مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

إقامة الدولة الإسلامية بين دعوات الإلغاء وسجال الوجوب والحرمة
علي المؤمن


رغم أن الواقع تجاوز السجال حول ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، وكشف عن كثير من الحقائق العملية التي ربما لا تتناول النظرية تفاصيلها، بعد أن حول الإمام الخميني نظريته في الحكومة الإسلامية إلى واقع قائم، إلاّ أن هناك اتجاهات عديدة تمتد من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار، ومن أكثرها تطرفاً في علمانيته إلى أكثرها غلواً في الدين، لا تزال تمارس الجدل نفسه، وتحاول تحت مختلف الذرائع أن تلغي حاجة الإسلام إلى الدولة، أو تنفي أن يكون للإسلام دولة.
وفي الحقيقة أن عنواني الوجوب والحرمة يثيران ـ من جانبهما ـ العديد من علامات الاستفهام، فالحرمة ـ مثلاً ـ مفردة شرعية تدل على أن القائل بها يمثل اتجاهاً إسلامياً وليس علمانياً، وهذا يعني أن هناك تيارات فقهية أو كلامية إسلامية تحرم إقامة الدولة الإسلامية في ظرف زمني معين، الأمر الذي يدفع للتعرف على وجهات نظرهم، إلى جانب دراسة أدلة القائلين بالوجوب والضرورة; لأن هذا التناقض يدل على وجود اجتهادين يختلفان في مبانيهما الفقهية والاجتهادية وفي النتائج التي يخلصان إليها، رغم أنهما ينتميان إلى مدرسة واحدة وينهلان من منبع واحد ويعتمدان الأساليب الاجتهادية ذاتها.
الموقف التاريخي للاتجاهات الإسلامية
على المستوى التاريخي لم يكن هناك اتجاه كلامي أو فقهي إسلامي يحرم إقامة الدولة الإسلامية أو الخلافة أو الإمامة، عدا بعض الخوارج، وحتى هؤلاء عادوا ليقولوا بعدم ضرورتها وليس بحرمتها، كما هو رأي بعض المعتزلة. في حين أن المنعطف المصيري الذي تعرضت له مدرسة الإمامة بحدوث غيبة الإمام المهدي عليه السلام، والظروف السياسية التي صاحبت هذا المنعطف واستمرت لفترة اخرى، تسبب بمرور الزمن في ظهور اتجاه فقهي في مدرسة الإمامة يرتكز على معطيات كلامية وفقهية، طرح عنوان الحرمة حيال موضوع الحكم الإسلامي في عصر الغيبة، وليس الحرمة بالمطلق، وإلى جانب هذا الاتجاه هناك من يقول بالوجوب أو الضرورة والجواز المشروط. في حين لا تضم مدرسة أهل السنة اتجاهاً يقول بالحرمة، لعدم اشتراطها ـ أساساً ـ العصمة في الحاكم، في أي زمن كان، وبذلك تتشابه اتجاهاتها في النتائج مع اتجاهات مدرسة الإمامة، عدا الاتجاه القائل بالحرمة.
والحقيقة أن الاتجاهات والمذاهب الإسلامية التي سبق أن تناولت موضوع الحكم الإسلامي وكان لها آراء متعددة فيه خلال مراحل تاريخية مختلفة، إنما تناولته تحت عنوان (الإمامة) أو (الخلافة) وليس تحت عنوان (الدولة) أو (الحكومة)، ويمكن تلخيصها في ثلاثة اتجاهات رئيسة[1]:
الأول ـ وجوب الإمامة على الأمة
وتقول به معظم مذاهب مدرسة أهل السنة، سنة ومرجئة ومعتزلة ـ عدا جماعة منهم ـ ومعظم الخوارج. ويذهب هؤلاء إلى أن الإمامة لابد منها، وهي أمر واجب وفرض محتم. ويقصدون بالإمامة هنا الخلافة أو رئيس الدولة الإسلامية أو الحاكم، وهي إمامة نوعية، وليست الإمامة كما يعتقد بها الشيعة. ثم ينقسم القائلون بوجوب الإمامة على الأمة إلى فرقتين، هما: مدرسة أهل السنة، التي ذهبت إلى وجوب الإمامة شرعاً; لأن الإمام يقوم بأمور شرعية.
والفرقة الثانية تضم بعض المعتزلة وبعض علماء مدرسة أهل السنة، وتقول بوجوب الإمامة عقلاً وشرعاً، وذكروا براهين شرعية وعقلية ووظيفية للدلالة على مذهبهم، فالإجماع هو البرهان الشرعي، وهو حجة قطعية يقينية على وجوب الإمامة (بمعنى الخلافة) بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وفي كل عصر، ويؤكد هذا البرهان أدلة من القرآن والحديث[2]. أما البرهان العقلي ـ الشرعي فيتمثل في ضرورات توفير النظام ودرء الفوضى والحفاظ على حقوق الناس. فيما يرتبط البرهان الوظيفي بأداء الإنسان لوظيفته باعتباره خليفة الله في الأرض وحامل الأمانة.
الثاني ـ وجوب الإمامة على الله
وتذهب إليه مدرسة الإمامة، إذ تعتقد بوجوب الإمامة عقلاً على الله، باعتبار أن نصب الإمام لطف من الله تعالى، وكل لطف واجب عليه عقلاً. ويقصدون بالإمامة هنا الإمامة المعصومة المنصوص على مصاديقها، أي الأئمة الاثني عشر. وما عداهم ـ من أولياء الأمر في عصر الغيبة ـ فلهم حكم وعنوان مختلفان، إذ تتنوع آراء فقهاء مدرسة الإمامة حيال إقامة الدولة الإسلامية التي يترأسها ولي الأمر الشرعي في عصر الغيبة.
الثالث ـ جواز الإمامة
وهو اتجاه بعض المعتزلة وبعض الخوارج، إذ يقولون بجواز الإمامة لا بوجوبها ، فلو تكاف الناس عن النظام لاستغنوا عن الإمام. والجواز المشروط يقول به أيضاً بعض فقهاء مدرسة الإمامية فيما يرتبط بعصر الغيبة، إلاّ أن مباني هؤلاء تختلف عن مباني الخوارج والمعتزلة.
دعوات الإلغاء في دائرة الافتراضات
ولكي لا ندخل في تفصيلات الجدل الفقهي والفكري والفلسفي الدائر حول موضوع وجوب أو حرمة أو جواز قيام الدولة الإسلامية، أو عدم وجود دولة في الإسلام، فإننا نكتفي هنا بتناوله من زاوية الافتراضات العقلية; إذ لا يكاد يخرج الموضوع عن افتراضات ستة، وعلى النحو التالي:
الأول: أن الإسلام لا يرى ضرورة للدولة ويعتقد بعدم حاجة الجماعة البشرية إلى الدولة والحكومة، أياً كان شكلها ومضمونها.
وهذا الافتراض محال; لأنه يصطدم بأبسط حقائق العقل والواقع، وهي حقائق يقر بها الإسلام، كما أنه يصطدم بمضامين وأهداف الإسلام نفسه.
الثاني: أن الإسلام يقر بضرورة الدولة، ولكنه يفتقر إلى أي تعاليم بهذا الشأن، أي أنه مجرد تعاليم دينية تربوية وعبادات فردية تربط الإنسان بربه، كما هو الحال مع المسيحية ـ مثلاً ـ وبذلك يترك الإسلام أمر الدولة والحكومة للناس. وهذا الافتراض يصطدم ـ هو الآخر ـ بحقائق الإسلام وأهدافه; باعتباره خاتم الشرائع والدين الكامل الذي أراد الله تعالى من خلاله تحقيق أهدافه على الأرض. كما أن التشريعات الاجتماعية التي يشتمل عليها الإسلام ما هي إلاّ نظم متماسكة شرعت لإدارة المجتمع في مجالات الحياة كافة.
الثالث: أن الإسلام يمتلك كل أشكال التشريع التي تستوعب قضايا المجتمع والدولة، ولكنها خاصة بعصر صدر الإسلام أو عصر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا تصلح الإله، فتغير الزمان وتطور واقع الحياة يحتاج إلى نظم وقوانين جديدة. وهذا الافتراض بطبيعته يقتضي التعميم، فلا يصح أن يقتصر على تشريعات دون أخرى; لأنه سيتناقض مع نفسه إذا حصر التشريعات التي لا تصلح لزمن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بالتشريعات الخاصة بالشأن الاجتماعي العام، سياسية كانت أم اقتصادية أم حدود أم أحوال شخصية، ويبقي على باقي الفرائض الفردية كالصلاة ـ مثلاً ـ، فهذا التبعيض غير الموضوعي لا مسوغ له، فإما أن تكون أحكام الإسلام كلها صالحة، أو أن جميعها غير صالح، وفي النتيجة ستؤدي شمولية هذا الافتراض إلى عدم صلاحية الإسلام كله، وستكون البشرية بحاجة إلى دين جديد.
الرابع: أن الإسلام يمتلك كل أشكال التشريع التي من شأنها تنظيم حياة المجتمع، وهي مستمرة في صلاحيتها، ولكنه يفتقر إلى التشريعات المتعلقة بالأداة التنفيذية لتطبيق هذه النظم، والمراد بالأداة هنا الحكومة. أي أن الإسلام يترك للناس اختيار مضمون وشكل الحكومة التي يريدونها، ولا يتدخل هو في هذا الشأن البشري. ويعني هذا الافتراض أن الإسلام جاء بالتشريعات ثم أدار ظهره لتطبيقها; إذ لا يمكن لتلك النظم أن تطبق دون وجود أداة تنفيذية (الحكومة)، كما لا يمكن أن نتوقع من حكومات تحمل مضامين وأشكال وضعية أن تكون الأداة التنفيذية لتطبيق أحكام الشريعة. ومن جانب آخر فإن الإسلام شرع بدقة لآليات تنفيذ أحكامه وحدد مواصفاتها وأساليب حركتها وعملها.
الخامس: أن الإسلام يدعو لتأسيس دولته التي تحكم بالشريعة وتعمل على تطبيقها، ولكنه يضطر لتعطيل هذه الدعوة; وبمعنى آخر يضطر لتعطيل قسم كبير من أحكام الشريعة الإسلامية، بسبب غياب المعصوم ـ عليه السلام ـ الذي له وحده الحق بتأسيس الحكم الإسلامي وتطبيق كامل الشريعة.
وهذا الافتراض يجوّز تعطيل أحكام الإسلام مدة غير معلومة قد تقصر وقد تطول عدة آلاف من السنين; لأن ظهور المعصوم ـ عليه السلام ـ هو في علم الله تعالى. فإذا احتسبنا فترة حياة المعصومين (من بعثة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وحتى غيبة الإمام المهدي) فسنجد أنها لن تتجاوز (340) عاماً، أي أن القدر المتيقن الذي وجب فيه تعطيل نصف أحكام الإسلام حتى الآن هو أكثر من ألف سنة (منذ بدء الغيبة الكبرى)، وسيبقى كذلك حتى ظهور المعصوم عليه السلام، حينها سيعود الإسلام ليمارس وضعه الطبيعي، ثم سيتعطل ثانية ذلك المقدار من أحكام الإسلام بعد عصر المهدي عليه السلام. وتختص بعض الاتجاهات الفقهية في مدرسة الإمامة بهذا الافتراض. ومن أجل إثباته والبرهنة عليه، فإن هذه الاتجاهات تعتمد نصوصاً وردت عن الأئمة ـ عليهم السلام ـ في تحريم أو الردع عن الدعوة إلى إقامة الحكومة في عصر غيبة المعصوم عليه السلام، وقد روى كثيراً منها الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة[3] والعلامة المجلسي في بحار الأنوار[4]، وهي بمجموعها تتقارب في المضمون مع الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ "كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل"[5].
السادس: أن الإسلام لا يعطل قسماً من أحكامه في عصر غيبة المعصوم، بل يدعو لتطبيقها بالكامل، ولكن في سبيل تطبيق أحكام الإسلام وإقامة الحكومة الإسلامية، لا يجوز الخروج (الثورة) على الحاكم الظالم وإراقة الدماء; لأن ذلك من صلاحيات المعصوم فقط. وهذا الافتراض الذي تختص به ـ أيضاً ـ بعض الاتجاهات الفقهية في مدرسة الإمامة، يقر ابتداءً بأن تطبيق أحكام الإسلام بحاجة إلى حكومة كما كان على عهدي الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ والإمام علي عليه السلام، ولكنه لا يجوز إقامة الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة بالقوة والغلبة، لأنه يوقف ولاية الحكم على المعصوم فقط، ولا ولاية لغيره. وحيال هذا الافتراض يطرح تساؤل أساسي عن كيفية إقامة الحكومة وطرقها، هل بالطرق السلمية، أي استلام السلطة عبر الانتخابات والاستفتاءات العامة، أم بمبادرة أحد الحكام بتسليم السلطة لمن يسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية؟ وهذا يعني أن كثيراً من أحكام الإسلام ستبقى معطلة فيما لو لم تتوافر الفرصة لهذين الأسلوبين. كما أن هذا الافتراض يصطدم بأحكام الإسلام الثابتة وبمساراته التاريخية، وهي بمجملها تدعو لردع الظالم وعدم الخضوع للباغي، كما تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية بالأساليب والآليات التي شرعتها.
ويشير الإمام الخميني إلى هذا النوع من الأفكار، ويعدها نتاجاً استكبارياً يهدف إلى إبعاد المسلمين عن الاهتمام بشأنهم السياسي، فيقول: (لقد قام أعداؤنا ببث دعاياتهم، والمؤسف هو وقوع بعض أفراد مجتمعنا تحت تأثيرهم... لقد أوحى إلينا المستعمرون أن الإسلام ليس فيه حكومة، ولا يمتلك نظام حكم، وعلى فرض وجود أحكام فيه، فليس لديه سلطة تنفيذية (حاكم)، وخلاصته أن الإسلام مشرع فحسب، ومن الواضح أن هذه الدعايات جزء من مخطط المستعمرين لإبعاد المسلمين عن السياسة وأساس الحكومة. وهذا الكلام يخالف عقائدنا ومفاهيمنا الأساسية)[6].
إذ إن التشريع يبقى مجمداً إذا لم تكن هناك أداة تنفيذية من جنس التشريع، تعمل على إخضاع الواقع له. ومن هنا يقول الإمام: (بعد تشريع القانون يجب إيجاد سلطة تنفيذية. ففي التشريع أو الحكومة إذا لم يكن ثمة سلطة تنفيذية يكون هناك نقص. ولذا فالإسلام قام بوضع القوانين وعين سلطة تنفيذية أيضاً، فولي الأمر هو المتصدي لتنفيذ القوانين أيضاً)[7]. أما الهدف من وراء وضع المقولات التي تنقض هذه الحقائق فيتمثل ـ كما يقول الإمام الخميني ـ في (إبعاد الدين عن التصرف في أمور الدنيا، وعن تنظيم المجتمع الإسلامي، وفصل علماء الدين ـ من خلال ذلك ـ عن الشعب)[8].
وفي خصوص الافتراضين الخامس والسادس، يناقش أحد الفقهاء بأساليب استدلالية (روائية وعقلية) موضوع اشتراط بعض الفقهاء العصمة في رئيس الحكومة الإسلامية، والردع عن تأسيسها وعن إعلان الثورة وإراقة الدماء في عصر الغيبة، بل واستحالة إمكانية تأسيس الدولة الإسلامية فيه، ثم يطرح الروايات الواردة في هذا المجال ومراميها وأهدافها، ويرد عليها ويضعف حجة المتمسكين بها، ويرفض تفسيراتهم القسرية لهذا النوع من الروايات، بعد أن يضع الصحيح منها في سياقاته وظروفه التاريخية، كما يبين اصطدام تلك الحجج والتفسيرات بحقائق الإسلام والشرع والتاريخ، وتعارضها مع روايات صحيحة أخرى[9].
والحقيقة أن من التعسف العلمي والموضوعي اختصار الإسلام في هذه الافتراضات، في محاولات تختلف في نواياها، ولكنها تتفق في نتائجها على إقصاء الإسلام عن دوره وغاياته الحقيقية، فتعتبره مجرد طقوس وشعائر عبادية، أو تذهب إلى عدم حاجة أحكامه للأداة التنفيذية الاجتماعية أو إلى إمكانية تعطيل كثير من هذه الأحكام في ظل ظروف معينة. وإذا اختصرنا مضمون الحكومة الإسلامية برعاية شؤون الأمة في إطار تطبيق الشريعة الإسلامية، فسنرى أن هذا المضمون لصيق بأهداف الإسلام وغاياته ووسائله، إذ لا يمكنه تحقيق هذه الأهداف على النحو والشمولية التي ينشدها، دون إقامة نظمه وكيانه الحضاري المستقل، كما لا يمكنه تحقيقها في ظل نظام وكيان حضاري يتقاطع مع مبادئ الإسلام.
ضرورة الدولة الإسلامية في ميزان الأدلة
لقد أشبع العلماء والمفكرون الإسلاميون المعاصرون موضوع لزوم إقامة الدولة الإسلامية وضروراتها الموضوعية، واستدلوا على ذلك بمناهج متنوعة. وكانت هذه المناهج ـ قبل تبلور نظرية الإمام الخميني في الحكومة الإسلامية ـ لا تخرج في الغالب عن الإطار الفكري، في حين أن المنهج الفقهي المتكامل الذي طرحه الإمام الخميني في مجال (لزوم إقامة الحكومة الإسلامية)، والذي جمع فيه بين الأدلة الشرعية والأدلة العقلية، وباستخدام أسلوب اجتهادي تجديدي، أحدث ثورة علمية في مجال الفقه السياسي الإسلامي، ولاسيما على مستوى مدرسة أهل البيت عليه السلام.
فقد قسّم الإمام هذه الأدلة أو الضرورات[10] إلى ما يلي:
1 ـ ضرورة وجود المؤسسات التنفيذية.
2 ـ سيرة الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ والإمام علي عليه السلام.
3 ـ ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام.
4 ـ حقيقة قوانين الإسلام، ولاسيما الأحكام المالية وأحكام الدفاع وأحكام القضاء والجزاء.
5 ـ ضرورة الثورة السياسية.
6 ـ ضرورة الوحدة الإسلامية.
7 ـ ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين.
8 ـ الحديث الشريف.
وفي إطار هذا المنهج، يمكن إجمال أدلة لزوم إقامة الدولة الإسلامية وضروراتها الموضوعية بثلاثة محاور: طبيعة الإسلام وأهدافه، الأصول المقدسة، والسيرة والتاريخ الإسلامي، وعلى النحو التالي:
1 ـ طبيعة الإسلام وأهدافه
جاء الإسلام ليسود الأديان والشرائع الإلهية وليكون خاتمها، وهذه السيادة والخاتمية تنطويان على حتمية. تتجلى في كمال الدين الخاتم وتكامله; لتحقق السماء من خلاله غاياتها النهائية على الأرض، وهي الغايات التي استخلف الله تعالى من أجلها الإنسان، وبعث الأنبياء والرسل ليكونوا قادة لمسيرة الخلافة وشهوداً عليها.
ومسيرة الخلافة والشهادة ـ بالصورة التي أرادها الله تعالى ـ هي تجسيد لولايته وحاكميته في الأرض; فلا يمكن للولاية الإلهية أن تتجلى على أرض الواقع إذا ظلت حبيسة المفاهيم، فلابد لها أن تستمر وتتجلى في مصاديق محسوسة تكون حجة على الناس، وتتمثل هذه المصاديق في:
أ ـ الرسول (ثم الإمام استمراراً له).
ب ـ الرسالة، أو الشريعة.
ج ـ المرسل إليه، أو الإنسان.
د ـ الأداة، أو النظم التي تطبق الشريعة.
وإذا تصورنا هذه المصاديق في كرة تدور بحركة محورية فسنجد أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ هو مركز الكرة ومحور حركتها، والرسالة أو الشريعة هي جسد الكرة ومادتها، في حين أن الطاقة التي تحرك هذا الجسد وتعطيه القوة الواقعية هي الحكومة أو أداة تطبيق الشريعة، أما الإنسان فهو هدف هذه الحركة والواقع الذي تريد التأثير فيه وبناءه.
ويتوزع موضوع طبيعة الإسلام وأهدافه ـ التي تفرض إقامة الحكومة الإسلامية ـ على عدة محاور، أهمها:
أولاً ـ شمولية الأحكام الإسلامية
تفرض طبيعة التكامل في الإسلام تكاملاً آخر في أحكامه وقوانينه، وإذا وضعنا الأحاديث التي تؤكد هذا المعنى جانباً، كالحديث المروي عن الإمام الصادق "ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنة"[11]، وتمسكنا بالواقع، فسنجد أن أحكام الشريعة الإسلامية التي أشار إليها القرآن الكريم والسنة الشريفة، تشتمل على كل مجالات الحياة وتستوعب الواقع بكل أشكاله. وتعنى هذه الأحكام بتنظيم حياة الإنسان والجماعة، على الصعد كافة: السياسية والاقتصادية والدفاعية والحقوقية وغيرها، وهذه الأنماط من الأحكام تدخل في صلب عمل الدولة، ولا تقوم إلا بها، فاختصار الإسلام في الجوانب العبادية والأخلاقية ـ كما يسعى إليه العلمانيون في العالم الإسلامي تأسياً بمفكري عصر النهضة الأوربية ـ يتناقض مع شمولية الأحكام والتشريعات الإسلامية. يقول الإمام الخميني: (الإسلام يخطط لحياة الإنسان قبل أن يولد، ويعين له المسار وهو عضو في العائلة وفي المجتمع، وقد وضع الإسلام أساس العائلة وعين تكليف كل فرد منها، حتى يصل المرء إلى سن الدراسة والتعليم ويدخل معترك الحياة. والإسلام ينظم العلاقات بين البلدان والدول والأواصر التي تربط الشعوب بعضها ببعض... ولديه لكل هذه الأمور برامج وخطط، وواجبات وتكاليف أوضحها الشرع المطهر، الذي لم يقتصر على الصلاة والدعاء والزيارة... فثمة أبواب أخرى، كالسياسة وإدارة البلاد)[12].
ويذكر الإمام الخميني في كتاب (الحكومة الإسلامية)[13] ثلاثة نماذج من التشريعات التي لا يمكن تطبيقها والعمل بها إلاّ من قبل سلطة الدولة، وهي:
1ـ الأحكام المالية، التي شرعت لإدارة المجتمع والدولة، كالزكاة والصدقات والخمس والجزية والخراج، إذ لا يمكن تطبيق هذه الأحكام والتصرف بما ينتج عنها من موارد مالية ضخمة إلاّ من قبل الدولة الإسلامية.
2ـ أحكام الدفاع، وهي خاصة بالحفاظ على سيادة الدولة الإسلامية واستقلالها وحماية أراضي الأمة الإسلامية ومقدراتها وأفرادها. وهذه المهمة تفرض وجود قوات مسلحة وجيش منظم، وهو أمر لا يقدر على التخطيط له أو إنجازه سوى الدولة.
3ـ أحكام القضاء والجزاء، كالحدود والديات والقصاص، التي ترتبط بتنظيم جانب الحقوق في المجتمع الإسلامي، وهي الأخرى لا يمكن تطبيقها إلاّ بإشراف الحاكم الشرعي ومن قبل سلطات الدولة الإسلامية.
وهناك أيضاً أنماط أخرى من الأحكام التي تدخل في إطار فقه الدولة الإسلامية، كأحكام الفقه السياسي، لا مسوغ لتشريعها أساساً إذا لم يكن الإسلام يهدف إلى بناء دولته المستقلة التي تحقق أهدافه وتقوم على مبادئه وعقيدته. وعلى خلاف ذلك هل يمكن أن يطلب الإسلام من سلطة أو دولة أخرى لا تؤمن به إيماناً كاملاً أن تطبق أحكامه المالية والاقتصادية والدفاعية والقضائية وغيرها؟ وفي هذا المجال يقول الدكتور محمد المبارك: (إن مجموع الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية، لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزاماً يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه إلاّ إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة. ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن به أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه)[14].
ثانياً ـ تنفيذ الأحكام الإسلامية
وجود هذا الكم الهائل من التشريعات والأحكام التي ترتبط بحياة الجماعة المسلمة وتهدف إلى تنظيمها، يبقى مجرد قوانين نظرية ترددها الألسن أو محفوظة بين دفات الكتب، إذا لم تكن هناك أداة مقتدرة لتطبيقها ولإدارة عملية التنفيذ.
وهذه الأداة لاشك ـ بحاجة إلى أجهزة متنوعة، يأخذ كل منها جانباً من هذه التشريعات، فأحكام الفقه السياسي والاقتصادي وتنظيم الجانب العام في علاقات أفراد الجماعة يحتاج تطبيقها إلى سلطة تنفيذية ذات صلاحيات واسعة حدد طبيعتها الفقه الإسلامي والنظم السياسية والإدارية المنبثقة عنه. كما أن تشريعات القضاء والجزاء وإحقاق الحقوق يحتاج تطبيقها إلى سلطات قضائية مستقلة.
أما عملية تحويل الأحكام الشرعية إلى مواد وقوانين ملزمة للجماعة وأجهزة الحكم كافة، فإنها بحاجة إلى سلطة تقنين على جانب كبير من التخصص. وتبقى أحكام الدفاع، وهذه لابد للعمل بها من قوة منظمة تتمتع بالعدة والعدد اللازمين. ومجموع هذه السلطات والأجهزة لا تستوعبها إلاّ دولة مستقلة تستقي شكلها ومضمونها من العقيدة والمبادئ التي أفرزت هذه الأحكام والتشريعات، وتهدف إلى إخضاع واقع جماعة المسلمين لهذه الأحكام، وتكييف حياتها وفقاً للتصور الإسلامي; لأن فقه الجماعة يخضع تطبيقه لإرادة جماعية تتمثل في كيان شامل يتمتع بسلطة ملزمة للأفراد والجماعة.
____________________
[1] انظر: الزحيلي، د. وهبة، نظام الإسلام، ص 170 ـ177، ط 2 دار قتيبة، بيروت ـ 1993م.
[2] انظر: الماوردي، الاحكام السلطانية، قم، مكتب الاعلام الإسلامي، ط2، 1406هـ ، ص 5.
[3] انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج15، باب جهاد العدو، وتحديداً الروايات الواردة في ص45 ـ 56، وباب وجوب النصيحة، ص211، قم، مؤسسة آل البيت.
[4] انظر: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص297، ج52، ص136، ج52، ص139، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403هـ.
[5] رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة، ج15، باب جهاد العدو، ص52.
[6] الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، 1996م، ص37.
[7] المصدر نفسه، ص37 ـ 38.
[8] المصدر نفسه، ص40.
[9] انظر: الحائري، السيد كاظم، المرجعية والقيادة، قم، 1998م، ص73 ـ 119 .
[10] الامام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص 45 ـ 68.
[11] يراجع في هذا المعنى العديد من الاحاديث في اصول الكافي للشيخ الكليني، باب (الرد الى الكتاب والسنة... وجميع ما يحتاج اليه الناس إلاّ وقد جاء فيه كتاب وسنة)، طهران، المكتبة الإسلامية، 1388هـ ، ج 1 ص 76 ـ 80 .
[12] الامام الخميني، صحيفة نور، طهران، وزارة الارشاد الإسلامي، ج 1 ص 119، من محاضرة له في 15/5/1965 .
[13] الامام الخميني، الحكومة الإسلامية، ص 55 ـ 60.
[14] المبارك، د.محمد، نظام الإسلام..الحكم والدولة، طهران، منظمة الاعلام الإسلامي،1405هـ، ص 41.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية