مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

اطلالة على ملامح من فكر الامام الخميني
احمد سليمان


إذا كان الامام الخميني الراحل (قدس سره) قد مثل الرمز في الثورة الإسلامية التي تكلّلت بالانتصار الكبير في شباط 1979م انطلاقاً من الموقع القيادي الفاعل، اعتباراً من الخطوة الاولى المتمثلة بتوجيه الثورة بمسارها السليم، وحتى قطف ثمار الانتصار بعد ما يقارب الستة عشر عاماً ـ اذ كان ذلك ـ فان مرحلة ما بعد انتصار الثورة كانت تطبيقاً عملياً، لم يشوبه لبس اوغموض لمفاهيم الثورة مفرداتها وافكارها ليس في السياسة فحسب، بل اننا شهدنا هذا التلاقي والتجانس في الاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعية لكل ثورة رموزها، ولكل مرحلة تاريخية سماتها وخصائصها التي قد تتشابة وتتماثل مع سمات وخصائص مرحلة تاريخية أخرى بحكم المصادفات مرّة،‌ واستناداً الى التقليد والمحاكاة مرة أخرى ورموز الثورة ـ أية ثورة ـ غالبا ما يقع على عاتقهم تحديد الأطر العامة وتوجيه المسارات الهامة للمراحل التاريخية التي تعد منعطفات حيوية يتطلب التعامل معها قدراً عالياً من اليقظة والحذر والحكمة والدراية.
وإذا كان الامام الخميني الراحل قد مثل الرمز في الثورة الإسلامية التي تكللت بالانتصار الكبير في شباط 1979م انطلاقاً من الموقع القيادي الفاعل، اعتباراً من الخطوة الاولى المتمثلة بتوجيه الثورة بمسارها السليم، وحتى قطف ثمار الانتصار فإن مرحلة ما بعد انتصار الثورة كانت تطبيقا عملياً، لم يشوبة لبس اوغموض لمفاهيم الثورة ومفرداتها وافكارها ليس في السياسة فحسب، بل اننا شهدنا هذا التلاقي والتجانس في الاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعية وحتى في تحديد موقع الفرد داخل المجتمع وقيمه لا وفقا لما ينتجه، وإنما وفقاً لقيمته الانسانية العليا بل والاكثر من ذلك فإن ظلال المتغيرات الجديدة راحت تمتد بعيداً في اصقاع العالم الاسلامي لتمنح الثورة بعداً عالمياً ولتجعل من الامام الخميني مثالاً عظيماً للثأر والقائد السياسي في آن واحد.
الرحيل لا يعني النهاية!
وبعد عشرة اعوام من عمر الثورة رحل الامام ليترك ثورة ودولة ومجتمع جديد وعالم انظاره شاخصة الى ما جرى وما يزال يجري بشكل يتغير يوما بعد آخر، ولكن هل رحيله كان يعني النهايه.؟
في حقيقة الامر ربما بدا للبعض أنَّة كذلك. سيما وان تحولات كبرى طرأت على اجزاء بالغة الأهمية من خريطة العالم بدأت معالمها تظهر وتتجلي في الأفق بعد الرحيل بفترة قصيرة ـ فضلاً عن النتائج التي آلت اليها اوضاع سياسية معينة كانت تعيشها المنطقة وتواجهها لسنين عدة.
بيد ان النظرة الموضوعية والتعامل مع الوقائع بإطارها العام الشامل، وبعمق علمي تكشف لنا ان التاثير الفعلي للامام الخميني في مختلف مناحي الحياة وجوانبها، وليس في ايران فحسب بقي كما كان قبل رحيله ان لم يكن قد اتخذ بعداً شمولياً وأكبر.
فالقضايا الرئيسية محور اهتمامه والتي تمثلت اساساً بالعمل على تحقيق الاستقلال والوحدة الإسلامية، واقامة المجتمع الاسلامي الصالح، ومقارعة القوى الكبرى المعادية للعالم الاسلامي والساعية الى مصادرة قيمه وثراوته، واستعباد شعوبه، هذه القضايا ما تزال تحتل الحيز الأوسع في برامج العمل السياسي والاجتماعي والفكري للقيادة الايرانية، ليس لأن المرحلة الحالية لم تختلف في معالمها وملامحها عن المرحلة السابقة، بل لأنها ـ اي القضايا ـ تعدد ثوابت اساسية في الفكر والمنهج الذي أرساه الامام للثورة الإسلامية.
موقع الثقافة في فكر الامام الخميني
لقد شكل الجانب الثقافي احد ابرز اهتمامات الامام الخميني الراحل اذ اعتبره مفصلاً مهماً جداً من مفاصل قوة الدولة الإسلامية ومنعتها، وهي تواجه مخاطر ومؤامرات شتى تهدد وجودها واستمرارها ...
فالذي حدث أبان الثورة الإسلامية جسد قدرة الاسلام على مقاومة كل المخططات الرامية الى إبعاد الأمة عن ثقافتها الاصيلة، حيث ان الجماهير المسلمة وقفت بوجه الارهاب ورفضت رفضاً قاطعاً مظاهر الفساد والتحلل الاخلاقي.
وكان الامام الراحل يري أنه «بمقدور الجامعات ـ كأحد ابرز المعالم الثقافية في المجتمع ـ ان تغمر العالم بالنور ان قرنت التعليم بالخلق الانساني وبمسايرة الفطرة الانسانية. واذا فصَّلنا العلم والتخصص عن الاخلاق والتهذيب والوعي والالتزام فان ذلك يؤدي الى بروز مفاهيم وأفكار غريبة علينا تجتاحنا من الغرب والشرق وتنقض على قيمنا وعقائدنا وافكارنا»[1].
وفي نفس السياق فان الامام الخميني «يدعو الى توقف الجامعة التقليدية عن العمل، وتجميع الطاقات نحو تاسيس جامعة اسلامية جديدة»[2]،‌ وهي ذات الدعوة التي اطلقها قبل اكثر من مائة عام عبدالرحمن الكواكبي ومفكرون اسلاميون آخرون الا ان الدعوة الجديدة اخذت بعين الاعتبار طبيعة المرحلة التاريخية المعاصرة وجوهر الصراعات القائمة والقوى المحركة لتلك الصراعات والموجهة لها.
وارتباطاً بهذا الجانب فان صياغات جديدة لواقع العلاقات الاجتماعية فرضت نفسها على كافة البنى والهياكل القائمة فضلاً عن المؤسسات التي لها دور في عملية التثقيف ونشر الوعي كمحطات التلفزيون والاذاعات والصحف والمجلات والمنتديات الفكرية ذات الطابع الرسمي وغير الرسمي.
وقد تكون أبعاد الغزو والاختراق الفكري ـ الثقافي أشد خطراً على المسلمين من الغزو العسكري والحصار الاقتصادي كما يشير الامام الخميني بقوله «مأساة المسلمين الكبرى تتمثل في هذه الثقافة الشائعة بين المسلمين والتي تجر شبابنا الى هذا الجانب وذلك الجانب … ويتوجب على علماء الاسلام وعلى الكتاب والخطباء‌ ان ينبهوا الأمة الإسلامية الى مالديها من ثقافة غنية ـ ثقافتنا ـ والكلام للإمام ـ‌ استطاعت ان تتجاوز حدود عالمنا الاسلامي، ثقافة المسلمين كانت أغنى الثقافات ولازالت كذلك لكن المسلمين لم يستفيدوا منها مع الاسف ... نحن لانخشى المحاصرة الاقتصادية، ولا نخشى الغزو العسكري، خوفنا من التبعية الثقافية ... خوفنا من الجامعة الاستعمارية، نخاف من جامعة تربي شبابنا بشكل تجعلهم في خدمة الغرب، نحن نخاف من جامعة تربي شبابنا بشكل تجعلهم في خدمة الشيوعية»[3].
دولة الاسلام العالمية
واذا كان اهتمام الامام الخميني بالجانب الثقافي كبيراً فإنَّ اهتمامه بموضوع الدولة الإسلامية العالمية، والوحدة الإسلامية لم يكن هامشياً وعابراً، ولعل ذلك بدا واضحاً في طبيعة وجوهر ومضمون الخطاب السياسي للثورة الإسلامية الايرانية، فمفردات من قبيل محاربة الظلم، وتحقيق العدالة ونصرة الشعوب الإسلامية المستضعفة، والتاكيد على القيم الروحية، بدلاً من القيم المادية تشير في الحقيقة الى شمولية المشروع،‌ واتساع مساحة الاهتمام والتفكير، سيما وان الشعوب الإسلامية كانت إبان انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الامام الخميني تواجه تحديات خطيرة، ربما كان ابرزها رجحان كفة الصراع العربي ـ الاسرائيلي في فلسطين لصالح الكيان الصهيوني والغزو السوفيتي لافغانستان اواخر عام 1979م، فضلاً عن النزعة الديكتاتورية القمعية ـ الارهابية لمعظم الانظمة السياسية العلمانية المتسلطة على مجتمعات المسلمين، الامام الراحل ينظر الي تلك القضية من زاويتين.
الاولى: اقامة حكم الله والذي اساسه الاسلام، حيث يقول بهذا الشان «ان تمادي الحكومات في غيّها يعني تعطيل نظام الاسلام واحكامه. في حين توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير اسلامي بأنة شرك، والحاكم ـ والسلطة فيه ـ طاغوتاً، ونحن مسؤولون عن ازالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم»[4].
هذه النظرة ترتبط على ما يبدو بمفهوم الثورة باعتبار أنها الخطوة الاولى لعملية التغيير المجتمعي الشامل من القمة الى القاعدة، وهي تتطلب بالدرجة الاساسية مساهمة المجموع للوصول الى الاهداف المرسومة ...
الثانية: القضاء على الاستعمار كمفهوم سلبي، وتاريخ ممتد لفترات طويلة، مليء بالاظطهاد والظلم ومصادرة ثروات الشعوب المسلمة، وترسيخ واقع التجزئة والتخلف والانحطاط وضمن هذا الاطار يقول الامام الخميني (رضوان الله عليه) «لقد جزا الاستعمار وطننا، وحوَّل المسلمين الى شعوب مجزئة، وعند ظهور الدولة العثمانية كدولة موحدة سعى المستعمرون الى تفتيتها،‌ لقد تحالف الروس والانجليز وحلفاؤهم وحاربوا العثمانين، ثم تقاسموا الغنائم كما تعلمون، ‌ونحن لا ننكر ان اكثر حكام الدولة العثمانية كانت تنقصهم الكفاءة والجدارة والأهلية، وبعضهم كان مليئاً بالفساد، وكثير منهم كانوا يحكمون الناس حكماً ملكياً مطلقاً، ومع ذلك كان المستعمرون يخشون ان يتسلم بعض ذوي الاصلاح والأهلية من الناس وبمعونة الشعب قيادة الدولة العثمانية على وحدتها وقدرتها وقوتها وثرواتها فيبدد كل آمال الاستعماريين وأحلامهم»[5].
ويضيف الامام الخميني الراحل في معرض تحليله ورؤيته لموضوع الوحدة الإسلامية «اننا لا نملك الوسيلة الى توحيد الأمة الإسلامية وتحرير اراضيها من يد المستعمرين، واسقاط الحكومات العميلة لهم الا ان نسعى الى اقامة حكومتنا الاسلامية، وهذه بدورها سوف تكلل اعمالها بالنجاح يوم تتمكن من تحطيم رؤوس الخيانة وتدمر الاوثان والاصنام البشرية والطواغيت التي تنشر الظلم والفساد في الارض ...»[6].
الحكومة الإسلامية والوحدة الإسلامية
من هذا المنطلق فان الحكومة الإسلامية تعد احد المقومات الاساسية ـ الرئيسية ـ لتحقيق الوحدة الإسلامية سواء على الصعيد النظري والعملي، فالكيان الاسلامي الموحَّد في زمن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك بعد وفاته حيث غدا هذا الكيان مترامي الاطراف ـ شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً ـ‌ ذلك الكيان محكوماً بسلطة مركزية ـ سياسية ـ دينية توجه الأمور وتسيرها استناداً الى آليات عمل لا تختلف كثيراً من حيث اطارها العام عن شكل الحكومات والنظم القائمة حالياً، رغم اختلاف الوظائف وطبيعة ممارستها ودرجة تعقيدها.
وبهذا الشان يؤكد الامام الخميني (رضوان الله عليه) في كتاب «الحكومة الاسلامية» «ان حكومة الاسلام هي حكومة القانون، فالفقية هو المتصدي لامر الحكومة لا غير، فهو ينهض بكل ما نهض به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزيد ولا ينقص شيئاً، فيقيم الحدود كما اقامها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحكم بما انزل الله»[7].
ويضيف الامام الخميني الراحل في كتابه المذكور بأن «حكومة الاسلام هي حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشرّع وحده لا سواه وحكم الله نافذ في جميع الناس وفي الدولة نفسها»[8].
ماذا يعني ذلك؟ بعبارة أخرى يعني ان الحكومات والدول الإسلامية رغم تعددها فهي تلتقي عند قواسم مشتركة عديدة، أبرزها وأهمها هو وحدة مصدر التشريع، وتماثل القوانين، وبالتالي التناغم والانسجام بين النظرية والتطبيق عند مستوى معين من المستويات، والذي يقود بدوره الى الاقتراب اكثر فاكثر من تحقيق الوحدة الإسلامية بين شعوب ومجتمعات قد تختلف فيما بينها في اللغة والثقافة والنظم الاجتماعية وتفصل بينها مسافات شاسعة الا ان نقطة التقائها هو الاسلام باعتباره المنظومة الاشمل والاكمل ـ والبوتقة التي ينصهر فيها الجميع ـ وتتوعب الجميع.
_____________________
[1] الاستقلال الثقافي: طريق الثورة نحو الاصالة الاسلامية، وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، اعداد محمد علي حسين، 1402هـ ـ ص 14.
[2] المصدر السابق، ص 15.
[3] المصدر السابق، ص 35.
[4] الحكومة الاسلامية: منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى، دروس فقهية القاها الامام الخميني على طلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف في عام 1389 هـ.
[5] المصدر السابق، ص 34.
[6] المصدر السابق، ص 72.
[7] المصدر السابق، ص 42.
[8] المصدر السابق، ص 47.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية