مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

الثورة‌ الاسلامية‌ في‌ مواجهة‌ التحديات‌


قبل‌ اكثر من‌ عشرين‌ عاماً وحين‌ عاد الامام‌ الخميني‌(رض‌) من‌ منفاه‌ في‌ فرنسا الي‌ ايران‌ سأله‌ احد الصحفيين‌ الاجانب‌: اي‌ نظام‌ ستقيمون‌ في‌ ايران‌ بعد سقوط‌ نظام‌ الشاه‌؟ فأجابه‌ الامام‌ بكل‌ ثقة‌ «سنؤسس‌ جمهورية‌ اسلامية‌ كزيتونة‌ القرآن‌ الكريم‌، لا شرقية‌ ولا غربية‌» ولم‌ تمض‌ سوي‌ ايام‌ قلائل‌ بعد انتصار الثورة‌ الاسلامية‌ التي‌ هزت‌ العالم‌ واسقطت‌ اعتي‌' عروش‌ الاستبداد في‌ العصر الحديث‌، حتي‌ صوّت‌ الشعب‌ الايراني‌ بأسره‌ في‌ استفتاء عام‌ لصالح‌ اقامة‌ نظام‌ الجمهورية‌ الاسلامية‌.
اليوم‌ ومع‌ دخول‌ العالم‌ الالفية‌ الثالثة‌ لاتزال‌ الثورة‌ الاسلامية‌ في‌ ايران‌ بعد مرور عشرين‌ عاماً على انطلاقتها تستأثر اهتمام‌ الباحثين‌ والمفكرين‌ وعلماء السياسة‌ والتاريخ‌ لما افرزته‌ من‌ معطيات‌ حضارية‌، وتمكنها من‌ مواجهة‌ التحديات‌ الداخلية‌ والخارجية‌ الجسيمة‌، واجابتها على اسئلة‌ العصر الكبري‌، ويجمع‌ المراقبون‌ لتطورات‌ الساحة‌ الايرانية‌ على ان‌ الثورة‌ الاسلامية‌ الايرانية‌ قدمت‌ للعالم‌ نموذجاً متفرداً للدولة‌ الاسلامية‌ العصرية‌ القائمة‌ على مبدأ «ولاية‌ الفقيه‌»، هذا المبدأ الذي‌ اكد قدرة‌ الاسلام‌ على مواكبة‌ تحولات‌ العصر، وعزز ثقة‌ الشعوب‌ الاسلامية‌ بقدراتها الذاتية‌ وامكانية‌ مواجهة‌ القوي‌ الاستكبارية‌ التي‌ تواصل‌ كيدها للاسلام‌ والمسلمين‌ باساليب‌ شتي‌.
في‌ هذا السياق‌ اثيرت‌ في‌ الا´ونة‌ الاخيرة‌ اسئلة‌ عدة‌ عن‌ المخاضات‌ التي‌ شهدها الداخل‌ الايراني‌ بعد الانتخابات‌ الرئاسية‌ السابقة‌ التي‌ فاز بها السيد محمد خاتمي‌ وما واكب‌ ذلك‌ من‌ بروز توجهات‌ جديدة‌ على صعيدي‌ السياسة‌ الداخلية‌ والخارجية‌، حيث‌ تباينت‌ التقييمات‌ والتوقعات‌ بشأن‌ مستقبل‌ الثورة‌ الاسلامية‌ وقدرتها على مواجهة‌ تحديات‌ الالفية‌ الثالثة‌ مع‌ الحفاظ‌ على الاصول‌ والمبادي‌ء التي‌ انطلقت‌ منها.
ومما يلفت‌ النظر على هذا الصعيد انطلاق‌ الرهانات‌ في‌ اوساط‌ سياسية‌ واعلامية‌ خارج‌ ايران‌ تؤكد على حدوث‌ تغييرات‌ دراماتيكية‌ في‌ الجمهورية‌ الاسلامية‌ الايرانية‌ شبيهة‌ بما حدث‌ في‌ الاتحاد السوفيتي‌ السابق‌ على خلفية‌ سياسات‌ الانفتاح‌ التي‌ اسقطت‌ شعارات‌ الثورة‌ البلشفية‌ واستغنت‌ عن‌ المرتكزات‌ العقيدية‌ والفكرية‌ التي‌ قامت‌ عليها.
ويسود الاعتقاد في‌ هذه‌ الاوساط‌ ان‌ هناك‌ قوانين‌ للثورات‌ ترسم‌ خطاً بيانياً منحنياً الي‌ نزول‌ بعد ارتفاع‌ لكل‌ تجربة‌ ثورية‌، وبناءً على ذلك‌ يذهب‌ علماء اجتماع‌ السياسة‌ والمتخصصون‌ في‌ ميدان‌ «سوسيولوجيا الثورات‌» الي‌ القول‌ باستحالة‌ وجود «الثورة‌ المتواصلة‌» او ديمومة‌ «الوهج‌ الثوري‌» بعد مرور جيل‌ او جيلين‌ على اية‌ ثورة‌ تتبني‌ منظومة‌ فكرية‌ وعقائدية‌ معينة‌، وغالباً ما تتأسس‌ هذه‌ المقولات‌ او النظريات‌ على تجارب‌ ثورية‌ شهدها التاريخ‌ القديم‌ والحديث‌. فضلاً عن‌ ذلك‌ هناك‌ من‌ يؤطر «الحدث‌ الثوري‌» في‌ قوالب‌ جاهزة‌ لاتتجاوز مؤسسات‌ السلطة‌ واساليب‌ ممارسة‌ الحكم‌.
وفيما يتعلق‌ بالعالم‌ الثالث‌ ـ والذي‌ يتضمن‌ من‌ الناحية‌ الجغرافية‌ الدول‌ الاسلامية‌ ـ يصدّر المؤرخون‌ والباحثون‌ ممن‌ يتبنون‌ النظريات‌ والمفاهيم‌ الغربية‌ خطاباً معرفياً يشكك‌ بامكانية‌ تجاوز ثورات‌ العالم‌ الثالث‌ للبني‌' السياسية‌ الفوقية‌ باتجاه‌ البنى‌ التحتية‌ بما تتضمنه‌ من‌ نسيج‌ معقد للعلاقات‌ الاجتماعية‌.
والسؤال‌ المثار هنا هو الي‌ اي‌ مدي‌ تمكن‌ الباحثون‌ والمفكرون‌ والمراقبون‌ من‌ رجالات‌ السياسة‌ والاعلام‌ في‌ فهم‌ آليات‌ الثورة‌ الاسلامية‌ ونموذجها في‌ القيادة‌ والحكم‌ والتحولات‌ الحضارية‌ التي‌ اوجدتها في‌ المجتمع‌ الايراني‌ وما تركته‌ من‌ انعكاسات‌ تجاوزت‌ آثارها منظومة‌ العالم‌ الاسلامي‌، وقدرتها على مواجهة‌ وتجاوز الصعاب‌ والتحديات‌ التي‌ احاطت‌ بها من‌ كل‌ صوب‌.
المؤشرات‌ المتاحة‌ تؤكد ان‌ هناك‌ قصوراً في‌ فهم‌ الثورة‌ لايقتصر على رجالات‌ الفكر وانما ايضا على دوائر القرار السياسي‌ في‌ العواصم‌ التي‌ تراهن‌ على اسقاط‌ الثورة‌ ونموذج‌ النظام‌ السياسي‌ الاسلامي‌ الذي‌ افرزته‌.
ان‌ الاجابة‌ الموضوعية‌ عن‌ التساؤلات‌ التي‌ تطرح‌ في‌ الخارج‌ بين‌ حين‌ وآخر عن‌ راهن‌ ومستقبل‌ الثورة‌ الاسلامية‌ ـ اياً كانت‌ نواياها ـ تستدعي‌ في‌ المقام‌ الاول‌ الاشارة‌ الي‌ نقاط‌ جوهرية‌ تتعلق‌ بمسار الثورة‌ الاسلامية‌ الايرانية‌ وخطها البياني‌ طيلة‌ عقدين‌ من‌ عمرها المبارك‌.
النقطة‌ الاولي‌ هي‌ ان‌ الثورة‌ الاسلامية‌ تجاوزت‌ في‌ وقت‌ مبكر ما اصطلح‌ عليه‌ في‌ ادبيات‌ السياسة‌ «امراض‌ الثورات‌» من‌ قبيل‌ الصراع‌ الداخلي‌ بين‌ رجالاتها على السلطة‌، وممارسة‌ الاستبداد السياسي‌ بذريعة‌ مواجهة‌ تحديات‌ الداخل‌ والخارج‌، وتعطيل‌ المؤسسات‌ الدستورية‌ ومصادرة‌ الرأي‌ الا´خر، وجعل‌ الشعارات‌ الثورية‌ وسيلة‌ للتخلص‌ من‌ الخصوم‌ وتصفية‌ الحسابات‌ السياسية‌ والاستئثار بالسلطة‌.
فالثورة‌ الاسلامية‌ شرعت‌ منذ انتصارها بتهيئة‌ المناخات‌ المناسبة‌ لحياة‌ سياسية‌ تستند للقيم‌ والمبادي‌ء وليس‌ للاهواء والمصالح‌ الفئوية‌ والشخصية‌ وتحول‌ في‌ الوقت‌ ذاته‌ دون‌ ظهور استبداد سياسي‌ جديد يتبرقع‌ بالشعارات‌ الثورية‌، ومن‌ ادلة‌ ذلك‌ ان‌ قادة‌ الثورة‌ وعلي‌ رأسهم‌ الامام‌ الخميني‌ الراحل‌(رض‌) استفتوا الشعب‌ الايراني‌ في‌ نمط‌ الحكم‌ الذي‌ يريده‌ للعهد الجديد، وهذه‌ سابقة‌ فريدة‌ في‌ تاريخ‌ الثورات‌، اذ غالباً ما تفرض‌ القيادات‌ السياسية‌ في‌ التجارب‌ الثورية‌ الاخري‌ النمط‌ الذي‌ ترتئيه‌ لشكل‌ ومضمون‌ النظام‌ السياسي‌ وتحجم‌ عن‌ استفتاء آراء الجماهير في‌ هذا الشأن‌ بذرائع‌ شتي‌.
كما ان‌ قادة‌ الثورة‌ الاسلامية‌ لم‌ يفرضوا قوانين‌ او حالة‌ الطواري‌ء مع‌ ماواجهوه‌ من‌ تحديات‌ خطيرة‌ ابرزها الحرب‌ الشرسة‌ التي‌ شنها النظام‌ العراقي‌ على الجمهورية‌ الاسلامية‌ الوليدة‌ والحصار الدولي‌ المتعدد الابعاد الذي‌ فرض‌ عليها لمؤازرة‌ ماكنة‌ الحرب‌ العدوانية‌. وعلاوة‌ على الاستفتاء الشعبي‌، جرت‌ عدة‌ ممارسات‌ انتخابية‌ ديمقراطية‌ في‌ السنوات‌ الاولي‌' من‌ عمر الثورة‌ ومنها الانتخابات‌ الرئاسية‌ والبرلمانية‌ وانتخاب‌ مجلس‌ خبراء القيادة‌، وجميع‌ هذه‌ الانتخابات‌ تمت‌ بشفافية‌ وبحضور جماهيري‌ كبير وفي‌ اطار التعددية‌ ومبادي‌ء الدستور الاسلامي‌ الذي‌ صوت‌ له‌ ابناء الشعب‌ الايراني‌ باغلبية‌ مطلقة‌.
ومن‌ الشواهد التاريخية‌ التي‌ تذكر على هذا الصعيد توجه‌ المواطنين‌ الايرانيين‌ الي‌ صناديق‌ الاقتراع‌ في‌ الانتخابات‌ رغم‌ اجواء الحرب‌ واستمرار الغارات‌ الجوية‌ على المدن‌ الايرانية‌.
و يفخر الايرانيون‌ بانهم‌ تفوقوا على اعرق‌ النظم‌ الديمقراطية‌ في‌ العالم‌ بمشاركتهم‌ في‌ مايقرب‌ العشرين‌ ممارسة‌ انتخابية‌ نزيهة‌ طيلة‌ عقدين‌ من‌ الزمن‌ بما يؤكد حقيقة‌ تجذر مبادي‌ء وقيم‌ واهداف‌ الثورة‌ الاسلامية‌ في‌ المجتمع‌ الايراني‌، وحيوية‌ النهج‌ الثوري‌ في‌ الاجيال‌ المتعاقبة‌، وبتعبير آخر نقول‌: ان‌ الثورة‌ الاسلامية‌ تجاوزت‌ العرف‌ السياسي‌ السائد حول‌ تعارض‌ الفكر الثوري‌ مع‌ قيم‌ التعددية‌ والحرية‌ والديمقراطية‌ لتؤسس‌ نمطاً جديدا من‌ الحياة‌ السياسية‌ من‌ ابرز سماته‌ الحضور الشعبي‌ الفاعل‌ في‌ الساحة‌ و مشاركة‌ مختلف‌ قطاعات‌ المجتمع‌ في‌ عملية‌ صنع‌ القرار السياسي‌.
و هذا ما يفسر لنا قدرة‌ الثورة‌ والنظام‌ الذي‌ اوجدته‌ على الصمود والبقاء رغم‌ توسل‌ اعداء الثورة‌ في‌ الداخل‌ والخارج‌ بمختلف‌ الاساليب‌ الارهابية‌ لتصفية‌ قادة‌ وكوادر الثورة‌ والتي‌ طالت‌ في‌ بعض‌ المقاطع‌ الزمنية‌ كبار رموزها ومنظريها، وفشل‌ كل‌ محاولات‌ تحجيم‌ «الظاهرة‌ الثورية‌ الاسلامية‌» وتحويلها الي‌ حالة‌ نخبوية‌ منفصلة‌ عن‌ محيطها الاجتماعي‌.
النقطة‌ المهمة‌ الاخري‌ تتعلق‌ بما حققته‌ الثورة‌ من‌ استقلال‌ حقيقي‌ في‌ المجالات‌ السياسية‌ والثقافية‌ والاقتصادية‌، فهي‌ واجهت‌ التآمر الغربي‌ ـ الاميركي‌ دون‌ ان‌ تستند الي‌ المعسكر الشرقي‌، وواجهت‌ كيد الاخير دون‌ ان‌ تميل‌ الي‌ خصومه‌ الغربيين‌.
وطيلة‌ السنوات‌ الماضية‌ لم‌ تتأثر قرارات‌ وتوجهات‌ الجمهورية‌ الاسلامية‌ بأية‌ ضغوط‌ او املاءات‌ خارجية‌ لتجسد بذلك‌ المعني‌ الحقيقي‌ للاستقلال‌ السياسي‌. وكذلك‌ هو الحال‌ في‌ المجالات‌ الثقافية‌ والاقتصادية‌ اذ حرصت‌ الثورة‌ على تأصيل‌ القيم‌ الاسلامية‌ في‌ انماط‌ السلوك‌ الفردي‌ والجماعي‌ وواجهت‌ في‌ هذا السبيل‌ ـ ولا تزال‌ ـ اعتي‌' موجات‌ وتيارات‌ التغريب‌ الثقافي‌ والاجتماعي‌ التي‌ غزت‌ مجتمعات‌ اسلامية‌ عديدة‌، كما انها حرصت‌ على تنفيذ تنمية‌ اقتصادية‌ تحقق‌ لايران‌ الاكتفاء الذاتي‌ وترتقي‌ بالقطاعات‌ الزراعية‌ والصناعية‌ والتجارية‌ على الرغم‌ من‌ ضخامة‌ الجهود التي‌ بذلت‌ لاستنزافها اقتصادياً عبر حرب‌ السنوات‌ الثماني‌ والمحاصرة‌ الاقتصادية‌ وتأليب‌ الرأي‌ العالمي‌ عليها للحيلولة‌ دون‌ توجه‌ الرساميل‌ الاجنبية‌ الي‌ مجالات‌ الاستثمار في‌ ايران‌، وحجز الاموال‌ الايرانية‌ المودعة‌ منذ عهد النظام‌ البائد في‌ البنوك‌ الاميركية‌.
و يشار في‌ هذا السياق‌ الي‌ القرارات‌ التي‌ اتخذتها الادارة‌ الاميركية‌ بمنع‌ استيراد النفط‌ والسيطرة‌ على الودائع‌ الايرانية‌ وفرض‌ منع‌ الاستيراد من‌ ايران‌ وحث‌ الدول‌ الاوروبية‌ والصناعية‌ على الامتناع‌ عن‌ تقديم‌ اية‌ مساعدات‌ مالية‌ او تقنية‌ لايران‌، واصدار قانون‌ «داماتو» السي‌ء الصيت‌ والقاضي‌ بمعاقبة‌ الشركات‌ التي‌ تتعامل‌ مع‌ ايران‌ في‌ قطاع‌ الطاقة‌ والبتروكيمياويات‌ وغيرها من‌ القرارات‌.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية