مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

البيعة السياسية .. دراسة فقهية مقارنة
الشيخ محمد مهدي الآصفي


المقدمة
من افضل الوسائل العملية التي تحقق التقريب والتوحيد ـ بصورة عملية ـ بين المسلمين، هو اكتشاف وتأكيد المساحات الفقهية المشتركة بين المذاهب الفقهية الإسلامية، فان الابحاث الفقهية بطبيعتها ترتبط بالحياة العملية للمسلمين ومعاشهم ومعادهم وسلوكهم ونسكهم وعباداتهم.
وتأكيد وحدة الآفاق الشرعية في هذه الآفاق والمساحات من حياة المسلمين ترسخ وتعمق حالة التقريب والتوحيد بين صفوف ابناء الاُمّة الإسلامية الواحدة.
والفقه السياسي من اخصب هذه المساحات واكثرها عطاءا في هذا المجال، ومسألة (البيعة) من اهم محاور البحث في (الفقه السياسي)، أو هي المحور الام في مباحث الفقه السياسي. لان البيعة هي الطريق الشرعية التي تقرر بها الاُمّة مصيرها السياسي، وتنتخب بها الحاكم الذي ترتضيه. وترتبط هذه المسألة بمسألة الرئاسة والسيادة في الدولة الإسلامية، والحياة السياسية للمسلمين. وللبحث عن المشتركات الفقهية في هذه المسألة الحساسة تأثير كبير في التفكير والتخطيط للوحدة السياسية الشاملة بين المسلمين.
ونحن عندما نستعرض في الدراسات الفقهية المقارنة مسألة «البيعة»، لا نكاد نجد خلافاً كبيراً بين هذه المذاهب في امهات مسائل البيعة وفروعها الرئيسية.
وفي هذه الدراسة سوف نحاول ان شاء الله ابراز المشتركات ومواضع اللقاء بين فقهاء المسلمين في مسألة البيعة وشرعيتها، ونفوذها، وطريقة انعقادها من حيث الكم والكيف، وشروطها، وحرمة نقضها، وشرعية السيادة المنبثقة عنها، ووجوب الالتزام بهذه السياسة، وتحريم اقامة محاور اخرى للسيادة في مقابلها.
ونرجو ان تكون لهذه الدراسة الفقهية المقارنة دور في التقريب والتوحيد بين المسلمين من امة رسول الله (ص) خير الامم واوسطها واشرفها.
الجذور اللغوية للكلمة:
قد ينفعنا معرفة الجذور اللغوية لكلمة البيعة في فهم معناها، فقد ذكر ابن منظور في لسان العرب في مادة البيعة ان البيعة «الصفقة على ايجاب البيع، وعلى المبايع والطاعة. والبيعة: المبايعة والطاعة»[1]. وكان العرب إذا باعوا شيئاً تصافقوا، وكانت هذه الصفقة تدل عندهم على وجوب البيع. فأخذ الإسلام هذه العادة العربية المعروفة في وجوب البيع للدلالة على وجوب الطاعة في العهد والميثاق مع الامام.
المعنى التحليلي للبيعة:
والمعنى الذي تستبطنه البيعة في الإسلام معنى رفيع من الناحية العرفانية. فهي تعبر عن حالة التجرد الكامل للانسان المؤمن عن النفس والمال لله تعالى: {ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة}.
وهذا التجرد الكامل والانسلاخ عن النفس والاموال هو عملية البيع والشراء التي تشير اليها الآية الكريمة، فان الإنسان إذا باع شيئاً في مقابل ثمن ما.. انسلخ عنه مرة واحدة، وليس من حقه بعد ان وجب البيع ان يراجع المشتري فيما باع، وعليه ان ينتزع نفسه عنه انتزاعاً كاملاً، وكذلك الامر عندما يبيع الإنسان نفسه وماله لله تعالى، في مقابل الجنة، فليس من حقه ان يتردد أو يتراجع، وليس من شأن الإنسان الذي يبيع نفسه وماله لله تعالى ان يحن إلى الذي باعه لله تعالى.
فالبيعة اذن تعبر عن التخلي الكامل عن الانفس والاموال، وتسليم الامر كله لله تعالى وهذه هي حقيقة حالة التعهد الكامل بالطاعة والانقياد التي تتضمنه «البيعة».
ثلاثة انواع من البيعة في سيرة رسول الله (ص):
وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نلتقي بعدد من البيعات.
تبدأ هذه البيعات ببيعة العقبة الاولى وتنتهي ببيعة «الغدير».
وبمراجعة دقيقة لهذه البيعات في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله نستطيع ان نجد ثلاثة انواع من البيعة:
1ـ بيعة الدعوة.
2ـ بيعة الجهاد.
3ـ بيعة الأمرة والولاية.
وكل من هذه البيعات بمعنى الطاعة والالتزام بالانقياد لله ولرسوله. ولكن طبيعة هذه البيعات الثلاث تختلف عن بعض.
فان بيعة الدعوة هي التعهد بحمل الدعوة والصبر في مواجهة تحديات الجاهلية.
وبيعة الجهاد هي التعهد بالطاعة للاوامر العسكرية والصبر على مر القتال.
وبيعة الامرة هي التعهد بقبول الامارة والولاية والاعتراف لصاحبها بحق الطاعة.
واليك تفصيل هذه البيعات الثلاثة في سيرة رسول الله (ص):
1ـ بيعة الدعوة:
وهي في سيرة رسول الله (ص): بيعة العقبة الاولى. وفيما يلي ننقل النص التاريخي لهذه البيعة من سيرة ابن اسحاق باختزال.
يقول ابن اسحاق: لما اراد الله عز وجل اظهار دينه واعزاز نبيه صلى الله عليه وآله وسلم خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقى رهطاً من الخزرج، اراد الله بهم خيراً. قال لهم من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي اليهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض:
يا قوم، تعلمون والله انّه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إلى الله إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: انا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى ان يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي اجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا، حتى إذا كان العام المقبل وأمّ الموسم من الانصار اثنا عشر رجلاً فلقوه بالعقبة، وهي «العقبة الاولى»، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيعة النساء وذلك قبل ان تفرض الحرب، عن عبادة بن الصامت قال:
«كنت فيمن حضر العقبة الاولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله (ص) على بيعة النساء، وذلك قبل ان تفرض الحرب: على ان لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فان وطيتم فلكم الجنة، وان غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجل إن شاء عذّب وإن شاء غفر».[2]
فلما انصرف القوم بعث رسول الله «معهم» مصعب بن عمير وأمره ان يقرءهم القرآن.
وبيعة النساء التي يشير اليها عبادة بن الصامت رحمه الله هي البيعة التي ذكرها القرآن الكريم للنساء:
{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه من بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إنّ الله غفور رحميم) الممتحنة/ 12.
وهذه هي بيعة العقبة الاولى، وهي «بيعة الدعوة».
2ـ بيعة القتال والجهاد:
وهذا من النوع الثالث من البيعة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوامها التعهد بالطاعة في ساحة القتال وتحمل الضراء والبأساء حتى الموت، والى هذه البيعة تشير الآيتان الواردتان في سورة الفتح:
{ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجراً عظيماً} الفتح/ 10.
{لقد رضى الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} الفتح/ 18.
وهذه البيعة هي «بيعة الرضوان» أو «بيعة الشجرة». وخلاصة هذه البيعة ان رسول الله (ص) استنفر اصحابه للعمرة، فخرج معه الف وثلاثمائة وستون ومعه سبعون بدن، وقال لست أحمل السلاح، انما خرجت معتمراً وأحرموا من ذي الحليفة، وساروا حتى دنوا من الحديبية على تسعة اميال من مكة فبلغ الخبر أهل مكة فراعهم.
واستنفروا من اطاعهم من القبائل حولهم، وقدموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن ابي جهل، فاستعد لهم رسول الله (ص)، وقال ان الله امرني بالبيعة فأقبل الناس يبايعونه على ان لا يفروا وقيل بايعهم على الموت، فلما رأوا ذلك تهيبوا وصالحوا رسول الله (ص)[3].
قال ابن اسحاق فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله (ص) على الموت، وكان جابر بن عبدالله يقول: ان رسول الله (ص) لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على ان لا نفر.[4]
وفي مسند احمد قلت لسلمة بن أكوت: على اي شيء بايعتم رسول الله (ص) يوم الحديبية؟ قال بايعناه على الموت.[5]
وروى احمد أيضاً في المسند عن جابر «بايعنا نبي الله يوم الحديبية على أن لا نفر».[6]
وهذه البيعة هي بيعة الجهاد والقتال.
3ـ بيعة الأمرة والولاية:
وهذه البيعة هي بيعة العقبة الثانية، قال بن اسحاق:
ثم ان مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الانصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من اهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العقبة من اواسط التشريق حين اراد الله بهم ما أراد من كرامته.
قال كعب: فقمنا تلك الليلة مع قومنا في رجالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رجالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتسلل تسلل القطا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب «ام عمار» واسماء بن عمر بن عدي وهي «ام منيع».
قال فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (ص) حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلاّ انّه احب ان يحضر امر ابن اخيه ويتوثق له.
فلمّا جلس كان أول متكلم العباس بن عبدالمطلب، فقال يا معشر الخزرج، ان محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فمن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلاّ الانحياز اليكم واللحوق بكم، فان كنتم ترون انكم وافون بما دعوتموه إليه، وما منعوه فمن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم فمن الآن دعوه فانه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قال: فقلنا له قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربّك ما أحببت. قال فتكلم رسول الله (ص) فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال ابايعكم على ان تمتعوني مما تمنعون به نساءكم وابناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق فينا لنمنعك مما نمنع منه ازرنا، فبايعنا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الخلقة ورثناها كابراً عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله (ص)، ابو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله: ان بيننا وبين الرجال حبالاً انا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت ان فعلنا ذلك ثم اظهرك الله ان ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله (ص) ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، انا منكم وانتم مني احارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.[7]
وكما نرى فهذا نوع آخر من البيعة قوامها الطاعة والتسلم لامامه ورسول الله صلى الله عليه وآله والقبول بولايته وحاكميته، وهو يختلف اختلافاً واضحاً عن بيعة العقبة الاولى التي كانت تدور حول محور الدعوة وتعاليمها والالتزام بهذه التعاليم. وبيعة الغدير من هذا النوع، إلاّ انها لأخذ العهد من الناس بالطاعة لـ «علي (عليه السلام)» من بعده (ص) اماماً وولياً على المسلمين.
أركان البيعة وشروطها
أركان البيعة ثلاثة:
1ـ المبايع.
2ـ المبايع له.
3ـ والعهد والميثاق على الطاعة.
ومصب هذا العهد والميثاق على الطاعة في أحد امور ثلاثة:
اما الطاعة للدعوة، أو الطاعة في امر القتال أو الطاعة في الامامة والولاية.
شروط البيعة
وأهم شروط البيعة هي:
1ـ الاستطاعة:
فقد روى عن عبدالله بن عمر قال كنّا نبايع رسول الله (ص) على السمع والطاعة ثم نقول «فيما استطعت».[8]
2ـ البلوغ:
روى الهرماس بن زياد، قال: مددت يدي إلى النبي (ص) وأنا غلام ليبايعني فلم يبايعني.[9]
3ـ الطاعة في غير معصية الله تعالى:
عن ابن عمر قال «قال رسول الله (ص): على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلاّ ان يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».[10]
وعن عبدالله بن مسعود قال: «سيلي اموركم بعدي رجال يطفؤون السنة ويعملون بالبدعة ويؤخرون الصلاة مواقيتها»، فقلت يا رسول الله، ان ادركتهم كيف افعل؟ قال: تسألني يا بن ام عبد كيف تفعل، لا طاعة لمن عصى الله».[11]
وفي كنز العمال عن احمد عن أنس قال «لا طاعة لمن لم يطع الله».[12]
القيمة التكريمية للبيعة
البيعة بمعنى الميثاق والعهد على الطاعة مع الله تعالى، وهذا الميثاق يتم بارادة الإنسان واختياره، فلا قيمة لبيعة المكره، وذلك ان الله تعالى أكرم الإنسان من دون كثير من خلقه فطلب منه الانقياد لمنهجه وسنته عن ارادة واختيار ووعي.
يقول تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي}. وهذا اصل هام من اصول هذا الدين، لا نكاد نفهم الإسلام من دونه.
فلا يريد الإسلام من المسلمين الانقياد والتسليم عن اكراه أو من دون وعي. بل يريد منهم الاستجابة لاحكام الله تعالى عن قناعة واختيار والقناعة هي أساس الاختيار، والاختيار حصيلة القناعة.
والنقاط التالية توضح هذه الحقيقة في الإسلام:
1ـ لقد اختار الله تعالى خليفة له فقال عز شأنه {واذ قال ربك اني جاعل في الارض خليفة}.
والخليفة هو الإنسان. وسبب هذا الاستخلاف ان الله تعالى قهر هذا الكون على الاستجابة لارادته ومشيئته واحكامه وسنته قسراً من غير ارادة، وميز الإنسان من دون سائر الجماد والنبات والحيوان فطلب منه، الاستجابة لارادته واحكامه بارادته واختياره، وأوكل إليه امر تنفيذ احكامه من خلال ارادته واختياره وهذه هي «الارادة التشريعية» لله تعالى في حياة الإنسان، في مقابل «الارادة التكوينية» لله تعالى التي تجري في سائر هذا الكون من الجماد والنبات والحيوان.
وهذا التكريم الالهي للانسان هو الذي يؤهله ان يحل دون غيره محل الخلافة الالهية، لينفذ ارادة الله تعالى ومشيئته وحكمه.
2ـ ومرحلة اخرى من مراحل التكريم الالهي للانسان ان الله تعالى لم يشأ ان يلزم الإنسان بالطاعة والانقياد إلاّ من خلال العهد والميثاق الفطري، فيكون ملتزماً بالطاعة لله ولرسوله من خلال هذا الميثاق الفطري الكامن في عمق فطرة الإنسان، والذي لا ينفك من انسان على كل حال:
{وأخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انّا كنّا عن هذا غافلين} الاعراف/ 172.
وهذا ميثاق وعهد بين الإنسان وبين ربه سبحانه وتعالى، يشهد بربوبية الله تعالى، ويتعهد فيه بطاعته وهو ميثاق كامن في عمق فطرة الإنسان، اي انسان، إلاّ ان يصيبه فساد واختلال في فطرته، بعد ان أتاه الله سلامة الفطرة وبذلك يكون الإنسان ملزماً بالطاعة والتسليم والانقياد لله تعالى بموجب عهده وميثاقه وتعهده والتزامه.[13]
فان الطاعة والالزام يتم على نحوين:
النحو الاول الالزام من فوق من غير أخذ موافقة الطرف الآخر، ومن غير اخذ التزامه، كما يتم ذلك بالنسبة لاسرى الحرب والسجناء والرقيق والصغار غير الراشدين.
والنحو الثاني من الالزام الذي يأتي من ناحية التزام الطرف الآخر وقبوله للالزام والتعهد، كالالزام الذي يتعهد به الجندي الذي يتطوع للخدمة العسكرية، فهو حين يتطوع للخدمة العسكرية يتقبل كل الالزامات والاحكام والاوامر التي تخص الخدمة العسكرية فتحكمه الالزامات والاوامر العسكرية من خلال ارادته ورغبته وليس من فوق ارادته.
وليس شأن الجندي الذي يتطوع للخدمة العسكرية ويلتزم بقرارات وأوامر الخدمة العسكرية شأن السجين أو الاسير الذي يطيع وينقاد وتفرض عليه الطاعة والالزام من فوق ارادته ورغبته، ودون المرور بارادته ورغبته.
وقد شاء الله تعالى ان يكرم الإنسان فيحكمه من خلال وعيه وارادته ورغبته من خلال الميثاق الذي يعقده العبد مع الله. وهذا ميثاق فطري قائم في عمق نفس كل انسان، ولا يخلو من انسان إلاّ ان يفسد سلامة فطرته وبموجب هذا الميثاق الفطري القائم في عمق نفس كل انسان بصورة حتمية العبودية لله تعالى والطاعة والتسليم والانقياد له عز شأنه من خلال وعيه الفطري وارادته ورغبته واختياره.
وهذا هو المعنى التكريمي الذي تنطوي عليه الميثاق، ولاستيعاب اكثر لهذه النظرية يحسن الرجوع إلى الدراسة التفصيلية التي كتبها كاتب هذه الاسطر عن «آية الميثاق».
3ـ والبيعة تكريم ثالث للانسان يطلب فيها الإسلام من المسلمين ان يقرروا مصيرهم في الدعوة والقتال والامرة والولاية بأنفسهم واختيارهم. وهذه النقاط الثلاثة «الدعوة والدولة والقتال» اهم النقاط السياسية في حياة الإنسان، فلا يريد الإسلام ان تتقرر حياة المسلمين السياسية في غياب من ارادتهم ووعيهم واختيارهم.
ولا يعني ذلك بالطبع ان الإسلام يسمح لهم بالتجرد عن الالتزام تجاه الدعوة أو الدولة أو الجهاد، فلابد للمسلم ـ إذا كان مسلماً ـ من الالتزام والطاعة، ولكن الإسلام يعمل ويخطط لتكون هذه الطاعة عن وعي وقناعة واختيار وميثاق بين الإنسان المسلم وبين الله ورسوله، على صعيد الوعي والاختيار، كما تم من قبل على صعيد الفطرة في ميثاق الفطرة «آية الميثاق»، والبيعة تأكيد للميثاق الفطري الذي أعطاه الإنسان لله تعالى من قبل في عمق الفطرة في نفسه.
وهذه خلاصة البحث عن القيمة التكريمية للبيعة، ويحتاج الامر في هذا الامر إلى مزيد من الدراسة والتأمل والبحث.
القيمة التشريعية للبيعة
هل البيعة توكيد وتوثيق للامامة والطاعة، بعد افتراض ثبوتها بأدلتها واثباتاتها الخاصة؟ ام انها شرط لصحة طاعة الامام «من قبيل شرط الواجب»؟ ام انها شرط لوجوب الطاعة وانعقاد الامامة «من قبيل شرط الوجوب»؟
ثلاثة آراء فقهية
الرأي الأول:
يرى جمع من الفقهاء، ان البيعة تأكيد وتوثيق للالتزام بولاية وسيادة ولي الأمر، وليس انشاء للولاية كما هو مؤدى القول الثالث، وليس شرطاً لصحة الطاعة كما هو مؤدى القول الثاني.
وعلى رأي هذه الطائفة من الفقهاء تثبت ولاية ولي الأمر بأدلتها واثباتاتها الخاصة، ولا تتوقف الطاعة، لا وجوباً، ولا صحة على انشاء البيعة، ويستدل هؤلاء الفقهاء ببيعة العقبة الاولى والثانية وبيعة الغدير.
فقد كانت ولاية رسول الله (ص) ثابتة قبل هذه البيعة، وبيعة المسلمين أو عدم بيعتهم له (ص) في الاستجابة للدعوة والجهاد والأمرة لم تغير من حق رسول الله (ص) على الاُمّة في الطاعة في امر الدعوة والجهاد والأمرة.
وكذلك الامرة كانت ثابتة لعلي (ع) بعد رسول الله (ص) بناء على رأي الامامية ـ في غدير خم ـ ولم تثبت هذه الأمرة يومئذ ببيعة المسلمين له، وان كان رسول الله (ص) قد امرهم بذلك، فان هذه البيعة لا تزيد قيمتها من الناحية التشريعية على تأكيد هذه الولاية من ناحية والطاعة من ناحية اخرى.
وهو كلام وجيه ومعقول، لا أجد إلى مناقشته سبيل، وقد قرأت مناقشة الشيخ المنتظري لهذا الرأي في كتابه «ولاية الفقيه»، إلاّ انني لم أتمكن ان اخرج بمحصل من قراءة المناقشة[14]، في الغاء دلالة البيعة على تأكيد وتوثيق الطاعة والولاية، واثبات المعنى الثالث للولاية الذي يقرّ به الشيخ حفظه الله.
واعتقد ان مدلول البيعة لا يزيد على هذا التأكيد والتوثيق فيما لو ثبتت الولاية لأحد بنص خاص من الكتاب والسنّة كما في هذه الموارد في ولاية رسول الله (ص) وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على رأي الامامية.
اما عندما لا تثبت هذه الولاية بنص خاص كما في كل ولاية بعد رسول الله (ص) للخلفاء على رأي أهل السنة، وكما في ولاية الفقهاء عند الامامية في عصر الغيبة، فان البيعة تدل على انشاء الولاية، وبها تتم الولاية، وليس من قبلها ولاية لصاحبها على المسلمين، وسوف تأتي زيادة توضيح لهذه النقطة في توضيح القول الثالث.
الرأي الثاني:
والرأي الثاني ان البيعة شرط لصحة الولاية من قبيل «شرط الواجب»، كما في علاقة الوضوء بالصلاة، بمعنى ان الطاعة واجبة على المكلف تجاه الامام مع البيعة أو بدون البيعة غير ان هذا الواجب لا يسقط عن عهدة المكلف إلاّ بالبيعة، ولا تصح منه هذه الطاعة إلاّ بسبق البيعة، ولا يسقط عنه وجوب الطاعة من دون البيعة، كما لا يسقط عن المكلف وجوب الصلاة إذا اداها من غير وضوء، فان الصلاة واجبة بالفعل على المكلف سواء كان المكلف متطهراً ام لم يكن متطهراً، ولكن في الحالة الثانية يجب عليه ان يتوضأ ليصلي، ولا تسقط عنه الصلاة ما لم يتطهر.
وهذا احتمال ضعيف جداً في تفسير علاقة البيعة بالطاعة لا يحتاج إلى ان نقف عنده لننتقل إلى القول الثالث، فليس في أدلة البيعة ما يشعر بهذا المعنى من المقدمية اطلاقاً.
الرأي الثالث:
والرأي الثالث يفسر العلاقة بين البيعة والطاعة بالعلاقة القائمة بين «المقدمة والوجوب» «لا الوجود»، فتكون البيعة هي الطريقة الشرعية لانشاء الولاية، وبالبيعة تجب الطاعة على الرعايا وتنعقد الامامة والسيادة لولي الأمر، وقبل البيعة لا ولاية للامام ولا طاعة على الرعية.
وهو الرأي الذي اختاره من الآراء الثلاثة، والى هذا الرأي يذهب بعض الفقهاء المعاصرين. ولابد من تقديم توضيح لهذا الرأي ضمن مجموعة من النقاط:
النقطة الاولى:
ان ادلة ولاية الفقيه من قبيل «من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً».
ومن قبيل التوقيع الشريف «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم».
ومن قبيل «مجاري الاحكام على أيدي العلماء».
.. اقول ان ادلة ولاية الفقيه المعروفة عند الفقهاء ليست ناظرة إلى ولاية كل فقيه بمعنى «عموم النصب»، كما يذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء، لان عموم النصب معنى غير معقول في الولاية العامة، لانه يستلزم ذلك ان يكون الفقيه الواحد والياً بالنسبة للفقهاء الآخرين، وفي نفس الوقت مولى عليه وهو أمر غير معقول، بناء على عموم الولاية.
وأيضاً يلزم من ذلك ان يكون للشارع طريقة جديدة في النصب والتعيين غير الطريقة التي يعتمدها العقلاء في هذا المجال.
فان طريقة العقلاء في الولاية واحدة من اثنتين:
الاولى: تشخيص احد للولاية، وهي الطريقة التشخيصية.
والثانية: تحديد المواصفات التي تؤهل صاحبها للولاية، وهي طريقة «التأهيل».
وليس لدى العقلاء غير التشخيص والتأهيل طريق ثالثة، ومن المستبعد جداً ان يكون للشارع طريقة اخرى غير هاتين الطريقتين التي يألفهما الناس.
ولما كانت النصوص التي ذكرناها لولاية الفقيه وأمثالها لا تدل على التشخيص فلابد ان تدل على «التأهيل»، وأما «النصب العام» فهو امر غريب وغير مألوف في أساليب العقلاء في مثل هذا المورد، وأيضاً يؤدي عموم النصب إلى هرج غريب في الحياة الاجتماعية والسياسية والامنية لا يمكن ان تقرها الشريعة مطلقاً.
وبذلك تنقلب العمومات والاطلاقات في أدلة ولاية الفقيه من «كل فقيه حاكم» إلى ضرورة ان يكون «كل حاكم فقيهاً»، وليس العكس.
وفي الحقيقة يكون مفاد هذه الروايات هو اشتراط الفقاهة في ولي الأمر، وهو التفسير الوحيد المعقول لعمومات واطلاقات ادلة ولاية الفقيه.
النقطة الثانية:
واذا عرفنا ان ادلة ولاية الفقيه لا تدل على «النصب» عموماً ولا خصوصاً في عصر الغيبة وانما تدل على «التأهيل» فقط للولاية، فلابد ان يكون الشارع قد اعتمد اسلوب العقلاء في عصر الغيبة في نصب الحاكم، فلا يمكن ان يهمل الشارع مسألة خطرة في حياة المسلمين من قبيل مسألة الولاية والحكم، ولا يمكن ان يهمل الشارع تبيان الطريقة التي يتم بها تعيين الحاكم والولي.
اذن لابد ان يكون الشارع قد أوكل أمر الاختيار إلى الناس انفسهم في هذا العصر ضمن الشروط والمواصفات التي بينها الشارع لهم. واختيار الناس للحاكم هو معنى «البيعة» الذي نتحدث عنه في هذه الدراسة.
النقطة الثالثة:
اذن «البيعة» تنشأ الولاية الشرعية للحاكم، والولاية تتطلب الطاعة من الرعايا، فلا تكون البيعة تأكيدا وتوثيقاً للولاية الثانية للحاكم، وللطاعة الواجبة على الرعية، في موارد النص العام، كما كان كذلك في موارد النص الخاص، وانما تكون البيعة شرطاً ومقدمة لانعقاد الامامة للحاكم، ومن دون البيعة لا تنعقد الامامة لأحد، ولا تجب الطاعة لأحد على احد.
وتكون علاقة البيعة بالطاعة والامامة عندئذ من قبيل علاقة مقدمات الوجوب بالوجوب، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ودخول الوقت بالنسبة إلى الواجبات المؤقتة فلا تنعقد الامامة ولا تجب الطاعة من دونها.
غير ان هذه المقدمة «وهي البيعة» بحد ذاتها تكون واجبة وجوباً غيرياً مقدمة لوجوب نصب الامام و«اقامة الدولة الإسلامية»، فتكون البيعة واجبة لوجوب ذيها، وتجب الطاعة بالبيعة.
فيكون تسلسل العلاقة بين «البيعة» و«نصب الامام» و«الطاعة» بالشكل التالي، «البيعة» مقدمة وجودية «لنصب الامام» ومقدمة وجوبية لـ «طاعة الامام»، فان «نصب الامام» واجب قطعاً، ووجوبه يقتضي وجوب «البيعة» من باب المقدمة فتجب البيعة وجوباً غيرياً مقدمة لنصب الامام. و«النصب» من شروط «وجوب الطاعة» ولا تجب الطاعة قبل النصب. ولما كانت البيعة مقدمة وجودية للنصب، فهي بالضرورة مقدمة وجوبية لطاعة الامام، وشرطاً من شروط وجوب الطاعة.
ولا حاجة إلى القول بأن البيعة تجب ضمن الملاكات والمواصفات التي يحددها الشارع في ادلة ولاية الفقيه والتي وجدنا انها منصرفة إلى معنى «التأهيل» من الفقاهة والعدالة والكفاءة.
ولما كان من غير الممكن عادة اتفاق الناس عموماً على انتخاب الحاكم، كان لابد من وضع بديل معقول عن اتفاق الناس، وهذا البديل لابد ان يكون واحداً من اثنين، لا محالة.
اما وجوه اهل الحل والعقد، أو انتخاب أكثرية الناس، وسوف يأتي تفصيل هذه النقطة في المستقبل ان شاء الله تعالى.
النصوص المؤيدة:
وقد ورد هذا المعنى في طائفة من النصوص الإسلامية، نورد فيما يلي بعضها:
في عيون اخبار الرضا عن الرضا (ع) بالاسناد عن رسول الله (ص): «من جاءكم يريد ان يفرق الجماعة، ويغصب الاُمّة امرها، ويتولى من غير مشورة، فاقتلوه، فان الله قد اذن ذلك».[15]
وفيه دلالة واضحة على ان الامرة تكون بمشورة اهل الرأي من المسلمين، ومن دونها لا تكون الامرة شرعية.
وعندما اقبل المسلمون على بيعة الامام علي (ع) بعد مقتل عثمان قال (ع): «دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم مني أميراً».[16]
وهذه ظاهرة في ان البيعة ملزمة للرعية بالطاعة وان الامامة تنعقد بالبيعة، ولا تنافي هذه الحقيقة رأي الشيعة الامامية في ان الامام علي بن أبي طالب (ع) كان يرى انّه منصوب بالنص الخاص من جانب رسول الله (ص)، فان الامام يتحدث في هذا النص إلى الذين كانوا ينفون النص الخاص، فيتنازل لهم عن رأيه ويأخذ برأيهم فيه ويلزمهم ببيعتهم له بناء على رأيهم.
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع):
«وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماماً، كان ذلك «لله» رضا، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان ابى فاقتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى».[17]
وروى الطبري وابن كثير ان علياً (ع) حضر المسجد يوم البيعة وقال: «أيّها الناس.. ان هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمّرتم».[18]
إلى غير ذلك من النصوص، وهذه النصوص ان كانت لا تصلح من ناحية السند للاستدلال والاحتجاج فهي صالحة لتأييد ما سبق من الدليل العقلي قطعاً.
هذا هو الرأي الفقهي عند الامامية، وإذا كان هذا الرأي موضع بحث نظري من الناحية الفقهية بين الفقهاء في بعض جوانبه، فهو الرأي المتبنى والمعمول به من الناحية العملية في الجمهورية الإسلامية المعاصرة.
وبناء على هذا الرأي تنعقد امامة ولي الأمر ببيعة المسلمين له، وتجب طاعتهم عليه.
رأي فقهاء الجمهور في البيعة:
ولننظر الآن إلى رأي فقهاء الجمهور في البيعة وقيمتها التشريعية:
يرى عامة فقهاء السنة ان الامامة والولاية تنعقد للفقيه المتصدي بصورة فعلية وناجزة ببيعة جمع من أهل الحل والعقد يمثلون عادة ارادة مساحة واسعة من الاُمّة أو ببيعة مباشرة من شريحة كبيرة من الاُمّة، بكيفية وكمية يعتد بها عادة في أمثال هذه المسائل التي يربطها الشارع بارادة الجمهور، إذا كان الفقيه يستجمع الشروط التي يطلبها الشارع في الامام.
والى هذا الرأي يذهب جمهور فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، وفيما يلي نذكر بعض كلمات هؤلاء الاعلام:
1ـ يقول ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفى 450 هـ:
«فاذا اجتمع اهل العقد والحل للاختيار تصفحوا احوال اهل الامامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا لبيعة منهم اكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعة، فاذا تعين لهم من بين الجماعة من اداهم الاجهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فان اجاب اليها بايعوه عليها، وانعقدت بيعتهم له الامامة فلزم كافة الاُمّة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته».[19]
2ـ يقول القاضي عبدالجبار في «المغني» المتوفى في 415 «وان اقام بعض اهل الحل والعقد اماماً سقط وجوب نصيب الامام عن الباقين. وصار من اقاموه اماماً، ويلزمهم اظهار على ذلك بالمكاتبة والمراسلة لئلا يتشاغل غيرهم بامام غيره. وقد وقعت الكفاية، ولئلا يؤدي ذلك إلى الفتنة. فعدم مبايعة سائر افراد الاُمّة لا يؤثر في انعقاد الامامة، لان العقد تم بمجرد مبايعة اهل الحل والعقد، ولا يكون العقد صحيحاً إذا لم يبايع الامام أهل الحل والعقد».[20]
3ـ وقال ابو عبدالله القرطبي «671 هـ» في «الجامع لأحكام القرآن»:
«الطريق الثالث لاثبات الامامة»: اجماع أهل الحل والعقد، وذلك ان الجماعة في مصر من امصار المسلمين إذا مات امامم ولم يكن لهم امام ولا استخلف، فأقام اهل ذلك المصر الذي هو حضره الامام وموضعه اماماً لانفسهم اجتمعوا عليه، ورضوه، فان كل من خلفهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الامام إذا لم يكن الامام معلناً بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب اجابتها، ولا يسع احد التخلف عنها لما في اقامة امامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله (ص): «ثلاث لا يفل عليهم قلب مؤمن: اخلاص العمل لله، ولزوم الجماعة، ومناصحة ولاة الأمر». فان دعوة المسلمين من ورائهم محيطة.[21]
4ـ ويقول ابن تيمية المتوفي 728 هـ في كتابه «منهج السنّة»:
«الامامة عندهم (اهل السنة) تثبت بموافقة اهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل اماماً حتى يوافقه اهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الامامة. فان المقصود من الامامة انما يحصل بالقدرة والسلطان، فاذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار اماماً، ولهذا قال ائمة السنة من صار له قدرة وسلطان فهو من اولى الامر الذين امر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالامامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد واثنين ولا اربعة الا ان تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك»[22].
5 ـ ويرى (القلانسي) ومن تبعه ان الامامة تنعقد بعلماء الاُمّة الذين يحضرون موضع الامام وليس لذلك عدد مخصوص[23].
التسامح في عدد المبايعين عند فقهاء السنة:
بل ويتسامح الكثير من فقهاء السنة ومتكلميهم في العدد الذي ينعقد ببيعتهم الامامة، فمنهم من يحدد الحد الادنى منه بالاربعين، ومنهم بالخمسة ومنهم من يكتفي بالثلاثة، ومنهم من يكتفي بالاثنين، ومنهم من يكتفي ببيعة رجل واحد في انعقاد الامامة، واليك طرف من كلماتهم:
6 ـ يقول القاضي عبد الرحمن الايجي الشافعي المتوفي 756 في «المواقف»:
«(وتثبت الامامة) ببيعة اهل الحل والعقد، خلافاً للشيعة. (ثم قال) إذا ثبت حصول الامامة بالاختيار والبيعة فاعلم ان ذلك لا يفتقر إلى الاجماع، اذ لم يقم دليل من العقل أو السمـع بل الواحد والاثنان من اهل الحل والعقد كـاف»[24].
7 ـ قال ابو الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفي 450 هـ في الاحكام السلطانية: اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الامامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة لا تنعقد الا بجمهور اهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاماً والتسليم لامامته اجماعاً.. وقالت طائفة اخرى تنعقد الامامة بخمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها احدهم برضا الاربعة استدلالاً بامرين: احدهما ان بيعه ابي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها.. والثاني ان عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لاحدهم برضا الخمسة، وهذا قول اكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها احدهم برضا الاثنين.. وقالت طائفة اخرى تنعقد بواحد لان العباس قال لعلي رضوان الله عليهما امدد يدك ابايعك فيقول الناس عم رسول الله (ص) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان[25].
8 ـ وذهب الجبائي من المعتزلة ان الامامة تنعقد بخمسة يجتمعون على عقدها[26]. وذكر جلال الدين المحلي في شرحه على منهاج الطالبين للنوري ان الامامة تنعقد بالبيعة من قبل اربعة[27] ونقل انها تنعقد بمبايعة ثلاثة لانها جماعة لا يجوز مخالفتهم[28].
وقيل ان الامامة تنعقد ببيعة رجلين من اهل الورع والاجتهاد، وهو رأي منسوب إلى سليمان بن جرير الزبدي وطائفة من المعتزلة[29].
ويذهب عدد من الفقهاء إلى انعقاد الامامة ببيعة شخص واحد فقط كما ذكرنا.
9 ـ يقول امام الحرمين الجويني المتوفي في 478 في «الارشاد إلى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد»:
«اعلموا انّه لا يشترط في عقد الامامة اجماع، بل تنعقد الامامة وان لم تجمع الاُمّة على عقدها.. فاذا لم يشترط الاجماع في عقد الامامة لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود، فالوجه الحكم بان الامامة تنعقد بعقد واحد من اهل الحل والعقد»[30].
10 ـ ويقول القرطبي المتوفي 671 هـ في تفسيره «الجامع لاحكام القرآن»:
«فان عقدها واحد من اهل الحل والعقد، فذلك ثابت ويلزم الغير فعله خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد الا بجماعة من اهل الحل والعقد.. قال الامام ابو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير امر. قال: وهذا مجمع عليه»[31].
11ـ ويروي عبد القاهر البغدادي عن ابي الحسن الاشعري توفي سنة 330 هـ «ان الامامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من اهل الاجتهاد والورع، إذا عقدها لن يصلح لها، فاذا فعل ذلك وجـب على الباقيـن طاعته»[32].
12ـ ويقول البزدوي: «وحكى عن الاشعري انّه قال: إذا عقد واحد من اهل الرأي والتدبير، وهو مشهور لواحد هو افضل الناس عقد الخلافة يصير خليفة»[33].
وقد اشترط بعضهم في انعقاد الإمامة بواحد الاشهاد على البيعة.
13ـ يقول النوري في الروضة «الاصح انّه لا يشترط الاشهاد ـ ان كان العاقدون جمعاً، وان كان واحد اشترط الاشهاد»[34].
هل تنعقد الامامة بالثورة المسلحة من دون بيعة:
يذهب جمهور فقهاء السنة إلى انعقاد الامامة للحاكم بالثورة المسلحة والسيطرة على مراكز الحكم واسقاط نظام الحكم السابق، وفرض الادارة الجديدة بالقوة العسكرية، ولا يحتاج انعقاد الامامة حينئذ إلى عقد البيعة من قبل جمهور المسلمين أو من جانب اهل الحل والعقد. وهذا مذهب معروف وقديم عند اهل السنة.
14 ـ يقول ابو يعلى الفراء:
«فقال (احمد بن حنبل) في رواية عبدوس بن مالك العطار «ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى امير المؤمنين فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه اماماً براً كان أو فاجراً». وقال (احمد) ايضاً في رواية ابي الحرث «إذا خرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم: تكون الجمعة مع من غلب»، واحتج بان ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة، وقال: «نحن مع من غلب»[35].
15 ـ ويقول التفتازاني في شرح المقاصد:
«إذا مات الامام وتصدى للامامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكة انعقدت له الخلافة، وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الاظهر، وتجب طاعة الامام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلاً أو جائراً»[36].
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان:
«وجمهور العلماء على انعقادها بهذا الطريق سواء كانت شروط الامامة متوافرة في هذا المتغلب أو لم تتوافر فيه، حتى ولو كان المتغلب فاسقاً أو جاهلاً انعقدت امامته[37] بل لو تغلبت امرأة على الامامة انعقدت لها[38]، وكذا إذا تغلبت عليها عبد[39] وذلك لان العلماء ينظرون إلى انّه لو قيل بعدم انعقاد امامة المتغلب لأدى ذلك إلى وقوع الفتن بالتصادم بين المتغلب ومعاونيه وبين الامام الموجود ومن يقف بجانبه ولانتشر الفساد بين الناس بعدم انعقاد الاحكام التي صدرت عن هذا المتغلب، وان من يتولى امامة المسلمين بعده عليه ان يقيم الحدود اولاً ويأخذ الجزية ثانياً.
بـل ان العلماء نصـوا على انّه لو تغلب آخر على هذا المتغلب فقعد مكانه انعزل الاول وصار الثاني اماماً تغلب[40]، فالعلماء يقارنون بين نوعين من الشر، فيختارون اهونها إلى الاُمّة ولا يفتون بتعريضها لاعظم الشرين»[41].
مناقشة رأي فقهاء الجمهور:
وهذا دليل لا يسلم عن المؤاخذة والمناقشة.
ونلخص نحن مؤاخذتنا على هذا الاستدلال في نقطتين:
النقطة الاولى: ان الاصل في الموقف الشرعي من الفئات الظالمة التي تغتصب السلطة ليس هو الاستسلام والقبول أو الانقياد، وانما الموقف الاسلامي هو الرفض والرد والمواجهة وتحريم الركون، وهو الموقف الصريح في القرآن يقول تعالى:
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (هود، 113).
ويقول تعالى: {ولا تطيعوا امر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون} (الشعراء، 151 ـ 152).
ويقول تعالى: {ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا} (الكهف، 28).
ويقول تعالى: {الم تر إلى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالاً بعيدا} (النساء، 60).
وقد يتفق ان تعجز الاُمّة عن تأدية فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسقط عنها هذه الفريضة الإسلامية ويرتفع عنها وجوب الرد، والمقاومة، فيما إذا كان من غير الممكن احباط الثورة المسلحة ونصرة الامام العادل المغلوب على امره وتمكينه من الحكم، وكانت المقاومة تعود على الاُمّة بمردود سلبي ضره اكثر من نفعه وتودي إلى تمكين الظالمين من ابادة الفئة المؤمنة المقاومة. ولكن هذه الحالة استثناء وليس باصل والاصل هو المقاومة، ولا ينفي هذا الاستثناء في ظرفه الخاص به، الا ان الاستثناء لا يجوز ان يتحول إلى الاصل، وعندما نستعرض كلمات هؤلاء الاعلام نجد انهم يقررون الحكم بالتسليم والركون والانقياد وحرمة المعارضة والمقاومة على نحو الاصل وليس على نحو الاستثناء، وقد قرأنا قبل قليل كلمة الامام احمد برواية عبدوس بن مالك القطان: «ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي امير المؤمنين لا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه إماماً، وبراً كان أو فاجراً».
وحتى فيما إذا كان من غير الممكن اعادة الولاية والامامة إلى اهلها واقتضى الامر التسليم فان هذا التسليم امر مؤقت، وعلى المسلمين العمل والاعداد لاسقاط الحاكم الظالم، ويجب العمل لهذا الاعداد حتى في فترة التسليم ومسايرة النظام الحاكم.
وهذه كلها حقائق واضحة لا يمكن التشكيك فيها بينما مذهب جمور فقهاء السنة إلى وجوب الانقياد.
وجوب الانقياد للحاكم المتسلط (التسليم له وقبول امامته وحرمة معارضته من دون قيد أو شرط ولا مبرر على الاطلاق لمثل هذا الاطلاق).
النقطة الثانية: ان مال هذه الاستدلال ـ إذا سلم من المؤاخذة الاولى ـ إلى قاعدة الضرر المعروفة لدى الفقهاء والتي تتبنى على الحديث المعروف عن رسول الله (لا ضرر ولا ضرار).
وتقرر الاستدلال بقاعدة الضرر ان تحريم الركون إلى الظالمين ووجوب المقاومة والرفض عندما يتسبب للفئة المؤمنة بضرر بليغ، ويكون ضره اكبر من نفعه فان قاعدة الضرر ترفع الحكم بتحريم الركون إلى الظالم ووجوب مقاومته، ما دام هذا التحريم والوجوب يكون سببا في الاضرار بالمؤمن، اذن فان قاعدة الضرر ترفع حكم الحرمة عن اطلاق قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} وترفع النهي عن طاعة المسرفين في قوله تعالى: {ولا تطيعوا امر المسرفين} وليس من شك ان القاعدة حاكمة على اطلاقات الاحكام الاولية بمعنى انها تضيق المحمول في هذه الاطلاقات وتقيده بما إذا لم يكن ضررياً، فاذا كان ضررياً ارتفع الحكم بموجب دليل هذه القاعدة، كما ان وجوب الصلاة والوضوء والصوم في اطلاقات الصلاة والوضوء والصوم يرتفع في حالات الضرر بمقتضى قاعدة الضرر وهذا احد نحوي الحكومة، والنحو الآخر للحكومة هو تصرف الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم بالتوسعة أو التضيق.
ومهمة دليل قاعدة الضرر هو التصرف في ناحية المحمول ورفع الحكم (المحمول) فيما إذا كان ضررياً. والحكم الذي يرفعه دليل قاعدة الضرر اعم من ان يكون حكماً تكليفياً كما في الامثلة المتقدمة أو حكماً وضعياً كاللزوم في المعاملات الضرورية.
فان دليل قاعدة الضرر ينشأ منه الضرر على المكلف سواءاً كان حكماً تكليفياً كوجوب الصلاة والصيام أو حكماً وضعياً كاللزوم في المعاملة.
وليس لدليل (الضرر) تأثير في وضع الحكم الذي يكون عدمه ضررياً للمكلف سواءاً في ذلك الحكم الوضعي والحكم التكليفي. فان دليل (لا ضرر ولا ضرار) لا يزيد مقتضاه على النفي ورفع الحكم الذي يتسبب في اضرار المكلف، دون اثبات الاحكام التكليفية والوضعية التي يتضرر المكلف من عدمها.
ولذلك يقول الفقهاء ان دليل الضرر رافع فقط وليس بمشرع، ولا واضع، فلا يمكن اثبات الضمان مثلاً بقاعدة الضرر في المعاملات التي يترتب فيها الضرر على عدم الضمان.
وعليه فلا يمكن الاستدلال بهذا الدليل إذا صح الاستدلال به في اكثر من رفع الالزام بمعارضة الحاكم الظالم المتغلب، ورفع وجوب النهي عن المنكر، ومقاومة الفئة الظالمة المتغلبة على الامر، وهذا هو اقصى ما يمكن استفادته من دليل الضرر الذي هو روح الاستدلال الذي قرأناه في النص المتقدم، ولا يتكفل دليل الضرر قطعاً اثبات شرعية الادارة التي قامت بصورة غير مشروعة وانعقاد الامامة للحاكم الذي فرض سلطانه على المسلمين بالانقلاب العسكري، من دون بيعة ورضى من المسلمين، كما لا يثبت دليل الضرر صحة الزواج الذي يعقده الحاكم الذي جاء بطريقة غير مشروعة لغير البالغة ولغير البالغ، ولا يثبت حق الحاكم في اجراء الحدود الشرعية، أو شرعية نزع الاملاك وجباية الاموال، فان مقتضى دليل الضرر كما ذكرنا لا يزيد على الرفع ولا يصل إلى مرحلة الوضع.
وليس ما وراء هذا الدليل دليل آخر للحكم بوجوب الانقياد للظالم المتغلب على البلاد.
شرط الفقاهة في صحة بيعة ولي الأمر
ونخصص هذا الشرط من شروط صحة البيعة بتفصيل اكثر من وجهة نظر المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة.
اما عند الشيعة الامامية فلا نكاد نجد خلافاً يذكر في هذه المسألة. فمن قائل بتخصيص الولاية بخصوص الفقيه، وقائل بان الفقاهة هو المقدار المتيقن من شرعية الولاية.
وقد وردت طائفة من النصوص في اشتراط الاجتهاد والفقاهة في ولي الامر، وفيما يلي نذكر جملة من هذه النصوص:
منها ما رواه حسن بن شعبة عن السبط الشهيد الحسين (ع)، «مجاري الامور والاحكام على ايدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه»[42].
وعن الفضيل بن يسار قال سمعت ابا عبد الله (ع) يقول: «من خرج يدعوا الناس وفيهم من هو اعلم منه فهو ضال مبتدع»[43].
وروى البرقي في المحاسن عن رسول الله (ص) قال: «من أمّ قوماً وفيهم اعلم منه أو افقه منه لم يزل امرهم في سفال إلى يوم القيامة»[44].
وعن علي (ع): «ايها الناس، ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليهم، واعلمهم بأمر الله فيه، فان شغب شاغب استعتب، فان أبى قوتل»[45].
ومن طرق السنة روى البيهقي عن ابن عباس عن رسول الله (ص): «من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم ان فيهم اولى بذلك منه، واعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين»[46].
ويذهب إلى اشتراط الفقاهة والاجتهاد في (ولي الامر) جمهور فقهاء اهل السنة. يقول السيد شريف الجرجاني من المتكلمين في شرحه على المواقف للقاضي عضد الدين الايجي: «الجمهور على ان اهل الامامة ومستحقها من هو مجتهد في الاصول والفروع ليقوم بأمر الدين متمكناً من اقامة الحجج، وحل الشبه في العقائد الدينية، مستقلاً بالفتوى في النوازل واحكام الوقائع: نصاً واستنباطاً، لان اهم مقاصد الاُمّة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات ولن يتم ذلك بدون هذا الشرط»[47].
ومن الفقهاء يقول الامام الشافعي في شروط الامامة: «والعلم بحيث يصلح ان يكون مفتياً من اهل الاجتهاد»[48].
وذهب ابن الهمام من علماء الاحناف إلى اشتراط العلم في الامامة، ولم يقيد العلم بخصوص الفقاهة، ويظهر ان يقصد بالعلم ما يمكّن الامام من ممارسة دوره في الامامة.
ولكنه اضاف هذا التخصيص فيما بعد فقال: «وزاد كثير الاجتهاد في الاصول والفروع»[49].
ويقول القلقشندي في مآثر الاناقة في معالم الخلافة في شروط الامامة:
«العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والاحكام، فلا تنعقد امامة غير العالم بذلك»[50].
ويقول النووي: «شروط الامامة وهي كونه مكلفاً مسلماً عدلاً، حراً، ذكراً، عالماً، مجتهداً»[51].
ويذهب جمع من الفقهاء إلى ان اشتراط الفقاهة في الامام مما اجمع عليه الفقهاء ومن هؤلاء شمس الدين الرميلي يقول: «ان هذا الشرط لابد منه في الامامة كالقاضي واولى بل حكى فيه الاجماع»[52].
ويدعي الاجماع كذلك صاحب البحر الزخار يقول: «العلم فيجب كونه مجتهداً اجماعاً ليتمكن من اجراء الشريعة على قوانينها»[53].
الوحدة والتعدد في الولاية
التطبيقات التاريخية:
هذه المسألة قديمة في التاريخ السياسي والفقهي في الإسلام، واول مرة طرحت فيها هذه المسألة يوم وفاة رسول الله (ص) في اجتماع المهاجرين والانصار في (سقيفة بني ساعدة) حيث طلب الانصار بعد ان فشل مرشحهم سعد بن عبادة من احراز الخلافة ان يكون لهم امير وللمهاجرين امير، فقال عمر يومئذ «سيفان في غمد واحد لا يصطلحان»[54]. وكتب معاوية إلى امير المؤمنين علي عليه السلام بعد معركة صفين: «إذا ما شئت.. فلك العراق ولي الشام»[55] فرفض الامام (ع) ذلك.
وتكرر طرح هذه المسألة في التاريخ السياسي والفقهي في الإسلام، كما قامت دول اسلامية متعددة باسم الخلافة والشرعية الإسلامية في زمان واحد وفي اقاليم مختلفة من العالم الاسلامي.
الرأي الفقهي في المسألة
يختلف الرأي الفقهي في هذه المسألة في القطر الواحد، عن الاقطار المتباعدة، فلم يجوزوه في القطر الواحد بالاجماع، يقول امام الحرمين الجويني: «ذهب اصحابنا إلى منع عقد الامامة لشخصين في طرفي العالم.. والذي عندي فيه ان عقد الامامة لشخصين، في مجتمع واحد متضايق الخطط والمخالف[56] غير جائز وقد حصل الاجماع عليه، واما إذا بعد المدى وتخلل بين الامامين شسوع النوى فلاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع[57].
واما في الاقطار المتباعدة فقد اختلف فيها الرأي، فمنعها جمهور الفقهاء[58] واجازها بعضهم[59]. ومهما يكن من امر فلابد لنا ان ننظر في الادلة التي اقاموها لهذا الامر.
الادلة والحجج:
ذكروا لوحدة الولاية والحاكمية في القطر الواحد وفي الاقطار المتباعدة ثلاثة ادلة وهي:
اولاً: النصوص الإسلامية.
فقد روى مسلم في كتابه الجامع الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص انّه سمع رسول الله (ص) يقول «من بايع اماماً فاعطاه صفقة يده وثمرة قلبه وفليطعه ان استطاع، فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»[60].
وعن ابي هريرة عن رسول الله (ص) قال «فوا ببيعة الاول فالاول واعطوهم حقهم»[61].
وروى مسلم في «الجامع الصحيح» والبيهقي في السنن عن ابي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»[62].
وروى مسلم في «الجامع الصحيح» عن عرفجة قال سمعت رسول الله (ص) يقول: «انّه ستكون هنات وهنات فمن اراد ان يفرق امر هذه الاُمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان»[63].
ويقول امير المؤمنين (ع) «لانها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن والمروي فيها مداهن»[64].
ثانياً: الاجماع فقد رفض المهاجرون طلب الانصار بان يكون لهم امير وللمهاجرين امير ثم رضى الانصار بوحدة الامامة فصار اجماعاً.
واستدلوا ثالثاً بان التعدد في الولاية والامارة يؤدي إلى اثارة الخلافات وحدوث الصراع والحرب فيما بين المسلمين، وقد امرنا الله تعالى ان نعتصم بحبله الوثيق ولا نتفرق فقال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران، 13). وقال تعالى {وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاتقون} (المؤمنون، 52).
وقد كان ابو بكر بن ابي قحافة يقول «لا يحل ان يكون للمسلمين اميران، فانه مهما يكن ذلك يختلف امرهم واحكامهم، وتتفرق جماعتهم، ويتنازعوا فيما بينهم، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة وليس لاحد على ذلك صلاح»[65].
وقد ذكرنا ان الانصار لما طلبوا من المهاجرين ان يكون منهم رجل ومن المهاجرين رجل قال عمر بن الخطاب يومئذ «سيفان في غمد واحد اذن لا يصطلحان»[66].
الاستدلال
ومهما يكن امر هذه الادلة ومهما قيل في المؤاخذات التي اوردها عليها، فان الولاية بشكل عام تنقسم إلى قسمين اثنين:
1 ـ الولاية العامة.
2 ـ الولاية الخاصة.
والولاية الخاصة هي الولاية التي تثبت لشخص في دائرة محدودة من دوائر حياة الناس، وفي مساحة اجتماعية محدودة من نحو ولاية مدير المدرسة وولاية مدير العمل على المعمل وولاية الوزير على الوزارة التابعة له، وهذا القسم من الولايات محدودة المساحة والمسؤولية بطبيعة الحال وهي متعددة وفي عرض واحد وليس فيها تنافس ولا تعارض.
اما الولاية العامة والمطلقة، فهي التي تندرج تحتها الولايات الخاصة وهذه الولايات تأتي في امتداد ولاية رسول الله (ص) والائمة (ع) من بعده وهي تحمل نفس الاطلاق والشمول الذي تحمله ولاية رسول الله (ص)، فان ولاية رسول الله عامة على كل المسلمين وكذلك كل ولاية تأتي على امتداد ولاية رسول الله وخلافة الائمة تكون عامة ومطلقة، وبمعنى اولوية صاحبها في التصرف من كل مسلم على نفسه. وهذه الولاية مطلقة وتعدد الولايات يخل بهذا الاطلاق بالضرورة. فان وجود اي ولاية في عرض هذه الولاية يكون بمعنى الاستثناء في ولاية الاول على الثاني وعلى من يجب عليه طاعة الثاني من الناس.. وبالتالي يتحقق التزاحم بينهما ولذلك فان الولاية العامة التي تأتي على امتداد ولاية رسول الله (ص) ولاية مطلقة وشاملة لكل المسلمين، وهذا الاطلاق ينفي شرعية اية ولاية اخرى في عرضها.
وقد وردت طائفة من النصوص في مسألة توحيد الولاية وحظر حالة التعدد في الولاية من طرق الشيعة الامامية. وفيما يلي نذكر طائفة من هذه الروايات.
النصوص المانعة من التعدد:
روى الصدوق رحمه الله في «علل الشرائع» عن الرضا (ع): «فان قال: فلم لا يجوز ان يكون في الارض امامان في وقت واحد أو اكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:
منها: ان الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما. وذلك انا لم نجد اثنين الا مختلفي الهمم والارادة. فاذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وارادتهما وتدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن احدهما اولى بالطاعة من صاحبه، فإن يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون احد مطيعاً لاحدهما الا وهو عاص للآخر. فتعم المعصية اهل الارض، ثم لا يكون مع ذلك السبيل إلى الطاعة والايمان ويكونون انما اوتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر، اذ امرهم باتباع المختلفين.
ومنها: انّه لا يكون واحد من الحجتين اولى بالنطق والحكم والامر والنهي عن الآخر. فاذا كان هذا كذلك وجب عليهما ان يبتدءا بالكلام وليس لاحدهما ان يسبق صاحبه بشيء إذا كانا في الامامة شرعاً واحداً. فان جاز لاحدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك. وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والاحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا امام لهم»[67].
وفي صحيحة الحسين بن ابي العلا: قلت لابي عبد الله (ع): تكون الارض ليس فيها امام؟ قال: لا. قلت يكون امامان؟ قال: لا الا واحدهما صامت[68].
وفي كمال الدين للصدوق عن ابن ابي يعفور انّه سأل ابا عبد الله(ع) هل يترك الارض بغير امام؟ قال: لا. قلت: فيكون امامان؟ قال: لا الا واحدهما صامت[69].
كلمات اعلام اهل السنة:
وقد صرح اعلام المسلمين بشكل قاطع لعدم جواز تعدد الولاية في بلاد المسلمين، وان حكم السابق من الولاية هو النافذ واللاحق باطل.
ومن هؤلاء التفتازاني في شرحه على العقائد النفسية ص138، والامام الشافعي في الفقه الاكبر الطبعة الاولى ص39، واحمد بن يحي المرتضى في البحر الزخار 5/386 وغيرهم. ونحن ننقل فيما يلي بعض كلمات الاعلام على سبيل الشاهد:
يقول الماوردي المتوفي في 450 هـ في الاحكام السلطانية: «إذا عقدت الامامة لامامين في بلدين لم تنعقد امامتهما لانه لا يجوز ان يكون للامة امامان في وقت واحد، وان شذ قوم فجوزوه».
واختلف الفقهاء في الامام منها، والصحيح في ذلك، وما عليه الفقهاء والمحققون ان الامامة لا سبقهما بيعة وعقداً.. فاذا تعين السابق منهما استقرت له الامامة وعلى المسبوق تسليم الامر إليه والدخول في بيعته[70].
ويقول ابو العلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفي في 458 هـ «ولا يجوز عقد الامامة لامامين في بلدين في حالة واحدة، فان عقد لاثنين وجدت فيهما الشرائط فان كان في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وان كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد، فان علم السابق منهما بطل العقد الثاني»[71].
ويقول السيد صديق حسن في الروضة الندية في شرح الدرر البهية:
«وإذا كانت الامامة الإسلامية مختصة بواحد، والامور راجعة إليه مربوطة به، كما كان في ايام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الاول ان يقتل إذا لم يتب عن المنازعة»[72].
نقض البيعة:
نقض البيعة من الذنوب الكبيرة التي وردت نصوص كثيرة في تأكيد حرمتها، وغلظة العقوبة به.
وفيما يلي نورد طائفة من هذه النصوص:
1 ـ في المجالس عن علي بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفر (ع) قال: ثلاث موبقات:
1 ـ نكث الصفقة.
2 ـ ترك السنة.
3 ـ فراق الجماعة[73].
قال العلامة المجلسي في ايضاح مفردات الحديث نكث الصفقة: نقض البيعة.
2ـ وفي المحاسن ايضاً عن ابن فضال عن ابن حميلة عن محمد بن علي الحلبي عن ابي عبد الله (ع) قال: من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع فريق الإسلام من عنقه، ومن نكث صفقة الامام جاء إلى الله اجذم[74].
3 ـ وفي خصال الصدوق عن جعفر بن محمد (ع) عن ابيه (ع) ان النبي (ص) قال:
ثلاث موبقات: نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة[75].
4 ـ وفي اصول الكافي: عن ابي عبد الله (ع) من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة (الامام) جاء إلى الله تعالى اجذم[76].
5 ـ وفي نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين عليه السلام «ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل. ولكن اهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار»[77].
ويقصد الامام بالشاهد طلحة وزبير وبالغائب معاوية.
6 ـ وفي كتابه عليه السلام إلى معاوية بن ابي سفيان:
«انّه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار ولا للغائب ان يرد»[78].
7 ـ وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم من كتاب علي عليه السلام إلى معاوية «اما بعد فان بيعتي لزمتك وانت بالشام لانه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان»[79].
فلا يخص حرمة نقض البيعة الشاهدين فقط، وانما تعم الحاضر والغائب.
8 ـ ومن كلام له عليه السلام في الخروج عن طاعة الامام الذي بايعه المسلمون «فان خرج عن امرهم خارج بطعن أو بدعة رده إلى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين»[80].
صور مختلفة للبيعة
1 ـ لابد ان نعرف اولاً ان الاصل في البيعة على الامرة والولاية هو بيعة المسلمين جميعاً للامام والوالي، فان الامام يتم نصبه على رأي بيعة المسلمين وعلى الرأي الآخر تتنجز ولايته بالبيعة. وعلى كل حال فالاصل هو مبايعة المسلمين له جميعاً واختياره من قبلهم للامامة والولاية بالاجماع والاتفاق.
2 ـ الا ان هذا الاصل لا يكاد يتحقق عادة، فلا يكاد يتفق المسلمون جميعاً على حاكم وامام، وان اتفق في التاريخ في رقعه من رقاع بلاد المسلمين فهو من النادر الذي بحكم المعدوم.
وعليه فان الادلة على البيعة وانتخاب الامام من قبل المسلمين تنصرف إلى البديل الذي يحل محل اجماع المسلمين واتفاقهم عادة في مثل هذه الاحوال.
يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: «ولعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن اهلها (اهل المدينة) يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار».
وقد سبق ان ذكرنا من قبل ان الحالة البديلة للاتفاق والاجماع في البيعة هي بيعة الاكثرية من الاُمّة واجتماعهم على شخص.
وذلك ان المحتملات في الامر اربعة:
1 ـ اهمال البيعة وبالتالي اهمال امر الولاية وهو حرام قطعاً، كما سبق ان ذكرنا، ولا يجوز.
2 ـ اعتماد حالة الاجماع واتفاق الاُمّة جميعاً على شخص واحد، فقط وهو يكاد ان يكون امراً ممتنعاً أو نادراً بحكم الممتنع.
3 ـ اعتماد رأي الاقلية ونبذ رأي الاكثرية وهو قبيح.
4 ـ اعتماد رأي الاكثرية وطرح رأي الاقلية وهو الاحتمال الوحيد المعقول من بين هذه الاحتمالات.
وعليه فيتعين ان تكون بيعة الاكثرية لشخص هو البديل الشرعي لبيعة عموم المسلمين. يتعين الفقيه لامامة المسلمين ببيعة الاكثرية.
5 ـ وانتخاب ولي الامر من قبل الاكثرية يتم ضمن واحدة من صورتين:
1 ـ الانتخاب المباشر من قبل الاُمّة لولي الامر.
2 ـ انتخاب هيئة من الخبراء من ذوي الرأي والمعرفة من قبل الاُمّة، وهذه الهيئة تتولى انتخاب ولي الامر من بين الافراد الصالحين لولاية الامر باكثرية الآراء.
ومآل كل واحدة من هاتين الصورتين واحد وهو انتخاب الاكثرية للفقيه الولي، وذلك كله حيث يمكن انتخاب ولي الامر، بصورة مباشرة، كما في الحالة الاولى أو غير مباشرة كما في الحالة الثانية، كما في عصرنا هذا، فان اجراء مثل هذه الانتخابات العامة امر ممكن بما يسر الله تعالى لعباده في هذا العصر من وسائل الاتصال والنقل والادارة والضبط.
6 ـ وحيث لا يمكن اجراء انتخابات عامة، كما كان يتفق ذلك كثيراً وغالباً في العصور السابقة، فان الحالة البديلة لاجراء الانتخاب والاختيار العام المباشر وغير المباشر هو ايكال الامر إلى جماعة من المسلمين من ذوي الخبرة والمعرفة وممن يضع عامة المسلمين ثقتهم فيه عادة.
وهذه الحال هي حالة بديلة شرعاً وعرفاً لحالة الاجراء العام للانتخابات وليست لهذه الحالة صيغة محددة، الا ان المعيار العام فيها هو ان يوكل الامر إلى جماعة من المسلمين يملكون الخبرة والمعرفة الكافية ويتمتعون بثقة عامة للمسلمين.
روى الطبري في حوادث بيعة الامام امير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان:
«فلما اجتمع اهل المدينة، قال لهم اهل مصر انتم اهل الشورى وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الاُمّة، فانظروا رجلاً تنصبونه، ونحن لكم تبع، فقال الجمهور علي بن ابي طالب نحن به راضون»[81].
وقد وردت في التاريخ الاسلامي تطبيقات لبيعة اهل الحل والعقد: «الحالة البديلة لبيعة عامة المسلمين» ننقل فيما يلي بعض النماذج منها:
1 ـ يقول امير المؤمنين عليه السلام: «انما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن أو بدعة رده إلى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين»[82].
2 ـ ويقول امير المؤمنين عليه السلام «انما الناس تبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست استحل ان ادع معاوية، يحكم على الاُمّة ويركبهم ويشق عصاهم»[83].
3 ـ وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: «وجاء الناس يهرعون إليه (علي عليه السلام) فقالوا له: نبايعك فمد يدك، فلابد من امير. فقال علي عليه السلام: ليس ذلك اليكم، انما ذلك إلى اهل بدر، فمن رضى به (اهل بدر) فهو خليفة»[84].
4 ـ وفي كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة: «فقام الناس فاتوا علياً في داره، فقالوا نبايعك فمد يدك، لابد من امير، انت احق بها، فقال: ليس ذلك اليكم، انما هو لاهل الشورى واهل بدر. فمن رضى به اهل الشورى واهل بدر فهو خليفة»[85].
5 ـ وفي تاريخ الطبري: «فلما اجتمع اهل المدينة قال لهم اهل مصر: انتم اهل الشورى، وانتم تعقدون الامامة، وامركم عابر على الاُمّة»[86].
6 ـ وفي ارشاد المفيد: عن الامام الحسين عليه السلام: «واني باعث اليكم اخي وابن عمي وثقتي من اهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب الي انّه قد اجتمع رأي ملتكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم فاني اقدم اليكم وشيكاً»[87].
فهذه اربعة عناوين في صدر الإسلام كل منها يعتبر تطبيقاً لاهل الحل والعقد الذين يحكمون محل الاُمّة في انتخاب ولي الامر وهي (المهاجرون والانصار) (اهل بدر) (اهل المدينة) (اهل الحجى والفضل).. وهذه العناوين كما ذكرنا لا تتجاوز ان تكون تطبيقاً للعنوان العام لاهل الحل والعقد الذي ذكرناه، وتختلف هذه العناوين من ظرف إلى ظرف آخر.
____________________
[1] لسان العرب، 8/26.
[2] سيرة ابن هشام 2/70 - 75.
[3] هذه خلاصة يذكرها العلامة العسكري في معالم المدرستين، 1/155 عن الامتاع والمآنسة للمقريزي 274 - 291 ويرويها ابن هشام في السيرة 3/330.
[4] سيرة ابن هشام، 3/330.
[5] مسند احمد بن حنبل، 4/51.
[6] مسند احمد 3/292.
[7] سيرة ابن هشام، 2/81 - 85.
[8] صحيح البخاري، كتاب الاحكام باب البيعة، ج5.
[9] صحيح البخاري، كتاب الاحكام باب بيعة الصغير.
[10] صحيح البخاري، كتاب الاحكام باب السمع والطاعة للامام، ج3.
[11] مسند احمد 1/400.
[12] كنز العمال 1/67.
[13] هذا المعنى مشروح في بحث واسع عن «آية الميثاق» كتبه كاتب هذه السطور بعنوان «الميثاق».
[14] ولاية الفقيه للشيخ حسين المنتظري، 1/525 - 527.
[15] عيون اخبار الرضا 2/62، باب 31، ح254.
[16] نهج البلاغة ـ صبحي الصالح ـ 136، خطبة 92.
[17] نهج البلاغة، صبحي الصالح، 367، كتاب 6.
[18] الطبري، 6/3077 و3076، وابن الاثير، 3/193.
[19] الاحكام السلطانية للماوردي، ص 7، ط مصطفى البابي 1386 هـ.
[20] المغني في أبواب التوحيد والعدل املاء القاضي عبدالجبار بن احمد، الجزء المتم العشرين، القسم الاول في الامام، ص303، ط 1966.
[21] تفسير القرطبي 1/168 ـ 169، الطبعة الثالثة.
[22] منهاج السنة النبوية1/141، ط سنة 1321.
[23] رئاسة الدولة للدكتور محمد رأفت عثمان، ص265 نقلاً عن اصول الدين للبغدادي 281.
[24] شرح المواقف، 3/265.
[25] الاحكام السلطانية للماوردي ص6 ـ ص7 ط مصطفى الحلبي.
[26] الفصل في الملل والنحل، لابن حزم، 4/167، ط سنة 1321.
[27] شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للنوري، الجزء الرابع، ص173، مطبعة علي صبيح.
[28] نفس المصدر.
[29] اصول الدين للبغدادي 381 برواية د. محمد رأفت عثمان في كتاب رئاسة الدولة.
[30] الارشاد إلى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد، ص424، مطبعة السعادة بمصر.
[31] تفسير القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، 1/269، الطبعة الثالثة، ط دار الكتب المصرية.
[32] اصول الدين لعبد القاهر البغدادي 280 ـ 281 بحكاية د. محمد رأفت عثمان في رئاسة الدولة 266.
[33] اصول الدين للبزدوي 189 بحكاية د. محمد رأفت عثمان في رئاسة الدولة 266.
[34] الروضة للامام النووي برواية د. محمد رأفت عثمان، ص267.
[35] الاحكام السلطانية لابي يعلى، ط اندونيسيا، 23/24.
[36] شرح المقاصد، 2/272.
[37] مآثر الانافة في معالم الخلافة، لاحمد بن عبد الله، ج1، ص58.
[38] ارشاد الساري للقسطلاني، ج10، ص263.
[39] المصدر السابق، ص264.
[40] حاشية ابن عابدين، ج3، ص478.
[41] رئاسة الدولة في الفقه الاسلامي، 293 ـ 294.
[42] تحف العقول لحسن بن شعبة، 237.
[43] وسائل الشيعة، 18/564.
[44] المحاسن للبرقي 1/93.
[45] نهج البلاغة، صبحي صالح، 247، الخطبة 173.
[46] سنن البيهقي، 10/118.
[47] شرح المواقف للسيد شريف الجرجاني 8/349 مطبعة السعادة، 1907.
[48] الفقه الاكبر للامام الشافعي 39 المطبعة الادبية.
[49] المسامرة في شرح المسايرة للكمال بن الهمام 162 ـ 168 مطبعة السعادة 1347.
[50] مآثر الاناقة في معالم الخلافة للقلقشندي، 1/37.
[51] روض الطالبين للنوري برواية د. رأفت عثمان في «رئاسة الدولة»، ص135.
[52] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن ابي العباس الرميلي 7/389.
[53] البحر الزخار، 5/379، مطبعة السنة المحمدية.
[54] سنن البيهقي، حيدر آباد دكن(8/144 ـ 145).
[55] تاريخ الطبري 6/345 حوادث سنة 40 من الهجرة.
[56] المخالف والمخاليف جمع مخلاف اي الناحية.
[57] الارشاد لامام الحرمين، من 425، ط السعادة بمصر.
[58] راجع البحر الزخار 5/384، مطبعة السنة المحمدية.
[59] راجع اصول الدين للبغدادي، ص274، والبحر الزخار د5/386.
[60] صحيح مسلم بشرح النووي المطبعة المصرية 12/233 ـ 234.
[61] صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية 12/230.
[62] سنن ابن ماجد 2/204، سنن البيهقي 8/144، والمحلي 9/360.
[63] صحيح مسلم بشرح النووي 12/242، وسنن البيهقي 8/144، ط مطبعة دار المعارف العثمانية حيدر آباد ومستدرك الحاكم 2/156.
[64] صحيح بشرح النووي 12/241.
[65] نهج البلاغة، باب الرسائل، كتاب رقم(7).
[66] سنن البيهقي 8/145، ط دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد.
[67] عيون اخبار الرضا 2/101، الباب 34، الحديث 1. وعلل الشرائع 1/254، الباب 182 (باب علل الشرائع)، الحديث 9.
[68] اصول الكافي 1/178 كتاب الحجة باب ان الارض لا تخلو من حجة، ج1.
[69] رواه المجلسي في البحار، 25/106.
[70] الاحكام السلطانية للماوردي، ص9 مطبعة مصطفى السباعي بمصر 1386هـ.
[71] الاحكام السلطانية لابي العلي، ط اندونيسيا 1394هـ.
[72] الروضة الندية في شرح الدرر البهية للسيد صديق حسن، 413، ط المطبعة الاميرية ـ مصر.
[73] بحار الانوار 2/266، ج25.
[74] بحار الانوار 2/267، ج28.
[75] الخصال 1/42.
[76] اصول الكافي 1/404 ـ 405.
[77] نهج البلاغة صالح/248، خطبة 173.
[78] نهج البلاغة، صبحي صالح /366. الكتاب(6).
[79] صفين لنصر بن مزاحم، 290.
[80] نهج البلاغة صبحي صالح، 266.
[81] انظر تاريخ الطبري 6/3075 ط ليدن.
[82] نهج البلاغة، صبحي صالح/366، الكتاب6.
[83] شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 4/17.
[84] تاريخ الخلفاء للسيوطي، 109.
[85] الامامة والسياسة لأبن قتيبة 1/47.
[86] تاريخ الطبري 6/3075.
[87] ارشاد المفيد 5/18.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية