مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

تحول النظام الدولي بقيام الثورة والنظام الاسلامي في ايران
جلال الدين فارسي


أوجد قيام النظام الاسلامي في ايران تحولا اساسيا في النظام الدولي ومنحه التكامل من ابعاد عدة.
انضمام الانسان الفرد وحركة التحرر، الطبقة العالمية ومليار المستضعفين والشعب مع الحكومة، وهي الكيان السياسي المتعارف عليه في النظام الدولي ـ الى عضوية المجتمع الدولي.
قبل قيام النظام الاسلامي، تعتبر الدول، اجزاء دولية وكياناتها السياسية التي ينفصل شعب وحدود كل واحدة منها عن بعضها الأخر من خلال الانتماء الخاص والحدود المعينة.
ومع قيام النظام الاسلامي في ايران انضم كيان سياسي جديد الى النظام الدولي، وهذا الكيان لا يمثل فقط الشعب الموجود في حدوده بل يشمل شعوبا كثيرة وافرادا لا حصر لهم يبلغ تعدادهم اكثر من مليار فرد.
فالشعوب المسلمة وضمن الاحتفاظ بانتمائها السياسي المتعارف اكتسب العضوية الفخرية في هذا الكيان بحب واخلاص. وان هؤلاء الذين ينتمون سياسيا الى الدول المتعارف عليها، يقبلون في نفس الوقت الانتماء سياسيا وثقافيا الى الدولة الجديدة التي تقع خارج حدودهم الجغرافية ويشاركونها مشاركة سياسية فعالة، يحتفلون في ذكرى انتصار ثورتها ويشاركونها في احتفالات في ذكرى ميلاد رسولها الاكرم، ويقيمون العزاء في ذكرى رحيل مؤسسها، ويكونون يد واحدة في الاحتجاج العالمي ضد المرتد الجديد ويوجهون ضربة الى افواه الاستكبار العالمي.
وهكذا يكون الفرد عضو هذا النظام الى جانب الدولة التي تعتبر كيانا سياسيا عضوا في النظام الدولي، ومن الآن سوف لا ينطبق الوفاء السياسي للافراد مع الحدود السياسية للدولة وتمتزح الاحتجاجات الدولية مع الخلافات الداخلية للدول.
من جهة اخرى منح النظام الاسلامي بدستوره، حركات التحرر والشعوب وطبقة المستضعفين العالمية شخصية حقوقية وهب لتقديم الدعم اليهم، حيث يظهر من هذا التعامل والعلاقة وضع جديد في النظام الدولي.
اضافة دولة ذات نوع جديد من البناء الداخلي الى عضوية المتجمع الدولي:
ان الدول التي تشكل اجزاء النظام الدولي لها هياكل داخلية متفاوتة. غير ان تنوع البناء الداخلي لها ينحصر في اربعة انواع:
أ ـ البناء الدنيوي:
ومن مصاديقه البارزة الامبراطوريتان الاميركية والسوفيتية ـ السابقة ـ في الفترة الأخيرة، وكذلك الدول الاستعمارية الاوروبية.
ب ـ البناء الثوري ـ الانساني:
ويختص هذا البناء الداخلي بالشعوب حيث يطيحون باستبداد داخلي او يطردون المحتلين الاجانب أو يطيحون بحكومة عميلة من خلال الكفاح الثوری والانتفاضة او الحركة الانقلابية وينالون حريتهم الوطنية واستقلالهم. ولا تنحصر اهدافهم الوطنية في التنمية الاقتصادية وحل المشاكل المعيشية بل يريدون المحافظة على كرامتهم وعزتهم الوطنية مع بنية المجتمع الانساني. وان ما يهمهم هو المجتمع الذي يسعون لبنائه، وليس المال والمنصب والتوسع الجغرافي والمؤسسات الانتاجية او السلطة السياسية والحكومية التي حققوها. ومثل هذه الدول تسعى على طريق المحافظة على كيانها الجديد القيم او تحقيق مبادئها السامية ان تأخذ بيد الشعوب المجاورة الى الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية. ولذلك فانها معادية للاستعمار وللاستبداد وللغرب، وتعتبر فرنسا في اواخر القرن الثامن عشر واندونسيا في عهد الدكتور سوكارنو وايران في عهد مصدق ومصر في عهد عبد الناصر والجزائر في عهد بن بلا امثلة على ذلك.
ج ـ الدول الاشتراكية الديمقراطية:
د ـ الدول الشيوعية الملتزمة بالفلسفة الماركسية:
وتعتبر صاحبة مدرسة او صاحبة ايديولوجية. ومن الامثلة على هذا النوع من البناء الداخلي هي الاتحاد السوفييتي في عهد لينين والصين الشيوعية، وفيتنام وكوبا. وتستند فلسفة هذه الدول على الفلسفة الماركسية ولها تفسير خاص بها للواقع الاجتماعي والسياسي وينسجم من نظرتهم الى الحياة.
وتطرح الماركسية تلويحا نوعا خاصا من الحياة، ولذلك تعتبر الدين قضية دنيوية ليست لها جذور وماض في التاريخ.
وقد أضافت الثورة الاسلامية الايرانية نظاما جديدا ببناء داخلي لا مثيل له الى المتجمع الدولي، وهو نظام يمتاز عن سائر الكيانات السياسية المتداولة وافضل منها. صحيح ان هذا النظام قام مثل النظام الشيوعي على رؤية فلسفية للحياة والعالم وللانسان، ولكن فلسفته ليست وليدة اليوم أو الزمان او الظروف العينية، بل تعود جذور تعاليمه وأحكامه ومعارفه الى بداية التاريخ البشري غير المدون، ويستمر من آدم الى الخاتم ومن ذلك العهد الى اليوم. وان النظام والمجتمع الذي اقيم في ايران امتداد لامة واحدة وتابع للانبياء والاديان السابقة. وان بناءه الداخلي يستمر كالبناء الداخلي للحكومات الدينية القديمة، مع الفرق طبعا بين مرتبة الكمال والخلوص المتناسب مع مستوى ايمان وتقوى الشعب الذي اقامه، وهو مجتمع ابدي سرمدي، وان الصورة التي تميزه هي ان شعب هذا النظام يتمتعون فضلا عن العيشة بالحياة الطيبة والتراحم والخدمة والفداء والايثار والنشاطات الخيرة والصداقة الحميمة. وهكذا تتسع حياتهم من العيش الى التقرب من الله ويشمل وجودهم من الازل الى الابد. وفي عصرهم الحاضر لا يقصرون نظرتهم على حدودهم فاهتماماتهم عالمية تتجاوز الحدود. يفكرون في حرية وسعادة المستضعفين وبتكامل البشر جميعا من أي عرق او قوم او قارة او بلد كانوا.
كيف ترتفع مستوى الاهداف والمقاصد الوطنية ـ التي تشكل اساس السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؟
مع اقامة النظام الاسلامي فی يايران ظهر على ساحة العلاقات الدولية نوع جديد من الاهداف والمقاصد الوطنية، وهي ليست مادية بل ثقافية معنوية. وقبل ذلك كانت الاهداف والمقاصد الوطنية في الحكومات الصغيرة تتجسد في وحدة الارض والمصالح الوطنية، وفي الدول الكبرى تتجسد في توسيع المصالح الوطنية حتى تشمل دائرتها جميع ارجاء الارض واعماق البحار وأجواء السماء.
وكانت دائرة المصالح الوطنية في الاتحاد السوفيتي السابق تمتد الى حيث يستطيع احتلاله سياسيا بالقوة العسكرية او الانقلاب العسكري، اما المصالح الوطنية الاميركية فتتكون من ثلاثة اقسام هي المصالح الحياتية والحساسة والهامشية.
وتشمل المصالح الحياتية فضلا" عن حدودها الجغرافية، اوروبا الغربية واليابان وكندا والمكسيك ودول الخليج الفارسي. وتشمل المصالح الاميركية الحساسة دائرة تحافظ على المناطق الواقعة في دائرة المناطق الحياتية، واذا ما تعرضت واحدة منها للخطر تتعرض مناطق القسم الاول او الحياتية للخطر وتقتضي حياتية وحساسية تلك المناطق الدفاع عنها بالقوة العسكرية. اما المصالح الهامشية فانها تشمل الدول التي تقع خارج نطاق القسمين الاول والثاني، وبزوال هذه المصالح تقل المصالح الوطنية للامبراطورية الاميركية في حين ان الحرب للمحافظة عليها تعتبر اكثر كلفة. ومن هنا ربما تقع سائر دول العالم بدون استثناء في منطقة المصالح الوطنية الهامشية التي تدعيها اميركا لنفسها. وبذلك لا يوجد مكان وشعب في العالم الا وهو يقف مقابل الدولة العظمى اذا لم يكن واقعاً ضمن المصالح الوطنية الاميركية[1].
