مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

إطلالة على مكتسبات الثورة الإسلامية
محمد رحيم عيوضي


مقدمة :
تعد الثورة من الظواهر «العظيمة» و«النادرة» في الحياة الاجتماعية. ندرتها تسبب ضعفاً في رصدها وتشخيصها، وعظمتها تؤدي إلى مواقف متناقضة منها. والنقطة المهمة التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار في دراسة هذه الظاهرة هي مبدأ التنوع والكثرة في نشوب الثورات وماهياتها. بكلمة أخرى لكل ثورة ماهيتها وطبيعتها التي تشي بهويتها وغاياتها التي تصبو إليها. وإذن يتعين عند دراسة أي ثورة وتعريفها والدعاية لها، ملاحظة كافة النواحي والجهات، والتريث في الحكم على حاضرها ومستقبلها. وما يتوجب إيلاؤه أهمية كبرى بالنسبة للثورة الإسلامية على وجه الخصوص هو:
1 ـ النتيجة النهائية للثورة الإسلامية غير معلومة لحدّ الآن :
لم يمض من الوقت على قيام هذه الثورة العظيمة سوى 25 سنة. وهذا الزمان قصير جداً لتقديم تحليلات رصينة لواقعها الداخلي والخارجي، إلى درجة تقلّص إمكانية مناقشة مسار الأحداث فيما عدا بعض الحالات الجزئية. بعبارة ثانية : مع إنّ الثورة الإسلامية قد انتصرت، وأبدت صموداً صلباً وملحمياً إزاء الخصوم الداخليين (المنافقين والأفكار المنحرفة) والمعتدين الأجانب، ولكن ينبغي أن لا تغيب عن الأذهان أبداً حقيقة أن انتصار الثورة الإسلامية لم يكن النهاية، بل نقطة البدء في سلسلة تحولات عميقة داخلية وخارجية، يمكن أن تكون الأحكام ووجهات النظر حولها ذات طابع علمي مقبول فيما يخص الحالات الجزئية وبنحو مؤقت، أو من بعض وجوه القضية لا من جميعها. وعلى ذلك، يتسنّى القول بثقة إنّ النتائج النهائية للثورة الإسلامية، أو قل نتائج التحديات التي افرزها انتصار الثورة على الساحتين الداخلية والخارجية، غير واضحة لحدّ الآن. لذا فإن أي حكم قطعي على نهاية التحديات، بمعنى الفراغ من التحرك باتجاه أهداف الثورة الإسلامية، لن يكون حكماً موضوعياً، ولا نصيب له من القواعد والمناهج العلمية، بل وسيكون عاملاً مخادعاً يعرقل بناء رؤية تحليلية متماسكة. كما إنّ التحليلات التي يغلب عليها التكهن بالمستقبل لا يمكن الوثوق بها، فهي حتى لو كانت ناجحة، لا تمثل إلاّ اقتطاعاً لجزء من الواقع وجانب من جوانب الشأن الإيراني، أي أنّها لا تشكل رؤية متكاملة خالية من النقص. وبالتالي لا مندوحة من اعتبار التكهنات الخطابية، وحتى العلمية، مجرد رؤى لأصحابها، وليست حقائق مطلقة أو كاملة.
2 ـ اختلاط «الإنِّيّات» و«الينبغيات» في بعض الآراء :
التحليلات المقلوبة التي لا تقوم على أساس الحقائق الموجود، بل بهدف تحقيق ما يحمله المحللون من غايات وآمال، ملحوظة بكثرة في الأدبيات المستفيضة التي تمّ إنتاجها بعد انتصار الثورة الإسلامية. الغاية الأصلية من هكذا تحليلات إقناع المخاطب بوجهة نظر الكاتب حول الوضع القائم، وإشاعة «اللاأبالية السياسية» و«زعزعة الالتزام» بالثورة الإسلامية عن طريق الإيحاء بعدم جدوى الثورة. بتعبير آخر يتم إطلاق مثل هذه التحليلات إبتناء على «عقدة استبداد» تنظر للأمور بنظارات الأسود المطلق أو الأبيض المطلق، لتخلص إلى أنّ الثورة الإسلامية لم تحقق أي إنجاز يذكر. وعلى هذا، من الضروري التفكيك بجدية بين تحليلات تعبر عن طموحات أصحابها، وبين ما حدث ويحدث على أرض الواقع فعلاً.
3 ـ المستقبل يرسمه أداؤنا :
مهما كان مستقبل الثورة الإسلامية، فهو حصاد جهود وأخطاء القوى الداخلية. فمع إن إيران الإسلامية تقع وسط عالم كبير وبجوار بلدان أخرى ترتبط بها بشتّى صنوف العلاقة، بيد أنّ المتغير الرئيس في مستقبلها يعزى إلى كمية ونوعية المساعي الداخلية وتجانسها مع متطلبات العالم المعاصر. وما يتسنّى قوله على نحو الإجمال حول هذه المساعي هو:
1 ـ إدارة تستند إلى الأصول العلمية والعقيدية.
2 ـ الثقة بالنفس.
ولابدّ من الإشارة إلى أن وجود أو عدم وجود عنصر «بسيط» و«حيوي» في نفس الوقت، هو عنصر «ذكر الله» ذو تأثيرات بالغة في الأنشطة والتوجهات الكلية والتفصيلية.
نحاول فيما يلي تقديم صورة إجمالية للثورة الإسلامية في ستّة محاور أساسية. المحول الأوّل الذي يجدر أن نفتتح به استعراضنا هذا هو «دستور الجمهورية الإسلامية في إيران».
ـ دستور الجمهورية الإسلامية :
الدستور هو وثيقة طموحات وينبغيات أمّة، وتعود أهميته بغضّ النظر عن كونه القانون الأم لسائر قوانين البلاد، إلى أنه دوّن في وقت اختار فيه الشعب كلّه وبصوت واحد أهدافاً معينة، وتحرك بصورة متسقة وموحدة. ومثل هذا الوضع يعد نادراً وفرصة ثمينة، والقانون الذي يدون في مثل هذا الظرف يمثل تسجيلاً لروح أمّة، وإطاراً يمكن أن يشبع حاجات الحاضر والمستقبل.
وطبعاً بما أن متطلبات الزمن، تحتم تغييرات مستحدثة، فقد ترك طريق الإصلاح مفتوحاً ـ بشرط عدم التضارب مع نواة ولباب مبادئ الشعب ـ لتلبية مثل هذه الاحتياجات، إلاّ إذا تغيّر الشعب في يوم من الأيام بصورة كلية شاملة، وقرّر طموحات وأوضاعاً مختلفة.
من البديهي انّه لا سبيل للاطلاع التام على الدستور سوى بقراءة جميع فصوله ومواده. ومع ذلك حاولنا أن نقدِّم إيضاحات رئيسية في ثماني فقرات تفصح قدر المستطاع عن أهمية دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومكانته ومحتواه وتأثيراته.
ـ 1 ـ سرعة تدوين الدستور والمصادقة عليه :
يتمتع «القانون» بمحورية مميزة بالنسبة لبلد قام بثورة. ذلك أن أمسّ الحاجات بعد انتصار الثورة هو ترتيب الأمور والأوضاع على أساس معيار يحظى بالقبول والاحترام، وبمستطاعه كإطار عام أن يوجه الأنشطة والتحركات في سياق أهداف الثورة. وعليه كان تدوين مجموعة قوانين يتألف منها «الدستور» ذا أهمية حيوية، إذ أعقبت الثورة وبسرعة كبيرة ظروفٌ صعبة متتالية لم تكن بالحسبان. وما لم تعالج هذه الظروف على أساس معيار موثوق مقبول، لعمت الفوضى التي تلت الثورة كل أنحاء البلاد بشكل منفلت غير قابل للسيطرة، ولضاعت أهداف الحرية والاستقلال وذهب أدراج الرياح.
وإذن، يمكن اليوم تثمين وعي المسؤولين وإدراكهم يوم ذاك، حيث عكفوا بيقظة وفهم عميق على إنجاز هذه المهمة ممهدين الأرضية لصيانة الثورة. في حوار أجري في مقر الحزب الجمهوري الإسلامي، أشار أحد المراسلين إلى أن عمر الدستور سيمتد إلى سنوات طوال، فما هو السبب في التسرع في تدوينه؟ وأجاب الدكتور شيباني: اتّضح من الدراسات التي أجريت لبلدان مختلفة، أنّ مجلس المؤسسين استمر فترة طويلة. ففي إسبانيا مثلاً استمر سنة ونصف السنة. غير أن الحال في بلادنا تختلف عنها في بلدان أخرى. لقد وقعت هنا ثورة، وبعد الثورة لابدّ لنا من إرساء القواعد والأسس التي يقوم عليها مصير البلاد. وكلّما تمت هذه العملية بسرعة أكبر، كانت النتائج أفضل. ومع أن عدد الأفراد كان محدوداً إلاَّ أنّهم كانوا من جميع شرائح المجتمع. وقد أدلى الناس برأيهم حول المسودة التي كتبت، وتشكلت لجان متعددة درست الآراء التي جمعت. ولنفترض أنّه قد تشكل مجلس خبراء من 700 شخصية، فإن هؤلاء السبعمائة لن يكتبوا القانون جميعهم، بل تحال المهمة إلى لجنة من عشرين شخصاً تتولى كتابة القانون وتعرضه على المجلس ذي السبعمائة شخص. ولكم أن تعتبروا هؤلاء السبعين شخصاً مثل تلك اللجنة، فهم يدونون الدستور الذي سيعرض تالياً على الرأي العام. وهذه برأينا أفضل طريقة عملية ممكنة.
وعندها عاد ذلك المراسل ليقول: ولكن في تلك الحالة سيصادق عليه 700 شخص وليس 70 شخصاً؟ فأجاب الدكتور شيباني: كان رأينا أن يصادق عليه بدل 700 شخص 35 مليون نسمة هم سُكان إيران. أي لو لم يكن السبعون شخصاً مقبولين لدى الجماهير وقالوا لا، سيضطرون لتدوين دستور جديد، ولكن إذا قالوا نعم، حينئذ سيصادق عليه 35 مليون نسمة[1].
والواقع أن ما صنعوه كان في البداية تدبيراً تقف وراءه فكرة أن «تحديد الدستور أحد سبل تكريس الاستقرار في البلاد» مع أن بعض المواد سيبقى حسب الظاهر غير مستعملة لأعوام طويلة، ألا إنّ الذي حدث كان شيئاً آخر. يوضح الدكتور جلال الدين مدني هذه المسألة بحيرة مصحوبة بالإعجاب على النحو التالي: مع أنه لم تمض إلاّ سنوات معدودة على المصادقة على الدستور وتنفيذه، ولا تزال الكثير من القوانين العادية ذات الصلة بتنفيذ مواده غير مدونة ولا مصادق عليها، إلاّ أن تحولات البلاد وتطوراتها فعّلت الدستور ونشّطته إلى درجة أن بعض مواده التي كان المتوقع لها أن لا تستعمل إلاّ بعد زمن طويل، خضعت في غضون هذه المدة القصيرة للبحث والمناقشة والتفسير والتطبيق. فمثلاً، المادة رقم 110 حول قيادة الولي الفقيه للقوات المسلحة والتي طرحت العديد من النقاشات حول سبل تطبيقها، ظهرت ضرورات تطبيقها بشكل جد مركز وفي أرقى الدرجات مع اندلاع الحرب المفروضة من قبل العراق على إيران، بل وبرزت حالات تفويضها المؤقت. الشق الخامس من هذه المادة، والذي ساد التصور بأن لا تكون ثمة حالات تستدعي تطبيقه حتى بعد قرن من الزمان، توفر له مصداق بارز في غضون أعوام قليلة، وتمّ عزل أوّل رئيس جمهورية وفقاً له. صوّت مجلس الشورى على عدم الكفاءة السياسية لرئيس الجمهورية، وأصدر القائد أمراً بعزله نظراً لمصالح البلاد. وفي غضون هذه الفترة القصيرة كان ثمة شخص بين المرشحين لرئاسة الجمهورية مشكوك في أصله الإيراني فاعتزل المعركة الانتخابية لهذا السبب. الشورى المؤقتة لرئاسة الجمهورية التي نادراً ما تتوفر ضرورات تشكيلها، تشكلت مرّتين، وأعدّت لانتخابات رئاسة الجمهورية الثانية والثالثة خلال خمسين يوماً كما لوحظ في الدستور، بل سنرى أن واحداً من أندر أشكال هذه الشورى المؤقتة تحقق باستشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وبناءً على تفسير مجلس صيانة الدستور للمادة 130، تمّ تشكيل الشورى المؤقتة لرئاسة الجمهورية من شخصين متقاربين في وجهات النظر، فتألفت الشورى من رئيس مجلس الشورى الإسلامي ورئيس ديوان القضاء العالي في البلاد، فاقترحا بالاتفاق رئيس وزراء جديد على المجلس. وبدا أن بالمستطاع معالجة العقد النادرة التي قد يحتويها الدستور، بفضل ما يقدمه مجلس صيانة الدستور من تفسيرات له. وهكذا يلوح أن دستور الجمهورية الإسلامية الفتي ذو مرونة وقابليات جمّة، وقدرة عالية على التناغم السريع مع الظروف العصيبة[2].
وإذن، لو لم يدون الدستور بسرعة ويصادق عليه بسرعة، لما أمكن معالجة المشكلات اللاحقة.
ـ 2 ـ استخدام منهج توفيقي في وضع الدستور :
تشير كتب الحقوق العامّة إلى منهجين رئيسيين لوضع الدستور. يتبلور المنهج الأوّل في علاقة أحادية الاتجاه تتحرك من الأعلى إلى الأسفل، حيث يفرض الحاكم أو الهيئة الحاكمة على الجماهير قوانين معيّنة تطلق عليها اسم الدستور. ولعل الحسنة الوحيدة لهذا المنهج هو أن وجود القانون السيِّئ أفضل من عدم وجود قانون، ولكن من الطبيعي أن لا يمثل هذا القانون المفروض حقوق الشعب.
المنهج الثاني هو اعتماد آراء الجماهير في وضع الدستور. ويتم ذلك بأسلوبين أحدهما مباشر (الاستفتاء) والثاني غير مباشر (شخصيات منتخبة من قبل الشعب). ومع أنّ الأسلوب الثاني يحترم الرأي العام ويستفيد من أفكاره، ألا أن كلا الأسلوبين يبقى ناقصاً ولا يفي بالغرض بمفرده.
والذي حصل عملياً لوضع دستور الجمهورية الإسلامية، هو اعتماد أصوات الجماهير إلى جانب الإفادة من ذوي الخبرة، ما يمثل نموذجاً مبتكراً، أو توفيقياً بعبارة أخرى. وقد جسّدت هذه السنّة الحسنة عمق الطبيعة الجماهيرية للثورة الإسلامية، والصدق الثوري لقائده الكبير الإمام الخميني (رض) الذي كان له دوره الأساسي في التطور التاريخي للشعب الإيراني وانعتاقه من ربقة الإجحاف السياسي والحرمان الفكري. إن اعتماد مثل هذا المنهج في ذروة الهياج الثوري في البلاد، كان حالة غير مسبوقة تقريباً، ونموذجاً عملياً للتلاحم بين الدين والسياسة. فقد روعيت المعايير الدينية من جهة، ولوحظ أيضاً إحراز أصوات الجمهور كأرضية تطبق القوانين فيها ومن أجلها. وكانت الحصيلة الناتجة عن ذلك جد مهمة وفاعلة.
وإيضاح ذلك أنّ الاستفتاء الذي أقيم يوم 12 / 1 / 1358 (الأوّل من نيسان 1979م) لتحديد نوع الحكومة، تمخض عن تصويت الشعب بنسبة 2 / 98 بالمئة لصالح نظام الجمهورية الإسلامية، وبعد ذلك استمر مجلس خبراء الدستور في دراسة وتمحيص أطروحة الدستور لمدة أربعة أشهر ونصف. وكما كتب الدكتور مدني: نظراً للحرية التي كان يتمتع بها الجميع، أثيرت طوال هذه المدة العديد من النقاشات والآراء حول مواد الدستور وعقدت المؤتمرات والندوات لهذا الغرض، ونشرت الكثير من المقالات، وبعد أن نشرت الحكومة المؤقتة مسودة الدستور، تمّ تقديم مئات الأطروحات التعديلية والتصحيحية بادرت أمانة مجلس المناقشة النهائية قبل افتتاح المجلس، إلى جمعها ليستفاد منها في اللجان أثناء المداولات[3].
وبالتالي أقيمت في 12 مرداد 1358 (3 آب 1979م) انتخابات مجلس خبراء المناقشة النهائية للدستور، شارك فيها 231 / 988 / 10 من أبناء الشعب، وافتتح مجلس الخبراء بتاريخ 28 مرداد 1358 (19 آب 1979م) بنداء وجّهه الإمام الخميني، وأنهى مهماته في 24 آبان 1358 (15 / 11 / 1979). وفي آذر 1358 (3/ 12/ 1979) أقيم استفتاء الدستور فشارك فيه 956 / 758 / 15 إيرانياً (79 بالمئة ممن يحق لهم الاقتراع) فأسفرت المشاركة الواسعة للجماهير تحت راية الحكومة الجديدة (الجمهورية الإسلامية) ودعماً لها، عن نظام جديد ومستقل، وضعه استقلاله وطابعه المبتكر حيال الكثير من التحديات.
النقطة الملفتة والجديرة بالتدبر في استفتاء الدستور هي أن إحصاءات وزارة الداخلية تشير إلى أن عدد الأصوات الموجبة (نعم) 329 / 680 / 15 صوتاً، ومجموع الأصوات السالبة (لا) 78516 صوتاً، أمّا الأصوات الباطلة فكانت 111 صوتاً، بمعنى أن 5 / 99 بالمئة من المقترعين أدلوا بأصوات موجبة ووافقوا على الدستور، ولم يرفضه سوى نصف بالمئة من المقترعين[4].
ـ 3 ـ قبول الحاكمية والقوانين الإلهية :
وفقاً لمصطلحات الحقوق الإسلامية، يسمى القانون شرعاً أو شريعة. فشرائع الإسلام هي قوانين الإسلام[5]. وقد صرّح الإمام الخميني في كتاب ولاية الفقيه أن حكومة الإسلام هي حكومة القانون. والحاكمية في هذا النمط من أنظمة الحكم، مقصورة على الله، وما القانون فيها إلاّ دساتير الله وأحكامه. فقانون الإسلام أو دساتير الله لها الحاكمية التامة على كافة الأفراد وعلى الدولة الإسلامية. جميع الأفراد، من الرسول الأكرم (ص) إلى خلفائه إلى سائر الأشخاص، يتبعون القانون إلى الأبد، القانون الذي أنزل من قبل الله تبارك وتعالى، وتبيّن على لسان القرآن والرسول الأكرم (ص)[6].
وهذا ما تمّ التأكيد عليه في مواضع عدّة من الدستور. جاء في المقدمة: رسالة الدستور هي إضفاء الموضوعية على الأرضيات العقيدية للنهضة، وتوفير الظروف لتربية الإنسان وفقاً للقيم الإسلامية السامية العالمية[7].
في بداية فصول ومواد الدستور، أي في المادة الأولى من الفصل الأوّل، نقرأ ما يلي : حكومة إيران هي الجمهورية الإسلامية التي صوّت لصالحها الشعب الإيراني بناءً على عقيدته العريقة بحكومة الحق والعدل القرآنية، بعد ثورته الإسلامية المنتصرة بقيادة مرجع التقليد الكبير آية الله العظمى الإمام الخميني، في استفتاء...[8].
وفي المادة (177) التي أضيفت إليه بموجب إصلاحات الدستور عام 1989، تمّ التشديد مجدداً على قضية التقيد بالدين. وإيضاح ذلك أنه: لا يمكن تغيير محتوى المواد ذات الصلة بإسلامية النظام وارتكاز جميع القوانين والمقررات على أساس الموازين الإسلامية والقواعد الإيمانية، وأهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والطابع الجمهوري للحكومة، وولاية الأمر وإمامة الأمّة، وكذلك إدارة شؤون البلاد توكّأً على الرأي العام، والديانة والمذهب الرسمي لإيران[9].
إنّ العقيدة بالقوانين الإلهية وأتباعها، يضع نظام الجمهورية الإسلامية على الضد تماماً من الأنظمة الفاشية حيث تهيمن الحكومة على الأخلاق والدين، دون العكس. أو قل أن تصوراتهم النظرية وسلوكهم العملي يدل على انفلات من كل أنماط التقيد الديني في الأصول والسياسة.

في مقالة له بعنوان «الفاشية» يحاول بينيتو موسوليني (1883 ـ 1945) رسم صورة دينية وأخلاقية للفاشية، إلاّ أنه بالنتيجة يصرح بأفكاره الأصلية قائلاً: إنّ الحكومة الفاشية وحدة شاملة تضم جميع القيم، وتقوم بتفسير وتنضيج وتقوية كل ما في حياة الجماهير[10].
أضف إلى ذلك أنّ التشديد على القانون بمعنى إتباع قوانين الإسلام، والرضوخ للمكانة القانونية التي تحظى بها الجماهير، والتمهيد لمشاركتهم الفاعلة في الشأن السياسي، تمثل بالنسبة لهم تضاداً بين هذا النظام الفتي وكل الأنظمة الاستبدادية الأخرى، إنْ من الناحية النظرية، وإنْ على الصعيد التطبيقي. فالنظام الاستبدادي معارض لكل ألوان المشاركة الجماهيرية، ومتوجس منها. ومع أنه قد يعتصم بها في بعض الحالات، إلاّ أن هذا لا يتبدل إطلاقاً إلى منهج عام في الممارسة السياسية للسلطة، والسبب الرئيس هو عدم الاعتراف بالمنزلة القانونية للجماهير كمواطنين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ما نلاحظه على مستوى العملي طيلة الخمسة وعشرين عاماً من عمر الثورة الإسلامية، فيه دلالة واضحة فضلاً عن التطور الكمي، على تعميق وعي الجماهير على الصعد المختلفة وهو ما يمكن استنباطه من دراسة تحليلية للمساهمات الانتخابية للشعب خلال هذه المدة. وإذن، يتوجب خلافاً للنظرات التي تحاول الإيحاء بشبهة استبدادية أو فاشية نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإثارتها بأساليب شبه استدلالية في تعابير وأشكال متنوعة، أن يصار إلى التأمل في نظام الجمهورية الإسلامية المبتكر، ومقارنته بسائر الأنظمة في العالم من ليبرالية واشتراكية وشيوعية و... الخ.
ونظراً لضيق المجال نشير إلى عدم التدقيق النظري الذي وقع فيه واحد من الكتاب فقط في هذا المضمار، حيث لم يلاحظ آراء الإمام الخميني التي أوردنا جانباً منها في سطور سابقة، وسارع إلى الإفصاح عن ظنونه وتصوراته الخاطئة بمعزل عن أي قواعد نظرية، وإنّما اعتماداً على فهم تسطيحي عام للمصطلح الفقهي «ولاية الفقيه المطلقة». يكتب السيد محسن كديور في كتاب «هواجس الحكومة الدينية»: الحاكم في نظرية ولاية الفقيه المطلقة مسؤول أمام الله، ولا يحق لأية مؤسسة بشرية قانونية أن تشرف عليه وترصده. لذا فالجميع خاضعون لإشراف ولاية الفقيه المطلقة، أمّا هو فليس بمسؤول إلاّ أمام الله. وبحسب هذه النظرية لا يحق حتى للخبراء الإشراف على ولاية الفقيه[11].
المؤسف أن أفكاراً سطحية من هذا القبيل ليست بقليلة، ولا يتاح تشخيصها ونقدها إلاّ بالالتزام والجهد العلمي واليقظة السياسية. إتماماً لهذا القسم نطالع مقاطع أخرى من آراء قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني:
ذهب بعض الأشخاص إلى الجامعة وقالوا إنّ التدخل في الانتخابات تدخل في السياسة وهذا حق المجتهدين. كانوا يقولون إلى اليوم أنّ المجتهدين يجب أن لا يتدخلوا في السياسة، وهذا على الضد من حق المجتهدين، وقد كانت الهزيمة نصيبهم هناك، والآن يقولون العكس وعلى نفس الصعيد، قولهم إنّ الانتخابات من الشؤون السياسية والشؤون السياسية حق المجتهدين كلاهما قول خاطئ[12].
كما قلت مراراً، الجماهير مرة في الانتخابات ولا تحتاج إلى قيم، ولا يحق لأي شخص أو جماعة أو فريق أن يفرض عليهم شخصاً أو مجموعة أشخاص... وطبعاً فإنّ الاستشارة في الأمور من دساتير الإسلام، والناس تستشير الملتزمين والمعتمدين لديهم[13].
كلّنا مسؤول. لسنا مسؤولين عن أمورنا، بل عن أمور الآخرين أيضاً: كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته. الجميع ينبغي أن يراعي بعضهم بعضاً، مسؤوليتي أنا في عنقكم، ومسؤوليتكم في عنقي[14].
والآن يجب أن نسأل: هل اعترف الفاشيون والمستبدون بمثل هذه الحقوق للجماهير، وبمثل هذه المسؤولية العامة؟ أيّة وثيقة تاريخية أو نظرية بإمكانها إعانة هؤلاء الأشخاص على إثبات مزاعمهم؟
ـ 4 ـ قابلية الدستور للإصلاح :
السمتان البارزتان لعالمنا المعاصر هما: «السرعة» و«التحول». وضع آلموند وزملاؤه كتاب «إطار نظري لدراسة السياسة المقارنة» وأطلقوا فيه على العصر الراهن اسم «عصر التغيرات السريعة»[15]. إن هذه التغيرات مذهلة وهائلة إلى حد أن تروتسكي قال في مطلع القرن العشرين: «مَنْ كان يريد أن يعيش حياة هادئة ما كان عليه أن يولد في القرن العشرين»[16]. وبالتالي فإنّ الوعي بالزمن يستدعي إلى جانب الارتكاز إلى المبادئ ومعرفة الضرورات، توفير الأرضية اللازمة والقانونية لإيجاد التغييرات المناسبة. وقد أثيرت هذه القضية عند إعادة النظر في الدستور عام 1989 بعد عقد من التجارب في إدارة البلد والدولة ضمن شتى الظروف، حيث تمّ إلحاق فصل للدستور يوضح آليات إعادة النظر فيه، الأمر الذي أكسب هذه الآليات الصفة القانونية.
النقطة المهمة الأخرى هي أن «مصوبات الشورى بعد تأييدها وإمضائها من قبل القائد، يجب عن طريق مراجعة الرأي العام، أن يصادق عليها من قبل الأغلبية المطلقة للمشاركين في الاستفتاء»[17] وهكذا يخرج نظام الجمهورية الإسلامية من كل الطرق المسدودة قانونياً، مضافاً إلى أنه لا ينسى إطلاقاً موجديه وحماته أي الجماهير، بل يذكر بين حين وحين مكانتهم القانونية في كل الأمور، وما هذه الحالة إلاّ نموذجاً لذلك.
ـ 5 ـ اجتناب التقليد :
إن روح الاستقلال التي سادت الثورة الإسلامية، والمطالبة بتجاوز المناخ السلطوي السلبي لنظام القطبين في العالم، أفضى إلى تدوين الدستور انطلاقاً من مواقف نقدية ـ إبداعية، والمبادرة عبر تقديمه لاستفتاء الجماهير إلى منحى ايجابي جديد في العرف السياسي. هذا في حين أن «دساتير العديد من بلدان العالم ليست إلاّ تقليداً بحتاً للآخرين أو أنّها اقتباسات تتضمن بعض التغييرات اليسيرة»[18]. وحري بالإشارة إنّ التقليد، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة الدستور، يعد ممارسة على درجة كبيرة من الحساسية، ويستلزم ملاحظة أوضاع وظروف كثيرة، ذلك إنّ القانون يسن للتطبيق، وإذا لم تلاحظ أرضيات التطبيق، ستنتصب العديد من الموانع والمعضلات التي تترك القوانين مجرد حبر على ورق. يذكر الدكتور كاتوزيان في هذا الصدد: الاقتباس من الحقوق الأجنبية هو الآخر لا يعد نافعاً إلاّ إذا قارن الشارع كافة عوامل البيئة الأجنبية بمجتمعه، ولم ينس أثناء سنه للقانون، أخلاق شعبه ودينهم وواقعهم السياسي والاقتصادي وموقعهم الجغرافي والتاريخي[19]. للأسف فإن مثل هذه الاعتبارات لم تكن في السابق، وقد حاول دستور الجمهورية الإسلامية في إيران التغلب على هذه الصعوبات ويعتبر بحد ذاته من أكبر مكتسبات الثورة الإسلامية. وعلى حد تعبير الإمام الخميني فإن «الدستور من الثمار العظيمة، بل هو أعظم ثمار الجمهورية الإسلامية»[20].
ـ 6 ـ انتخابية كافة أعضاء مجلس الشورى الإسلامي :
مع انتصار الثورة الإسلامية، أحرزت الجماهير مكانتها القانونية اللائقة، وأضحى البرلمان بيت الشعب كما أطلق عليه. وقد تأسس نظام النيابة والتمثيل، وتشكلت القنوات القانونية لتعبير الجماهير عن آرائهم، ما ترك آثاراً نافعة ونادرة في التطورات والحيوية السياسية ـ الاجتماعية للبلاد. تعلم الناس تدريجياً إن اتخاذ القرار في الشؤون السياسية والاجتماعية من حقوقهم التي لا سبيل إلى إنكارها. فطالما كانت القوانين لهم وتطبق لأجلهم، فمن الضروري أن يعبروا عن آرائهم بالطرق القانونية ويكون لهم دورهم في اتخاذ القرارات. جاء في المادة السادسة من الدستور: في جمهورية إيران الإسلامية ينبغي إدارة شؤون البلاد اعتماداً على الرأي العام، إمّا عن طريق الانتخابات، انتخاب رئيس الجمهورية، ونواب مجلس الشورى الإسلامي، وأعضاء المجالس وما إلى ذلك، أو عن طريق الاستفتاء في الحالات التي تحددها مواد أخرى من الدستور[21].
وسيكون هذا المكسب مفهوماً ومغتنماً أكثر إذا علمنا أنه «طبقاً للمادة 45 من دستور إيران عام 1906م، يجب تعيين ثلاثين عضواً من الأعضاء الستين لمجلس الأعيان، بحسب انتخاب الجماهير، أمّا الثلاثون الآخرون فيعينهم الشاه»[22].
ـ 7 ـ معالجة ضعف السيطرة الحقوقية في الدستور :
من الانجازات المهمة لدستور الجمهورية الإسلامية في إيران تعيين نظام تلقائي لمطابقة القوانين العادية مع الدستور. فمن أجل التأكد من عدم تناقض القوانين العادية مع الدستور، تمّ إنشاء مؤسسة باسم مجلس صيانة الدستور، لها مسؤوليات محددة في المادة 91 من الدستور ضمن محورين:
بهدف صيانة أحكام الإسلام والدستور من حيث عدم مغايرة مصوبات مجلس الشورى الإسلامي معها... [23].
وجاء أيضاً في المادة 94: ينبغي إرسال كافة مصوبات مجلس الشورى الإسلامي إلى مجلس صيانة الدستور... [24].
وهكذا عولجت قضية السيطرة على القوانين العادية بنحو جيد عبر التشديد على «كافة المصوبات». بينما نلاحظ أن صورية الدستور في النظام السابق، جعل من غير الضروري أن يكون له آلية سيطرة حقوقية. فالدستور السابق (1906 ومتممه في عام 1907م) لم يصرح بوجود مؤسسة خاصة للسيطرة السياسية على مصوبات السلطة التشريعية فيما يتعلق بانسجامها مع الدستور[25]. وعليه فكما ذكر الدكتور قاضي بدقة: يمكن اعتبار مجلس صيانة الدستور جزءاً لا يتجزء من السلطة التشريعية[26].
بغية صيانة الدستور والتثبت من السعي لتحقيق ما يحتويه من أهداف، غالباً ما تنشئ البلدان مؤسسة تضطلع بهذه المهمة والمسؤولية. فمثلاً، في دستور الجمهورية الخامسة (1958) تمّ إيجاد مجلس باسم «مجلس الدستور» يحمل على عاتقه مسؤولية التوفيق بين القوانين العادية ومواد الدستور. وفيما يلي نسوق أمثلة من الدستور الفرنسي على هذا الصعيد، ليتاح لنا تقييم أفضل وأوضح لمكانة مجلس صيانة الدستور وأهميته.
في مجلس الدستور تسعة أعضاء، مدة عضويتهم تسع سنوات، ولا يجوز أن يكونوا أعضاء لدورة ثانية... وعلاوة على الأعضاء التسعة المذكورين أعلاه، يضم مجلس الدستور في عضويته رؤساء الجمهورية السابقين قانونياً وإلى مدى العمر. ويعني رئيسُ الجمهورية رئيسَ مجلس الدستور... (المادة 56). يشرف مجلس الدستور على حسن تنفيذ قانون انتخابات رئاسة الجمهورية، ويتولى متابعة الاعتراضات، ويعلن عن نتائج الانتخابات (المادة 58)، يشرف مجلس الدستور على حسن تنفيذ الاستفتاءات، ويعلن عن نتائجها (المادة 60) ينبغي إرجاع القوانين الأصلية بعد الإمضاء وإصدار أمر التنفيذ، وكذلك الأنظمة الداخلية للمجلسين قبل التنفيذ، إلى مجلس الدستور ليعلن عن رأيه بخصوص تطابقها مع الدستور... (المادة 61) القرارات التي يُعلن عن تعارضها مع الدستور، لا يجوز إمضاؤها أو إصدار الأمر بتنفيذها. ولا يمكن الاعتراض على قرارات مجلس الدستور، ومن واجب القوى العامة والشخصيات الإدارية والقضائية تطبيقها[27].
إن مثل هذه المقارنات تكشف النقاب عن سذاجة أو سوء نية بعض المطالبين بإلغاء آلية السيطرة في دستور الجمهورية الإسلامية. وحيث إن ثمة فريقاً يفضِّل رؤية الآخرين عنّا على رؤيتنا لأنفسنا، لذلك تتضاعف الأخطاء وتتراكم. فمثلاً يتغافل استيفان دي تشي في تعريفه مجلس صيانة الدستور عن واجباته القانونية الخطيرة المرسومة له في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ليشدد فقط على مسؤولياته الدينية، ما ينم عن مقارنة إيديولوجية لثورة إيران الإسلامية والمكانة القانونية لمجلس صيانة الدستور من ناحية، وعن نسيان العلائق الطبيعية والبديهية التي تشد كل المجتمعات وخصوصاً الثائرة منها إلى دستورها من ناحية أخرى. كتب يقول:
توزعت الطاقات التنفيذية بين مجلس الشورى الوطني ( الإسلامي ) ومجلس صيانة الدستور ـ علماء الإسلام، التي تعيد النظر في مصوبات المجلس بهدف التثبت من مطابقتها للإسلام[28]. وكما يلاحظ فقد تمّ النظر لمجلس صيانة الدستور هاهنا كونه منفصلاً عن السلطة التشريعية وغير ذي صلة بالدستور (الميثاق الوطني).
ـ 8 ـ تنسيق النظام السياسي وتفعيله :
استحداث مناصب لم تكن في السابق، مثل «القائد» و«رئيس الجمهورية»، كان من شأنه أن يجعل النظام السياسي الجديد «جمهورياً إسلامياً» كما أرادته الجماهير في انتخابها نمط الحكومة وأن يتبدى نظاماً سياسياً متماسكاً من حيث البنية والبعد القانوني، وقادراً على النهوض بوظائفه الحكومية في إطار مستحدث جديد هو إطار «الجمهورية الإسلامية». كما أن توفر رؤية عملانية ونزعة اعتبار من التجارب لدى قائد الثورة الإسلامية، أدّى من خلال إضافة مؤسسة بعنوان «مجمع تشخيص مصلحة النظام» (المادة 112) لمؤسسات البلاد السياسية، إلى مضاعفة مرونة النظام وقدرته على التعامل مع التحديات والمشكلات المختلفة. وهكذا تكاملت مدارات الترابط والتواصل داخل النظام السياسي، وتوفرت الفرصة اللازمة لمعالجة المعضلات قانونياً، واستطاع نظام الجمهورية الإسلامية أن يكرس استقراره أكثر ضمن نطاق المؤسسات القانونية. والملفت أن مؤسسات نظير مجلس صيانة الدستور، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، والقيادة، تعرضت كراراً لاعتراضات ونقود لا تقوم على أساس مكين، بل تشي بانزعاج المعارضين من استقرار أركان النظام الجديد. وقد طالت هذه الاعتراضات حتى رئاسة الجمهورية في بعض الأحيان.
النقطة المهمة التي يتوجب الإلماح إليها فيما يتعلق بمجمع تشخيص مصلحة النظام، هي أنه مؤسسة لوحظت فيها الجماهير وتبلورهم القانوني أي البرلمان. فمع إنّ المجمع يتخذ قراراته حول مصير بعض القوانين (المادة 112 من الدستور) إلاّ أنه لا يستطيع تشريع القوانين. فإذا بدا من الضروري تعديل نص صادق عليه المجلس، كان ذلك من صلاحيات المجلس نفسه، وبالتالي فإن نواب الشعب هم مَنْ يحق لهم سن القوانين[29].
حري بالذكر في خاتمة هذا القسم أن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران نص يشتمل على مقدمة وأربعة عشر فصلاً و 177 مادة. يتطرق الفصل الأوّل للأصول العامة والخطوط العريض. ويتناول في الفصول اللاحقة على الترتيب لغة البلاد وخطها وتاريخها وعلمها (الفصل الثاني) وحقوق الشعب (الفصل الثالث) والاقتصاد والشؤون المالية (الفصل الرابع) وحق سيادة الشعب والسلطات المنبثقة عنه (الفصل الخامس) والسلطة التشريعية (الفصل السادس) والمجالس المحلية (الفصل السابع) والقائد أو شورى القيادة (الفصل الثامن) والسلطة التنفيذية (الفصل التاسع) والسياسة الخارجية (الفصل العاشر) والسلطة القضائية (الفصل الحادي عشر) والإذاعة والتلفزيون (الفصل الثاني عشر) ومجلس الأمن القومي (الفصل الثالث عشر) وإعادة النظر في الدستور (الفصل الرابع عشر).
كما إن أكبر عدد من المواد نلاحظها على الترتيب في الفصل التاسع الخاص بالسلطة التنفيذية (المواد من 113 حتى 155) والفصل السادس الخاص بالسلطة التشريعية (من 62 حتى 70 ومن 71 حتى 99) والفصل الثالث الذي يعالج حقوق الشعب (من 19 حتى 42). أمّا أقل فصول الدستور من حيث عدد المواد، فهي الفصول الأخيرة المختصة بالإذاعة والتلفزيون (الفصل 12) ومجلس الأمن القومي (الفصل 13) وإعادة النظر في الدستور (الفصل الرابع عشر) التي لا يتضمن كل واحد منها أكثر من مادة واحدة.
ـ الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية :
ينبغي اعتبار موضوع كفاءة النظام السياسي وفاعليته من جملة المواضيع الغامضة المضببة المثيرة للجدل بدرجة كبيرة. ذلك إنّ الحكم على الكفاءة أو عدمها يعزى غالباً إلى التجارب والمطالبات ومشاعر الأفراد والمحللين، ولا يتسنى أن يكون له مصداق بين الأنظمة، بمعنى أن من غير الممكن أن يكون النظام السياسي غير كفوء مطلقاً، رغم ما قد ينطوي عليه من نواقص وثغرات في مختلف أجزائه. وإذن، بصرف النظر عن تطبيق موضوع الكفاءة على حكومة دينية أو غير دينية، ينبغي أن لا ننسى أنّ الأحوال الموضوعية تصنف بين طرفين متناقضين هما الكفاءة المطلقة وعدم الكفاءة المطلق، وما يمكن التداول بشأنه ومناقشته هو الاتجاه المستقبلي الذي يمكن التكهن به في ضوء معطيات الأنشطة الحالية. وإذن فالكفاءة مفهوم نسبي يلفه الغموض إلى حد كبير. ويعزى غموضه بالدرجة الأولى إلى المعايير والمناطات المستخدمة في إصدار الأحكام. وبالتالي فإن أي تحليل يرتكز إلى كيفية الوضع القائم من حيث الكفاءة أو عدم الكفاءة سيغوص في لجة عاتية من الأحكام المسبقة، تجعل نقده وتشخيص سلامته أو سقمه متجهاً قبل كل شيء صوب التصورات الخفية التي تخيم بظلالها على رؤية المحلل، وبعد ذلك فقط يتسنى فحص الأدلة بدقة وتأن.
نسوق هنا مثالاً من أجل إيضاح الفكرة. نشرت الاكونوميست في السادس من نيسان 1996 تقريراً اكتنف تصورات جديدة حول التعليم والعمالة، أوردت فيه أمثلة من بلدان الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وألمانيا. ويعد المثال المطروح حول الولايات المتحدة نموذجاً مناسباً للدخول إلى إشكالية الكفاءة وتحديد معاييرها ومصاديقها. بحسب تقرير الاكونوميست فإن «وزارة العمل في الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ميزانية قدرها خمسة مليارات دولار للتعليم الحكومي. يقول القائمون على التعليم في أمريكا في تقييمهم الآثار الناتجة عن رصد هذا الرقم الكبير على الكفاءة العملية للمتعلمين، أنّ : الصفر رقم مناسب! ويقول جيمز هكمان من جامعة شيكاغو ورئيس قسم باحثي التعليم الحكومي في أمريكا أن رصد هذا المبلغ الكبير لتعليم الشباب، لم يكن له أي تأثير في الشباب ما دون الحادية والعشرين. بل أدّى إلى خسرانهم العائدات التي كان بوسعهم أن يكسبوها عن طريق مزاولة الأعمال غير التخصصية طوال الفترة التي أمضوها في التعلّم»[30].
في ضوء هذه المعطيات، يتضح التباس مفهوم الكفاءة أكثر من السابق، خصوصاً إذا اعتبر الصفر رقماً مناسباً. وعلى ذلك يمكن السؤال: ما هي حقاً الكفاءة والفاعلية، وما هو معناها ؟ هل للكفاءة مفهوم محدد بتخوم ومعايير ومناطات واضحة ؟
كما يجوز الإشارة إلى عدم التناسق العملي بين «الخطط» و«النتائج»، فالنتائج لا تتطابق ولا تقترب دائماً من الأهداف المرسومة مسبقاً في الخطط. وبهذا لو افترضنا أن الخطط توضع لبلوغ أهداف معينة، لا يمكن أن نعزو التباين بين النتائج والأهداف إلى مجرد ثغرات ونواقص تضمنتها الخطط، بل إن هذا الأمر يلفت انتباهنا إلى متغيرات أخرى لا نعرفها أو إننا غفلنا عنها، ولا بدّ من التحري لاكتشافها وأخذها بنظر الاعتبار. وحيث إنّ «النتائج» من أوضح المعايير لتقييم الكفاءة والفاعلية يتسنى الخلوص إلى هشاشة وضعف تحليلات من هذا القبيل تتسم باحادية البعد والنظرة.
تبين لحدّ الآن إجمالاً، إن مناقشة الكفاءة تستدعي ملاحظة نقطتين:
1 ـ نسبية مفهوم الكفاءة.
2 ـ غموض مفهوم الكفاءة.
وبعبارة أخرى، فإنّ الكفاءة شأنها شأن مفاهيم مثل «الأمن» و«القوة» مع إنّها تفتقر لتبلور موضوعي خارجي، بيد أن لها وجوداً لا سبيل إلى إنكاره، ولا يتسنى القول إن مناقشة كفاءة أو عدم كفاءة أحد أنواع الأنظمة السياسية مناقشة عقيمة غير مجدية. ولكن من الضروري التفطن فضلاً عن النقطتين أعلاه، إلى عامل آخر هو مجموعة الظروف وطبيعة الزمن التي تكتنف في داخلها موضوع النقاش. ولما كان هذا الموضوع مما لا يمكن معالجته في الفراغ إذن لا مندوحة للتقييم من مقارنة تأخذنا إلى مديات أعمق في مفهوم الكفاءة. ففي المقارنة نحتاج إلى معرفة دقيقة وكاملة للمتغيرات التي نجترح تقييمها ومقارنتها، ولمعنى ومكانة كل واحدة منها في ظروفها الخاصة. وبالتالي، فإن أي استنتاج نهائي حول كفاءة نوع معين من أنظمة الحكم لن يبدو مستساغاً إلاّ إذا تحاشى أوّلاً إصدار أحكام مطلقة حول كفاءة النظام أو عدم كفاءته، وثانياً بما أن هذا المفهوم ناجم عن رؤية تخصصية للقضايا الاجتماعية بصيغتها العامة، لذلك يجب أن يتركز على حالات خاصة محددة.
في ضوء ما ذكرناه، فإن كفاءة الحكومة الدينية مقارنة بسائر الحكومات غير الدينية، إشكالية لا يتاح لها من الناحية النظرية أن تتخطى سلسلة من الكليات العامة. ولكن في خصوص «الجمهورية الإسلامية» كنظام سياسي سعى أن يبني دستوره وممارساته على أساس قوانين الدين الإسلامي والمذهب الشيعي، يتسنى الإشارة إلى بعض الحالات بنحو أكثر تحديداً، بيد أن تفصيل ذلك يستلزم دراسات ميدانية موسعة على شتى الصعد، وتشخيص المشكلات بصورتها التفصيلية الدقيقة. ومثال ذلك، التحقيق في النزعات العامة أو الخاصة في سلوك موظفي الدوائر، أو غيرها من الحالات والموضوعات المحددة الأخرى التي يمكن أن تتمخض عن نتائج معينة واضحة لا لبس فيها، ما يضفي على التحقيق صبغة تطبيقية. وبغير ذلك فإن أي مناقشة لموضوع الكفاءة لن تكون مجدية مفيدة، إذ أنّ الهدف الأصلي من التداول في قضية الكفاءة هو تشخيص الثغرات وردمها، وليس إلغاءً شاملاً للنظام بمفهومه السوسيولوجي.
ما يمكن الإلماح إليه نظرياً وبصورة موجزة طبعاً، هو أنّ الحكومة الدينية (الإسلامية) تلتزم شروطاً وقواعد رغم أنّها مطلوبة لأجل الإنسان، غير أنّ الإنسان ليس هو مصدرها وصانعها. النقطة الرئيسة في هذا المضمار هي وجود «الأحكام» وضرورة تطبيقها، الأمر الذي يكشف المنحى الانثروبولوجي في الدين الإسلامي. لقد عالج جان جاك روسو ضرورة وجود مشرع متعالي على الإنسان بدقة مميزة في كتابه المعروف «العقد الاجتماعي»:
لأجل اكتشاف أفضل القوانين النافعة للأمم لا بدّ من عقل أرقى يرصد ويرى جميع الشهوات الإنسانية لكنه لا يشعر بأي شيء، ولا تكون له أية صلة بالطبيعة، إلاّ أنه يعرفها حق المعرفة. ولا تكون سعادته مرتبطة بنا بيد أنه على استعداد لمساعدتنا من أجل بلوغ السعادة. وأخيراً يجب أن يكتفي بمفاخر يعلن عنها بمرور الزمن، أي أنه يقدم الخدمات خلال قرن من الزمان، ويحصد النتائج في القرن التالي[31].
والواقع، بما أنّ الإسلام يتوكأ على الأحكام بوصفها إطاراً للعمل والممارسات، وكذلك إمكانية تغيير الأحكام الموجودة (الأحكام الثانوية) واستنباط أحكام جديدة، لذلك كان من واجب الحكومة الدينية تمهيد الأرضية وتوفير المقدمات اللازمة لترشيد الإنسان باتجاه بلوغ الأهداف المتسامية. وهكذا لا ينهض النسق الاجتماعي على مجرد الوجدان والوعظ الأخلاقي. وهذه نقطة على جانب كبير من الأهمية يؤدي إغفالها إلى إحباط النقاش حول الحكومة الدينية وضروراتها وما تواجهه من تحديات ذلك أنّ المائز الرئيس بين الحكومة الدينية (الإسلامية) والحكومات غير الدينية يعود إلى المعرفة بالإنسان وبالعالم وطريقة إدارته. الأخلاق والأحكام والحقوق تشابكه في الإسلام، والإنسان ـ فرداً ومجتمعاً ـ يفسر حياته ويتحرى معناها ابتناء على مكانته في نظام الخلقة. أمّا الحكومات غير الدينية فبفصلها بين الدين والسياسة وإيحائها بتفاسير مادية بحتة للحياة، تقحم ضرورة الحياة ومعناها في غموض عميق وشكوك لا علاج لها ولا إجابات ناجعة.
هذا ادعاء كان يمكن تأييده والقبول به، وحسبنا أن نلقي نظرة إلى تجارب عدة قرون من المكابدات الفكرية العملية للأنظمة السياسية ـ الاجتماعية في العالم الغربي. فقد حاول الغربيون في العصر الحديث عبر الابتعاد عن قيود دينهم ـ الأمر الذي شمل كافة الأديان تدريجياً ـ من ناحية، والإفادة من محصلات النزاع بين القوى الداخلية للأفراد، وإيجاد منظومات اجتماعية وسياسية واقتصادية مؤثرة في السيطرة على السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان من ناحية ثانية، الخلوص إلى صناعة مجتمع أفضل وأرقى. على أنهم أخفقوا في ذلك، أو قل إنّهم لم يحرزوا نجاحات ملحوظة.
في كتاب «الأهواء النفسية والمصالح» يستقي آلبرت هيرشمن من مصادر ألمانية وبريطانية وفرنسية ليعالج الوضع الراهن في الغرب، ويقول:
الإصرار على أخذ الإنسان «كما هو فعلاً» له إيضاحه البسيط. انبثق خلال عصر النهضة ظن أضحى عقيدة راسخة في القرن السابع عشر، فحواه أن كتب الأهواء النفسية المدمرة للإنسان ما عاد متاحاً بواسطة فلسفات وعظية حكمية دينية، إنّما يتعين التوسل بأساليب جديدة.. عموماً ينبغي انطلاقاً من صياغة نموذج الأفعال الإنسانية، اكتشاف أساليب أعمق تأثيراً من المواعظ الأخلاقية أو الإنذار من العذاب الإلهي[32].
ويكتب في خاتمة الكتاب كاستنتاج ذي منحى محافظ تجاه الرأسمالية:
في أحد أبهر وأنفذ.. النقود ] على الرأسمالية [ جرى التشديد على الطابع الكبتي والاغترابي للرأسمالية. وهو الطابع الذي يحول دون تمدد «الشخصية الإنسانية المتكاملة». وهذه تهمة تعد من وجهة نظر الرسالة الحالية غير منصفة بعض الشيء، إذ لم يكن المتوقع من الرأسمالية غير هذا أساساً. بل كان المقرر أن تكبت بعض الدوافع والنزعات من أجل خلق شخصية إنسانية تبتعد قدر الإمكان عن التعددية في الإبعاد والقدرة على الإدهاش، وتقترب ما أمكن من النمطية والأحادية»[33].
بملاحظة جوانب كثيرة أشرنا إلى بعضها في السطور السابقة، يمكن القول أن هداية الإنسان صوب التعالي والحرية والكمال وئدت بقسوة وأفرغت من معناها. بتعبير آخر ما تحقق في العالم الإنساني أثر المساعي الفكرية والعملية لقرون طويلة بدا ضئيلاً هزيلاً بامتياز مقارنةً مع ما تحقق من تطورات تقنية، والسبب هو إهمال وكبت بعض الحاجات الفطرية للإنسان ومنها نزعته إلى الدين.
وبهذا ظهرت الحكومات غير دينية نتيجة تأليه الإنسان ومركزيته وبث روح العصبية المجانبة للدين والمحاربة له في تكوين الرؤى وانتقاء السلوكيات، إلاّ أن مجتمعات وسياسات أفضل وأكثر إنسانية لم تظهر إلى النور نتيجة تلك الأنساق النابذة للدين.
يسوق العلاّمة الطباطبائي دليلاً جد لطيف في هذا الباب إذ يقول: إنّ القوانين البشرية تشرف على أعمال البشر، لا على مشاعرهم الداخلية وأحاسيسهم الخفية، والحال أنّ الاختلاف ينبع من الشعور الداخلي والأنانية والأحاسيس الخفية[34].
ويشير كذلك في بحث حول التباينات المنهجية بين الحكومة الدينية والحكومات غير الدينية، إلى جملة نقاط منها ذلك المنهج الذي أوضحه هيرشمن، أي التوكيد على «المصلحة» و«النفع» كمرجع في العلاقات الاجتماعية بالمفهوم الواسع للكلمة. يقول العلاّمة الطباطبائي إن من أكبر التفاوتات بين هذا المنهج والمنهج الإسلامي هو أن هذه المجتمعات بما أنها تقوم على أساس التمتع واللذة والمصالح المادية، لذلك تسودها روح الاستثمار والاستخدام وهي روح التكبر الإنساني التي تخضع كل شيء لإرادة الإنسان وممارساته العملية. وحتى الإنسان تخضعه لإرادة الإنسان وأعماله. إنّها روح تسمح بالوصول إلى أي شيء عن أي طريق كان، والهيمنة على كل شيء يهواه الإنسان ويتمناه لنفسه ولمصلحته. إنّه منهج لا يختلف بشيء عن الاستبداد الملوكي الذي ساد خلال الأعصار الماضية، وتحول الآن إلى اجتماع مدني[35].
باختصار، لنا أن نقول أنّ الركون إلى الأحكام الإلهية والقبول بضرورة تطبيقها، تجعل الحكومة الدينية أعمق تأثيراً من سائر الحكومات، باعتبار أنها تفيد في مقام إدارة الشؤون الإنسانية، من معارف متعالية على البشر. وطبعاً لا ننسى أن هذا الأمر يعد من أصعب المشاريع على مستوى العمل، ويحتاج إلى معرفة ووعي وإمكانات كثيرة في شتى المجالات تخول الحكومة الدينية إيجاد مقدمات تسامي الإنسان، وتثمير مواهبه وتفجير طاقاته.
الموضوع الآخر الذي لا بدّ من الإفصاح عنه في هذه العجالة هو الرؤية التوحيدية في الحكومة الدينية، والتي تسفر عن انجاز إبداعات وابتكارات مذهلة باعتبارها نموذجاً ورمزاً لعبودية الله والتحرر من الرضوخ لهيمنة الآخرين. إن نعمة الحرية والانعتاق من فكرة الاستسلام للآخرين، تحقق للإنسان عزته وكرامته، وتجعله قادراً على عدم الضياع وسط تكثرات العالم، والسير في طريق السعي لإدراك الوحدة في عالم الوجود وتعزيز الرؤية التوحيدية. وهكذا تتبلور روح مناؤة التكبر ومجابهة المستكبرين كصفة ايجابية على شكل ملكة دائمة في السلوك الفردي والاجتماعي والحكومي. وكمثال من السلوك الحكومي، تمكن الإشارة للالتزام بقاعدة نفي السبيل[36].
إن أهمية هذه الرؤية تتضح أكثر إذا ما استحضرنا طبيعة التشتت والفصام السياسي في عصرنا الحاضر، والتعدديات الكاذبة التي تشيع في العالم اليوم بناءً على أنانيات البشر ومحوريتهم في تنظيم المطاليب والقيم، وتتسبب في الكثير من المصائب والويلات. يثير المفكر الفرنسي ميشيل فوكو نقطة ملفتة في خصوص ماهية السياسة المعاصرة، بمقدورها تعميق وعينا لهذه الموضوعة أكثر. فهو يرى أنّ «السياسة ليست ذلك الشيء الذي تحاول هي إظهاره والإيحاء به، أي تبلور إرادة عامة، إنّما السياسة لا يمكنها العيش والتنفس إلاّ في مناخ تكون فيه تلك الإرادة مبضّعة ممزقة مترددة تائهة، وغير واضحة حتى في عينيها هي»[37].
وعليه، كلّما تضاعف الوعي التوحيدي للعالم، ازدادت السياسة إنسانيةً، وبمقدار ما تخفت الرؤية التوحيدية، يزداد التشتت والتمزق والتناشز، وهذا واقع نشاهده اليوم أمام أعيننا. وبإيجاز يتسنى القول بما أنّ الحكومة الدينية تعترف رسمياً بحضور الدين وقيوده، فهي تتمتع بصلاحية وإمكانية توفيق أعلى من الحكومات غير الدينية الجانحة إلى إقصاء الدين عن المسرح الاجتماعي. بيد أن هذه المهمة تستلزم بطبعها كوادرها وإمكاناتها الخاصة حتى يتسنى استيعابها والعمل بها. وإذن، تربية الإنسان هي المتغير الأصلي في نجاح وتحقق الحكومة الدينية.

بخصوص تقييم الآثار العملية لإسهام الدين في السياسة ونظام الحكومة في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية وضمن إطار الجمهورية الإسلامية، من الضروري دائماً استحضار نقطتين: الأولى الأرضية الاجتماعية الرصينة العميقة للدين الإسلامي والمذهب الشيعي في إيران. والثانية أحقية الدين الإسلامي. الجدير ذكره انّه على الرغم من عدم إمكانية إنكار وجود بعض الخرافات والعقائد المنحرفة المحسوبة على الإسلام، بيد أن أحقية الإسلام كدين إلهي تخولنا التحدث عن علاقة المخلوق بالخالق. وهي علاقة شعر بها الإيرانيون في شتى أطوار حياتهم فدفعتهم دوماً نحو الدين ونحو المحافظة المستمرة على هذه العلاقة واستحضارها أثناء المبادرة إلى أي فعل أو نظر. وبالتالي فمن الواجب عند فحص سلوك الإيرانيين وتحليله أخذ هذا المتغير المهم بنظر الاعتبار. لقد كان للدين وعلماء الدين دور حاسم في توجيه الجماهير الإيرانية صوب الثورة على النظام الشاهنشاهي، وقد اعتمد قائد الثورة الإسلامية على العامل الديني في تكريس حقوق الشعب بعد انتصار الثورة الإسلامية، وإتاحة الفرصة لمساهمة أكيدة للنساء والرجال الإيرانيين في مختلف الصعد، ومنها على سبيل المثال الحرب المفروضة التي تحولت بفضل العامل الديني إلى ملحمة دفاع مقدس أنتجت قوات مثل «التعبئة» وأهدت الثقافة التعبوية كمفخرة خالدة، بينما لم يكن بالمقدور طبق كل المعايير والقواعد المعروفة إدارتها والسيطرة عليها. كما استطاعت هذه الملحمة في عالم تسير فيه «الشجاعة» حسب ثقافة قوته العظمى صوب الضمور والاضمحلال[38]، أن تربي أفراداً شجعاناً يصنعون التاريخ، وتبشر بعالم جديد يقوم على أساس العدل. إن إحياء ثقافة الاستشهاد أو روح عدم الفزع من الموت على حد تعبير الشهيد بهشتي، أدى إلى اضطراب المعادلات المألوفة القائمة على المصالح المادية والأموال فقط، وخلقت قوة جديدة تدعمها الحكومة الدينية والقيادة الدينية العارفة بحقيقة الدين.
إن استعادة استقلال البلاد وإنهاء أطماع ونهب الأجانب لخيرات الشعب، مما جرى التشديد عليه في الدستور، وتحقق على المستوى العملي فعلاً، واليوم فإن إيران تجرب عهداً جديداً لكنه صعباً بفضل التعاليم الدينية ورصيدها التنفيذي، والحكومة الدينية المتمثلة في إطار نظام الجمهورية الإسلامية. إنّه عهد تتكرس فيه القدرات الفتية للجمهورية الإسلامية باضطراد، ولهذا تواجه تحديات حقيقية من قبل القول الكبرى والمستكبرة في العالم. وبكلمة أخرى، فإنّ القوى الكبرى، أُرغِمت على قبول إيران الإسلامية وحكومتها الدينية كمنافس قوي، فراحت تضع المخططات للتأقلم معها أو القضاء عليها. عموم تدل هذه الحالات على وجود نعمة «الثقة بالنفس» في إيران الثورة، وإن بوسع هذه السيماء معالجة وتذليل جميع الصعوبات. ومن الأمثلة على ذلك إحراز تقدم ملحوظ في التقنية النووية والقدرة على إنتاج وتكثير وتجميد خلايا الإنسان الجنينية.
والملفت للانتباه إلى جانب هذه الأمور، هو صناعة مفهوم القيادة، وتقديمه عملياً على مدى عشرة أعوام من إدارة الحكومة بملاحظة تعاليم الدين الإسلامي وقيمه. إن هذا واقع لا ينكر وقد اعترف به حتى الأعداء، وتكمن أهميته الكبرى في خلق «الإيمان» بـ «إمكانية» التحرك نحو السلطة وامتلاكها في سبيل ترشيد الإنسان وتساميه وتطبيق العدالة. بتعبير آخر، يمكن الاقتراب من السلطة من دون التلوث بالفساد، وليس هذا وحسب بل واستخدامها فى سياق تحقيق العدالة والحرية. هذا في حين يرى ويعترف المفكر الفرنسي العميق والذكي الكسي دوتوكويل «إن مما لا يمكن إخفاؤه أنّ المؤسسات والأعراف الديمقراطية تثير الحسد بشدة في قلب الإنسان»[39]. ويعتقد أن «إن عامة الناس لا تتاح لهم أبداً الفرصة والوسيلة لمثل هذا الاختبار ] سلسلة دراسات مستفيضة ومعارف منوعة [ فهم يخدعون دائماً بالضرورة. فالنصابون يعرفون أفضل من غيرهم أسرار اجتذاب الجماهير وإرضائهم، بينما يخفق معظم أصدقاء الجماهير الحقيقيون في هذا الطريق»[40].
يذهب توكويل إلى أن عالم السياسة يستلزم حيلاً ومخادعات تزهد الأتقياء فيها، فيعزفون عن المشاركة في ميادين السياسة حفظاً لتقواهم وطهارتهم، والجماهير عاجزة هي الأخرى عن معرفة المدراء والتنفيذ بين الأفضل، وبالتالي يتعذر «الانتخاب الجماهيري» و «القيادة المتقية» في الحكومة الجمهورية. من هنا أمكن القول أن أحد أعظم مكتسبات الثورة الإسلامية هو قيادتها، التي رغم أنها تعد من أسباب الصحوة الثورية واستمرارها، إلاّ أنّها من ناحية أخرى صنيعة هذا الكفاح الطويل. وهذا على غرار ما كان يؤمن به هذا القائد الكبير من أن : في القيام لله تتأتّى وتحصل معرفة الله[41].
وعلى هذا، فقد تمّ تقديم مركباً من القيادة الجماهيرية ومحورية الدين للعالم المعاصر، يتعارض بصراحة مع الفهم الشائع لـ «القيادة السياسية»، خصوصاً وإنّ النظرة السلبية للدين بل ومعاداة الدين، لم تترك أي مجال لنظرة ايجابية للجمع بين القيادة السياسية والدينية، كمشروع لاستثمار السلطة من أجل حماية مصالح عموم أفراد المجتمع. ويبدو أن استيعاب القيادة الدينية في عالم سياسي يُعرّف بدون عنصر الدين ليس له معادِلاته المناسبة. فحينما يراد تصور القيادة في إطاره، ستهبط وظيفة القيادة من قمة «الهداية» إلى قاع «السيطرة»،ولهذا لا يتاح الحديث عن علاقة بين القائد والجماهير، وإذا ما وجدت شواهد لذلك، فلن تكون أكثر من مصاديق لخداع الجمهور. ومن المناسب أن نعلم أن مفردة السيطرة (كنترل) في الترمينولوجيا الانگلوساكسونية عادة ما تستخدم بمعنى السلطة والقيادة والإدارة وفرض القيود. فمثلاً، إدارة شؤون البلاد وقيادة الأنشطة الجماعية من مصاديق السيطرة. ففي الرؤية الانگلوساكسونية تعتبر كل أنواع التدخل والتأثير في سلوكيات الآخر وقراراته شكلاً من أشكال السيطرة[42].
وعلى هذا، بادرت قيادة الثورة توكّأً على التربية الدينية وجهادها المتواصل، إلى تأسيس وهداية نظام سياسي جديد، تمتعت فيه حقوق الشعب، فضلاً عن الحكام، بمكانة جد رفيعة. وهذا ما كانت له مصاديقه لا على مستوى الشعارات والخطابات وحسب، بل وفي الدستور وعلى المستوى العملي أيضاً، كإقامة الكثير من الانتخابات الحرة في البلاد، كما أن سلوك ومنهج الإمام الخميني كقائد سياسي ـ ديني للحكومة الإيرانية بعد شباط 1979م أدّى إلى استمرارية الثورة الإسلامية حتى بعد وفاته خلافاً لبعض الآراء والتكهنات، وإلى معالجة موضوع «البديل» المعقد والحساس والصعب جدّاً، بكل يسر وايجابية وسرعة وسهولة ودقة، وعلى أساس ذات المسار الذي كان في البداية. فتواصلت القيادة بمعناها الجديد ـ وهو القيادة السياسية إلى جانب معرفة وملاحظة القيود الدينية ـ على شكل مؤسسة قانونية مؤثرة في تطوير نظام الجمهورية الإسلامية وتحقيق أهداف الثورة الإسلامية.
والآن، من الحري أن نسلط الأضواء شيئاً ما على الأرضيات والتجليات الاجتماعية لعناصر الثقة بالنفس، والعزة الدينية، ونماء المعارف العملية، لنكون قد تلمسنا بنحو أوضح ظواهر التعاون والتماشي بين الحكومة والجماهير. سنتابع هذا الموضوع في الأقسام اللاحقة مشددين على محور «تعميق التدين» في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية.
ـ التدين بعد الثورة الإسلامية :
مقدمة :
أفضل مدخل للبدء بتناول هذا الموضوع، هو التنبه إلى تعقيد مفهوم «التدين». ولما كان التدين غير مقصور على بعض الآداب الظاهرية، بل هو علاقة نوعية وداخلية أساساً، لذلك من الصعوبة بمكان حبسه داخل أقفاص الإحصاءات والمقاسات الكمية. بناءً على ذلك قدّم البعض اقتراحات قمينة بالتأمل والنظر، تعود في أصلها إلى تعقيدات مفهوم التدين وأهميته وعمقه.
عموماً، تبقى إشكالية التدين قضية حساسة، ومن الصعب البت في نسبته ودرجته، فحسب المعايير المختلفة قد تتأتى نتائج متضادة حول هذا الموضوع. فما هو حقاً معيار التقييم الصائب ؟ وعلى أساس أية مؤشرات يتسنى تقييم التدين ؟ من الجلي أنّ الإجابات يمكن أن تكون متعددة بنحو ملحوظ.
رؤيتان متباينتان حول واقع التدين بعد الثورة الإسلامية :
من زاوية يمكن الذهاب إلى خفوت التدين وانحساره بعد الثورة الإسلامية، والقول : في الفترة الراهنة، سجّل التحول الايجابي للقيم الاجتماعية تراجعاً بالقياس إلى الفترة التي أعقبت انتصار الثورة[43].
كما يمكن تبني الرؤية القائلة : تدل المشاهدات التجريبية، وتصريحات العاملين في المساجد، والحوارات الاكتشافية الأولية التي أجريت مع بعض الناس العاديين، وطائفة من الناشطين في المساجد، على انخفاض في ارتياد الناس للمساجد مقارنةً إلى عهد الثورة (1977 ـ 1979) والسنوات الأولى التي أعقبتها (1979 ـ 1981). وبالتالي يثار حالياً هذا السؤال بإلحاح : ما هي أسباب هذا الانخفاض ؟ لماذا هي منقوصة وخالية صفوف صلاة الجماعة ؟ لماذا لا يلاحظ الوجد والحيوية التي عمت المساجد أواخر عقد السبعينات ؟ لماذا هذا الضعف في الإقبال على مكتبات المساجد، صفوفه التعليمية، ومحاضراته وسائر أنشطته[44] ؟
مضافاً إلى النظرات، ثمة من الأبحاث والدراسات ما يؤازر هذا المعنى. على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى تحقيق اتّبع فيه صاحبه الاحتياط العلمي، وكتب مستخدماً عبارة «يبدو» : «يبدو أنّ الميول والنزعات الدينية للناس قد انخفضت منذ مدة (قياساً إلى مطلع الثورة وما ساد تلك الفترة من وجد وفورة دينية)... إن إجابات مَنْ طرحت عليهم الأسئلة حول أربعة مؤشرات للقيم الدينية هي : إيمان الناس بالدين، قبح عدم مراعاة الحجاب، احترام المرتدية للعباءة (الشادر)، مودة رجال الدين، تسجل تغييرات ملحوظة في عام 1992 قياساً إلى ما كانت عليه سنة 1986، وقد أعدنا جدولة النتائج كما يلي :
السـنة 1986 1992
إيمان الناس بالدين 3 / 89 2 / 43
قبح عدم مراعاة الحجاب 2 / 86 5 / 41
احترام المرتدية للعباءة 8 / 81 8 / 36
مودة رجال الدين 7 / 86 3 / 32
وتشير مشاهدات أخرى إلى وتيرة التراجع هذا في المدن الصغرى أيضاً[45]. ويلمح في هذا المضمار إلى قول للشيخ قرائتي فيكتب : الشيخ قرائتي باعتباره شخصاً يشعر بالمسؤولية على هذا الصعيد، أشار في محاضرة له في المؤتمر الثاني لجهاد البناء بتاريخ 22 / 3 / 73 (12 / 6 / 1994) في جامعة الشهيد بهشتي (الجامعة الوطنية الإيرانية) إلى هذا المضمون قائلاً : هل تعلمون أن في طهران والنمسا نفس العدد من المساجد ؟ السبب هو أن في النمسا مسجدين أو ثلاثة وفي طهران أيضاً لا يوجد إلاّ عدد قليل من المساجد الناشطة[46].
الملفت انّه في آخر الكتاب وككلمة أخيرة يذعن لرسوخ الإيمان الديني في صميم حياة الإيرانيين، ويستدل بحسم : إن لنا ديناً يضرب بجذوره وتأثيراته عميقاً في شخصية أفراد المجتمع، ومن المستحيل أن ينفصل عنها. ما أكثر ما نلاحظ من الأفراد في حرم الإمام الرضا (ع) قد لا يتجانسون ظاهرياً مع ما نتوقعه من الأفراد المتدينين. وكثيراً ما شاهدتُ في محلتنا سيدات يصنّفن بحسب الظروف الراهنة على «سيئات الحجاب» أو المتبرجات، لا يرتدين جوارباً في أقدامهنّ ويلبسن مانتوات[47] مفتوحة تظهر أجزاءً من أجسامهنّ، لكنهنّ مع ذلك يتجهن صوب صناديق الصدقات يضعن فيها بعض المال. فما هذا ؟ إنّها عقيدة ! ربّما كان هذا غير مقبول لدى الله في نظر البعض، بيد أن هذه أحكامنا وليس أحكام الله. إنّها عقيدة مهما كان الأمر، أرضية وقابلية عالية للالتزام الديني. يقول جلال الدين الرومي :
(نزل الوحي على موسى من الله لقـد أبـعــدتَ عـبــدنا عـنّا، لقـد بـعثـت مـن أجـل الوصــال ولم تبعث من أجل القطيعة).
لقد أثبتت جماهيرنا بأعدادها الغفيرة ومظاهرها المتباينة (حديث وتقليدي، متشحة بالعباءة وغير متشحة... ) في صلاة عيد الفطر التي تقام في الصباح الباكر الشديد البرودة (21 بهمن 1375 ـ 10 شباط 1997م) حيث تسجل درجة الحرارة خمسة درجات إلى سبعة تحت الصفر، إنّهم في أعماقهم ودواخلهم ملتزمون بالمبادئ الدينية ومستعدون للتضحية من أجلها، وهذه قابلية هائلة[48].
وهكذا، يمكن من زاوية معيّنة واستناداً إلى بعض الشواهد رسم صورة سلبية لراهن التدين في إيران. ولكن ينبغي التفطن أن ثمة شواهد أخرى تفصح عن آفاق مختلفة، أوردنا بعضها في سطور سابقة نقلاً عن فرامزر رفيع بور. مضافاً إلى ذلك، بالإمكان الإشارة إلى زيادة عدد الكتب الدينية الصادرة بعد الثورة الإسلامية، والدالة على وجود طلب لها ورغبة في تعميق الثقافة الدينية بين الناس.
في نهاية رسالته الجامعية (ليسانس إدارة ثقافية) يستنتج محمد رنجبري بعد إطلالة على وضع الكتب الصادرة في إيران من سنة 1979 حتى بداية عام 2000م أنّه ما بين 1979 و 2000 كان نسبة عناوين الكتب الدينية هي الأعلى دائماً من بين الكتب الصادرة في إيران... ومن بين الكتب المترجمة في العقد الأوّل بعد انتصار الثورة الإسلامية، كان الرقم الأعلى من نصيب الكتب الأدبية والدينية... كما كان أكثر توزيع للكثرة (على الرغم من التذبذبات) بين الكتب المؤلفة، خاصاً بالمجال الديني...[49].
وإلى جانب هذا، فقد أجري تحقيق حول قيم الإيرانيين وتصوراتهم، يدل على أن 90 بالمئة من الإيرانيين يثقون بأفراد عوائلهم إلى أقصى درجات الثقة، وما فُتئت مؤسستا الدين والعائلة تحتفظان بقدراتهما وقوتهما بين القيم والمبادئ عند الناس... ويصل الإيمان بالدين في العوائل إلى 95 بالمئة[50]. الأبحاث الأخرى التي قارنت بين حالة التدين في عهدين زمنيين، تشير أيضاً إلى أن «مستوى تدين الشباب في عام 1999م ازداد قياساً إلى عام 1995م»[51].
النتيجة :
تبيّن لحدّ الآن، أن هناك إجابتين متباينتين على الأقل حول حقيقة التدين بعد انتصار الثورة الإسلامية، لكل منهما أنصارها والقائلون بها. ولكن حيث أن كل واحدة من هذه النظريات والرؤى تستند إلى بعض الشواهد والقرائن لا إلى كافة الحقائق الموجودة، فهي غير قادرة إذن على تقديم صورة متكاملة للموضوع يمكن الوثوق بها نهائياً. إن موضوعة التدين في إيران معقد وصعب كما أسلفنا، ولن يكون بمستطاعنا تقييمه بنحو سليم إلاّ إذا وضعنا النظريات الموجود بجانب بعضها لا في مقابل بعضها. والآن يمكننا باستحضار هذه النقطة الخلوص إلى ما نتبناه من نتائج. الحقائق التي سنستعين بها لتكوين رؤيتنا هي كما يلي :
1 ـ وجود النزعات الدينية في المجتمعات المختلفة على طول التاريخ، والإسهام المؤثر والقطعي للدين في حضارات العالم، بمعنى أن حقيقة وجود الدين في المجتمع ضمن علاقته بالسياسة وصناعة الحضارة ليس مجرد أمل إيماني، بل هو واقع معاش. وكما يقول ماكس. ل. استكهاوس : إنّ الوعي الأوسع والأعمق للتاريخ والحضارات يدل بوضوح على أنّ السياسة والدين مترابطان مع بعضهما بصفة ضرورية. فالدين يؤثر في السياسة بمقدار ما يتأثر بها على أقل التقادير[52].
2 ـ نمو التدين حالة تدريجية وليست خطية.
3 ـ عراقة الإيمان الديني في إيران.
4 ـ هشاشة المعايير الظاهرية لتقييم حالة التدين. فعلى سبيل المثال كان الإيرانيون حسب الظاهر أكثر تديناً في عقد الخمسينات والستينات منهم في عقد السبعينات، لكن هذا العقد انتهى بثورتهم الدينية (الإسلامية). نظراً لهذه الحقائق، يبدو عدم الجزم في الحكم على واقع التدين، موقفاً طبيعياً لا بدّ منه.
5 ـ تعاليم القرآن الكريم حول التحدي، وتربية العناصر المؤمنة من أهل التحدي والمناقشة.
6 ـ موضوعية الغزو الثقافي المتمحور على محو المكونات العقيدية والإيمانية كمحرك أساسي لبناء الفرد والمجتمع، لها تقريباً تاريخ يوازي تاريخ علاقة إيران بالغرب، وقد تضاعفت بنحو مشهود بعد انتصار الثورة الإسلامية. فلو كان التدين قد خبا في إيران حقاً، هل كانت عقلانية أعداء الثورة الإسلامية وتفكيرهم الاقتصادي سيسمح لهم بإنفاقات أرصدة باهظة على هذا الشأن ؟
7 ـ إن موضوع التدين وعلاقته بالأبعاد المختلفة للحياة الاجتماعية، لا يرتبط فقط بنظام الجمهورية الإسلامية، فالتدين في المجتمع المعاصر تحد ناجم عن متطلبات الفطرة الإنسانية، وضرورة معننة الحياة من ناحية، وتعليم الحياة النمطية (أحادية البعد) والإكراه عليها في العالم المعاصر وهو ما لاقى رواجاً واسعاً وليس قبولاً واسعاً، من ناحية ثانية.
8 ـ لم يكن للتدين بأبعاده الاجتماعية الرئيسة سابقة تجريبية في الحياة المعاصرة، فالثورة الإسلامية في إيران وفي إطار نظام الجمهورية الإسلامية تعد سبّاقةً ووحيدةً في إرادة هذه التجربة والمبادرة إليها. وبالتالي لا تتوفر لدينها سوابق تذكر في العصر الحاضر تتيح لنا المقارنة والإفادة من الملاحظات والاستنتاجات. وهكذا تتضاعف المشكلات أكثر بكثير مما يجري تصوره، والسبب الرئيس في ذلك هو البون بين المعلومات والإرادات، وبين الحقائق غير المعلومة التي تتبدى للعيان رويداً رويداً، ما يجعلها باهظة التكاليف.
9 ـ الظروف الاجتماعية المعقدة في إيران، وخروج الحياة من النسق السابق أثر التحولات التي سبقت الثورة الإسلامية، مضافاً إلى الثورة ذاتها، وتطور الاتصالات ووسائل الإعلام في العالم، أثارت حيال الإيرانيين العديد من التساؤلات يخص بعضها بتدينهم في الماضي، وتنوع سلوكياتهم الظاهرية، تدل كلّها على مكابدة تحديات جادة فيما يتعلق بمرتكزات عقائدهم وسلوكياتهم الدينية. وفي التذبذبات السلوكية دلالة على تذبذبات في عمليات الإجابة عن التساؤلات المثارة. والنتيجة هي أنّ المفزع ليس طرح التساؤلات ـ وهذا ما لا مناص منه ـ بل الإجابات التي تنحت لها. من هنا كان مستقبل التدين في إيران منوطاً إلى حد بعيد بالإجابات التي تحظى بالثقة والقبول، لذلك يتعين توجيه الجهود والاهتمام صوب تعزيز الإجابات وقدراتها الاقناعية، وصحتها وصوابها، لا من الناحية المبدأية والمضمونية وحسب، كذلك من حيث ظروف المخاطبين والواقع الموجود داخلياً وخارجياً (دولياً).
انطلاقاً من الحقائق التسع أعلاه يجوز القول : إن انتصار الثورة الإسلامية أفرز الكثير من الأسئلة في الحقل الديني، وأفضى إلى تسليط الأضواء على الدين، وسحب الآراء الدينية إلى حيز الحكومة والسلطة. في مثل هذه الطرف تتم مقاربة الدين وتجربته وتطبيقه بصفة جماعية عامة على مستويات واسعة، في حين لا تتوفر معرفة كافية وخبرة عملية للنهوض بمشروع على هذه الدرجة من الضخامة ـ دخول الدين إلى ميدان المجتمع والسلطة ـ وبالتالي يمكن الخلوص إلى إنّنا في إيران حيال تحول ديني غير مجرب وغير معروف، ولا يتمتع بالطاقات والأدوات الكافية رغم طرح المسائل المختلفة وشوق الإجابة عنها، لكن بمقدوره رغم ذلك التوصل إلى نتائج جد ايجابية في حال إبداء مزيد من الجد والاجتهاد. إن نقطة البداية في هذه القضايا الحيوية والخطوات التاريخية، هي إلغاء النظام البهلوي وقاعدة إطاعة الحكومة الشاهنشاهية، وانبثاق ثقافة الطاعة القائمة على أساس الوعي والتعقل والانتخاب بدل الطاعة العمياء لتقاليد الآباء والأجداد. والجدير بالذكر أن مواصلة هذه التحولات الايجابية ونمو حالة التدين المقترنة بالوعي، كانت أكبر بكثير من التخطيطات والبرامج الحكومية، وما يتبدى من خلال مقارنة إجمالية هو الفارق الكبير بين تدين ما قبل الثورة وتدين ما بعد الثورة. حيث كان الدين والتدين قبل انتصار الثورة خارج نطاق السياسة ومحصوراً داخل مجال ضيق، أمّا اليوم فالدين معترف به رسمياً على صعيد السياسة وبالمعنى الواسع للكلمة، لذلك فهو يواجه تحديات عديدة، وحالات تنافس وصراع قد تفضي إلى تطوره ونضجه، وهو ما يرتبط بقدراتنا وأساليبنا في الأداء. وإذن، مواجهة الاستفهامات الصعبة العصية مع انّها تقلص ظاهرياً من تركيز السلوكيات الدالة على التدين، بيد أنّ التفكر في الدين الذي يدعو بكل توكيد إلى التفكير في مرتكزاته، يمكن أن يعد بحد ذاته استجابة متشوقة لدعوة الدين. وعليه، ستتوفر الأرضية لإحياء التفكير الإسلامي والرؤية التوحيدية أكثر فأكثر، رغم ما يعتور هذا السبيل من عقبات وصعوبات، ورغم الطابع التدريجي للتحرك في هذا الاتجاه.
بناءً على ما ذكرنا، تبدو التذبذبات السلوكية في إطار التدين في إيران ظاهرة لا محيص منها، وهي إلى ذلك ايجابية، وحرية بالاحترام والتدبر والتحليل. والإجابات التي تحرز الثقة في نهاية المطاف هي التي تقرر مصير التدين في إيران، وإذن، لنسع في تقديم إجابات متينة مناسبة.
ـ مراجعة للمساعي العلمية بعد انتصار الثورة :
ترابط العلم والحكومة يعتبر من الحقائق المشهودة في العالم المعاصر. لذا كلّما تضاعفت القدرات العلمية، ازدادت بذلك قدرات الحكومة. من جهة أخرى فإن تبعية الحكومات بالمعنى غير الطبيعي والسلبي للكلمة، يسفر عن تخلخل النمو العلمي، وعدم إتباع الأساليب والأولويات بشكل يتناغم مع المتطلبات الحقيقية للبلاد حاضراً ومستقبلاً. مثل هذا الواقع كان ملحوظاً قبل انتصار الثورة الإسلامية. ومراجعة للأرقام والإحصاءات تشي بعدم وجود مشاريع تأسيسية مناسبة لإسهام فاعل في التنافسات العلمية العالمية. وطبعاً كانت تتخذ خطوات معينة في حقل التعليم والبحث العلمي، بيد أن عنصر الارتهان لهيمنة الأجنبي كان يحول دون برمجة ملائمة للإمكانات والقابليات. وعلى حد تعبير الدكتور أزغندي : إذا قارنا نسبة تكاليف التربية والتعليم في الميزانية العامة للدولة إلى الدخل القومي، مع الكثير من البلدان النامية، نستنتج عدم اهتمام بقطاع التربية والتعليم. فمثلاً حينما تكون النسبة المذكورة في الكثير من البلدان كالجزائر 8 / 7 بالمئة، وفنزويلا 4 / 5 بالمئة، وتركيا 3 / 5 بالمئة، نراها في إيران لا تتجاوز 1 / 3 بالمئة[53].
لهذا واجهنا كثرة الأميين في مطلع الثورة، حيث كانوا يشكلون 75 بالمئة من سكان البلاد، ولهذا تمّ إنشاء نهضة محو الأمية في 7 / 10 / 1358 (28 / 12 / 1979) بمسؤولية الدكتور محمد جواد باهنر. وقد قال الإمام الخميني في ندائه بهذه المناسبة: من جملة الاحتياجات الأوّلية لكل شعب مما يعد في مصاف الصحة والسكن، بل وأهم منها، هو التعليم للجميع... والآن قوموا بلا إضاعة للوقت وبلا تشريفات متعبة، لمكافحة الأمية بنحو حاسم وبتعبئة عامة. قوموا حتى يكون الجميع في المستقبل القريب قادرون على الكتابة والقراءة الأوّلية إن شاء الله...[54].
على أنّ النشاطات الثورية المنطلقة بروح الحماس والجد، ابتدأت بكثير من المشكلات. فحالات عدم الاستقرار المتعددة الناجمة عن الثورة من ناحية، ونشوب الحرب المفروضة من ناحية أخرى، أدّت بالمشاريع العلمية إلى الركود، بيد أنّ المساعي والجهود على شتّى مستويات التعليم والبحث العلمي لم تترك عموماً، بل استمرت رغم إنّها لم تدور وتوجه بصورة مناسبة. يكتب الدكتور رضا منصوري في كتاب «إيران 1427» : إنّ التحولات الجامعية بعد الثورة الإسلامية لم تخضع لدراسة تحليلية، فهي تحولات جد مؤثرة وسريعة وهائلة. والنقطة الجديرة بالتدبر هي إنّنا لا نلاحظ أي تفكير تحليلي وراء المحفزات السياسية والاجتماعية التي أفضت إلى هذه التحولات السريعة الهائلة[55].
يذكر انّه نظراً لمواطن الضعف العديد التي تبدت في مستهل المطاف ووجود عقبات كأداء نظير الأمية والنمو السكاني وشبابية المجتمع، فقد أنصبت معظم الجهود على التطوير الكمي للإمكانات التعليمية «في 9 / 4 / 1362 (30 / 6 / 1983م) أعلنت منظمة الأمم المتحدة أن إيران أكثر بلدان العالم شبابية لأن معدل الأعمار عند سكانها 2 / 17 سنة»[56].
وأخيراً، تصاعدت وتيرة التطور الكمي في قطاع التعليم إلى درجة أثار معها بعض المؤاخذات والنقود التي أكدت أنّ التركيز المفرط على التطور الكمي، أثّر سلباً عل كيفية التعليم والبحث العلمي. فمثلاً يعتبر الدكتور رضا منصوري فترة ما بين 1986 و 1996 فترة تضخم في التعاليم العالي، وكتب يقول : في غضون عشرة أعوام ارتفع عدد الطلبة الجامعيين من نحو 250 ألف طالب إلى زهاء مليون و 200 ألف طالب، أي قفز الرقم إلى خمسة أضعاف... هذا التضخم الذي يسجل نسبة 400 بالمئة، أو النمو بمعدل خمسة أضعاف لعدد الطلبة الجامعيين خلال عقد واحد من الزمن، وكذلك التضخم في عدد الجامعات والمراحل والفروع الدراسية، لا سيما مراحل الدراسات العليا، ينبغي أن يقارن بالعدد الثابت تقريباً للهيئات العلمية، وخصوصاً أصحاب شهادات الدكتوراه، وكذلك بعدد الأبحاث والمقالات الإبداعية للباحثين الإيرانيين، والدالة بطبيعة الحال على المستوى النوعي. إن مواصفات التعليم العالي في مطلع التضخم كان دون مستوى المواصفات العالمية، وإذن يمكن التنبّؤ أن هذه المواصفات هبطت أيضاً في السنوات التالية[57].
وقد تحقق نمو كمي سريع في حقل التعليم العام أيضاً. يذكر الدكتور إبراهيم رزاقي نقلاص عن حولية إحصاءات البلاد، عام 1994 : في الإحصاء العام للسكان في 1976، وفي 1986 وإحصاءات السكان الجارية سنة 1991 لمن هم أكبر من ست سنوات، تبين أن عدد المتعلمين على الترتيب 87 / 12 مليون مواطن، و 91 / 23 مليون مواطن، و 96 / 33 مليون مواطنة. وكانت نسبة المتعلمين إلى عدد السكان ممن هم أكبر من ست سنوات هي على الترتيب 47 / 47، و 78 / 61، و 06 / 74 بالمئة. وفي عام 1991 كان الرجال المتعلمون قياساً إلى كل رجال البلد الأكبر من ست سنوات يشكلون 6 / 80 بالمئة، بيد أن هذه النسبة نسوياً كانت 67 بالمئة[58].
الملاحظة الجديرة بالاهتمام في مضمار النمو التعليمي هي انخراط البنات بنسبة عالية في مراكز التعليم العالي. لقد قررت الثورة مكانة لائقة للمرأة، وأدّت الحرب إلى أن تضاعف من مشاركتها الاجتماعية والعملية كعنصر فاعل مفيد. وعلى الرغم من أن هه الطموحات لم تتحقق بسهولة، غير أنّ النتائج انتهت لصالح المرأة. ومن المهم أن نعلم أن هذه النسبة تجاوزت في العام الحالي الخمسين بالمئة، حيث قال الدكتور محمد حسين بور كاظمي معاون مؤسسة الاختبار التعليمي في البلاد لوكالة ايسنا للأنباء : في امتحان دخول الجامعات لهذه السنة كان عدد الفتيات 142 ألفاً و 459 من بين المقبولين النهائيين، بينما لم يتجاوز عدد البنين 87 ألفاً و 869 طالباً تمّ قبوله. وبهذا كانت نسبة البنات 8 / 61 بالمئة ونسبة البنين 1 / 38 بالمئة... كما شكلت البنات 5 / 67 بالمئة من المقبولين عن فرع العلوم الإنسانية بامتحان دخول الجامعات، و 3 / 72 بالمئة من المقبولين عن فرع العلوم التجريبية، و 6 / 72 بالمئة من المقبولين عن فرع اللغات، و 9 / 68 بالمئة من المقبولين عن فرع الفنون الجميلة، و 1 / 47 بالمئة من المقبولين عن فرع العلوم الرياضية[59].
أمّا على صعيد طباعة ونشر الكتب، فقد تحقق أيضاً نمو يوازي النمو الذي شهده قطاع التعليم وفرص التعليم والبحث العلمي، حيث تصاعدت وتيرة نشر الكتب وإعدادها بشكل ملحوظ. كامران فاني يعتبر حقبة ما بعد الثورة انفجاراً في صناعة النشر، ويقول : قبل ذلك كان عدد نسخ الكتاب الواحد كما ذكرنا 3000 نسخة، وإذا بقفزة كبيرة نشهدها مباشرة بعد عام 1979، إذ وصل عدد النسخ إلى 10000 و 15000، وبلغ عدد نسخ بعض الكتب مئة ألف نسخة. كما تعاظم عدد عناوين الكتب بحسب الفهارس التي كانت تصدر عن المكتبة الوطنية. حيث كان ثمة 8000 عنوان جديد يضاف كل عام... لقد تحطمت السدود بعد الثورة، وأمكن ملاحظة التنوع في العديد من المجالات، ولهذا تجرأ الكثيرون على طرح أنفسهم، وقد انتقل هذا التنوع حتى إلى المخاطبين الذين أدركوا إنّ العالم ليس مجرد فكرة أو فكرتين لذا يتعين التكيف مع شتّى صنوف الأفكار. لقد تعرف كل من الكاتب والمتلقي بعد الثورة على آفاق أرحب.
ما تنم عن الإحصاءات بشأن تحولات التعليم والبحث العلمي بعد الثورة الإسلامية، هو جهود واسعة ومتظافرة لتمهيد أرضية النمو العلمي في البلاد. ومن الطبيعي أن ينصب الاهتمام في مستهل المسيرة على الظواهر والكميات، ولكن مع التقدم التدريجي إلى الأمام تضاعفت العناية بالكيف والنوعية، وتوجهت المساعي صوب بلوغ مستوى التوازن. أياً كان، لم تذهب النقود والاقتراحات المشددة على النوعية في مراكز التعليم والبحث العلمي سدى، بل تصاعدت درجة الاهتمام بالمواصفات العلمية العالمية والالتزام بها. يقدم الدكتور حسين غريبي رئيس مركز المعلومات والوثائق العلمية في إيران تقريراً بهذا الشأن، يوضح التقدم النوعي للأنشطة العلمية في إيران. يقول : ما بين 1981 و 2000 حققت إيران المرتبة السادسة مقارنة ببلدان روسيا، وتركيا، والسعودية، وباكستان، والكويت، والعراق، وآذربيجان، وأرمينيا، وتركمنستان، وكازخستان، والإمارات، وعمان، والبحرين، وقطر، وطاجيسكتان، وجورجيا. ولكن بفضل النشاط المناسب لا سيما في الأعوام الأخيرة أحرزت إيران المرتبة الثالثة في إنتاج الأبحاث على مستوى المنطقة بعد روسيا وتركيا. ومع ذلك فإن إيران لا تزال في المرتبة 57 على مستوى العالم ككل... طبقاً للإحصاءات، في حقل العلوم الأم كان نصيب إيران عام 1981 بالقياس إلى العالم 05 / 0 بالمئة،وقد ارتفعت هذه النسبة سنة 2000 إلى 2 / 0 بالمئة. أي إن إيران تطورت في ظرف 19 سنة 400 بالمئة. في 1981 صدر 103 بحوث في العلوم الطبّية. وفي عام 2000 صدر 237 بحثاً. أي إنّ النمو الذي سجلته إيران في هذا الميدان على مدى عشرين عاماً هو 23 بالمئة، وكان النمو العالمي 77 بالمئة. وفي الحقل الصناعي الهندسي ارتفع عدد الدراسات المنشورة من 43 دراسة في 1981 إلى 277 دراسة في سنة 2000، ما يعني نمواً بنسبة 317 بالمئة. بينما كان التطور العالمي 205 بالمئة. وفي مضمار الزراعة كانت النقلة من 11 / 0 بالمئة في 1981 إلى زهاء 2 / 0 بالمئة في 2000، أي بنسبة 200 بالمئة. وفي نطاق العلوم الإنسانية طبعت سنة 1981م 19 دراسة، وارتفع هذا العدد في 2000م إلى 43 دراسة حيث كانت نسبة التقدم 58 بالمئة، بينما لم تتجاوز نسبة التطور العالمي 41 بالمئة. أمّا نصيب إيران في مجال الفن فقد كان صفراً سنة 1981 وهو الآن أيضاً صفر. وبالتالي فإن إيران شهدت نمواً جيداً في العديد من الفروع مقارنة بالوضع العالمي[60].
ويقول أحمد شيرزاد رئيس لجنة التعليم والأبحاث في مجلس الشورى الإسلامي في حوار له مع وكالة ايسنا للأنباء : إذا أريد لإيران أن تنتج واحد بالمئة من العلوم في العالم، عليها مضاعفة وتيرتها العلمية الراهنة إلى خمسة أضعاف. وسيكون هذا متاحاً بعد عقد من الزمان إذا حافظنا على عوامل تطور الأبحاث وزيادتها... في سنة 2002 كان عدد الدراسات الإيرانية المنشورة في المجلات العالمية المعتبرة على كافة الصعد والفروع العلمية 2000 دراسة، وكانت قبل عشر سنوات 242 دراسة، أي حوالي سبع العدد الحالي... كما أن عدد الإحالات إلى الدراسات الإيرانية جيد جداً، بحيث توجد زهاء 6000 إحالة إلى الدراسات الإيرانية كل عام[61].
أضف إلى ذلك أنّ المشاركات الناجحة في الأولمبيادات العلمية المختلفة، وزيادة المصادر العلمية الجيدة في شتى الفروع، ينبئ بمستقبل مشرق، الاّ أنه لا يزال طبعاً بمسيس الحاجة إلى همم عالية وجهود جماعية بل وطنية. وفي ختام هذا القسم ينبغي أن لا ننسى النقطة التي ابتدأنا بها وهي صلة العلم بالسلطة والحكومة. فقد كانت خصومات القوى الكبرى مع الثورة الإسلامية من أبرز العراقيل والصعوبات التي واجهت إيران في طريق التحصيل والتقدم العلمي. ثمّ إنّ القيود الموجودة والحاجة إلى الوقت من أجل إتمام بعض المشاريع، تحول دون إفصاح مبكر عن تقارير انجازها والبدء بها. ومع ذلك انطلقت حركات علمية ملحوظة في الميادين المختلفة، ولهذا نرى أنه بعد مضي سنوات على الجهود الرامية لتحسين البعد الكمي، انتقلت الاهتمامات صوب البعد الكيفي، وجرى الحديث عن إنتاج العلم في إيران. إن مجموعة هذه التحولات السريعة التي تغور يوماً بعد يوم من السطوح إلى الأعماق، دليل على مسارايجابي تقدمي في القطاع العلمي، وجذوة مشعة لعقيدة «إنّنا نستطيع» يجب أن لا تنسى ولا تغيب عن الأذهان، ذلك إنّ الطريق طويل لا يؤتي ثماره بالجهود والمساعي الفردية، بل بالتحركات الواعية المخلصة الجماعية، والتخطيطات والخطوات التي تقطعها المجاميع العلمية والإيمانية في البلد.. انّه جهاد، ولا يتسنى إحراز انتصارات علمية إلاّ إذا اعتبرناه جهاداً.
ـ نبذة عن النشاط الاقتصادي بعد الثورة الإسلامية :
قبل كل شيء لا بدّ من التنبه إلى أنّ الحقل الاقتصادي يتباين بفوارق أساسية عن ميادين الثقافة والسياسة، لذلك كانت لتحولاته وتطوراته أشكال مختلفة. على الرغم من التفاعلات والتأثيرات بين المساحات الثلاث الثقافية والاقتصادية والسياسية، بيد أنّ التفاوتات التي تميز بينها تترك التفاعلات المذكورة معقدة غير بسيطة. وإذن، فوقوع الثورة الذي يبعثر البنى في الصعد الثلاثة على السواء، يترك تأثيراته في كل واحد منها بطريقة معينة. فمثلاً أبرز تجليات الثورة هو سقوط نظام الحكم السابق وتبدل النظام السياسي في البلاد، الأمر الذي تقفوه تغيرات سريعة وعظيمة على الساحة السياسية. بيد أن مثل هذه السرعة غير متاحة على المستوى الاقتصادي. بتعبير آخر، تطرأ على الأوجه الخارجية لكل واحد من هذه الأصعدة الثلاثة ومنها الاقتصاد تغيرات سطحية بسبب انتصار الثورة، بينما تستدعي التغيرات البنيوية الأساسية دراسات وتخطيطات دقيقة شاملة، وإنشاء مؤسسات وتستغرق وقتاً طويلاً، وأية واحدة من هذه المستلزمات لا تتوفر بوقوع الثورة، إنّما هي رهن بالمساعي المستقبلية لأصحاب القرار في النظام السياسي الجديد مضافاً إلى الظروف التي ستسود بعد الثورة وتلقي بظلالها على الإرادات والقرارات. وبالتالي فإن حصيلة الإرادات الذهنية والواقع الموضوعي هي التي تكتسي لبوساً عملياً وتنفيذياً. بناءً على هذا يجوز القول أن مراجعة الوضع الاقتصادي لإيران بعد الثورة الإسلامية لا يمكن أن تبتني على محض الشعارات والرغبات، إنّما أساس الدراسة بالدرجة الأولى هو الظروف والإمكانات التي توفر لنا معايير واقعية، وبالدرجة الثانية يجب قياس التناسب بين الأنشطة وعمق المتغيرات وبين المطالبات.
النقطة الأهم في الاقتصاد الإيراني قبل الثورة الإسلامية هي تبعيته التي أدت إلى ضعف حركيته وحيويته اللازمة. وقد كانت التبعية المذكورة مشهودة على المستويين الداخلي والخارجي. داخلياً كان الاقتصادي الإيماني مرتهناً بشدة للنفط، وإذن فقد كان اقتصاداً حكومياً. وخارجياً كان يتحرك باتجاه القضاء على الاستغلال الاقتصادي للبلاد وتكريس اقتصاديات تابعة للمعسكر الغربي وأمريكا. وأوّل ثمار الثورة الإسلامية هو التأثير على البعد الخارجي للاقتصاد وإيقاف نهب المصادر الوطنية، والإفادة من تجارب الأجانب وإمكانات ضمن إطار قانوني بملاحظة قاعدة «نفي السبيل» التي تمنع خضوع المسلمين لهيمنة الأجنبي. العداوات المتواصلة ضدّ الثورة مثل شن الحرب المفروضة وفرض الحظر بأنواع المختلفة، كرست هذه الخطوة في مضمار الأنشطة الثورة الاقتصادية ودفعتها صوب الإبداع، فالقيود والضغوط من جهة وإرادة حفظ الثورة الإسلامية من جهة ثانية، نقلت الطاقات الكامنة إلى حيز الفعل. وبالطبع فإن هذه المساعي، لم توفق في العقد الأوّل من الثورة الذي سادته حالة من عدم الاستقرار نتيجة الثورة والحرب، لإحداث تغييرات جادة وطويلة الأمد في البنى التحتية الاقتصادية، مضافاً إلى أنّ الحرب المفروضة أثقلت كاهل الاقتصاد الضعيف والتبعي بخسائر كبيرة. غير أن هذا الضعف، لم يظهر على شكل توترات واحتجاجات اجتماعية بسبب النجاحات في الحقل السياسي (سقوط النظام الشاهنشاني وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية) والتغييرات القيمية والسلوكية في المجالات الثقافية والاجتماعية. عموماً بقي الاقتصاد غير منظم، ولم تستطع الخطط المختلفة في حقل الاقتصاد سوى معالجة الشؤون بصفة موقتة وسد الاحتياجات اليومية والتركيز على ردم الفجوات التي أحدثتها الحرب، حيث تمّ العمل بنجاح في هذا المجال، وأثمرت الجهود عن الحفاظ على ضروريات الحياة الاقتصادية في سنوات الحرب المفروضة وغير المتكافئة. تحدث المهندس مير حسين موسوي عن ذلك الواقع على شكل مقارنة إحصائية بنحو التالي : في سنة 1978 كان المنظرون الاقتصاديون للنظام السابق قد أكدوا في حساباتهم إنّ البلاد إذا أرادت المحافظة على وضعها الاقتصادي لعشرة أعوام أخرى، ولم تتطلع إلى أي تقدّم جديد، ستحتاج في عام 1988 إلى 40 مليار دولار من عائدات العملة الصعبة. ونحن الآن في سنة 1988 بعشرة مليارات دولار هي الميزانية التي صادق عليها المجلس. خبراء النظام السابق لم يقدموا هذه المحاسبات لأغراض دعائية حتى يتاح لنا التشكيك في صحة الأرقام. لقد كان هذا التكهن قيد الدراسة والبحث في أكثر اجتماعات الشورى الاقتصادية آنذاك سرّيةً. وهم لم يأخذوا بنظر الاعتبار في محاسباتهم تلك نشوب الحرب والإنفاقات الباهظة التي تستوجبها والانخفاض المروّع لقيمة الدولار. وقد اعتبروا معدل النمو السكاني 5 / 2%، والحال إن إحصاءات سنة 1986 تشير أنّ العقد الذي انتهى بهذه السنة شهد نمواً سكانياً في البلاد بمعدل 9 / 3% للسنة الواحدة. ما الذي ردم هذه الهوة ذات الثلاثين مليار دولار ؟ إنّها إرادة الشعب في حدود جديرة بالثناء، والإمكانيات الإدارية المستحدثة في البلاد ضمن حدود جديرة بالملاحظة[62].
بعد انتهاء الحرب، بدأ عهد إعادة الإعمار والبناء الذي يمكن تسميته عهد التجربة والخطأ، والذي يستشف انّه لا يزال مستمراً، إذ على حد تعبير الدكتور محمد خوش چهره : قال السيد خاتمي بسبب الافتقار إلى نظرية اقتصادية سنتقدم بالاقتصاد في طريق التجربة والخطأ[63]. بعد سنوات الحرب تركزت الجهود على المضمار الاقتصادي إلى درجة يمكن معها القول إن حمى النشاط الاقتصادي القائم طبعاً على رؤية خاصة للشؤون الاقتصادية، كانت قد بدأت. مع إنّ الاقتصاد كان لا يزال حكومياً ومعتمداً على عائدات النفط، ألا إنّ الأنشطة التأسيسية كانت تتابع بمزيد من المثابرة والجد. كتب الدكتور إبراهيم رزاقي في هذا الصدد : في سنوات ما بعد الثورة، واجه الدخل القومي الإيراني حتى عام 1989 تذبذبات ومنعطفات كبيرة، ألا انّه بعد تلك السنة سار على وتيرة منتظمة من النمو، حتى انّه وصل من 5 / 8226 مليار ريال في سنة 1989 إلى 7 / 12247 مليار ريال في عام 1994 إلى السعر الثابت لسنة 1982[64]. ويقول أيضاً : المكتسبات الصناعية في إنتاج الفولاذ والنحاس والألمنيوم والبتروكيمياويات والالكترونيات وصناعة السيارات، ونمو شبكات الاتصال ووسائله، كانت جديرة بالملاحظة في سنوات الخطة الأولى وسنتين من الخطة العمرانية الثانية من حيث إشباع الاستهلاك الداخلي. ألا إن عدم نمو الصادرات الصناعية وإقامة أواصر بين القطاعات الاقتصادية (رغم ما اتخذ من الخطوات على هذا الصعيد) واستمرار أحادية الإنتاج في الاقتصاد الإيراني، يمكن أن يشي بتواصل الوضع السابق مع متغيرات تتلائم والظروف الدولية والداخلية الجديدة[65].
وفي ثنايا الأنشطة التأسيسية، أنجزت مشاريع عمرانية ملحوظة. فمثلاً «حسب الإحصاءات المتوفرة لعام 1978 كانت هناك 3500 قرية فقط من بين كل قرى إيران تتمتع بالطاقة الكهربائية، وقد وصل هذا الرغم في 1996 إلى 35210 قرية، وإذن فقد تضاعف عدد القرى المتمتعة بالكهرباء إلى عشرة أضعاف بعد انتصار الثورة. وتدل التقارير الرسمية إن قرابة 90 بالمئة من قرى البلاد كانت تتمتع بالماء الصالح للشرب في سنة 1996 ما يعني تقدماً ملحوظاً بالقياس إلى عام 1978. من جانب آخر، في حين كان 1 / 13 مليون نسمة من سكان المدن مشمولين بشبكات إسالة المياه في سنة 1978م، ارتفع هذا الرقم في سنة 1998 إلى 35 مليون نسمة. ويشير تقرير لوزارة الطاقة إلى أن عدد سدود البلاد في عام 1978 لم يتجاوز 13 سداً بحجم 68 مليار متر مربع، في حين بلغ عدد السدود سنة 1996م 48 سداً بقدرة على تأمين المياه تعادل 97 مليار متر مكعب، ما يدل على تطور بنسبة 250 بالمئة في عدد السدود بعد انتصار الثورة.
ويفيد هذا التقرير إن إنتاج الكهرباء سجل عام 1996 معدل 1410 كيلو واط للفرد الواحد، ما يعني زيادة بنسبة 160 بالمئة إلى ما كان عليه الحال سنة 1978[66]. ويعتقد الدكتور جمشيد پژويان أستاذ جامعة العلامة الطباطبائي : مع أنّ الاقتصاد الإيراني ظل يرزح طيلة الأعوام الماضية بشكل أو بآخر تحت تأثير البرامج التخريبية للمعارضين، إلاّ أننا انتهينا من الحرب بنجاح من ناحية، واستطعنا بعد الحرب تعويض جانب ملحوظ من استهلاك أرصدة المجتمع من ناحية ثانية[67].
عموماً، يتسنى القول أنّ الفهم الاقتصادي لإعادة البناء شكّل ضغوطاً على قطاعي الثقافة والسياسة. بمعنى أنّ النمو الاقتصادي أفضى تكريس المطالبات الثقافية والسياسية بنحو تدريجي، الا أن هذه المطالبات لم تتح لها مساحات كافية للتجلي والظهور، ما أدى إلى إثارة هذه القضايا في بعض شعارات الدورة السابعة لانتخابات رئاسة الجمهورية سنة 1997 واستقطابها أكثرية أصوات الشعب لتعيد بعض التوازن بين حقول الاقتصاد والسياسة والثقافة. وقد أدّت هذه الظروف إلى التخطيط بنظرة أشمل لقضايا الاقتصاد وإسقاطاتها على مضامير المجتمع والسياسة، الأمر الذي استتبع نتائج ايجابية. وفيما يلي نشير إلى بعض منها[68] :
كان معدل التضخم من 1993 حتى 1996 أكثر من 30 بالمئة، وقد تراجع خلال الفترة من 1997 حتى 1998 إلى أقل من 20 بالمئة. بناءً على تقارير البنك المركزي فإن معدل التضخم خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 1379 (آذار إلى كانون الأوّل 2000م) بلغ 9 / 12 بالمئة. وقد استطاعت الحكومة اتخاذ خطوات ايجابية على صعيد التخطيط الاقتصادي تتبدى نتائجها تدريجياً. ومن بين هذه الخطوات التصدي لتعددية سعر العملة الصعبة. وقد كان إيجاد حساب احتياطي العملة الصعبة خطوة مهمة أيضاً في هذا المضمار، حيث تمّ تحديد كيفية إنفاق هذا الاحتياطي في المادة 60 من قانون الخطة الثالثة. يتيح هذا الحساب خفض التأثيرات السلبية لانهيار سعر النفط على الميزانيات السنوية وعلى الحالة المعيشية لقطاعات الشعب. تخصص أجزاء مما في هذا الحساب على شكل مبالغ مُدارة للأنشطة الإنتاجية، والاستثمارات وإيجاد فرص عمل. الخطوة الايجابية الأخرى التي تمّ اتخاذها هي التحرك باتجاه تصحيح العلاقة بين النظام المصرفي وميزانية الدولة. فمن مشكلات النظام المصرفي ما عُرف بالملحوظات التكليفية، بمعنى أنّ البنوك تكلف عن طريق قوانين الميزانية المصادق عليها من قبل المجلس، بتسليم مقادير ملحوظة من مصادرها ومعظمها من إيداعات المواطنين للشركات والمشاريع الحكومية. وقد تقرر في الخطة التنموية الثلاثة (المادة 84 من قانون الميزانية) تخفيض هذه التسهيلات التكليفية بنحو تدريجي، أي بنسبة 10 بالمئة قياساً إلى الأرقام المصادق عليها عام 1999م. ومن شأن هذه الخطوة على المدى البعيد أن توجه المصادر المصرفية نحو مستحقيها بطريقة علمية ومجدية اقتصادياً. ومن الخطوات المفيدة للحكومة خلال هذه الدورة العمل والبرمجة لتسديد ديون البلاد الخارجية. في عام 1996 كان مجموع الديون الخارجية لإيران 17 مليار دولار. وهبط هذا الرقم سنة 1999م إلى نحو 3 / 10 مليار دولار، 65 بالمئة منها ديون طويلة ومتوسطة الأمد. وفي الأشهر الستة الأول من عام 2000 تمّ تسديد قرابة 5 / 1 مليار دولار من الديون الخارجية.
مجلة اكونوميست رسمت صورة للاقتصاد الإيراني آخذة في التحسن. فقد جاء في تقريرها حول المستقبل التجاري للبلاد : الدرجة العامة لإيران في سلم الوضع التجاري، تدل على تحسن نسبي، إذ سوف ترتفع هذه الدرجة من 32 / 3 في ما بين 1997 ـ 2001 إلى 58 / 4 للفترة ما بين 2002 ـ 2006. وهو ارتفاع ناجم بالدرجة الأولى عن تحسن الوضع العام الذي يعدل درجة إيران في هذا المضمار من 6/5 إلى 3 / 8، ومرتبتها الإقليمية من السابعة إلى الثالثة. وتعزو اكونوميست أسباب التحسن الملحوظ في الاقتصاد الإيراني العام إلى انخفاض معدل التضخم، وزيادة النمو الاقتصادي والسيطرة على الديون الخارجية لإيران... إن ارتفاع سعر النفط في الأعوام 2001 ـ 2002 والمشهد الايجابي لعائدات النفط والغاز في غضون الأعوام المقبلة، ستؤدي إلى تحسن الوضع الاقتصادي في إيران[69].
الخـلاصة :
يستشف من مجمل الأنشطة والخطوات المتخذة، إنّ المنحى الأحادي البعد في إدارة شؤون البلاد على شتى الصعد بما في ذلك الصعيد الاقتصادي، آيل إلى الأفول. وتحظى الآن فكرة «التنظيم» في كل واحد من المرافق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بمزيد من الاهتمام والتركيز. ويتضاعف يوماً بعد يوم الشعور بضرورة التعامل المنظومي لتنسيق وتوزيع المهام بصورة صحيحة بين السلطات وبرامجها، الأمر الذي سوف يستدعي تطورات تشهدها الحياة الاقتصادية في هذا السياق. يذكر أنّ التغييرات الأساسية والضرورية للاستقلال الاقتصادي إنّما تتحقق إذا ما نأت التخطيطات والبرامج الاقتصادية عن منحى التجربة والخطأ، وقامت على أساس نظريات اقتصادية محلية تتوكأ على السمات السلوكية والإمكانات الداخلية والخارجية للبلاد.
ـ الثورة الإسلامية، التصدير والتأثيرات الإقليمية والعالمية:
تعد الثورة الإسلامية في إيران من الأحداث المذهلة في القرن العشرين، ويعود ذلك في جانب كبير منه إلى انّها فاجأت الجميع وأخذتهم على حين غرة. والواقع انّه لا الثورة الإيرانية كانت متوقعة ولا طبيعتها الدينية، بيد أنّ الأمور سارت في هذا الاتجاه. لقد فضح حدوث الثورة الإسلامية مرة أخرى قصور العلوم الاجتماعية عن معرفة الوقائع الاجتماعية بنحو دقيق، لذا أعيدت صياغة العديد من تنظيريات للثورة عموماً، والآراء الفكرية حول خصائص المجتمع الإيراني والإيرانيين على وجه التحديد. بالنظر للتصلب السائد على النظام الدولي، ووجود نظام القطبين، فقد كان اندلاع ثورة شعبية اجتماعية دينية بمثابة زلزال هز بشكل عنيف جميع كيانات القوى والنماذج والقناعات المؤازرة للنظام العالمي. حتى إنّ القوى المعارضة للثورة راحت إلى فترة معينة بعد الانتصار تهتم بعضها بالتدخل في الثورة والتخطيط لها. غير أن مضي الوقت برهن على شعبية واستقلالية هذه الثورة، الأمر الذي دفع الأعداء شيئاً فشيئاً صوب الاتحاد، وتغيير اصطفافاتهم الدارجة قبل الثورة، وتخندق القوى الكبرى ضدّ الثورة الإيرانية. كانت التحالفات والائتلافات الجديد تتشكل، والتحولات المتسارعة ذات الصلة بانتصار الثورة الإسلامية تظهر إلى النور واحداً تلو الآخر. على أن ما حظي بالأهمية الأولى هو وقوع الثورة الإسلامية. وإذن فالمساعي مهما كانت، فقد عملت لا ارادياً على تكريس الطابع العالمي لهذه الحقيقة. وحيث إن أعداء الثورة أصحاب قدرات إعلامية فائقة، فقد سافر هذا الحدث الكبير إلى كل أرجاء المعمورة، رغم أن تفاصيله كانت تعالج من قبل تلك الوسائل الدعائية بمنحى سلبي في الغالب.
أسباب الفزع من الثورة الإسلامية :
بما أن إيران هي الأخرى كانت قبل الثورة أسيرة ألاعيب المعسكرين الشرقي والغربي، وخاضعة لإشراف وحماية العالم الغربي، فقد كانت تبادر إلى تخطيطات وخطوات يمكن بسهولة مشاهدة نظائر لها في بلدان أخرى، لا سيما بلدان الجوار والمنطقة. وعليه فمن الطبيعي أن يثير انتصار الثورة في إيران القلق الشديد من حدوث ثورة مماثلة في بلدان لها نفس الظروف والمشكلات التي كانت لإيران. ولم يقتصر هذا الفزع على احتمال اندلاع ثورة أخرى، بل امتد ليشمل الخوف من الايديولوجيا الدينية (الإسلامية) أيضاً، لأنها تفرز وعياً هائلاً للذات يستند إلى الإسلام وقد يسفر عن صحوة المسلمين وحضهم على الانعتاق من هيمنة القوى الكبرى وتحقيق الحرية والاستقلال لأنفسهم.
انتصار الثورة الإسلامية نقطة عطف في الحركات المعارضة :
الذي حصل بالفعل هو نقطة عطف في حركات المعارضة والثورة الإسلامية المناهضة للانسياق والسلوكيات السلطوية التي تبديها القوى الحامية للنظام الدولي السائد. النقطة المهمة في هذا الخضم هي أنّ الثورة الإسلامية وقعت ضمن وحدة الشعب ـ الحكومة بوصفها وحدة سياسية مقبولة في النظام الدولي وصانعة له. وبسبب شعبيتها، فقد كانت الكلمات والشعارات المطروحة تدعم وتتابع من قبل الشعب والحكومة على السواء، والنظر إلى الشعب والحكومة في إيران الثورة باهتمام وجدية من قبل الأعداء والأصدقاء، وتعذر صرف النظر عن الأحداث الجارية في هذا البلد. وبنظرة داخلية أيضاً كانت الثورة ذات صبغة دينية (إسلامية) وهي مكلفة بالتحرك والبرمجة للنهوض برسالتها الثورية، وعلى هذا الأساس اثير موضوع تصدير الثورة.
الظاهرة الطبيعية التي سميت تصدير الثورة، والناجمة عن تماثل الظروف بين إيران وبعض بلدان المنطقة من جهة، وانغلاق الوضع السائد على النظام العالمي بما لا يسمح بقبول واستساغة الواقع الجديد من جهة ثانية، خلق معنيين لتصدير الثورة. في الداخل ومن وجهة نظر الثوريين الإيرانيين تبدى تصدير الثورة عبارة عن إيصال رسالة الحرية والاستقلال والعزة الإسلامية إلى أسماع المسلمين والإنسانية كافة. ومن وجهة نظر الأجانب على الثورة كان معناه توسيع رقعة العنف وزيادة مقرات المجابهة والمقاومة إزاء النظام العالمي السائد، وخلق قدرات فكرية وبث الثقة بالنفس للصمود حيال المشاريع المفروضة من قبل القوى الاستكبارية. قال الإمام الخميني بتاريخ 22/ 11 / 1358 (11 / 2 / 1980م) : إنّنا نصدر ثورتنا للعالم كله، فثورتنا إسلامية، وما لم يدو شعار لا إله إلاّ الله محمد رسول الله في كل أرجاء العالم، تواصل الكفاح، وما دام الكفاح متواصلاً في أي منطقة من العالم ضد المستكبرين، فنحن موجودون[70]. وقد أكّد (رض) مراراً : حينما نقول إن ثورتنا يجب أن تصدّر إلى كل أنحاء العالم. لا يفهم من ذلك على نحو خاطئ إنّنا نريد فتح البلدان. إنّنا نعتبر كل بلدان المسلمين منّا. يجب أن تبقى كل البلدان في مكانها... معنى تصدير الثورة هو أن تستيقظ كل الشعوب، وتستيقظ كل الحكومات...[71] وكان الشهيد الدكتور محمد جواد باهنر قد قال في هذا الصدد : تصور الآخرون إن معنى تصدير الثورة هو تصدير العدوان وتصدير الحرب، أو أن مرادنا من تصدير ثورتنا الطمع في أراضي الآخرين، أي إنّنا نريد توسيع سلطتنا وإضافة ثروات الآخرين إلى ثرواتنا، وهذه بالضبط تلك الثقافة التي فسّر بها السلطويون تصدير الثورة... لم يكونوا عارفين اطلاقاً بثقافة الشعارات لدينا، إنّهم لم يفهموا معايير ثورتنا[72].
وعلى الرغم من الرؤية والنوايا الداخلية، كانت تصورات وأحوال الأجانب شيئاً آخر. يكتب غراهام فولر، المحلل رفيع المستوى في الـ C.I.A : كانت الثورة الإيرانية عاملاً وسيطاً نقل حالة السياسة الإسلامية إلى قلب الفكر السياسي في العالم[73]. ويكتب مرغماً بعد ذلك : حتى مَنْ لم تكن لهم أدنى رغبة في حزم أمتعتهم والتوجه إلى طهران، تأثروا بقدرات الثورة. لا بدّ أن آية الله كان قد عمل بأسلوب صحيح حينما استطاع إسقاط الشاه بكل ماله من قوة وبكل الدعم الأمريكي الذي كان وراءه، وبهذا يكون قد أهان وهزم الولايات المتحدة أيضاً... إنّ التأثير الاستعراضي للثورة في الخليج الفارسي كان كبيراً جداً في السنة الأولى بعد الثورة ـ بروز توترات وحالات تمرد بين شيعة الكويت والبحرين والعربية السعودية ـ لقد نزل الإسلام تارة أخرى إلى مسرح العمليات السياسية. وهذه الحركة اتخذت لها منذ البداية شكلاً سياسياً[74]. ويكتب هراير دكمجيان : إن نجاح الثورة الإسلامية في إيران عزز ثقة الإخوان المسلمين بأهدافهم لبناء نظام إسلامي في مصر[75]. ويعتقد الصحفي الأمريكي روبين رايت في وصفه لاستحقاقات الثورة الإسلامية أن : أهمية الثورة ستتعدى حدود إيران والشرق الأوسط والعالم الإسلامي المترامي وحتى القرن العشرين. والسبب بسيط جداً : إنّها آخر الثورات الكبرى في العصر الحديث... حاول الغرب عرض صورة لثورة إيران أمام أنظار العالم تُبديها وكأنها تتوخى العودة بإيران إلى الوراء 14 قرناً، بيد أن 16 شهراً من الثورة والمظاهرات في طهران أثبتت أن بمستطاع الإسلام توفير لغة سياسية جديدة لمعارضي الأنظمة يستخدمونها في التكتيكات والاستراتيجيات... ان تأثير الثورة الإيرانية على العالم الإسلامي جد بديهي : لقد حولت الصحوة الإسلامية المنبثقة عن حروب 1967 و 1973 بين العرب وإسرائيل إلى حركات معارضة لأنظمة الحكم القائمة في كل العالم الإسلامي... وإلى جانب هذه التحركات، كان هنالك تحرك جد مهم تجري فصوله بمنتهى الهدوء وبنحو غير ملموس. الهدف هو إيجاد خيارات إسلامية في المؤسسات المنهزمة ـ المدارس، المستوصفات، التعاونيات والمراكز الرفاهية. كانت الجماعات الإسلامية تناضل من أجل تكريس مجتمع مدني جديد حتى يكونوا شبكات تشمل اتحادات وأندية للعمال والمعلمين والمهندسين والنساء والأطباء والشباب وسائر القطاعات، والخوض عن هذا الطريق في معالجة المشكلات التي تجاهلتها الحكومات[76].
الحقيقة أن تأثيرات الثورة الإسلامية خرجت شيئاً فشيئاً عن حالتها السطحية المتسرعة التي كانت عليها في البداية، وتمكنت من تقديم رؤية ثالثة للأدبيات والوعي السياسي تختلف عن مناحي الغرب والشرق السياسية، وفتح آفاق غير مسبوقة وفرص جديدة للتفكير والانتقاء. إن نجاح إيران باعتبارها «عاملاً وسيطاً» طرح «السياسة الإسلامية» على بساط البحث، وركّز على مقولة الإسلام السياسي، يمكن أن يعد من مصاديق تصدير الثورة الذي يقلق أعداءها بطبيعة الحال. يعرب ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي السابق عن خوفه من الإسلام السياسي وأسلوب التعامل معه بالقول : بغية أن نؤثر في تحولات العالم الإسلامي، ينبغي أن لا نصنع سياسة متجانسة متحدة باسم «السياسة الإسلامية» ولا ننتهج مساراً متشابهاً في جميع تلك البلدان[77]. وفي المؤتمر الذي أقيم في خريف 1989 بمدينة اسطنبول. قال دانيل بايبس رئيس معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكية حول تأثيرات الثورة الإسلامية على المسلمين : لن تستطيع أمريكا التصالح مع المسلمين، لأنهم لا يعتزمون فقط طردنا عسكرياً من الشرق الأوسط، بل ينوون مثل ذلك على الصعيد الثقافي أيضاً... لا يمكن أن يكون لنا معهم تعايش سلمي، لأننا لا تجمعنا وآية الله الخميني أية قواسم مشتركة... لم تكن لنا قبل عشر سنوات أي توجس من الإسلام، بيد أنّ الحال اختلفت اليوم، وعلينا جميعاً التحسس أكثر من هذه الظاهرة الجديدة في إيران وبعض البلدان الأخرى. إنّ المسلمين يولون وجوههم اليوم شطر إيران ويستقون النموذج منها. إن إيران اليوم بمثابة مختبر، وإذا نجحت هذه التجربة، ستتضاعف جرأة المسلمين في البلدان الأخرى... يتوخى المسلمون تقديم الإسلام كمدرسة متكاملة، وهذا مما لا يمكن احتماله والصبر عليه من جانبنا[78].
من بين المحاور المختلفة، يتبدى المحور الفلسطيني على جانب كبير من الأهمية والمركزية، وقد طرح ونوقش قبل انتصار الثورة الإسلامية، وبعد انتصارها تضاعفت إمكانات الدعم فزادت من قدرات الفلسطينيين على المواجهة والتصدي لاعتداءات الإسرائيليين. إذ من المعلوم أن أحد شعارات الثورة الإسلامية هو «اليوم إيران، وغداً فلسطين». وبعد انتصار الثورة، أعلن الإمام الخميني بتاريخ 16 / 5 / 1358 (7 / 8 / 1979) آخر جمعة من شهر رمضان المبارك من كل عام يوماً عالمياً للقدس تقام فيه مراسم لإعلان تضامن المسلمين دولياً في دعم الحقوق القانونية للمسلمين وخصوصاً الفلسطينيين. كان الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي أمين عام منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين قد قال : إن انتصار الثورة الإسلامية، أعاد لكل مسلمي العالم الثقة بالايديولوجيا والدين، وأثبت أنّ الإسلام قوة لا تقهر، فالإسلام أحيى عزيمة الثورة والغليان في نفوس الشعب الفلسطيني[79]. لقد كان تبلور وانبثاق حركات تحرر نظير حزب الله لبنان، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي، بوحي من ثورة إيران الإسلامية. وفي حركة الانتفاضة التي انطلقت عام 1987، نجد أنّ الجماهير اختارت المسجد وصلاة الجمعة مقرات للمقاومة والجهاد والمعارضة، وحلت التحركات غير المسلحة محل حرب العصابات والعمليات المسلحة المحدودة النطاق. وهذا تغيير يشبه إلى حد كبير الأساليب التي أفضت إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
إنّ الوعي الذاتي والصحوة الإسلامية فيما عدا قضية فلسطين، اكتست كذلك بعداً عالمياً في خصوص كتاب الآيات الشيطانية، فكانت نموذجاً آخر لقوة وتأثير الثورة الإسلامية. إذ تمّ تأكيد إن محورية الدين تُقصي التمايزات جانباً وتعبّئ المسلمين المتحدين مقابل أعدائهم، وهذا ما يحقق الأمور التي أثارت قلق نيكسون وأمثاله من ناحية، ويجعل إيران مقراً لمثل هذه المشاريع الموحِّدة والمعيدة إلى الهوية الأصلية. تمخضت مثل هذه المسارات والقابليات عن رؤية جديدة للثورة الإسلامية وتأثيراتها. اعتبر كارن.أي.فست (Karen.A.Feste) الثورة الإسلامية مثالاً للتحولات السياسية المقبلة على المنطقة، وكتب نقلاً عن جوايث ميلر : طالما رضخت قدرات الحركات الإسلامية للتأثيرات (السلبية) للثورة الإيرانية، فإن أهمية الهوية الايديولوجية بالنسبة للشباب المتحمس، ستبلور ثانية الجاذبية القوية جداً للإسلام على أرض الواقع... ربّما كان عصر الإسلام قد بدأ تواً[80].
إجمالاً، يبدو انّه رغم التطورات والقيود الظاهرية الكثيرة التي يستلزم كل واحد منها دراسة مستقلة، إلا أن هذا المسار ترسخ في أعماق الأفكار والوعي، وأجاب بدوره عن التطلعات اللاّنهائية للإنسان المعاصر والأسئلة الجمة التي يحملها المسلمون والأحرار في العالم. وبكلمة ثانية، انّه دعوة خفية تنضج تدريجياً، وتكتسب حسب المستويات الفكرية وعمق التأملات، أبعاداً أحدث وتأثيرات أكبر في المواقف والسلوكيات.
__________________
[1] الوحدة الثقافية لمؤسسة الشهداء، بهشتي السيد المظلوم (الكتاب الثاني) الطبعة الأولى 1982، ص639 ـ 640.
[2] الدكتور جلال الدين مدني، الحقوق الأساسية في جمهورية إيران الإسلامية (المجلد الأوّل)، منشورات سروش، ط4، 1997، ص34 ـ 35.
[3] م س، ص54.
[4] م ن، ص95.
[5] د. محمد جعفر جعفري لنگرودي، المقدمة العامة لعلم الحقوق، منشورات گنج دانش الحقوقية، ط2، 1990، ص26.
[6] الإمام الخميني، ولاية الفقيه (الحكومة الإسلامية)، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط5، 1997، ص34.
[7] الإمام الخميني، ولاية الفقيه (الحكومة الإسلامية)، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط5، 1997، ص34.
[8] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، الدائرة العام للقوانين والمقررات في البلاد ـ رئاسة الجمهورية، ط5، 1996 ص41.
[9] م ن، ص100.
[10] بينيتو موسوليني «الفاشية»، العقل والسياسة، تلخيص وتأليف وترجمة : عزت الله فولادوند، طرح نو، ط2، 1998، ص235.
[11] محسن كديور، هواجس الحكومة الدينية، منشورات ني، ط1، 2000 ص69 ـ 70.
[12] المعاونية البحثية لمؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، الجامعة والجامعيون من وجهة نظر الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط1، 1997، ص240.
[13] خطاب للإمام الخميني بتاريخ 11 / 1 / 1367 (31 / 3 / 1988).
[14] صحيفة النور، المجلد 8، ص47.
[15] غابريل ا. آلموند وزملاؤه، إطار نظري لدراسة السياسة المقارنة، ترجمة، علي رضا طيب، مركز تعليم الإدارة الحكومية، ط2، 1998، ص9.
[16] ايزايا برلين، أربع مقالات حول الحرية، ترجمة ب: محمد علي موحد، منشورات خوارزمي، ط1، 1989، ص81.
[17] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، م س، ص100.
[18] الدكتور جلال الدين مدني، م س، ص15.
[19] الدكتور ناصر كاتوزيان، مقدمة لعلم الحقوق ودراسة في النظام الحقوقي بإيران، شركت انتشار بالتعاون مع رسمن برنا، ط21، 1996، ص70.
[20] قاسم شعباني، الحقوق الأساسية وبنية الحكومة في جمهورية إيران الإسلامية، منشورات اطلاعات، ط4، 1995، ص13.
[21] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، م س، ص44.
[22] د. أبو الفضل قاضي، الحقوق الأساسية والمؤسسات السياسية (المجلد الأول) منشورات جامعة طهران، ط6، 1996، ص449.
[23] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، م س، ص68.
[24] م س.
[25] د. أبو الفضل قاضي، م س، ص112.
[26] م س، ص113.
[27] الدائرة العام للمعاهدات الدولية، دستور الجمهورية الفرنسية، الدائرة العامة لقوانين ومقررات البلاد، ط1، 1997، ص40 ـ 42.
[28] استيفان دي تشي، أسس علم السياسة، ترجمة الدكتور حميد رضا ملك محمدي، منشورات دادگستر، ط1، 2000، ص181.
[29] د. ناصر كاتوزيان، م س، ص136.
[30] الاكونوميست «تصورات جديدة حول التعليم والعمالة» مجلة گزارش، السنة السادس، أيار 1996، ص54.
[31] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة غلام حسين زيرك زاده، منشورات أديب، ط1، 1989، ص81.
[32] آلبرت هيرشمن، الأهواء النفسية والمصالح، ترجمة : محمد مالجو، منشورات شيرازه، ط1، 2000، ص15.
[33] م س، ص150.
[34] د. أبو الفضل قاضي، م س، ص418 نقلاً عن الوحي أو الشعور الغامض لآية الله العلاّمة الطباطبائي، ص176، منشورات دار الفكر ـ قم.
[35] م س.
[36] (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) سورة النساء/ الآية 141.
[37] ميشيل فوكو، بماذا يحلم الإيرانيون ؟ ترجمة : حسين معصومي همداني، منشورات هرمس، ط2، 1998، ص46.
[38] لمزيد من الاطلاع راجع مثلاً كتاب «نيويورك، كابل» بقلم : مراد فرهادپور، و يوسف أبا ذري، منشورات طرح نو، ط1، 2002م.
[39] جواد طاهائي، فكرة الدولة الحديثة، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط1، 2002، نقلاً عن صحيفة نور، ج18، ص109 (27 / 6 / 62).
[40] [41] جواد طاهائي، فكرة الدولة الحديثة، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط1، 2002، نقلاً عن صحيفة نور، ج18، ص109 (27 / 6 / 62).
[42] د. ولي الله أنصاري، مبادئ الحقوق الإدارية، منشورات ميزان، ط1، 1995، ص149.
[43] علي ذو علم، أفول القيم الاجتماعية بعد انتصار الثورة الإسلامية، جرعه جاري مجموعة مقالات) مركز أبحاث الثقافة والفكر الإسلامي، ط1، 1998، ص418.
[44] عبد الرضا ضرابي، «دور المسجد وفاعليته في التربية» فصلية (معرفت)، السنة التاسعة، العدد الأوّل، ربيع 2000، ص61.
[45] فرامزر رفيع بور، التنمية والتناقض، منشورات جامعة الشهيد بهشتي، ط1، 1997، ص317 ـ 318.
[46] م س، ص318.
[47] جبب الحجاب الشرعي في إيران.
[48] م س، ص555 ـ 556.
[49] داريوش مطلبي «تعريف رسالة جامعية : واقع الكتب في عقدين 1979 ـ 2000» شهرية (كتاب ماه) السنة 4، العدد 12، ديسمبر 2001، ص28.
[50] صحيفة «همبستگي» نقلاً عن وزير الثقافة السيد أحمد مسجد جامعي، الأحد 31/ 6/ 1381.
[51] نفس المصدر.
[52] ماكس. ل. استكهاوس، السياسة والدين، ترجمة د. مرتضى أسعدي، الثقافة والدين (مجموعة مقالات)، طرح نو، ط1، 1995، ص548.
[53] د. علي رضا أزغندي، تاريخ التحولات السياسية والاجتماعية في إيران، ج1 (1941 ـ 1979) منشورات سمت، ط1، 2000م، ص31.
[54] مصطفى خرامان، تاريخ الثورة للأطفال والأحداث (الكتاب الرابع) بإشراف شورى الكتّاب ومجلس الإنتاج، نشر تاريخ وفرهنگ، ط1، 1999، ص61.
[55] د. رضا منصوري، إيران 1427 (العزيمة الوطنية للتنمية العلمية والثقافية) طرح نو، ط1، 1998، ص142.
[56] مصطفى خرامان، تاريخ الثورة للأطفال والأحداث، بإشراف شورى الكتّاب ومجلس الإنتاج، نشر تاريخ وفرهنگ، ط1، 1999، ص62.
[57] د. رضا منصوري، م س، ص144.
[58] د. إبراهيم رزاقي، التعرف على اقتصاد إيران، منشورات ني، 1997، ص216.
[59] صحيفة ياس نو، الاثنين 24 / 6 / 1382 (15 / 9 / 2003م).
[60] محمد حسيني، حوار مع رئيس مركز المعلومات والوثائق العلمي في إيران، صحيفة إيران 13 / 12 / 1381 (3 / 3 / 2002م).
[61] صحيفة ياس نو، الاثنين 24 / 6 / 1382 (15 / 9 / 2003م).
[62] المهندس مير حسين موسوي، خمس مقالات حول الثورة والمجتمع والدفاع المقدس، مكتب إشاعة الثقافة الإسلامية، ط2، 1998، ص6.
[63] صحيفة (سياست روز)، حوار : 22 سنة من إدارة اقتصاد البلاد في بوتقة نقد الخبراء، الأحد 23 / 11 / 1379 (12 / 2 / 2001م).
[64] إبراهيم رزاقي، التعرف على اقتصاد إيران، منشورات ني، ط1، 1997، ص92 ـ 93.
[65] م س، ص280.
[66] صحيفة همشهري : «اقتصاد إيران، عشرون عاماً من الصمود على جبهتين» الأربعاء 15 / 11 / 1376 (4 / 2 / 1998).
[67] صحيفة (سياست روز) م س.
[68] الخطوات المتخذة منتقاة من تقرير مكتوب لرئيس الجمهورية إلى الشعب بشأن تحولات البلاد وأداء الحكومة، منشور في صحيفة اطلاعات، السبت 27 / 12 / 1379 (17 / 3 / 2001م).
[69] صحيفة اطلاعات، الاثنين 1 / 7 / 1381 (23 / 9 / 2002م).
[70] معاونية الأبحاث في مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، تصدير الثورة من وجهة نظر الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، ط2، 1997، ص34.
[71] م س، ص59.
[72] د. محمد جواد باهنر، بحوث حول ثقافة الثورة الإسلامية، مكتب إشاعة الثقافة الإسلامية، ط1، 1992، ص364.
[73] غراهام فولر، قبلة العالم (الجيوبوليتيكا الإيرانية) ترجمة : عباس مخبر، منشورات مركز، ط2، 1998، ص108.
[74] م س، ص108 ـ 109.
[75] هرايرد كمجيان، الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي، ترجمة د. حميد أحمدي، منشورات كيهان، ط3، 1998، ص106.
[76] روبين رايت، آخر الثورات الكبرى (الثورة والتغيير في إيران) ترجمة : أحمد تدين، شهين أحمدي، مؤسسة رسا للخدمات الثقافية، ط1، 2003، 229 ـ 32.
[77] ريتشارد نيكسون، لننتهز الفرصة، ترجمة : حسن وفسي نجاد، طرح نو، ط1، 1992، ص250.
[78] د. جواد منصوري، حوار الثورة الإسلامية والنزعة المعنوية، فصلية «فكر الثورة الإسلامية» السنة الأولى، العدد الثاني، صيف 2002، ص154.
[79] مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها، فلسطين من وجهة نظر الإمام الخميني، ط3، 1995، ص203.
[80] كارن.أي.فست، الثورة الإيرانية والتحولات السياسية في العالم العربي، ترجمة داود علمائي، ط1، 1997، ص69.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية