مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

البحث حول الإمامة... لماذا وكيف؟
آية الله الشهيد مرتضى مطهري


يمكن أن يثير استئناف البحث حول الإمامة انتقادات في أذهان بعض القرّآء. لذلك رأينا أن نطرحها ثم نبيِّن وجهة نظرنا فيها.
والانتقادات الأساسية في هذا المجال تنتهي إلى انتقادين هما:
الانتقاد الأوّل: تسعى كلّ أُمّة إلى إبراز النقاط الإيجابية من تاريخها دائماً، كما تبذل ما تستطيع من جهد لستر سلبياته والنقاط المظلمة فيه. إنّ الحوادث المشرِّفة في تاريخ أيّ دين أو اتجاه تُعَدُّ علامةً على أصالة ذلك الدين أو الاتجاه وحقّانيته، كما أنّها تزيد في جاذبيته والرغبة فيه. أما الحوادث السلبية المؤسفة في التاريخ فتكون باعثاً للشك في أصالة ذلك الدين أو الاتجاه، وتمسي علامة ضعف في طاقاته المبدعة.
إن البحث في الخلافة والإمامة والحوادث المؤلمة التي أطلّت برأسها في صدر الإسلام، وكثرة ترديدها، لا سيّما في عصرنا الحاضر، يفضي إلى انخفاض إيمان الجيل الجديد وهبوط حماسه للإسلام، خصوصاً مع ما يعيشه هذا الجيل من أزمة روحية على المستوى الديني.
يقول المعترض: ربّما كانت هناك آثار إيجابية لهذه البحوث في السابق، من خلال تحويلها التوجّهات والميول من جهة إسلامية صوب جهةٍ أُخرى، أمّا تأكيدها الآن فقد يقود إلى تزلزل الأُصول وضعف الجذور.
لماذا يسعى الآخرون دائماً لكتمان المقاطع السيئة في تأريخهم، فيما نكون نحن المسلمين على العكس منهم جميعاً، إذ نسعى لإعادتها وتكرارها، وتضخيمها أحياناً بحيث تبدو أكبر مما كانت عليه في الواقع؟!
ونحن لا يسعنا في الحقيقة أن نوافق على وجهة النظر أعلاه. أجل، إنّنا نعتقد لو أنّ نقد التاريخ اقتصر على ابتعاث الحوادث السلبية وتكرار الحديث فيها وحسب، فإنّ العملية ستجيء بمثل النتائج المشار إليها أعلاه. ولكن علينا أن ننتبه من الجهة الثانية، إلى أنّ نقد التاريخ لا يعني الاكتفاء بترسيم الحوادث الإيجابية المشرقة والقناعة بها، وستر الحوادث السلبية. فعملية مثل هذه لا يصحّ تسميتها نقداً تاريخاً، بل هي تحريف للتاريخ.
ثم تعالوا معنا ننظر؛ أيّ تاريخ هو المنزّه من السيّئات، المبرَّأ من الحوادث السلبية؟ إنّ تاريخ أيّ أُمّة من الأُمم، بل وتاريخ البشرية كلّها، هو مجموعة من السلبيات والإيجابيات، ولا يمكن أن يكون غير ذلك.
إنّ الله لم يخلق أيّ قوم أو أُمّة أو شعب منزَّهاً عن الذنوب على سيرة الملائكة، وليس الفرق بين تاريخ الأُمم والأقوام والأديان والمذاهب ـ من زاوية ما فيه من إيجابيات وسلبيات ـ في أنّ تاريخ بعضها إيجابيات كلّه وتاريخ الآخر سلبيات كلّه. كلاّ، بل هو كائن فيما بينها من اختلاف في نسبة الإيجابيات والسلبيات.
لقد أبان القرآن الكريم حقيقة أنّ البشر مركّب ينطوي على مجموعة من السلبيات والإيجابيات، بصيغة لطيفة؛ خلاصتها أنّ الملائكة تساءلت بدهشة عن الحكمة الإلهية من وراء استخلاف الإنسان في الأرض؛ عندما أخبرها الله بذلك لأنّها لا تعرف عن هذا الموجود إلاّ المساحة المظلمة، ولكن الله أخبرها (بعد ذلك) أنّه الأعلم بهذا الموجود وما ينطوي عليه من الخصال الإيجابية والجمال مما لا تعرفه الملائكة[1].
وإذا أردنا أن نحتكم إلى منطق النسبة، فإنَّ ما ينطوي عليه تاريخ الإسلام من وفور تجلّيات الجمال والخصال الإنسانية والإيمانية، لا نظير له. فهذا التاريخ مليءٌ حماسة، مثقل بالجمال والمشاهد المتلألئة، ويفيض بالتجليات الإنسانية.
لذا فإنَّ وجود بقع مظلمة فيه لا يقلِّل ممّا يزهو به من جمالٍ وجلال وعظمة لا يسع أيَّ أُمّة أن تدّعي أنَّ حسنات تاريخها أكثر من حسنات تاريخ الإسلام، ولا أنَّ سيئات التاريخ الإسلامي أكثر من سيّئات تاريخها.
لقد وقف رجل يهودي مع الإمام أمير المومنين علي(عليه السلام) وهو يحاول الملامة والتأنيب لما جرى بين المسلمين في صدر الإسلام من حوادث مؤسفة حول الخلافة، فقال للإمام: ما دفنتم نبيّكم حتّى اختلفتم فيه!
وما أجمل ما أجاب به عليٌّ، وهو يقول: إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجُلُكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فقال إنّكم قومٌ تجهلون[2].
لقد أخطأتَ أيّها اليهودي ـ قال الإمام ـ فنحنُ لم نختلف في نبيّنا، إنّما اختلفنا حول أمر وصَلَنا منه؛ هل كان على هذه الشاكلة أم تلك؟
أي إنَّ اختلافنا انطلق على أرضية إيماننا بالتوحيد والنبوّة. لقد اكتسب اختلافنا الصيغة التالية: هل يقوم حكم الإسلام والقرآن على وجوب أن يكون خليفة النبي شخصاً معيَّناً نُصَّ عليه من قبل، أم يكون شخصاً تنتخبه الأُمّة وتختاره خليفة لها؟ أما أنتم أيّها اليهود، فقد أردتم شيئاً في حياة نبيّكم هو على الضدّ ـ من الجذور ـ لما عليه دينكم وتعليمات نبيّكم.
علاوة على ما مرّ، لو افترضنا أنّ الإغضاء عن سلبيات التاريخ يصحّ في المواطن العادية، فكيف يصحّ في قضية هي من الإسلام بالصميم، بل هي أُس الإسلام وأهمّ قضية فيه، حيث تتصل بمسألة القيادة ويتوقّف عليها مصير المجتمع الإسلام؟
لا ريب أنَّ الإغضاء عن قضية مثل هذه، هو في حكم الإغضاء عن سعادة المسلمين.
ثم إذا كانت الحقوق قد هُضمت في محضر التاريخ، فليس يعدو الإغماض عن بيان حقائقه كونه معونة للظالم ـ باللسان والقلم ـ خصوصاً وأصحاب تلك الحقوق هم أكثر أفراد الأُمّة فضيلة؟
الانتقاد الثاني الذي يُطرح في هذا المجال؛ مؤدّاه: ما هو مصير قضية الوحدة الإسلامية عند طرح هذه المسائل وبحثها؟ إنَّ ما نزل بالمسلمين وسلَب منهم شوكتهم وجعلهم تابعين للأُمم غير الإسلامية، كان بسبب هذه الاختلافات المذهبية بالذات بين فرقة وأُخرى.
وعند العودة إلى الاستعمار بشكليه القديم والحديث، نجد أنّ أفضل آلة بيده، هي إشعال هذه الأحقاد القديمة، وقد دأبت عوامل الاستعمار في جميع البلدان الإسلامية دون استثناء، في ممارسة الفرقة بين المسلمين باسم الدين وبذريعة الحرقة على الإسلام والحرص عليه. فهلاّ كفانا ما ألمَّ بنا وتجرّعناه من هذا السبيل، أم ترانا نستمر على هذا النهج، أوَلا يُساهم طرح أمثال هذه البحوث في مساعدة الأهداف الاستعمارية؟
في الجواب نقول: إنّ أشدّ ما يحتاج إليه المسلمون في الوقت الحاضر هو الوحدة والانسجام، كما أنّ هذه الأحقاد القديمة بين المسلمين، هي المعضل الأساسي في العالم الإسلامي، فالعدوّ يستفيد من هذه الأوضاع دائماً. ولكن يبدو أن المعترض التبس عليه الأمر في مفهوم ((الوحدة الإسلامية)).
إنَّ مفهوم الوحدة الإسلامية الذي طُرح في القرن الأخير بين العلماء والفضلاء والمثقفين الإسلاميين، لا يعني أنَّ على المذاهب الإسلامية أن تتخلّى في هذا السبيل عن أُصول معتقداتها؛ وغير الأُصول أيضاً، بحيث يؤول الحال إلى أخذ مشتركات الجميع، وإهمال مختصاتهم. فمثل هذا المسعى ليس منطقياً، ولا عملياً أيضاً.
كيف يجوز أن يُطلب من أتباع مذهب من المذاهب التخلّي عن هذا الأصل الاعتقادي أو العملي الذي يعقتدون ويعملون به، في سبيل وحدة الإسلام والمسلمين، وهم يؤمنون ـ في كلّ حال ـ أنّه جزء من صميم الإسلام؟ إنَّ هذا الطلب شبيه بأن نريد منهم أن يغضّوا الطرف عن جزءٍ من الإسلام باسم الإسلام!
إنّ لعملية ربط الناس بأصلٍ مذهبي معيّن، أو تضعيفه في نفوسهم، سُبلاً أُخرى، أكثرها طبيعيةً المنطق والبرهان. ولا يمكن ترسيخ الإيمان بأصل لدى جماعة أو استئصاله منهم، بمحض الرجاء والتمني وباسم المصلحة.
نحن أنفسنا شيعة نفتخر باتّباع أهل البيت(عليهم السلام) ولسنا مستعدّين أن نساوم على أصغر شيء حتّى لو كان على مستوى أمر بسيط يتمثّل بحكمٍ مستحبٍ أو مكروه. فلا نقبل من أحد أن ينتظر منّا أن نتنازل، كما لا نتوقّع من الآخرين أن ينفضوا أيديهم عن أصل من أُصولهم باسم المصلحة وبسبب الوحدة الإسلامية.
إنَّ ما ننتظره على خطّ الوحدة الإسلامية أن ينبثق محيط صالح للتفاهم المشترك لكي نعرض ما لدينا من أُصول وفروع، تضمّ ما نحمله من فقه وحديث وكلام وفلسفة وتفسير وأدبيات، بحيث يسمح لنا ذلك الجو أن نعرض بضاعتنا بعنوان كونها أفضل بضاعة،حتّى لا يبقى الشيعة في العزلة أكثر، وتنفتح أمامهم المواقع المهمّة في العالم الإسلامي، ثم لا تبقى الأبواب مغلقة أمام المعارف الإسلامية الشيعية النفيسة.
إنَّ العمل بمبدأ أخذ العناصر الإسلامية المشتركة لكل مذهب، وإهمال مختصاته، يعبِّر عن نوع من خرق الإجماع المركب، والحاصل عن ذلك هو قطعاً غير الإسلام الواقعي، لأنَّ مُختصات أي مذهب هي في نهاية المطاف جزء من مجموع الإسلام، ولا وجود لإسلام مجرَّد عن جميع هذه المشخّصات والمميّزات والمختصّات.
وبغض النظر عن ذلك كلّه، فإنّ روّاد الفكر السامي لأُطروحة الوحدة الإسلامية في عصرنا، لا يفكّرون بمثل هذه الطريقة، يشهد على ذلك من الشيعة آية الله العظمى السيّد البروجردي(قدس الله سرّه) ومِن السنّة العلاّمة الشيخ عبد المجيد سليم والعلاّمة الشيخ محمود شلتوت. فهؤلاء الكبار، وهم على رأس فكرة الاتّحاد الإسلامي، يرون أنَّ المذاهب الإسلامية مع ما بينها من اختلافات في الكلام والفقه وغيرهما، بمقدورها أن تمدّ يد الأُخوّة بعضها إلى بعض، وتشكِّل جبهة واحدة في مقابل أعداء الإسلام الشرسين، على خلفية ما بينها من عناصر مشتركة هي أكثر من عناصر الاختلاف. فهذه نظرتهم إلى الوحدة.
لم يكن هؤلاء الكبار مطلقاً بصدد طرح مفهوم وحدة المذاهب تحت عنوان الوحدة الإسلامية، ذلك أنَّ هذه الأُطروحة ليست عملية أبداً.
ثمة في الاصطلاح العرفيّ المتداول، فرق بين مفهوم الحزب الواحد والجبهة الواحدة. فالوحدة الحزبية تستوجب أن يكون هناك نسق واحد بين جميع الأفراد على مستوى الفكر والآيديولوجيا والمنهج والأُسلوب وجميع ما يدخل في الخصوصية الفكرية، باستثناء المسائل الشخصية. أما الوحدة على مستوى الجبهة فمعناها أن تلتقي الأحزاب والجماعات المختلفة على خلفية ما بينها من مشتركات في صفٍ جبهوي واحد إزاء العدو المشترك، مع ما بينها من اختلاف في الآيديولوجيا والمسلك، وفي الطريق والمنهج.
والشيء البديهي أن لا منافاة بين تشكيل صف واحد مقابل العدوّ، وبين الإصرار في الدفاع عن المسلك الذاتيّ، وانتقاد مسالك الإخوة الآخرين، ودعوة الإخوة الذين يقفون على جبهة واحدة، إلى المسلك الذاتي.
ما كان يفكّر به المرحوم آية الله العظمى البروجردي على الخصوص، هو إيجاد الأرضية المناسبة لبثّ معارف أهل البيت ونشرها بين الإخوة من أهل السنّة، وكان يعتقد أن هذا العمل لا يكون إلاّ بإيجاد أرضية التفاهم المشترك. والنجاح الذي أحرزه المرحوم البروجردي ـ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ـ في طبع بعض كتب الفقه الشيعي في مصر من قبل المصريين أنفسهم، إنّما كان على أثر هذا التفاهم الذي انبثق، وكان ذلك أهمّ نجاح حققه علماء الشيعة .
وفي كلّ الأحوال، إنَّ تأييد أُطروحة ((الوحدة الإسلامية)) لا يستوجب التقصير في إعلان الحقائق. وما يجب أن يُتوقى هو إثارة عواطف الطرف المخالف وعصبيته وضغائنه. أما البحث العلمي فهو يتعاطى العقل والمنطق، ولا شأن له بالعواطف والأحاسيس.
ومن حسن الحظ أن عصرنا الراهن شهد بروز كثير من الباحثين المحققين في الوسط الشيعي، يلتزمون هذا المنهج ويتبعونه؛ على رأسهم جميعاً العلاّمة الجليل آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي، والعلاّمة الكبير آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، والعلاّمة الجليل آية الله الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلِّف كتاب ((الغدير)) الشريف.
إن السيرة المهملة المنسية لإمام المتّقين عليّ(عليه السلام) على مستوى القول والعمل، كما يحكيها تاريخ حياة الإمام، هي أفضل درس يُعتَبر به في هذا المضمار.
فعليّ (عليه السلام) لم يمتنع عن إظهار حقّه والمطالبة به، والتشكّي ممّن غصبوه هذا الحق، بل كان يظهر ذلك بمنتهى الصراحة، من دون أن تكون رغبته بالوحدة الإسلامية مانعاً عن ذلك.
تشهد على صحّة هذا المدّعى خطب كثيرة في نهج البلاغة.
وفي الوقت ذاته لم يكن بثّ هذه التظلمات وإظهارها، ليستوجب أن يخرج ـ الإمام ـ عن صفّ جماعة المسلمين في مقابل أعداء الخارج. فقد كان الإمام يشترك في الجمعة والجماعة، ويأخذ سهمه من الغنائم الحربية في ذلك الوقت، كما لم يدّخر وسعاً في إرشاد الخلفاء، وكان حين يُشاوَر يبذل الرأي ناصحاً.
حصل في حرب المسلمين للفرس، أن رغب الخليفة آنذاك ]عمر بن الخطاب[ أن يشخص لقتالهم بنفسه ـ فلمّا استشار الإمام بذلك ـ نهاه عنه، وذكر له أنَّ الجيش إذا انهزم فإنَّ العدو سيظنّ أنَّ المدد سيصله من المدينة، أما لو خرجت إليهم بشخصك لقالوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لِكلبِهِم عليك، وطمعهم فيك[3].
لقد كان للإمام علي هذا النهج في العمل أيضاً، فهو من جهة لم يقبل تحمّل أيِّ مسؤولية تُناط بشخصه؛ يكلَّف بها من قبل الخلفاء، لا على مستوى قيادة الجيش ولا تولّي الولايات، ولا أن يكون أميراً على الحجيج ولا غير ذلك ممّا يشابههُ، لأنَّ قبوله هذه المناصب يعني أنّه صرف النظر عن حقّه الثابت له. وبعبارة أُخرى، كان هذا القبول ـ لو حصل ـ يتجاوز مستوى الانسجام والتعاون العامّ وحفظ الوحدة الإسلامية. ولكن في الوقت الذي كان الإمام يرفض تسنّم المناصب شخصياً، لم يكن يمنع المقرَّبين إليه وأقرباءه وأنصاره قبولها، لأنَّ قبول هؤلاء لا يُنظر إليه على أنه إمضاء للخلافة القائمة بأيّ شكل من الأشكال، بل يُدرج في سياق التعاون والانسجام[4].
كانت سيرة الإمام عليّ في هذا المجال دقيقة جدّاً، وهي علامة على تفانيه في سبيل الأهداف الإسلامية. فقد كان يصل ما يقطعه الآخرون ويصلح ما يفتقونه، لقد انتهز أبو سفيان الفرصة، وأراد أن يستفيد من رفض الإمام، ويحقّق ثأره من النّبيّ عن طريق وصي النّبي، وما يتظاهر به من احترام لوصيّة النّبي. بيد أنَّ قلب عليٍّ كان أبصر من أن يُخدع بالخطِّ السفيانيّ، فدفع في صدره ونحّاه عنه مطروداً[5].
إنَّ أمثال أبي سفيان، وحيي بن أخطب موجودان في كل زمان وعصر، وهاهي أصابع أمثال حيي بن أخطب تتبدى في عصرنا في كثير من التيارات، وما يجب على المسلمين، ـ والشيعة على الأخصّ ومَن يتولّى عليّاً(عليه السلام) ـ هو أن يضعوا سيرة الإمام وسنّته نصب أعينهم، ولا يُخدعوا بما يبيّته أمثال أبي سفيان وحييّ بن أخطب[6].
هذه كانت انتقادات المعارضين لطرح مثل هذه المسائل، وهذا هو ردّنا ووجهة نظرنا فيها.
والعجيب أن هناك من يمارس النقد والاعتراض، ولكن من الموقع المعارض. فهذه الجماعة تنتظر ـ عكس التيار الأوّل ـ أن يتحوّل موضوع الخلافة والإمامة إلى عنصر انشغال دائم، بحيث يكون هناك حديث مستمر عن هذا الموضوع، وفي الوقت ذاته لا يأتي هذا الحديث بأي شيءٍ جديد. والصيغة التي يتمّ بها ذلك هي أن يكتسب الحديث عن الخلافة والإمامة صبغة الشعار وتكرار المكررات، بحيث تنأى المسألة دائماً عن الأُسلوب التحليلي المفيد المدعم بالأدلّة.
هذا الأُسلوب يُبقي على العواطف مُلتهبة وحادّة، بيد أنّه لا يروي ظمأ العقل ولا يمنحه القوّة، وهذا هو ما يتمنّاه العدوّ. وإلاّ إذا ما طُرح البحث بأسلوب تحليلي، فليس هناك ما يسوّغ أن يتحوّل إلى عنصر انشغال دائم.
_______________
[1] قال تعالي: (وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويَسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، قال إنّي أعلم ما لا تعلمون) (البقرة: 30).
[2] نهج البلاغة، الحكمة: 317.
[3] نهج البلاغة، طبعة فيض الإسلام، الخطبة (144) وقد استبدلنا الشرح بالنص، وموضع الحاجة من الشاهد قول الإمام أمير المؤمنين عندما استشاره عمر: ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخَزَز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً... فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب وأصْلِهم دونك نار الحرب.
إلى أن قال(عليه السلام): إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدَّ لكلبِهِم عليك، وطمعهم فيك (المترجم).
[4] ينظر شرح ابن أبي الحديد لما جاء في رسالة الإمام، رقم 62 من قوله(عليه السلام): فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام.
[5] حين عرض أبو سفيان نصرة الإمام وأن يملأ الميدان خيلاً وسلاحاً ضدَّ الخلافة القائمة (المترجم).
[6] لقد ذكر الإمام أمير المؤمنين بنفسه أكثر من مرّة ما تحمّله في سبيل الحفاظ على وحدة المسلمين والحيلولة دون فرقتهم، من ذلك قوله: ((قد جرت أُمور صبرنا فيها، وفي أعيننا القذى، تسليماً لأمر الله تعالى فيما امتحننا به رجاء الثواب على ذلك، وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرّق المسلمون وتُسفك دماؤهم)).
وفي خطاب اخر، قال: ((وايمُ الله لولا مخافتي الفرقة بين المسلمين، وأن يعود أكثرهم إلى الكفر وَيَعْورَ الدين، لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعنا)).
الإرشاد، ج1، ص249، 246 (المترجم).
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية