي بأن يسمع من الأئمة (عليهم السلام) وينقل عنهم ما يدل على أنّهم ليسوا ‏بصدد تحريك الوضع أصلاً، وأنّ التعليمات المعطاة للشيعة تقضي بعدم ‏التحرك والالتزام بالهدوء إلى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه).‏
هذا كلّه في غير الروايات التي يستفاد منها أنّ النهي عن الخروج ينشأ ‏من خلل في المتصدي لقيادة ذلك الخروج بحيث لم يكن مورداً لتأييد الأئمة (‏عليهم السلام)، أو ينشأ من عدم ملائمة الظرف الفعلي، أو لوجود مفسدة أكبر.‏

الأمر الثاني: ما دلّ على وجوب التقية.‏
فهناك روايات كثيرة وردت في هذا المجال، جمع المحدث العاملي(قدس سره) ‏قسماً كبيراً منها ورتّبه على عدة أبواب. ومن هذه الروايات معتبرة عبد الله ‏بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: التقية ترس المؤمن ‏والتقية حرز المؤمن ولا إيمان لمن لا تقية له، ومعتبرة محمد بن مسلم، عن ‏أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كلّما تقارب هذا الأمر كان أشد للتقية.‏
ونلاحظ على التمسك بهذا الدليل:‏
أولاّ: أنّ الكثير من روايات التقية ناظر إلى وقاية الشيعة ـ من خلال ‏التزامهم بالتقية ـ من الأخطار التي قد ترد عليهم من غير ناحية القيام ‏المسلح ضد الجائر، إذ كان الشيعي يتعرض للضرر فيما لو انكشف أنّه ‏شيعي أو أنّه من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، أو فيما لو نقل عن الإمام (عليه السلام) شيئاً يتحسن منه المخالفون.‏
ثانياً: أنّ التقية عبارة عن إجراء احترازي لوقاية الشيعة، وهي تنسجم ‏حتى مع فكرة التصدي للحاكم الجائر، لأنّه بحاجة إلى حذر وحيطة وكتمان ‏وعمل سري، فعلى الرغم من وجوب اسقاط الجائر ولو بالقيام المسلح إلاّ أنّ ‏ذلك لابد أن يكون خاضعاً للحيطة والحذر وهو يقتضي العمل بالتقية.‏
ثالثاً: أنّ التقية ذات أحكام مختلفة باختلاف الموارد، ففي بعض الموارد ‏تكون التقية واجبة، وفي بعض آخر تكون جائزة، وفي بعض ثالث تكون ‏محرّمة فإذا ثبت في مورد وجوب التصدي للجائر، فإنّ التقية المانعة عن ذلك ‏تكون محرّمة في ذلك المورد بعينه، وإذا ثبت في مورد جواز التصدي، لا ‏تكون التقية في ذلك المورد مانعة أصلاً لجواز تركها.‏
الأمر الثالث: التمسك بعمل الأئمة (عليهم السلام)، فإنّهم بعد استشهاد الإمام ‏الحسين (عليه السلام) قعدوا عن التصدي المسلح على الرغم من إمعان حكام ‏الوقت في جورهم، وتردي الأوضاع في ظل حكمهم ممّا يكشف عن عدم ‏وجوب التصدي.‏
ونلاحظ على ذلك: إنّ عدم تصدي جملة من الأئمة (عليهم السلام) لحكام ‏الجور تصدياً مسلحاً لا يمكن أن يكشف عن كون الحكم الثابت في الشريعة ‏هو جواز ترك مجابهة الظالم، لأنّ ترك التصدي يمكن أن يكون معلولاً ‏لجهات عديدة منها عدم مواتاة الظروف، وعدم كون التصدي ذا أثر بمستوى ‏التصدي وما يترتب عليه، أو وجود واجب أهم من نفس التصدي المسلح، أو ‏ترتب مفسدة أعظم من مصلحة نفس التصدي. وكل جهة من هذه الجهات ‏تكفي لوحدها مبرراً للقعود، بل يمكن أن يقال إنّنا لا نحتمل في حق الأئمة ‏(عليهم السلام) السكوت والسكون في قبال حكام الجور مع انتفاء تلك الجهات ‏المتقدمة، وأنّ من يتطرق إلى ذهنه مثل هذا الاحتمال لم يفهم الأئمة (عليهم ‏السلام) ولم يفهم الإسلام.‏
واحتمال أحد الجهات المتقدمة كاف في إبطال الاستدلال بقعود جملة من ‏ائمتنا (عليهم السلام) على عدم وجوب التصدي للحاكم الجائر، فكيف والمستفاد ‏من جملة من الروايات والشواهد التاريخية وجود هذه الجهات في زمانهم (‏عليهم السلام) الأمر الذي يجعل التمسك بقعودهم (عليهم السلام) بعيد الصدور ‏ممن له ملكة الاستنباط.‏
فتحصل عدم تمامية الاستدلال على عدم وجوب أو عدم مشروعية ‏التصدي لحكام الجور، فما دل على المشروعية أو الوجوب سالم عن ‏المعارض
هذا وقد بقيت جملة من العناوين التفصيلية المرتبطة بهذا البحث المهم ‏نظير بيان المقصود من حكام الجور، وهل أنّ التصدي لحكام الجور له ‏مراتب أم لا؟ وهل أنّ التصدي لحكام الجور يحتاج إلى إذن الفقيه الجامع ‏للشرائط واشرافه؟ وما هي الموارد التي لا يكون التصدي فيها واجباً أو ‏مشروعاً نسأل الله تعالى التوفيق لبحثها والحمد لله رب العالمين‏?.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية