بسم الله الرحمن الرحيم
لا
يخفى أن استيعاب البحث عن هذه المسألة التي تعد من مهمات مسائل
الفقه السياسي الإسلامي ـ والتي هي بحاجة إلى دراسة معمّقة
وتنقيح، خاصة مع كون المؤمنين في معرض الإبتلاء بها ـ يحتاج إلى
الكلام من عدة جهات، نتناول في هذا البحث بعضاً منها تاركين البحث
عن البعض الآخر إلى فرصة ثانية إن شاء الله تعالى.
الجهة الأولى: في استعراض الأدلّة التي قد يستدل بها على مشروعية
التصدي للحاكم الجائر أو وجوبه، والبحث في إمكان الإستدلال بها
على ذلك. وهي:
أولاً: أنّ التصدي للحاكم الجائر يندرج تحت عنوان الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فيتمسك بأدلة وجوبهما لإثبات وجوبه.
وقد يلاحظ على ذلك أنّ نهج هذا المسلك يوجب ضيق دائرة وجوب التصدي
أو مشروعيته، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا من
الواجبات المطلقة، وإنّما هما من الواجبات المشروطة بشروط منها
الأمن من الضرر، وهو منتف غالباً في موارد التصدي لحكام الجور.
والتحقيق أنّ ما دلّ من الآيات والروايات على وجوب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر مطلق نظير قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وقوله تعالى: {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقد ورد في
معتبرة بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته
يقول: أيّها الناس آمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر فإنّ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقرباً أجلاً ولم يباعداً رزقاً.
ولو تم سند الرواية المنقولة في مجمع البيان عن أمير المؤمنين
(عليه أفضل الصلاة والسلام) في تفسير قوله تعالى على لسان لقمان:
{واصبر على ما أصابك} بإرادة تحمّل الأذى والمشقة على الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لعزز استفادة الوجوب المطلق من الآية
الكريمة.
وأمّا ما استدل به على اشتراط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بالأمن من الضرر، فروايات أكثرها مخدوش سنداً، ولكن فيها
ما هو تام السند، وهو:
1 ـ رواية يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد الله (عليه
السلام): إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ أو جاهل
فيتعلم فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.
ويحيى الطويل وإن كان لم ينص على توثيقه، إلاّ أنّ رواية ابن أبي
عمير عنه كاشفة عن وثاقته على المختار.
إلاّ أنّ هذه الرواية ليست لها دلالة على الشرطية المدعاة، وإنّما
الظاهر منها أو لا أقل من الاحتمال الموجب للإجمال هو أنّ الذي
يطلب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر هو من يؤثر فيه ذلك، وأمّا
صاحب السيف أو السوط فبلحاظ عدم تأثيرهما فيه فلا يطلب أمره
بالمعروف أو نهيه عن المنكر. وعلى هذا لا تدل الرواية على عدم
مطلوبية أمر صاحب السيف أو السوط بالمعروف ونهيه عن المنكر مطلقاً
بل تختص بموارد عدم التأثير، بل قد ينساق إلى الذهن العرفي من هذه
الرواية أنّ محط النظر فيها هو المرتبة اللسانية من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر حيث أنّ صاحب السيف أو السوط لا يرتدع
بهذه المرتبة، أو أنّ النحو الذي يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر
به المؤمن الذي يرجى اتعاظه أو الجاهل الذي يلتفت إلى الحق لا
يؤتى به مع صاحب السوط والسيف فإنّ هذا النحو لا يؤثر فيه.
2 ـ رواية المفضل بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لي:
يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق
الصبر عليها.
وسند الرواية معتبر بنفس البيان المتقدم في الرواية السابقة.
إلاّ أنّ هذه الرواية كما يظهر من التدقيق في لسانها ليست بصدد
تقرير شرط الأمن من الضرر، بل اطلاقها شامل للبلية غير المترقبة،
فكأنّها في مقام امساك مخاطبيها عن التعرض للسلطان الجائر، ولابد
أن يحمل ذلك على صورة مرجوحية التعرض شرعاً، وإلاّ فإنّ عدم
إطلاقها مقطوع به، إذ أنّ الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة
والسلام) قد تعرض للسلطان الجائر وأصابه من البلايا ما لم يصب
غيره، بل أنّ الأخذ بإطلاق الرواية ينافي ما هو المعلوم من الشرع
من لزوم مقاومة الظلم والجور والانحراف وقد كان ذلك من سمات
الأنبياء والأوصياء والصالحين، فمناسبات الحكم والموضوع تقضي بأنّ
محط النظر هو الموارد التي يكون التعرض فيها للجائر مرجوحاً
شرعاً.
3 ـ رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه الصلاة والسلام) أنّه
كتب إلى المأمون: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا
أمكن ولم يكن خيفة على النفس.
ويرد على الاستدلال بها:
أولاً: ضعف سندها، فإنّ الشيخ الصدوق (قدس سره) أوردها بطرق ثلاثة
الأوّل منها مخدوش بعلي بن قتيبة النيسابوري، والثاني بمحمد بن
سنان، والثالث بعلي بن شاذان.
ثانياً: أنّها اشترطت عدم الخوف على النفس لا مطلق الأمن من الضرر
فهي أخص من المدعى.
ثالثاً: أنّ الأخذ بإطلاقها ممنوع كما تقدم في مناقشة الاستدلال
بالرواية السابقة، بل أنّ مواقف الأئمة عليهم السلام كانت بحسب
الحقيقة نهياً عن المنكر وكان فيها خوف على النفس.
فالصحيح أن يقال إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث
المبدأ والأساس غير مشروطين بالأمن من الضرر، وإنّما تتفاوت
مواردهما ففي بعض الموارد يكون الضرر أو الحرج موجباً لارتفاع
التكليف، ولا يكون كذلك في موارد أخر.
وعلى هذا فإنّه يصح التمسك بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لإثبات وجوب مجابهة الحاكم الجائر في غير الموارد التي يكون الحرج
أو الضرر موجباً فيها لارتفاع التكليف.
الدليل الثاني: التمسك بجملة من الروايات الدالة على وجوب التصدي
للحاكم الجائر، وهي:
1 ـ ما ورد عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين (عليه أفضل
الصلاة والسلام) أنّه قال: أيها الناس إنّ رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلّم) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم
الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه
واله وسلّم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه
بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.
والرواية واضحة الدلالة على وجوب التصدي للحاكم الجائر المتصف
بالمواصفات المفادة في متنها.
2 ـ ما ورد عن سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه قال:
ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به وأنّ الباطل لا يتناهى عنه ليرغب
المؤمن في لقاء الله محقاً فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة
مع الظالمين إلاّ برما.
والرواية دالة على مشروعية التصدي لإحقاق الحق وإبطال الباطل ولو
كلف الإنسان حياته.
3 ـ ما ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال: وددت لو أنّ
الخارجي خرج وعليّ نفقة عياله.
4 ـ رواية سدير الصيرفي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)
فقلت له: والله ما يسعك القعود فقال: ولم يا سدير قلت: لكثرة
مواليك وشيعتك وأنصارك والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام)
ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي ـ إلى
أن قال: ـ فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء
فقال: والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني
القعود.
والرواية واضحة الدلالة على وجوب التصدي للحاكم الجائر لقلب حكمه
عند القدرة وتوفر الإمكانات.
فالمتحصل أنّه لا إشكال في دلالة هذه الروايات على المطلوب، إلاّ
أنّها جميعاً مبتلاة فنياً بالخدشة في السند.
الدليل الثالث: ما دلّ على عدم جواز الرضوخ للظالم والاستسلام له
كقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}. والركون بمعنى الميل
والسكون، وبما أنّ الاستسلام للظالم ركون إليه وهو حرام بنص الآية
الكريمة، فيجب إذن مجابهته ومواجهته.
الدليل الرابع: إنّ جملة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة
دلتنا على حرمة طاعة المفسد والمنحرف، كقوله تعالى {وَلَا
تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} وقوله تعالى
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}،
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ
مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وورد في مرسلة ابن أبي عمير،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أطاع رجلاً في معصية فقد
عبده، وفي الخصال بسنده، عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة
والسلام) قال: أربعة من قواصم الظهر إمام يعصي الله ويطاع
أمره...
وعلى هذا فالتمرد على الجائر واجب، ولا ريب في أنّه نحو من أنحاء
المجابهة له.
الدليل الخامس: إنّ من المقرر فقهياً أنّ الأمور التي يهتم الشارع
بعدم وقوعها خارجاً يجب المنع من وقوعها، وقد مثلوا لذلك بقتل
الأنفس المحترمة، وترويج البدع. وبما أنّنا علمنا من الآيات
الكثيرة والروايات المتظافرة اهتمام الشارع بعدم وقوع البغي
والظلم والفساد بين الناس وجب المنع من وقوع هذه الأمور، فاذا كان
تولي الجائر موجباً لوقوعها وهو كذلك وجب التصدي له للمنع من
وقوعها.
ولنستعرض عدداً من الآيات الكريمة الواضحة في اهتمام الشارع
الأقدس بعدم وقوع الظلم والفساد بين الناس.
1 ـ قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. وهي واضحة
في المطلوب إذ بلغ اهتمام الشارع الأقدس بقيام الناس بالقسط حداً
كان العلّة في إرسال الرسل وإنزال الكتب.
2 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ
وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}.
3 ـ قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن
قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ}.
4 ـ مجموعة من الآيات الكاشفة من حيث المجموع على الأقل بعدم رضا
الشارع بوقوع البغي والظلم والفساد، كقوله تعالى: {وَلاَ
تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، وقوله
تعالى: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الارْضِ}، وقوله
تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ}، وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ}، وقوله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ}. فان هذه التأكيدات مضافاً إلى ملاحظة سياقات
بعض الآيات المتقدمة توجب الوقوف على قضية اهتمام الشارع بعدم
وقوع البغي والظلم والفساد في المجتمع.
الدليل السادس: إنّ تولّي الجائر يصطدم مع نهج الشريعة المقدسة
ومقاصدها السامية، ذلك أنّ الله تعالى أراد للإنسان أن يسير على
هداه، ويتكامل من خلال قانونه، وأراد للمجتمع أن يكون ربانياً،
وما إرسال الرسل وإنزال الكتب إلاّ لهذه الغاية، ولم يسمح الشارع
الأقدس لكل أحد أن يتصدى لحكم الناس، وإنّما شرع الحكومة وأناطها
بالنبي والوصي ونائبه، وجعل لهم القيمومة على المجتمع لتحقيق
الأهداف المزبورة. فولاية الجائر تصطدم مع هذا النهج وتوجب
الانحراف عنه، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: إنّ
في ولاية الجائر دروس الحقّ كله وإحياء الباطل كلّه وإظهار الظلم
والجور والفساد وإبطال الكتب وقتل الأنبياء والمؤمنين وهدم
المساجد وتبديل سنة الله وشرائعة.
وإذا كان الأمر كذلك فلا ريب في مشروعية التصدي للجائر لموافقته
لمذاق الشارع، واقتضاء أغراضه له، وإذا تم الإلتفات إلى أنّ
القضاء على الظلم والبغي والفساد مما يهتم الشارع بعدم وقوعه
اهتماماً بالغاً إنّما يتأتى من خلال تطبيق شرع الله تعالى وتجسيد
نهجه في المجتمع، فسوف يتم الوقوف على مدى اهتمام الشارع بذلك
الأمر القاضي بوجوب التصدي للجائر.
الدليل السابع: التمسك بقيام الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة
والسلام)، فإنّ فعله كمعصوم مصدر للفقيه في استنباط الحكم الشرعي،
فيتمسك به لإثبات المشروعية.
وقد يناقش في هذا الدليل بأحد أمور:
الأوّل: أنّ قيام الإمام الحسين (عليه السلام) فعل لا مجال للأخذ
بالإطلاق في مورده، ومن المحتمل وجود عنصر خاص دعى إلى القيام وهو
أنّ خلافة بني أمية ويزيد بالذات كانت في طريق محو الإسلام فخرج
الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام دفاعاً عن بيضة الإسلام وهو
أمر لا ريب في مشروعيته، وقد يستشهد لذلك بما روي عنه (عليه
السلام) من قوله الشريف: وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة
براع مثل يزيد.
والحاكم الجائر قد لا يكون بهذا المستوى بحيث يشكل خطراً على بيضة
الإسلام، فلا يمكن التمسك بعمل الإمام (عليه السلام) لإثبات
مشروعية التصدي لمثل هذا الحكم.
الثاني: أنّ عمل المعصوم (عليه السلام) إنّما يكون مصدراً للتشريع
إذا لم يكن العمل من مختصاته، وأمّا إذا كان كذلك فلا مجال
للاستدلال به لإثبات حكم لغير المعصوم وقد كان قيام الإمام الحسين
(عليه السلام) تكليفاً خاصاً وراءه نكات غيبية. فهو قضية في
واقعة، ولا مجال للاستدلال به على ما نحن فيه.
الثالث: أنّ الصادر من الإمام (عليه السلام) هو رفض البيعة للطاغية
يزيد (لعنه الله تعالى) فكان أن قوتل لأخذ البيعة، وهو غير مسألة
القيام الإبتدائي ضد الحاكم الجائر.
أمّا المناقشة الأولى فهي تواجه من الناحية المنهجية مشكلة، ذلك
أنّ الخطر على بيضة الإسلام إنّما يتحقق في موارد معينة كتعرض
المسلمين لهجوم يستهدف استئصالهم والقضاء عليهم، أو تعرضهم لهجوم
يستهدف تبديل عقيدتهم وردّهم عن الإسلام، أو تعرضهم لهجوم يستهدف
تذويب كيانهم وشخصيتهم كأن يحكم الكفّار المسلمين بأحكام الكفر،
وهذه الأمور لم تكن متحققة آنذاك، ولم يكن يترقب تحققها في ذلك
المقطع التاريخي لعدم قدرة أولئك المفسدين على ذلك، وإنّما الذي
كان قد حصل آنذاك هو أنّ الدولة على الرغم من قيامها ظاهراً على
أساس الإسلام إلاّ أنّ الحكم والحاكم يشذ في تصرفاته عن القاعدة
الإسلامية عن هوى وعمد. صحيح أنّ هذا الانحراف لو قدر له أن يستمر
فسوف يشكل على مدى أطول خطراً على القاعدة التي يقوم عليها كيان
المسلمين، إلاّ أنّ الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قام
في ظرف لم يكن للطاغية يزيد ولا لبني أميه على الرغم من نواياهم
المبيّتة القدرة على تشكيل خطر فعلي على بيضة الإسلام، فيمكن
التمسك بفعله (عليه السلام) لإثبات مشروعية التصدي لحاكم جائر من
هذا القبيل، فضلاً عن مشروعية التصدي لحاكم جائر لا تقوم دولته
على أساس الإسلام بل على أساس النظم الوضعية. اللهم إلاّ أن يقال
إنّ قيام الإمام الحسين (عليه السلام) لو لم يتحقق في ذلك المقطع
الزمني لتعذر التغيير فيما بعد حينما يشكّل الحكم خطراً على
القاعدة التي يقوم عليها كيان المسلمين.
إلاّ أنّه على الرغم من ذلك يمكن التمسك بفعله (عليه السلام) إذا
كانت الظروف مشابهة كما هو الحال بالنسبة لأنظمة الحكم الوضعية في
زماننا.
وأمّا المناقشة الثانية، فيلاحظ عليها أنّها دعوى بلا برهان،
والإستشهادات المذكورة لا تدل على أنّ قيام الإمام الحسين (عليه
السلام) قضية غيبية خاصة، وإنّما غاية ما تدل عليه هو أنّ
استشهاده والصفوة من أهل بيته وأصحابه وسبي النساء والأطفال أمر
مكتوب في لوح القدر، وهو لا ينافي أن يهبّ الإمام (عليه السلام)
للقيام بما تقتضيه الوظيفة الشرعية، فيكون قد كتب عليه السلام أن
يكون هو القائم بهذه الوظيفة العظمى والشهيد في هذا السبيل.
ويعزز ما ذكرناه فهم المسلمين والشيعة وأصحاب الأئمة (عليهم
السلام) ذلك، دون أن تفهم حركة الإمام الحسين (عليه السلام) على
أنّها مسألة غيبية خاصة، ولم يصدر من الأئمة (عليهم السلام) شيء ـ
فيما وصلنا بطريق معتبر ـ يوحي بذلك، مع أنّهم (عليهم السلام)
كانوا يستطيعون في معرض الجواب عن سبب قعودهم وعدم مواصلتهم نهج
الإمام الحسين (عليه السلام) أن يعزوا قيام الإمام (عليه السلام)
إلى قضية خاصة به.
وأمّا المناقشة الثالثة فنلاحظ عليها:
أولاً: أنّنا لم نستدل بخصوص ما جرى في كربلاء من قتال الإمام
(عليه السلام) لجيش الطاغية اللعين يزيد، وإنّما نستدل بمجموع
حركة الإمام (عليه السلام)، فإنّه استجاب لنداءات أهل الكوفة وكان
مستعداً لتصعيد المواجهة إلى حد القيام بتقويض حكم يزيد الفاسد.
ثانياً: إنّنا نبحث عن حكم التصدي للحاكم الجائر الأعم من القيام
المسلح، ورفض الإمام (عليه السلام) للبيعة وإعلانه التمرد على
يزيد واستعداده للإستشهاد على هذا الموقف كاشف عن مشروعية هذا
النحو من التصدي للحاكم الجائر.
الدليل الثامن: إمضاء الأئمة (عليهم السلام) لقضية التصدي لحكام
الجور ولو كان ذلك التصدي مسلحاً. وقد تجلّى ذلك في قيام زيد بن
علي، إذ وردت روايات عديدة في مدح حركته المسلحة، وبعضها وإن كان
ضعيف السند كرواية عبد الله بن سيّابة، عن مولانا الإمام الصادق
(عليه السلام) أنّه قال: عند الله احتسب عمّي أنّه كان نعم العم،
إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا مضى والله عمي شهيداً كشهداء
استشهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعلي والحسن
والحسين (صلوات الله عليهم).
ورواية الفضل بن يسار، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: يا
فضيل شهدت مع عمي زيد قتال أهل الشام قلت نعم فقال: كم قتلت منهم
قلت: ستة قال: فلعلك شاك في دمائهم. قلت: لو كنت شاكاً ما قتلتهم
فسمعته وهو يقول: اشركني الله في تلك الدماء، ما مضى والله زيد
عمي وأصحابه إلاّ شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب (عليه
السلام) وأصحابه.
ورواية ابن أبي عبدون، عن أبيه، عن الرضا (عليه السلام) في حديث
أنّه قال للمأمون: لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنّه كان من
علماء آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غضب لله فجاهد أعداءه
حتى قتل في سبيله ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنّه سمع أباه جعفر
بن محمد (عليهما السلام) يقول: رحم الله عمي زيداً أنّه دعا إلى
الرضا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو ظفر لوفى بما
دعا إليه، استشارني في خروجه فقلت إن رضيت أن تكون المقتول
المصلوب بالكناسة فشأنك فلمّا ولّى قال جعفر بن محمد ويل لمن سمع
واعيته فلم يجبه.
أقول: هذه الروايات وإن كانت مبتلاة بضعف السند، إلاّ أن معتبرة
العيص بن القاسم كافية في إثبات الإمضاء فإنّه روى عن أبي عبد
الله (عليه السلام) قوله: فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم
يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه
وآله وسلّم) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه إنّما خرج إلى سلطان
مجتمع لينقضه.
وقد يقال إنّ هناك روايات ذامة لزيد وغير مؤيدة لخروجه. ولكنها
ضعيفة سنداً ولا يستفاد منها كون الخروج على الجائر حراماً، بل في
مرسلة موسى بن بكر بن داب ورد قول الإمام (عليه السلام) لزيد: فلا
تعجل انّ الله لا يعجل لعجلة العباد ولا تسبقن الله فتعجزك البلية
فتصرعك. وهو ظاهر في أنّ النهي الوارد إنّما هو بلحاظ عدم مواتاة
الظرف للخروج لا بلحاظ عدم مشروعية الخروج على الجائر.
وأمّا معتبرة أبان المروية في أصول الكافي في كتاب الحجة باب
الاضطرار إلى الحجة، فلا تنافي معتبرة العيص، إذ أنّ إمضاء الإمام
(عليه السلام) لموقف الأحول وإقرار حجته في معتبرة أبان كان قبل
خروج زيد، ولعل زيد آنذاك لم يكن يريد أن يدعو إلى المعصوم (عليه
السلام)، أو لم يكن يريد أن يستأذنه. بينما معتبرة العيص واضحة في
إمضاء قيام زيد الكاشف عن تطابقه مع الموازين الشرعية.
هذا كلّه فيما يرتبط بقيام زيد (رضوان الله تعالى عليه). وأمّا
قيام الحسين المقتول بفخ، فهناك عدة روايات واضحة في إمضاء قيامه
نظير ما روي عن الإمام الكاظم (عليه أفضل الصلاة والسلام) أنّه
قال للحسين: إنّك مقتول فأحد الضراب فإنّ القوم فساق يظهرون
إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند
الله أحتسبكم من عصبة. وما روي عنه (عليه السلام) من قوله بعد
المجيء برؤوس الحسين وأصحابه: مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً
قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله،
وما روي عن الحسين نفسه أنّه قال: ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا
وشاورنا موسى بن جعفر (عليه السلام) فأمرنا بالخروج. وغير ذلك من
الروايات، ولكنها مبتلاة بضعف السند، ومن ثم فقد سلك البعض طريقاً
آخر لإثبات إمضاء الإمام (عليه السلام) لقيام الحسين حاصله أن عدم
ورود خبر واحد في ذم خروج الحسين قد يبعث على الإطمئنان برضا
الإمام (عليه السلام) بخروجه وإلاّ لكان يكثر النص على عدم رضاه
ولكان يصلنا بعض تلك النصوص ولو بأسانيد ضعيفة خاصة وأن الإمام
(عليه السلام) كان يعيش حالة التقية المناسبة للنص على عدم
الرضا.
ونلاحظ عليه: إنّ مجرد عدم ورود خبر عن الإمام (عليه السلام) في ذم
خروج حسين فخ لا يكشف عن إمضاء الإمام (عليه السلام) لهذا الخروج،
لإمكان أن يكون امتناع الإمام (عليه السلام) لهذا الخروج، لإمكان
أن يكون امتناع الإمام (عليه السلام) عن ذلك لأجل أن لا يعطي
للحاكم الجائر فرصة الإستفادة من موقفه لتقوية سلطانه، والإمعان
في الجور على الشيعة، ومن الممكن أنّ الإمام (عليه السلام) على
الرغم من كونه يعيش أجواء التقية إلاّ أنّه لم يسلط عليه ضغط
يدعوه إلى إظهار عدم الرضا. وفي سكوت الإمام العسكري (عليه
السلام) عن ثورة الزنج ما يدلل على صحة ما ذكرناه منهجياً، فإنّ
الإمام (عليه السلام) لم يردنا عنه أي ذم لهذا القيام مع قطعنا
بعدم إمضاءه له، إذ أنّه قيام لا يدعو إلى الرضا من آل محمّد
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يكن على صلة بالإمام (عليه
السلام)، مضافاً إلى ارتكابه ما يخالف الشرع من القتل والنهب، فمع
ذلك سكت الإمام (عليه السلام) كي لا يكون إظهاره عدم الرضا موجباً
لتقوية سلطان الجور وتدعيم حكمه.
هذه هي عمدة الأدلّة التي يمكن أن تقام لإثبات مشروعية التصدي
للحاكم الجائر ولو بالقيام المسلح، وقد ظهر أن جلّها تام في إثبات
المطلوب.
الجهة الثانية: في دراسة ما قد يستدل به على عدم مشروعية أو عدم
وجوب التصدي للحاكم الجائر، فقد يستدل على ذلك بأمور:
الأول: الروايات الناهية عن التصدي المسلح وما شاكله. وقد عقد
المحدث صاحب الرسائل (قدس سره) باباً بعنوان حكم الخروج بالسيف
قبل قيام القائم (عليه السلام)، أورد فيه كثيراً من هذه الأخبار،
وهناك أخبار أخرى بهذا المضمون لم يوردها في هذا الباب. وجل هذه
الأخبار ساقط سنداً، وفيها عدد يسير يحظى باعتبار السند.
ولكن هذه الأخبار لابد أن توضع في الإطار الفني حتى يمكن فهمها
جيداً، إذ الاحتمالات الثبوتية فيها أربعة:
الاحتمال الأول: أن يكون النهي عن التصدي للجائر بلحاظ كون الحكم
الواقعي الأوّلي هو حرمة الخروج على الجائر ووجوب الرضوخ له
والسكون إزاءه.
الاحتمال الثاني: أن يكون النهي عن التصدي للجائر تقييداً لما دلّ
على وجوب التصدي أو مشروعيته، غاية الأمر يكون هذا التقييد
أزمانياً، بمعنى أن ما دل على وجوب التصدي أو مشروعيته له إطلاق
أزماني ولكن هذه الروايات تقيده أزمانياً.
الإحتمال الثالث: أن يكون مفادها الحكم الثانوي حالها حال الروايات
المفيدة للأحكام الثانوية الطارئة.
الاحتمال الرابع: أن تكون في مقام بيان حكم ولائي من المعصوم (عليه
السلام) نظير الأحكام الولائية الصادرة منهم (عليهم السلام) في
موارد مختلفة.
أمّا الاحتمال الأوّل، فمضافاً إلى بعده عن سياق هذه الروايات، بل
هو مخالف لظاهر أو صريح بعضها كما هو واضح لمن أعطى النظر حقّه في
مفاد تلك الروايات فلاحظ معتبرة العيص بن القاسم (إن أتاكم آت
منّا فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد فإنّ زيداً
كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى
الرضا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو ظفر لوفّى بما
دعاكم إليه إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منّا اليوم
إلى أي شيء يدعوكم إلى الرضا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه
أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا). أقول
مضافاً إلى ذلك فإنّها على فرض ورودها بهذا اللحاظ المشار إليه في
هذا الاحتمال تكون ساقطة عن الاعتبار مهما علا اعتبار أسانيدها
وقويت دلالاتها، لأنّها تكون منافية لما هو المقطوع به من أصل
مشروعية التصدي للمنكر وحرمة السكون إزاء الظلم والجور. ومن
الواضح أنّ الشارع الأقدس لا يتعبدنا بما نقطع بخلافه.
وأمّا الاحتمال الثاني، فمضافاً إلى بعده عن سياق جملة من الروايات
نظير معتبرة العيص ومرفوعة ربعي ومرسلة الشريف الرضي في النهج وما
رواه زر بن حبيش، أقول مضافاً إلى ذلك فإنّ مجيء هذه الروايات في
مقام التقييد الازماني غير محتمل فقهياً بحيث يكون الحكم الواقعي
القاضي بالتصدي للظلم حكماً مقطعياً محدوداً زمنية وجيزة، مضافاً
إلى اباء جملة من أدلة مشروعية التصدي للظالم عن التقييد بهذا
النحو.
وأمّا الاحتمال الثالث، فيدفعه أنّ حمل هذه الروايات على الحكم
الثانوي بنحو يكون تكليف الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه
أفضل الصلاة والسلام) وإلى زمان ظهور القائم (عجل الله تعالى
فرجه) هو العمل بحكم ثانوي مهما اشتد الظلم ومهما كانت الظروف
مساعدة على التغيير ولو بنحو الموجبة الجزئية غير عرفي، وحمل
الروايات على ذلك بمنزلة التقييد الازماني للحكم الواقعي الأولي
من حيث النتيجة. مضافاً إلى إمكان أن يقال أنّ لسانها ليس لسان
بيان حكم ثانوي كلي نظير الروايات الواردة في بيان حكم ثانوي كلي
يترك تطبيقه إلى المكلف كما في معتبرة زرارة، التقية في كل ضرورة
وصاحبها أعلم حين تنزل به. فإنّ لسان روايات النهي عن الخروج لسان
تعيين الوظيفة خارجاً للشيعة.
وأمّا الاحتمال الرابع، فهو لا محذور فيه إذ لا يصطدم مع حكم قطعي
أو ضرورة فقهية أو نحو ذلك، بل هو المنسجم مع لسان تلك الروايات،
ولكن مناسبات الحكم والموضوع تقضي بأن لا يكون هذا الحكم الولائي
مستمراً وبنحو قاعدة عامة، فإنّ فترة طويلة من الزمن تستبطن
الكثير من التحولات السياسية والإجتماعية، مضافاً إلى أنّ اتخاذ
سياسة السكون بنحو عام لا يكون في مصلحة الشيعة على طول الخط، بل
قد يكون نقضاً للغرض وموجباً لانحلال إرادة الأمة، وإمعان حكام
الجور في الظلم والتعدي، مضافاً إلى أنّ القيام ضد الجائر وان لم
ينته إلى إسقاطه في بعض الأحايين لكنه قد يوجب تحجيمه وإضعافه، كل
ذلك يوجب أن يفهم من هذا الحكم أنّه محدود في موارد خاصة وأنّ
الاستمرارية غير مرادة منه.
ومن الجدير ذكره أنّ من المترقب جداً أن تصدر مثل هذه الروايات في
مقام التقية، لاقتضاء ظروف الأئمة (عليهم السلام) لذلك، أي أنّ
الظرف كان يقضي بأن يسمع من الأئمة (عليهم السلام) وينقل عنهم ما
يدل على أنّهم ليسوا بصدد تحريك الوضع أصلاً، وأنّ التعليمات
المعطاة للشيعة تقضي بعدم التحرك والالتزام بالهدوء إلى ظهور
القائم (عجل الله تعالى فرجه).
هذا كلّه في غير الروايات التي يستفاد منها أنّ النهي عن الخروج
ينشأ من خلل في المتصدي لقيادة ذلك الخروج بحيث لم يكن مورداً
لتأييد الأئمة (عليهم السلام)، أو ينشأ من عدم ملائمة الظرف
الفعلي، أو لوجود مفسدة أكبر.
الأمر الثاني: ما دلّ على وجوب التقية.
فهناك روايات كثيرة وردت في هذا المجال، جمع المحدث العاملي(قدس
سره) قسماً كبيراً منها ورتّبه على عدة أبواب. ومن هذه الروايات
معتبرة عبد الله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: التقية ترس المؤمن والتقية حرز المؤمن ولا إيمان
لمن لا تقية له، ومعتبرة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: كلّما تقارب هذا الأمر كان أشد للتقية.
ونلاحظ على التمسك بهذا الدليل:
أولاّ: أنّ الكثير من روايات التقية ناظر إلى وقاية الشيعة ـ من
خلال التزامهم بالتقية ـ من الأخطار التي قد ترد عليهم من غير
ناحية القيام المسلح ضد الجائر، إذ كان الشيعي يتعرض للضرر فيما
لو انكشف أنّه شيعي أو أنّه من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، أو
فيما لو نقل عن الإمام (عليه السلام) شيئاً يتحسن منه المخالفون.
ثانياً: أنّ التقية عبارة عن إجراء احترازي لوقاية الشيعة، وهي
تنسجم حتى مع فكرة التصدي للحاكم الجائر، لأنّه بحاجة إلى حذر
وحيطة وكتمان وعمل سري، فعلى الرغم من وجوب اسقاط الجائر ولو
بالقيام المسلح إلاّ أنّ ذلك لابد أن يكون خاضعاً للحيطة والحذر
وهو يقتضي العمل بالتقية.
ثالثاً: أنّ التقية ذات أحكام مختلفة باختلاف الموارد، ففي بعض
الموارد تكون التقية واجبة، وفي بعض آخر تكون جائزة، وفي بعض ثالث
تكون محرّمة فإذا ثبت في مورد وجوب التصدي للجائر، فإنّ التقية
المانعة عن ذلك تكون محرّمة في ذلك المورد بعينه، وإذا ثبت في
مورد جواز التصدي، لا تكون التقية في ذلك المورد مانعة أصلاً
لجواز تركها.
الأمر الثالث: التمسك بعمل الأئمة (عليهم السلام)، فإنّهم بعد
استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) قعدوا عن التصدي المسلح على
الرغم من إمعان حكام الوقت في جورهم، وتردي الأوضاع في ظل حكمهم
ممّا يكشف عن عدم وجوب التصدي.
ونلاحظ على ذلك: إنّ عدم تصدي جملة من الأئمة (عليهم السلام) لحكام
الجور تصدياً مسلحاً لا يمكن أن يكشف عن كون الحكم الثابت في
الشريعة هو جواز ترك مجابهة الظالم، لأنّ ترك التصدي يمكن أن يكون
معلولاً لجهات عديدة منها عدم مواتاة الظروف، وعدم كون التصدي ذا
أثر بمستوى التصدي وما يترتب عليه، أو وجود واجب أهم من نفس
التصدي المسلح، أو ترتب مفسدة أعظم من مصلحة نفس التصدي. وكل جهة
من هذه الجهات تكفي لوحدها مبرراً للقعود، بل يمكن أن يقال إنّنا
لا نحتمل في حق الأئمة (عليهم السلام) السكوت والسكون في قبال
حكام الجور مع انتفاء تلك الجهات المتقدمة، وأنّ من يتطرق إلى
ذهنه مثل هذا الاحتمال لم يفهم الأئمة (عليهم السلام) ولم يفهم
الإسلام.
واحتمال أحد الجهات المتقدمة كاف في إبطال الاستدلال بقعود جملة من
ائمتنا (عليهم السلام) على عدم وجوب التصدي للحاكم الجائر، فكيف
والمستفاد من جملة من الروايات والشواهد التاريخية وجود هذه
الجهات في زمانهم (عليهم السلام) الأمر الذي يجعل التمسك بقعودهم
(عليهم السلام) بعيد الصدور ممن له ملكة الاستنباط.
فتحصل عدم تمامية الاستدلال على عدم وجوب أو عدم مشروعية التصدي
لحكام الجور، فما دل على المشروعية أو الوجوب سالم عن المعارض
هذا وقد بقيت جملة من العناوين التفصيلية المرتبطة بهذا البحث
المهم نظير بيان المقصود من حكام الجور، وهل أنّ التصدي لحكام
الجور له مراتب أم لا؟ وهل أنّ التصدي لحكام الجور يحتاج إلى إذن
الفقيه الجامع للشرائط واشرافه؟ وما هي الموارد التي لا يكون
التصدي فيها واجباً أو مشروعاً نسأل الله تعالى التوفيق لبحثها
والحمد لله رب العالمين?.