ومع قيام النظام الاسلامي ظهرت أهداف ومقاصد وطنية جديدة بشكل كامل وهي غير المصالح الوطنية ولا تنجسم معها، بل أسمى منها. ويتطلب تحقيق هذه الاهداف والمقاصد الوطنية صرف الاموال وصرف النظر عن بعض المصالح الوطنية المشروعة.
ويشكل مثل هذه السياسة رسالة الانبياء ـ عليهم السلام ـ التي لا تطالب ازاء الجهود وهداية وتربية الجنس البشري بأي أجر او شكر ولن تطالب أبداً[2].
وترفض المادة 152 من دستورنا كل نوع من انواع التوسع الجغرافي والسياسي الذي يعتبر اساس السياسة الخارجية للدول ولا سيما الدول العظمى. وبالنتيجة يعلن رفضه للسياسة التوسعية والاستعمارية التي يجري تطبيقها حاليا تحت غطاء المصالح الوطنية او مصالح الامن القومي[3]. وبدلا من ذلك يسعى من اجل المبادئ التي يكلف تحققها الدولة الاسلامية نفقات ضخمة من دون أي نفع دنيوي ـ على الاقل على المدى القصير والمرحلي ـ. (ان الجمهورية الاسلامية تعتبر سعادة الانسان في كل مجتمع بشري هدف لها وترى ان الحرية والحكومة المشروعة والعدل حق لجميع شعوب العالم.
وبناء على هذا وضمن الامتناع الكامل عن أي تدخل في الشؤون الداخلية لسائر الشعوب فانها تدافع عن الكفاح المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في كل نقطة من العالم)، وتكمل المادة 154 من الدستور في الفقرة 16 هذه السياسة قائلة: (يجري تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على اساس الدفاع عن مستضعفي العالم).
واعلن مؤسس الجمهورية الاسلامية في السنة الاولى من انتصار الثورة رسم السياسة الخارجية قائلاً: (الشعب الايراني الحر يدافع الآن وبشكل مطلق عن شعوب العالم المستضعفة ضد اولئك الذين منطقهم المدفع والدبابة وشعارهم الحراب، وندافع عن جميع حركات التحرر في جميع ارجاء العالم والتي تجاهد في سبيل الله والحق والحقيقة والحرية)[4].
قيام نظام ذات ابعاد عالمية ودولية، يترك آثارا مهمة في الساحة الدولية:
انضمت دولة الى النظام الدولي تقوم على قاعدة فلسفة الحياة الطيبة واعلاء الحياة المعنوية، وعلى اساس دين أخذ بيد الشعب الى أبعد من المعيشة والانتاج والتنمية الاقتصادية ومنح حياتهم المعنى والقيمة ومنحهم الكرامة والعزة، فالدين الذي يشكل اساس دولة حديثة يبني مجتمعا ترسخ فيه حالة التقرب الى الله. ان اسلوب تأسيس واقامة هذه الدولة وتنظيم شؤونها الاجتماعية وادارتها، واسلوب وطريقة حياة شعبها وسلوك افرادها السامية وقيمها وكمالاتها ونظرتها الى العالم والانسان كل ذلك له بعد عالمي ولا يخص عرقا وقوما ودولة وقارة وعصرا معينا، وان هذا البعد الدولي يغير الساحة البشرية والعصور المتلاحقة والساحة الدولية من الحرب والخراب وسفك الدماء والتسلط والاطماع الى مختبرلفرز الصالح من الطالح ويجعل الساحه ساحة منافسة الثقافة المعنوية. ولا شك ان انتقال الافكار والعقائد بالسرعة الخارقة وانتقال التجارب الاجتماعية والسياسية والثورية التكاملية ترك آثار ونتائج التطورات الايرانية على الساحة الدولية.
العلاقات الدولية اصبحت اكثر تنوعا واكثر عالمية:
ان التحول الاخير وتحول النظام والعلاقات الدولية في طرح الثقافة المعنوية الجديدة والتفسير الجديد عن واقعية الانسان والمتجتمع والعالم وفي المنافسة الثقافية الجادة والبناءة، كل ذلك وفر امكانية التبادل السريع والانتقال الخارق للثقافة والفكر والرأي والنظرية الى كل نقطة من العالم ووسع من دائرة جغرافية العلاقات الدولية. ويشكل هذا الامر الحلقة النهائية وذروة الانتشار الذي بدأ في القسم الاخير من التاريخ، من الثورة الفرنسية الى ثورة اكتوبر الروسية وشمل بالتدريج جميع ارجاء الارض.
وقبل الثورة الفرنسية كانت العلاقات الدولية قائمة في حدود جغرافية محدودة ومنفصلة عن بعضها البعض، وكانت العلاقات القائمة بين دول قارة معينة سواء كانت علاقات جيدة او سيئة نادرا من تمتد الى العلاقة مع دول قارة اخرى أو ان تكون مؤثرة فيها. ولم تكن الاحداث التي تقع داخل دولة معينة تؤثر على سائر الدول في نفس القارة، ولكن الثورة الفرنسية وضعت نهاية لهذه الحالة وامتدت علاقة فرنسا الاوروبية الى القارات الاخرى، واخذت السيادة الشعبية تواجه الاستبداد في جميع انحاء اوروبا وظهرت سياسة الحكومة الفرنسية تجاه كل دولة اوروبية بشكل جديد وماهية جديدة.
وفي القرن التاسع عشر ومع ظهور الاستعمار الاوروبي وتسلط هذه القارة على القسم الاعظم من الكرة الارضية، انحصرت العلاقات الدولية في اطار الدول الاستعمارية الاوروبية، ولم يبق لغيرها من الدول سوى اليابان تأثير دولي.
وتبدأ مرحلة العلاقات الدولية العالمية بمعنى الكلمة بعد ثورة اكتوبر الروسية وتأسيس اول دولة اشتراكية، حيث استطاعت الدول العظمى في هذه المرحلة من القيام ببعض الحوادث وايجاد التغييرات لصالحها في خارج اوروبا من خلال الاساليب السياسية او الحرب. وكانت قدرتهم وامكاناتهم تتوقف على التطور العلمي والتقني. حيث انتجت معدات واجهزة عسكرية مكنت هذه الدول من استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر. كما صنعوا وسائل قادرة على ايصال الايديولوجية والفكر والثقافة الى اذهان الشعوب بشكل سريع. وبدأت الحرب الثقافية ـ السياسية للاشتراكية والشيوعية ضد الرأسمالية فيما اجتاحت الحرب الباردة آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية فضلا عن اوروبا. وامتدت حتى اعماق المجتمعات الرأسمالية في اوروبا الغربية.
وتعتبر اقامة النظام الاسلامي في ايران قمة هذا التوسع التاريخي ودخلت الى الساحة الدولية والعلاقات والصراعات والمنافسات فلسفة جديدة عن الحياة والدين والتاريخ، ولها امتداد في اعماق ما قبل التاريخ مدعومة بجبهة عريضة من الاتباع يبلغ تعدادهم مليار شخص فضلا عن اتباع الديانتين المسيحية واليهودية، وفي الايام الاولى من قيام هذا النظام حدث التحول في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، امتدت من مركز روسيا حتى الصين واندنوسيا وافريقيا الشمالية والوسطى واهتزت قواعد حكوماتها اللادينية، اما اميركا الدولة العظمى التي شاهدت احدى الدول التابعة لها تتحول الى غول امامها مدت يدها الى عدوتها الدولة العظمى الاخرى طالبة منها العون ودعتها الى التعاون معها في دفع الخطر المشترك محذرة بان الثورة الاسلامية ستوقظ الشعوب المسلمة الواقعة تحت السلطة السوفيتية وتدفعها الى الثورة.
لقد خضعت مسألة بناء المجتمع المبدئي التي طرحت بشكل جاد مع الثورة الفرنسية وتحولت بعد تطور الرأسمالية واكتشاف مفاسدها من الرأسمالية الى الاشتراكية والاشتراكي الديمقراطي وغير ذلك.. هذه المسألة خضعت للبحث والتحقيق والدراسة من قبل الاوساط الجامعية والعلمية بحيث التفت حولها الاحزاب والحركات السياسية والاجتماعية وتصدرت قائمة القضايا الدولية بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية، ثم اصبحت بعد انتصار الثورة الاسلامية القضية السياسية ـ الثقافية الدولية الاولى.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبالنتيجة اثبات بطلان الفلسفة الماركسية في مجال بناء المجتمع الانساني المطلوب اصبحت هذه المسألة ليس فقط هي التي تحدد نتيجة المنافسة الثقافية ـ السياسية ـ الاقتصادية وحتى العسكرية بين الدول الكبرى في الساحة الدولية بل اصبحت بيدها مصير البشرية ومستقبل الكرة الارضية.
ان مجموعة التحولات البناء المذكورة اوجدت تحولا عجيبا في ماهية وكيفية العلاقات الدولية، وجعلت مسألة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بشكل عام مسألة داخلية طبيعة وكيفية. اذ ان هناك علاقة وثيقة بين السياسة الخارجية والدولية وبين اقامة المجتمع على اساس ثقافي ومعنوي وديني جديد. هذا الاساس الذي يمكن الانسان للارتقاء من حالة العيش والانتاج والتنمية الاقتصادية ومن حالة الانسان الذي يبحث عن الحياة الطيبة الى حالة الانسان الذي يضع حدا لجهل الذات الذي كان من مفاسد الرأسمالية وسببا لهبوط الانسان الى مستوى الحيوان والسلعة وتوفر الاجواء للارتقاء الى المستوى الطبيعي حتى تنمو قابلياته الجيدة وتعطي ثمارها.
ولا يوجد بعد الآن قضيتان منفصلتان عن بعضهما هما دولية وداخلية، فشؤوننا الداخلية اكتسبت صيغة خارجية ودولية. كما اننا لا نحكم فقط من اجل توفير الحاجات الاولية للشعب والدفاع عن كيانهم الوطني بل من اجل ان نحافظ على انسانيته وكرامته واكثر من ذلك لنجعلهم قادرين على تأمين ذلك. وهذا لا يتحقق الا تحت ظل نظام اجتماعي ديني وحسب، ففي هذا النظام الاجتماعي وحده يمكن ان يتحقق هذا الامر ويكون حقيقة واقعة.
وهكذا نستطيع مع الحكم بافضل الصور المعاصرة الحديثة ان نؤسس مجتمعا مبدئيا حيث لم يعد المبدأ بعد الآن موجودا في الاذهان والكتب والنظريات، بل انه يخلق ويكون واقعاً ملموساً ويكون دليلا على طريق الشعوب ويعود عالميا. لقد قام نظام ترك اثارا دولية قوية عبر نضج بنائه وبروز اعماله التي اكتسبت بعدا عالمية.
افشال الاستراتيجية العسكرية الاميركية المعروفة والقائمة على تدمير الدولة المقابلة وابادة سكانها، وبالنتيجة عدم تأثير تهديدها النووي:
لقد نجحت هذه الاستراتيجية في اليابان وكانت مؤثرة تقريباً على الاتحاد السوفيتي، وفشلت امام الشعب الفيتنامي البطل الذي استفاد من عاملين اضافيين لافشال هذه الستراتيجية وهما:
اولا: هذه الستراتيجية كانت تستوجب الضربة القطعية من الاتحاد السوفيتي، وثانيا حتى مع ابادة سكان فيتنام الشمالية كان هناك الفينكونغ الذين كانوا يعيشون بين شعب فيتنام الجنوبية والذين لم تشملهم الابادة.
ولم يكن هذا التحول العجيب في المجال العسكري معلول التكنولوجيا او التقدم العلمي والاختراعات الجديدة في مجال المعدات والتجهيزات العسكرية والاسلحة ووسائل حملها، بل معلول التحول الثقافي والديني وبالنتيجة عدم استسلام الشعب الايراني والامة الاسلامية. ولقد سبق قيام النظام الاسلامي ظهور امة تؤمن بالحياة الخالدة بعد الموت وبالجزاء الحسن لعمل الخير، شعب استشهادي وهو اشجع الامم على وجه الارض. وان رفضه الاستسلام معلول استشهاديتة. ولا شك انه لا يمكن اركاع مثل هذه الامة بالتهديد بالابادة الجماعية. وما احسن ما قال قائدها ان (اميركا لا تستطيع ان ترتكب اية حماقة).
لقد افشل قيام النظام الاسلامي بشعب استشهادي لا يعرف الاستسلام استراتيجية التدمير الكامل والابادة النهائية لسكان الطرف المقابل وهي استراتيجية القوى العظمى وعقّم تهديده النووي. ولا يخفى ان هذا التحول الذي يجري في المجال العسكري العالمي أمر لم يكن يصدقه سائر الشعوب. ومع ظهور الشعب الديني وقيام نظام الجمهورية السلامية تم ردع القوتين العظميين من شن عمل عسكري والتهديد النووي بابادة الشعب والسكان المدنيين. وكان لهذه الستراتيجية القائمة على اساس تهديد الطرف المقابل بخطر لا يمكن مقاومته وتحمله ابعاد واهداف نفسية قبل أي شيء آخر. أي ان ما يعتقده الطرف المهاجم هو ان هناك امر قطعي ومصيري الى ان يقع بالفعل. والردع يقوم اساسا على ذهن وارادة واعتقاد ومدى تحمل الطرف المقابل. ولذلك عندما يتسع نطاق تحمل شعب معين ويصل الى ما لا نهاية، سيكون التهديد النووي والابادة القطعية امرا عديم الأثر.
وبما أن ستراتيجية التدمير النووي في خصوص القوة العظمى الاخرى تعني ستراتيجية الانتحار المتقابل، غيرت القوتين العظميين بعد مدة وبالتدريج تلك الستراتيجية بستراتيجية جديدة تستند على تدمير القوة الستراتيجية للطرف المقابل ـ مقابل ابادة السكان المدنيين ـ ومما ساعد على ذلك الامكانات التكنولوجية حيث انتجت اسلحة نووية جديدة، تقتصر فاعليتها وتأثيرها على تدمير القوات الستراتيجية للعدو من دون ان تكون هناك حاجة الى ابادة السكان المدنيين.
غير ان هذه التطورات في ادوات الحرب واستخدامها كان عديم الجدوى تقريبا في خصوص شعب لا تتمركز ارادته في المقاومة وعدم الاستسلام في القيادة والقادة العسكريين وحتى القوات المسلحة المحترفة، وانما تتمثل هذه الارادة في جميع افراد الامة.
اذ ان تدمير القوات العسكرية في الساحة او تخريب المؤسسات الاقتصادية لشعب تعبوي استشهادي لا يعرف الاستسلام كل هذه الاساليب لا يمكن ان يركع مثل هذا الشعب او التسلط عليه ومنعه من مواصلة التحدي والمقاومة التي لا هوادة فيها.
ان الحادث الاخير هو نفسه الذي بدأ من صدر الاسلام بالدفاع المستند على جماهير الشعب والمجاهدين المتطوعين وظهر بالثورة الفرنسية بشكل الدفاع الناقص القائم على المكلفين في اوروبا واعتبر ايضا العامل الاساسي للانتصارات الباهرة التي حققها نابليون، ومع ظهور الثورة الاسلامية الايرانية اخذت طابع الصورة التالية لصدر الاسلام. هذا الدفاع الذي تظهر ارادته في جميع المجاهدين وابناء الشعب المؤمنين الغيارى ولا يمكن ابادتهم الا بالقضاء على اخر فرد فيهم. وهذا هو معنى حديث مؤسس الجمهورية الاسلامية حين قال: (الشعب الذي يريد الشهادة ويدعو لنفسه بالشهادة، هؤلاء هل يمكن ان يخافوا من التدخل العسكري؟ وهل يخافون من الحصار الاقتصادي)[5] (الشعب الذي يتقاطر الى الجبهة للشهادة، الشعب الذي يعشق رجاله ونساؤه الشهادة، وينادون بالشهادة.. مثل هذا الشعب لا يشكو الحاجة والعوز ووضعه الاقتصادي.. ولا يمكن ان يهزم)[6] (ان شعبنا الان تطبع على الشهادة والتضحية ولا يخشى عدوا ولا قوة ولا مؤامرة، بل يخشى ان لا تكون الشهادة نصيبه.. فالشعب الذي يرى الشهادة سعادة له سينتصر)[7] (ان شعبا تفتخر اخواته وامهاته البطلات بقتل شبابهن الشجعان الذين هم بدرجة الشهادة سينتصر)[8].
قلة التعاطف والانسجام والتفاهم وصعوبات المسؤولية الدبلوماسية: طالما تتشكل الحكومات من سنخ واحد ومن اعوام طلاب الدنيا فانها تفهم الامور من زاوية مشتركة وتملك لسانا واحدا، ويدركون نوايا بعضهم البعض وعلاقة السياسات بمقاصد الحكومات، فهم يتعاطفون ويتفاهمون فيما بينهم ويتحدثون بلغة واحدة، واما تعاملهم فانه يشبه تعامل الحيوانات المفترسة في الغابة.
لقد حدث عدم الانسجام لاول مرة بين الدول الاوروبية بحدوث الثورة الفرنسية لان قيماً ثقافية جديدة دخلت الساحة الاوروبية قضت على الفهم المشترك والتعاطف والتفاهم بين فرنسا الثورية والجماهيرية وبين الحكومات الملكية الاستبدادية اللاشعبية.
ومع انتصار الثورة الاسلامية حدث تحول اساسي في الساحة العالمية، وظهرت نظرة جديدة الى نظام الوجود، ودور الانسان في العالم ومسؤوليته والحدود بين الجماعات الاجتماعية، والمراتب المعنوية والثقافية للبشر وماهية الحكومة ومسؤوليتها وامثال ذلك، والتي لم تكن حتى ذلك الوقت موجودة لا بين الشعب ولا في الحكومات.
وتتناقض هذه النظرة مع افكار وعقائد الملاحدة وزعماء العلمانية واللاملتزمين بالدين والاخلاق. واحيانا يظهر سوء فهم ناجم عن التناقض بين الرؤى والاعتقادات والقيم الثقافية، وهناك ايضا سوء تفاهم مزدوج. وخلافا التصور الشائع في الاوساط الرسمية للجمهورية الاسلامية، فان الذين لا يفهموننا جيدا ليسوا فقط زعماء الغرب الغافلين عن الله، بل ان معظم مسؤولينا ـ ان لم نقل كلهم ـ لا يفهمون جيدا نوايا وسياسات ومقاصد العدو، بل يفهمون احيانا ـ وربما معظم الاحيان ـ بشكل مخالف للواقع. ولهذا السبب والنقص يحاولون في خطاباتهم العامة ـ رغم انها موجهة للشعب ـ ان يشرحوا من باب الاشفاق والترحم لزعماء اميركا وحلفائها الغربيين حقيقة الامر، حيث يكونون هم موضع الاشفاق والترحم.
ان مسؤولي الدولة الاسلامية لا يتحدثون بلغة واحدة بعد اليوم مع الزعماء الشيوعيين والاشتراكيين والليبراليين اللادنيويين ولا يفكرون معاً بعقل واحد، كما ان التفاهم صعب جدا في كثير من القضايا السياسية العالمية والداخلية.
ولا يختص عدم التفاهم بالمسؤولين بل يشمل المجتمع كله، ولا يمكن تصور مجتمعين اكثر عجزا من المجتمع الاسلامي والمجتمع الدنيوي الاميركي والغربي في ادراك وفهم بعضهما البعض.
وعندما نعلم الشعب الرؤية الاسلامية للانسان ونعلمه ايضا في المجتمعات الغربية، حينذاك يكون قد ازيل اول واكبر مانع من التفاهم بين الشعوب واستطعنا ان نعرف ساسة الطرفين ببعضهما البعض.
__________________
[1] نيكسون، لنغتنم الفرصة، 23، نصر بدون حرب، 129.
[2] الشعراء 109، 127، 147، 164، و180 ـ سبأ 47 ـ هود 29 و51 ـ يونس 72.
[3] عبارة بريجنسكي.
[4] صحيفة النور، ج11، ص259.
[5] صحيفة النور، ج12، ص138.
[6] نفس المصدر، ج19، ص126.
[7] نفس المصدر، ج13، ص65.
[8] نفس المصدر، ج2، ص12.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية