مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

حق المشاركة في صياغة النظام السياسي والاجتماعي
د. عباس علي عميد زنجاني


بسم الله الرحمن الرحيم
لكي يتم تعيين مدى الوعي الثقافي والسياسي لأي شعب، وكذلك مستوى الديمقراطية في المجتمع، يستعان بمعايير متفاوتة. منها: مسألة مشاركة الشعب في صياغة المصير العام والبناء الحياتي السياسي والاجتماعي ومقدار التمتع بهذا الحق باعتباره معياراً دقيقاً وعامّاً يركز على العلاقة المباشرة والارتباط العلمي بشكل دائم بالثقافة السياسية العامة لأي شعب، ومدى الديمقراطية فيه، حيث يقوم المفكرون والمنظرون في العلوم الاجتماعية والسياسية بدراستها بكل دقة.
وفي المجتمعات التي يتمتع أفراد الشعب فيها بحق المشاركة في النظام السياسي والاجتماعي تكون الديمقراطية عادة ذات مردود طبيعي مؤثر.
كما أن استيفاء هذا الحق يشكل دلالة على المستوى الرفيع للوعي والثقافة السياسية للشعب.
وتُعتبر المشاركة في صياغة مصير البلاد أسلوباً للحل القاطع في مجال الصراعات السياسية، ومبدأ أساسياً وسببياً للوصول إلى التغييرات الجديدة والتخلّص من الوضع الماضي غير المرغوب فيه.
ومن خلال القاموس السياسي العالمي اليوم، يعتبر حق القيام بالدور الشخصي في الحياة الجماعية والمشاركة والتأثير في بناء القدرة السياسية والحكومية جزءاً من الحقوق السياسية الفردية للمواطنين، إلاّ أنّ أثر ذلك يبدو في مجال الاستيفاء الفردي ولا تترتب عليه أية مسؤولية للمواطن.
في حين أنَّ النظرة الإسلامية لا تتلخّص عند بناء وتوجه المجتمع السياسي بمجال الاستفتاء، وإنما تتجاوز الآثار الحقوقية ـ لمبدأ المشاركة ـ مجال كونه حقاً خالصاً إلى مدىً أبعد. ذلك ان الإسلام يرى هذا الحق لازم الاستيفاء، ويعتبره مسؤولية لجميع افراد الشعب، ويرى ضرورة القيام بأيِّ سعي لتمهيد السبيل لاستيفائه.
إن حق المشاركة في المصير الاجتماعي وصياغة النظام السياسي وبناء الحياة الاجتماعية في الإسلام ليس مسألة مجردة ومبدأ منفصلا عن سائر المسائل، وإنما تجب ملاحظته في القاموس السياسي الإسلامي من خلال مسائل أخرى كالحرية، والاعتماد على الرأي العام، وحق الرقابة الاجتماعية، والشورى، والاستقلال، وحق التقاضي، والقيادة، ونظام الامامة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن لا ينحصر حق المشاركة السياسية في مجال حق إبداء الرأي أو التمتع بالصلاحيات السياسية بل يتعدى وفقا للتصور الإسلامي إلى مستوى القيادة والامامة ويمتلك الفرد حقاً ومسؤولية تخوله امتلاك دوره في قيادة المجتمع، والتمتع بدور بناء، ورأي مؤثر، ونشاط فاعل في هذا المجتمع.
وعلى هذا الأساس فان للفرد في الحياة الاجتماعية والسياسية مسؤولية المشاركة القائمة على أساس الحريات المشروعة وبالاستفادة من آراء الآخرين، ومبدأ الشورى، وحق التقاضي يستطيع أن يؤدي دوره من خلال مراقبة المسير العام للنظام، وإبداء الرأي في كل المسائل المتعلقة بالمصير الاجتماعي، وانتخاب القيادة والمسؤولين في المجتمع تحت إشراف من الامام والقائد الإسلامي، باعتباره حامياً لحق الحاكمية الإلهية.
ان حق المشاركة في المصير العام باعتباره مسؤولية اجتماعية ثقيلة العبء يمكن ملاحظته في النصوص الإسلامية من خلال قوله (ص) "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" [1] وها نحن نتابع البحث بشكل مفصل في إطار المسائل الآنف ذكرها على النحو التالي:
أ ـ حق المشاركة كمظهر للحرية الفردية في المجتمع
إن من أهم مظاهر حق الحرية الفردية في البناء الحياتي الاجتماعي مسألة القبول بحق المشاركة الفردية في تعيين المصير الاجتماعي. ولهذا يجب التركيز على مسألة الحريات السياسية، ودراسة مبدأ المشاركة في النظام الاجتماعي باعتباره مبدأً أساسياً. كما انه في مجال تعيين كيفية ومدى مشاركة الفرد في البناء الاجتماعي السياسي تجب ملاحظة مقياسية الحريات المشروعة لذلك.
ومن هنا فان علينا في مطلع هذا البحث أن نعين معنى الحرية. انها ـ كغيرها من المصطلحات السياسية ـ ذات معان متفاوتة وأشكال مختلفة، ولذا فهي تستعمل استعمالات متفاوتة أيضاً.
ونحن نعلم أنه في أي مجتمع يعيش فيه الافراد على أساس من تعهدات والتزامات لا يستطيع الفرد أن يشبع كلَّ رغباته دائماً، وأينما كان، إن الحرية المطلقة لا تعني سوى الفوضى ونقض الالتزامات الاجتماعية، فيجب الإذعان بأن نفس التحديد والتقييد الاجتماعي أمر لا مفرَّ منه، ويتم تعيين ميزان هذه التقييدات بواسطة الأفراد والمجموعات والحكومة، والمجتمع والظروف الحاكمة، وبالتالي بواسطة الفرد نفسه، إلاّ أنه يجب ملاحظة مدى صلاحية كل من هذه العوامل في تحديد حريات الأفراد، وعلى أساس أيّ معيار وميزان؟
ومن جهة أخرى فانَّ الحرية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعقائدية والفكرية، وكذلك الحريات المدنية وغيرها ليست أموراً منفكة عن بعضها وإنما هي متلازمة مترابطة. ولذا فان عرض تعريف دقيق للحرية يعدُّ أمراً مشكلاً بل وربما خارجاً عن حدود الامكان إذا اريد تقديم تعريف عام له.
وهذا "مونتسيكيو" يعرف الحرية بالشيء الذي يجيزه القانون، والاعلان الفرنسي لحقوق الإنسان (الموافق عليه بتاريخ 1789 م) بدوره يعرّفها بالقدرة على القيام بعمل لا يضر الآخرين.
ويرى البعض ان الحرية حالة وسط بين حالتين (عدم الاحتياج الاجتماعي للاجبار والإكراه، وحد الافراط والسيطرة الكاملة على كل اعمال الافراد) ويرى البعض الآخر انها تهيئة الفرص للفرد ليقوم بتنظيم حياته.
وهكذا نجد ان التخلص من القيود في اطار القانون، أو الحقوق القانونية التي تكتسب من العيش في مجال حاكمية حكومة ما، تعتبر تعاريف أخرى للحرية. ويتعلق القسم الاكبر من البحوث الراجعة للحرية، بعلاقة الفرد والدولة، وبتعبير آخر بعلاقة الإنسان بالقانون، والحقيقة أن المحور الأساس لبحث الحرية هو أن الفرد إلى أي مستوى يستطيع أن يبقى مصوناً من ملاحقة الحكومة والقانون في مجال فكره واظهار رأيه، ونشاطاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبتعبير آخر إلى أيّ مدى يستطيع القانون وحاكمية الدولة الحدّ من الأعمال الفردية والسيطرة عليها.
ويفلسف الغرب هذه الحرية باعتبارها إرضاءً للميول والرغبات والأهواء المادية، ويقيم مسألة وضع القوانين وميزان حاكمية الدول على أساس من ميول الأكثرية وشهواتها.
أمّا الشرق ـ فمن خلال إيمانه بالجبرية التاريخية، وحاكمية القوانين الديالكتيكية على العالم والانسان ـ يرى الحرية الإنسانية منحصرة في مجال تصعيد التناقضات وإيجاد الظروف وبالتالي في نوع من التوجيه المحكوم بالقوانين الديالكتيكية. وهكذا يقوم كل من الغرب والشرق ببيان الجهة التعليلية لحاجة الإنسان للحرية. فأحدهما يشير للميولات الحيوانية والمادية، والآخر يرى الانسجام مع قوانين التكامل، هو العامل الأصلي في البين.
امّا الإسلام فيرى للحرية هويةً وعاملاً إنسانياً، ويعتقد أن الإنسان يملك استعدادات كثيرة وميولاً إنسانية متعالية، وهذه الاستعدادات والميول السامية تشكل منابع للحرية الإنسانية، كما يرى أن ضرورة الحرية كامنة في ما يقتضيه التكامل الإنساني وهي بذلك حق إنساني ينشأ من الاستعدادات الإنسانية، فتحرر هذه الميول والاستعدادات العالية من أي مزاحم، وتمهيد الطريق لتكاملها، يشكلان المفهوم الصحيح للحرية في المذهب الإسلامي.
والقرآن الكريم يطرح مسألة الحرية في اطار التوحيد، ويدعو إلى تقيد الإنسان والتزامه بطاعة الله الذي يوضح له طريق تكامله، كما يدعو إلى النفي المطلق لطاعة ما سوى الله بأي نوع وأية وسيلة. فالعابد الحقيقي لله هو الإنسان الحر الذي لا يخضع لأية قدرة أخرى.
ان القرآن الكريم يعرض صورة الانبياء كرجال أحرار عملوا على تحرير شعوبهم ـ من القيود والأغلال التي فرضها كل الفراعنة والنمروديين والقياصرة وأمثال أبي جهل ـ مستهدفين تحرير الإنسانية من قيود الأسر الداخلي:
{ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}[2].
إن الحرية تبدأ ـ في المفهوم الإسلامي ـ من الأعماق أوّلاً، وما لم يتحرر الإنسان من قيود التبعية الداخلية فإنه لن يستطيع التحرر من الأغلال والعوامل الخارجية، وإن ما يقود الإنسان لتحمل أغلال الجبابرة هو القيود السافلة كالجهل والذلة والطمع والهوى والميولات الحيوانية. وحتى أولئك الجبابرة والطغاة الذين يقيدون البشرية هم أنفسهم أسرى الميول والأهواء والأطماع، وجنون العظمة، وطلب الاقتدار، والأنانيات، وعبادة الدنيا والشهوات. إنَّ النضال في الإسلام في سبيل الحرية لا ينتهي عند الجهاد العنيف ضد أعداءها، واقتلاع جذور الجبابرة المستعبدين للآخرين، وإنّما يجب على الإنسان أن يقوم إلى جانب ذلك بعملية جهادية أكبر ليحرر نفسه من العمق ويقطع اغلاله الداخلية، ويحرر نفسه من عبوديتها وتبعيتها السافلة.
يقول أمير المؤمنين (ع) في إحدى خطبه:
"فإنّ الله بعث محمداً (ص) ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته "[3] وكان هدف الأنبياء تخليص أفراد الإنسان من ولاية ما سوى الله {لا تتخذوا أولياء من دون الله} وصراعهم ضد طواغيت زمانهم يتلخص في العبارة التالية: {أن عبَّدتَّ بني إسرائيل}[4].
ويؤكد الإسلام على هذا المعنى:
"لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً "[5]
وكذلك يصرّح "الناس كلهم أحرار"[6].
إنّ الحرية في المفهوم الإسلامي لا يمكن فصلها عن الالتزام الإنساني نحو الله، والقبول بولايته، والتسليم له ولحاكميته التشريعية. ولهذا فهي حقيقة ذات معنى تبتني على أساس من نظرة كونية وتوحيدية عميقة.
والعنصر العقلاني دخيل في المفهوم الإسلامي عن الحرية، والانسان بالنسبة للأعمال والأفكار غير العقلانية ليس حرا، والإسلام لا يحترم هذا النوع من الحريّة أبداً.
إنّ الإسلام في الوقت الذي يطرح فيه فكرة {لا اكراه في الدين} فتحرّم من خلالها الفكر والحرية العقائدية يرفض مطلقاً العقائد التي تفرض على الإنسان بشكل تقليد أعمى، وبأسلوب غير عقلاني، ولا يحترم مثل هذه الأفكار بالمرة.
لقد حطم إبراهيم (ع) الأصنام ووصمها رسول الإسلام بكل سوء وأصدر بالتالي أمراً بتحطيمها، ولم يسمح مطلقاً للخرافات المعتمدة على الأوهام والتقليد والإكراه العقائدي أن تجد طريقها إلى العقول. ذلك أنّ مثل هذا النوع من الحرية واحترام مثل هذه العقائد يعد في الواقع نمطاً من أنماط الإغراء بالجهل وإبقاء الأفراد يرسفون في قيودهم.
إنّ تعاليم القرآن الواردة في مجالات التعقل والتفكر والتدبّر تدل كلها على الحرية الفكرية والعقائدية، لأن هذين الأمرين متلازمان تماماً، وكلاهما يستلزمان حرية بيان العقيدة والفكر أيضاً، ولكن نقل الأفكار إلى الآخرين يجب أن يُلاحظ فيه مدى الحرية، وهل انّ الإنسان حرٌّ في نقل أفكاره إلى الآخرين بأسلوب يسلبهم فيه حريتهم الفكرية والعقائدية ويضلّهم ويغويهم؟ وإذا كانت الظروف غير متعادلة، ولم يكن هناك التوازن الفكري المطلوب، وتم إلقاء العقيدة بشكل غير عملي ودون ترك أي فرصة للاختيار، وفسح المجال لأعمال الارادة والحرية من قبل الآخرين، فهل ان الحرّيّة والبيان والصحافة والنشر والبيانات الحزبية والتعليمات الدينية مسموح بها والحال هذه؟!
إنّ الدستور الإسلامي للجمهورية الإسلامية في إيران يصرح بعدم جواز تفتيش العقائد، وعدم جواز مطاردة أيَّ انسان لمجرد تبنّيه عقيدة معينة [7][6]، كما يؤكد أن المنشورات والمطبوعات حرة في بيان موضوعاتها إلاّ أن تكون مخلَّة بالتعاليم الإسلامية أو الحقوق العامة وذلك كما بينت تفاصيله في قانون المطبوعات.
وإنّ تفتيش الرسائل وعدم إيصالها، والإنصات إلى المكالمات التلفونية وفضح البرقيات والتلكس، والرقابة بالحذف، وأيَّ نوع من التجسس يعدُّ نوعاً من سلب الحرية وهو ممنوع إلاّ في الموارد التي يجيزها القانون بحكم المصالح العامة ومتطلبات الأمن والضرورة. وقد منحت الحرية للأحزاب والجمعيات والمحافل السياسية والنقابية والجمعيات الإسلامية والأقليات الدينية المعروفة (الزرادشت واليهود والنصارى) شريطة ألاّ ينقضوا مبادئ الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية، والموازين الإسلامية والأساسية للجمهورية الإسلامية، ولا يمكن منع أيِّ فرد من الإشتراك فيها أو إجباره على ذلك.
وقانون الأحزاب هو الذي يبين الموارد التي تُستثنى من هذه المادة، ويوضح موارد المنع.
وهكذا نجد أنّ تشكيل الاجتماعات والمسيرات دون حمل للسلاح مسموح به شريطة أن لا يخلّ بمباني الاسلام، ولكل واحد الحق في أن يختار العمل الذي يرغب فيه دون أن يكون مخالفاً للاسلام وللمصالح العامة وحقوق الآخرين.
وعلى الدولة ـ مراعية حاجات المجتمع للأعمال المختلفة ـ أن توفر لجميع الأفراد فرص العمل المتساوية، إذ بدون ذلك ليس لحرية اختيار نوع العمل أيُّ معنى، والملاحظ في الاستخدام الوظيفي هو ملاك الأمانة والخبرة تماما كما قال أمير المؤمنين (ع) "لا تقبلنَّ في استعمال عُمّالك وأمرائك شفاعةً إلاّ شفاعة الكفاءة والأمانة"[8].
حق المشاركة والتظّلم
إنّ شعار {لا تظلمون ولا تظلمون}[9] ولزوم فضح الظالمين {لا يحبُّ الله الجهر بالسّوء من القول إلاّ من ظلم}[10] ونفي الظلم والانظلام في الإسلام كلّ ذلك يؤدي إلى احترام حق التظلم والتقاضي لتحقيق العدالة، والحصول على حق المشاركة في صنع المصير العام، ويجعله واجباً لإحياء الحق والعدالة، ومحو الظلم والباطل.
وإنّ الأهميّة الخاصّة والقيمة الخطيرة التي يمنحها الإسلام لعملية إجراء العدالة والقضاء، تُعبِّر عن الاحترام الخاص لحق التظلم والتقاضي في كل المجالات ومنها مجال استيفاء حق المشاركة في الحياة السياسية الاجتماعية. والعمل على إيجاد المحاكم الصالحة هو أوّل شرط من شروط احترام حق التظلم وفسح المجال للتقاضي أمامها فإذا تعرض حق المشاركة في صنع المصير العام للنقض أمكن للأفراد الرجوع إلى هذه المراجع لاستيفاء الحق، ومن هنا فإنّ الدستور الإسلامي يصرح بأنَّ:
"لكل فرد من أفراد الشعب ان يتقاضى أمام مثل هذه المحاكم، وليس لأحد أن يمنع الآخر من مراجعة المحكمة التي يحقّ له التقاضي أمامها.
ولمّا لم يكن كلُّ أحد قادراً على الدفاع عن نفسه وإقامة الدعوى، فإنَّ حقَّ انتخاب المحامي هو من الحقوق التي يحترمها القانون، وهو ما يَجْبُر قلّة المعلومات الحقوقية لدى المواطنين في مجال استيفاء حق المشاركة.
وإنّ حق التقاضي يمنح كلَّ فرد الفرصة ليقوم بواجبه في الوفاء بدوره في صياغة الحياة العامة (سياسياً واجتماعياً) ورفع كل الموانع التي تمنعه من قيامه بذلك".
حق المشاركة والاعتماد على الآراء العامة للشعب
إنّ ادارة أمور البلاد ـ في النظام السياسي الإسلامي ـ تعتمد على الآراء العامة للشعب إلاّ أنّ ما يجب أن يتضح في مطلع هذا البحث هو مفهوم الآراء العامة نفسه وماذا يعني؟ وكيف يمكن الحصول عليه؟ وبأيّ معيار نستطيع التمييز بين الآراء العامة والشائعات، أو الرأي العام الناشئ من تيارات منحرفة، وأمثالها؟
فالكثيرون يرون أنَّ الآراء العامة هي تلك الأفكار العامة المنسجمة مع الديمقراطية الغربية أو الليبرالية، في حين يرى الآخرون أن الآراء العامة هي بمنزلة الوجدان الواعي للشعب، بما شبهوها بالمحكمة التي لا تملك سلطة قضائية وربما أسموها الضمير الباطني للشعب والقدرة السياسية المجهولة.
إلا أن المقصود من الآراء العامة كما تفيده الكلمة نفسها هو تلك المجموعة من الأفكار المدروسة التي تنتهي إلى رأي الشعب ووعيه وعقيدته بحيث يعتبر أنّ الشعب قد منحها رأيه.
ولما كان الإيمان بالتعاليم والقيم الإسلامية يُشكّل ـ في المجتمع الإسلامي ـ الأساس الأصيل لفكر المجتمع فإنَّ الاشتراك الفكري والتوافق أمر طبيعي، ففي المجتمع التوحيدي يمكن الإجابة بكلِّ سهولة على هذا السؤال وهو: كيف تتشكل الآراء العامة ومن أين تنبع؟
وأهم المسائل التي قد تشكك في الاشتراك الفكري في المجتمع التوحيدي الإسلامي هي الإحساسات الّلامنطقية والشائعات والعناوين البارزة للصحف ووسائل الاعلام العامة، والاعلام المحترف من قبل المجموعات والأحزاب والتيارات المنحرفة. ذلك أنَّ تيار الفكر الذي ينشأ من هذه الطرق غير المنطقية قد يكون قوياً جازماً بحيث لا يمكن التمييز بينه وبين الآراء العامة، وحينئذ يكون الوجدان العام والآراء الحقيقية للشعب مغلوبة تجاه التيار المنحرف، ومن هنا فإنّ خاصية الاعتماد على الآراء العامة في الدولة الإسلامية تسير مع مبدأ الدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولمّا كانت العقائد والآراء العامة معرضة لتأثير الأحاسيس والاعلام المضلل والتيارات المنحرفة كان من اللازم ـ لكي يتمّ تشخيص الآراء الواقعية للشعب ومعرفة مدى عمق الفكرة والاعتماد ـ أن تُتَّخذَ بعضُ الاساليب لهذا الغرض.
وهناك طريقان يمكن طرحهما لتشخيص الآراء العامة وهما:
1 ـ الانتخابات التي تتمّ لاختيار رئيس السلطة التنفيذية وممثّلي السلطة التشريعية، وأعضاء مجالس الشورى وأمثال ذلك.
2 ـ الاستفتاء العام الذي يُجرى في موارد خاصة.
ورغم أن الصحف والأحزاب وأكثر الساعين نحو السلطة يدَّعون دائما ـ لأنفسهم ـ أنهم ألسنة الشعب المُعبِّرة والمتحدِّثون باسم الأفكار العامة وأنّ آراءهم تُعبِّر عن الوجدان الواعي للشعب والآراء العامة، ويستفيدون من هذا الادّعاء لبثّ الخلل في الأفكار العامة وبعث الفوضى والاضطراب في الوجدان والضمير الباطني للشعب إلاّ انّه لا يمكن الأنكار حقيقةً، أنَّه قد ينبع من مجتمع ما فردٌ بارزٌ ثم يذوب في المحيط الاجتماعي للشعب كقطرة في بحر، ويكتسب وعياً صحيحاً صادقاً عن شعبه، ويكسب احترام شعبه له إلى الحدِّ الذي يجعله لسانَ الأمةِ، والمعبِّرَ عن تطلُّعاتها وضميرها الباطني، وبالتالي يعود رأيه مُعبِّراً عن الأفكار والآراء العامة.
ولكن لمّا كان لهذا الأمر مُدَّعون كُثْرٌ، وربما كان تشخيص مدى صِحَّة مدّعاهُم صعباً فإنَّه لابدَّ من الرجوع إلى الآراء العامَّة عبر أحد السببين (الانتخاب أو الاستفتاء) إلاّ أنّ هذا الموضوع أثار عدة أسئلة لدى البعض. فهم يتساءلون ما هي مدى حاجة النظام الالهي الذي تعتمد على ولاية الفقيه ـ على ولاية الفقيه الجامع لكلّ الشروط المطلوبة ـ إلى الرجوع إلى آراء الشعب؟ اليس هذا نوعاً من الشرك مثلاً؟ وفي جواب هذا السؤال وهذه الشبهة يجب التنبُّه الدقيق لبعض النقاط:
1 ـ إنَّ الله تبارك وتعالى خلق الإنسان حراً، وجعله مسلَّطاً على تقرير مصيره، وعليه فإنَّ أعمال الناس يجب أن تستند إلى إرادتهم الحرة وآرائهم الانتخابية.
2 ـ إنَّ نفي الإكراه الوارد في الآية {لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرُّشدُ من الغَيِّ}[11] ولا فرق هنا بين أن نفسِّر الآية بأنَّ الدين ممّا لا يقبل الإكراه عليه أو نعطيها مفهوماً إنشائياً بأن نقول يجب عدم الإكراه على الدين ذلك أنّه على كِلا المعنيين يثبت مبدأ كون المسؤوليات اختيارية.
3ـ إنّ الإجبار يعتبر من وجهة نظر الحقوق الإسلامية أمراً لا يترتَّبُ عليه أيُّ أثرٍ حقوقي، وإنَّ الالزامات الناشئة من الإكراه والإجبار لا قيمة لها. وذلك لأن عبارة "وما استكرهوا عليه" واردة في حديث الرفع "رفع عن امتي تسع …".
4 ـ تؤكد السنّة أنّ الرسول الأكرم (ص) أقدم مرتين على أخذ البيعة إحداهما قبل الهجرة إلى المدينة، والأخرى أثناء بيعة الرضوان وهي تعبير عن الاحترام والاعتماد على الآراء العامة {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}[12].
5 ـ وقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
"لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أنْ لا يُقَارُّوا على كِظَّة ظالِم ولا سَغَبِ مظلوم"[13] وكذلك عمله أثناء خلافته حين اخذ البيعة من الشعب.
6 ـ ويُعتبر (الشياع) أحد الموارد المعبِّرة عن الواقع. وليس الشياع إلاّ الآراء العامة والأكثرية الساحقة للشعب.
7 ـ والأصل العقلي يؤكّد ترجيح رأي الأكثرية في قبال ترجيح رأي الأقليَّةِ أو الفرد، وذلك في حالة عدم وجود مرجِّحٍ آخر.
وبديهي أن مبدأ الاعتماد على الآراء العامة لا يعني منح الأصالة للنظر والرأي مقابل الوحي، وإنّما يعني احترام العقل في قبوله للوحي واختباره في لجوئه لهذا الوحي أيضاً. ولهذا نجد المعايير الإسلامية لا تفقد أصالتها إذا لم تنل تأييد الرأي العام نتيجة بعض الانحرافات المذهبية إلاّ أنَّ المجتمع الإسلامي الموجَّه ـ كما تؤكد المادة الثامنة ـ ووفقا لفطرته الإنسانية السليمة يعطي النظام الإسلامي ـ علاوة على مشروعيته في نفسه ـ سنداً شعبياً عبر اعتماده على الآراء العامة.
وكما نلاحظ أن هناك خطراً يهدِّد على الدوام النظم السياسية الصالحة والشعبية فهي رغم قابليتها قد يتسلَّمُ مسألةَ توجيه الأفكار العامة فيها أناسٌ طالبون للتسلطِ ومجموعات منحرفة، وبالتالي تخلق أجواء ضالة للناس تقودهم فيها تيارات منحرفة، ويفقد فيها النظام الآراء العامة المؤيدة. وفي مثل هذه الظروف يجب أن يبدأ الصراع الرسالي والشعبي من جديد، إلاّ أنّه في الجمهورية الإسلامية ـ ومن خلال ما خُطِّط له في المادة الثامنة ـ لا يوجد مجال لمثل هذا الأمر.
وهنا ينطرح هذا السؤال ويتطلب الإجابة، وهو هل انَّ الصلاحيات الكبرى التي يتمتع بها الفقهاء في النظام الجمهوري الإسلامي تقود الشعب إلى طريق غير مسدود؟ إنَّ مما لاشكَّ فيه أنّ الشعب الذي يقبل الحكومة الإسلامية كنظام رسالي، لا يعني إلاّ الإذعان لرقابة وولاية الفقهاء والمفكرين المسلمين الجامعين للشرائط.
واذا كانت هناك مجموعة تشكُّ في ذلك أو تُنكِرُ فإنُها لا يمكن أن تُنكر حقيقة أنّ الناس بأكثريتهم قد قبلوا هذا النظام وهم ملتزمون به. والديموقراطيّة لا تعني غير هذا. فاذا كان الناس في خطأ كبير ـ كما يتصور هؤلاء ـ فهذا لا يخرج المورد عن الديموقراطية.. إنّ كلَّ المجتمعات قد تنقسم إلى مؤيد ومعارض إلاّ أنّ المحور هو الآراء العامّة.
وهل يمكن قبول مذهب ما كإطار لنظام سياسي دون أن يكون للاخصّائيين في ذلك المذهب حق القيادة الاجتماعية؟ أليس تناقضاً أن نطالب بحاكميّة الله من جهة، ونرفض أن يكون المنفّذ الشرعيّ لحاكميةِ الله هو الفقيه الجامع لكل الشروط التي يشترطها المذهب في القائد من جهة أخرى؟
إنَّ ممّا لا ريب فيه أن إنكار رقابة الفقهاء أو الفقيه على مراكز التخطيط وقيادات الجامعة يعني أننا لم نقبل النظام الإسلامي، وبالتالي فقد وقعنا في تناقض واضح.
إنَّ النقطة المهمة هي أنَّ ولاية الفقيه لا تعني الحكومة المطلقة، فقد شخص النظام الإسلامي حدود اختيارات ولي الأمر في موارد معيَّنةٍ. وهناك موارد تعمل على السيطرة على المسيرة القياديّة.
في ختام هذا البحث تجب الإجابة عن هذا السؤال: إذا كان النظام رساليّاً حيث تقوم كلُّ المقررات والقوانين على أساسٍ من الموازين الإسلامية، فماذا يبقى للشعب والآراء العامة فيه من دور حتى يمكن الحديث عن الآراء العامة؟
إنَّنا نرى أن نفس هذا السؤال يوضح جوابه بشكل لا شعوري. ذلك أنَّ القبول بمذهب معيَّنٍ يؤطِّر النظامَ، وتطابق المقرّرات والقوانين مع الموازين الإسلامية، من قبل الناس، يعني الرجوع إلى الآراء العامة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ انتخابَ القيادة واختيار الخبراء لتعيين القائد أو مجلس القيادة، وانتخاب رئيس الجمهورية وممثلي مجلس الشورى الإسلامي، وكذلك انتخاب أعضاء مجالس الشورى الأخرى الوارد ذكرها في الدستور؛ من الموارد الأخرى للرجوع إلى الآراء العامة.
هذا إضافة إلى أنَّ القوانين والمقرَّراتِ للبلادِ لا ترتبط كلهُّا بمواردِ الأحكام الشرعية الإلزامية. فانَّ الكثير من المسائل الجارية في البلاد هي من مقولة الموضوعات والمباحات، وهي أمور لا رأي خاصاً للشارع فيها. وفي مثل هذه الموارد يجد الرجوع إلى الآراء العامة معناه الكامل.
ثم ان التخطيط لتنفيذ الأحكام الإسلامية هو بدوره يشكل دائرة واسعة من دوائر الرجوع إلى الآراء العامة، فإنّ كل ذلك مما يُرجَع فيه إلى الآراء في إطار الدولة الإسلامية، وعلى أساسه يتعين تدخل أيّ فرد في صنع مستقبل البلاد وبناء النظام الاجتماعي والسياسي للمجتمع، وفي الحقيقة فإنّه يجب جعل حق المشاركة أساساً لمبدأ الرجوع إلى الآراء العامة.
حق المشاركة ومبدأ الشورى
إن مبدأ الشورى باعتباره أسلوبا من أساليب إدارة المجتمع ينطلق من التعليمات الواردة في القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، وبملاحظة الآيات القرآنية التي تتحدث عن أسلوب عمل المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم}[14] أو الأمر الصادر للرسول (ص) {وشاورهم في الامر}[15] واستعراض النماذج العملية في سيرته (ص) في معركة بدر، وأحد، والخندق، وكذلك في المعاهدة التي عقدها مع أهل الطائف يوجب الإذعان لهذا المبدأ دون تردّد.
خصوصاً وأن الروايات الإسلامية تؤكد على مبدأ المشاورة مع المتخصصين الملتزمين الذين يخافون الله حتى أنَّ المشاورة أعتُبرت سبيلاً لكشف الواقع "المشاورة استظهار"[16] وسبيلاً للهداية "الاستشارة عين الهداية "[17] والاستقلال في الفكر والاستبداد به مقابل التشاور ضلال "من استغنى بعقله ضلَّ"[18] وجاء التأكيد على أن افضل المشاورين هم العلماء والمفكرون المجربون وبعيدو النظر الخائفون من الله "خير من شاورت ذوو النهى والعلم وأولو التجارب والحزم"[19] و "شاور في أمورك الذين يخشون الله تَرشُدْ"[20].
كما يمكن معرفة مشروعيّة مبدأ الشورى بنحوٍ ما من الإجماع وسيرة المسلمين وهما من الأدلّة المعتبرة والمصادر الفقهية، ومبدأ الشورى في الإسلام لا يعني اتخاذ الموقف في كل الأمور والشؤون فلا مجال له في أمور الأحكام الإلزامية {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولهُ أمراً أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرهم ومن يعصِ الله ورسولَهُ فقد ضَلّ ضَلالاً مبيناً} (الأحزاب: 36 ).
إلاّ أنَّ المسألة المهمة هي كيفية تنفيذ هذا المبدأ الإسلامي وهي انما تتم بأسلوبين: الأول: أن تعتبر الشورى ذراع الإدارة والعقل المفكر والموجه واليد التي تسيطر على الإدارة ولكنها لا تتحمل مسؤوليّات الإدارة وإنَّما تؤدي دورها ـ عندما تشاهد أي انحراف ـ من خلال المراجع القانونية.
الثاني: أن تكون الشورى هي المُخطّطة والمُصمِّمة بدلاً من الإدارة الفردية. فهي تتحمل مسؤولياتها ووظائفها الإدارية.
وفي الدولة الإسلامية يمكن تصور النوعين معاً. فمجلس القيادة، ومجلس المحافظة على الدستور، ومجلس القضاء الأعلى، ومجلس الدفاع الأعلى، ومجلس الشورى الإسلامي يمكن عدّها جميعاً من مصاديق الاسلوب الثاني، في حين تكون مجالس الشورى التي تقف إلى جانب الإدارات الصناعيةِ والزراعية من النوع الأول. فهي تمتلك جانب الهداية والارشاد والتفكير للأمر.
وقد تصور البعض من كون النظام السياسي الإسلامي قائماً على أساس الشورى أنّ القطر الإسلامي يشكل مناطق ذات استقلال ذاتي تتحد اتحاداً فدراليّاً حيث قدّم الاقتراح بهذا الشأن في البند 44 من نشرة مجلس الخبراء على النحول التالي:
(إنّ الادارة المحلية ذات الحكم الذاتي تقوم على إدارة أمور المنطقة، ولكنها مكلفة بتنفيذ السياسة الفدرالية العامة التي يوافق عليها المجلس الفدرالي العام، وتبذل كل جهدها لتحكيم الانسجام والتعاون بين كل ابناء الشعب الايراني) وقد أشير في موارد منه إلى النظام الفدرالي في امريكا وروسيا وألمانيا. وهو قياس مع الفارق. واذا لاحظنا ما قدَّمه (موريس دوروجيه) من تعريف للنظام الفدرالي في كتابه (النظم السياسية) لوجدنا أنَّ هذا النظام يعني (تحديد حاكمية العضو لمصلحة سلطة مركزية) ونعرف أن هذا النوع من الحكم إنّما يأتي في الأقطار المستقلة التي تملك حاكمية مطلقة، والتي تسعى من خلال موافقة مجالسها القانونية للاجتماع على محور واحد فتشكل ـ وفق معاهدة ما ـ دولة فدرالية كما هو الحال في الاتحاد السوفيتي والدولة الأمريكية الفدرالية. ولنا في هذا المجال بحث خاص.
إلاّ أنّ التذكير بهذه النكتة ضروري وهي أنّه لا يمكننا الاستناد إلى اطلاق قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} أو {وشاورهم في الأمر} للاجابة بالإيجاب على كلِّ الموارد. ذلك أنَّنا يجب أنّ نتنبه إلى أن الشورى لا تشكّل الأساس الوحيد للنظام السياسي الإسلامي. ومن هنا فإنّنا نجد نوعاً من الحلِّ يجمع بين الشورى والإمامة في النصوص الإسلامية مثل حديث "إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد"[21] وقول الإمام علي (ع) لابن عباس "لك أن تشير عليَّ فإذا خالفتك فأطعني"[22]، كما أنّنا يجب أن لا نخلط بين نظام الشورى ومسألة الرجوع للآراء العامة، والتبعية للأكثرية.
إنَّ مبدأ الشورى يعني تبادل النظر وجمع الآراء للوصول إلى الفكرة الأفضل والسبيل الأصلح، ولهذا فإنّ الاستشارة لا تتم مع أيِّ أحد كان، ولا يشترك في الشورى كل أحد، بل إنما تتم مع أهل التقوى والخير والمهارة والتخصّص الكافي في الموضوع المستشار فيه: {إنما الشورى للمهاجرين والأنصار} [23][24]، و "وخير من شاورت ذو والنهى والعلم وأولوا التجارب والحزم"[25].
ثمّ إنّ مبدأ الشورى لا يتنافى مع مبدأ ولاية النبي الأكرم (ص) والإمام المعصوم (ع)، ومع الولاية النيابية للفقيه والمستندة للولاية والحاكمية الإلهيّة {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة واذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبينا} (الأحزاب: 36).
ومن هنا يظهر جلياً أنّه لا يوجد حكم قاطع في النصوص الإسلامية بالنسبة للموارد التي يتمُّ الاختلاف فيها من قبل الشورى. وبالنسبة للأنماط العملية للشورى، والتي قام بها الرسول الأكرم (ص) في غزوة بدر وأحد والطائف، اتبع فيها رأيه في النهاية بعد وقوع الاختلاف، ولكننا نجد الامام أمير المؤمنين (ع) يستدل في مسألة خلافته بالشورى فيقول: "وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماما كان ذلك لله رضى"[26].
ولزوم البيعة هي النتيجة المباشرة للشورى، وإعلام الغائبين عن الشورى بنتائجها هي النتيجة المنطقية لبيعة الحاضرين، "فلم يكن لشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردَّ"[27] "فلم يكن للشاهد أن يرجع ولا للغائب ان يختار"[28] ولذا وجدنا أن الكثير من العلماء قد حملوا كلام الامام هنا على أساس قاعدة الالزام أي "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم" [29]. كما أنّه يُحتملُ أنَّ الإمام في استدلاله قد اعتمد على مبدأي الشورى والبيعة (أي الرجوع إلى الآراء العامة لا مجرد الشورى).
وهكذا نجد أنَّ مبدأ الشورى في الواقع يحدِّدُ حتى المشاركة في صنع المصير الاجتماعي، ويوضِّحُ هذه الحقيقة وهي أنَّ استيفاء هذا الحق مشروطٌ بدراسة آراء الآخرين، وأنه يجب أن يتم حق المشاركة من خلال عملية الشورى.
حق المشاركة والرقابة العامة
لقد ابتليت معظم الثورات في ظروفها الصعبة بالانحراف، واستقرّت أخيراً في أيدي طلاب التسلّط والتفرد، وعادت ألعوبة بأيدي الافراد والجماعات. وهذا الخط يهدد دائماً الدماء التي أثمرت هذه الثورات، والصراعات التي انتهت إلى النصر، والثورات المستقرة، والنظم المعتمدة على الشعب.
وإنَّ أكمل النظم السياسية هو ذلك النظام الذي يحمل في أعماقه مقومات بقائه، ويستطيع ـ بما يمتلك من عناصر هي جزء من النظام ـ أن يُوقفَ نموَّ العوامل السلبية في داخل المجتمع، فيتمتع لذلك بقوة حصانة داخلية.
وإن النظام السياسي الإسلامي المعتمد على الرسالة الإسلامية الجامعة يتمتع بمثل هذه الخاصيّة البارزة.
إن المبدأ الإسلامي المتكفل بالرقابة العامة حيث يكون الكل مسؤولين عن بعضهم البعض، والمسؤولية العامة والمتبادلة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والملقات على عاتق الشعب بعضه مع البعض الآخر، وبالنسبة لعلاقته بالحكومة وعلاقة الحكومة به، كل هذا منح النظام الإسلامي قدرة ذاتية، ـ كما يمنحه بشكل مستمر وعياً شعبياً ـ وقدرة عملية للسيطرة الداخلية إلى الحد الذي لا يفسح المجال معه لقوى الفساد أن تعيث فيه انحلالاً وضعفاً، ولا يتجاوز تفكير الشعب حدود الحق والخير، ولا يبقى مجال للمنحرفين والمتسلِّطين وذوي المنافع الضيقة.
الرقابة العامة ومراحل نمو المجتمع الإسلامي
ولكي نوفق لتحليل هذا المعنى نجد من الضروري أن نبيّن الأطروحة الإسلامية لتحقيق أرضية التكامل والنمو في المجتمع الإسلامي من خلال مراحل أربع هي:
المرحلة الأولى: إن التعليم والتعلُّم يجب ان يتمّا في كل المستويات بالنحو الذي تتمّ معه الافاضة من المستويات العليا إلى السفلى، والجِذب من المستويات السفلى بالنسبة للمستويات العليا.
والقرآن الكريم والنصوص الإسلامية حافلة في هذا المجال بالمعاني الرائعة، ونحن هنا نكتفي بنصين للرسول الأكرم (ص) إذ يقول:
1 ـ "أربعة تلزمُ كلَّ ذي حجىً وعقل من أمتي": قيل يا رسول الله (ص) وما هي؟ قال:
"استماعُ العلم، حِفظُه، ونشرُه، والعملُ به" [30].
2 ـ "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلَّغها إلى من لم يسمعها".
وبتنفيذ هذه المرحلة في المجتمع الإسلامي ينتفي أهم مجال لاستغلال القوى وهو الجهل.
المرحلة الثانية: الدعوة بالحق والخير والإرشاد والهداية الفكرية في مجال الحق والباطل والخير والشر باعتبار هذه الدعوة الوظيفة المتبادلة للمجموع:
1 ـ {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن}[31].
2 ـ {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير} [32].
وفي هذه المرحلة تتلقى جماهير الأمة بواسطة الواعين الأمناء الملتزمين، للتوعية الضرورية دائماً، وتعرف خيرها من شرها، وينغلق الطريق أمام الخداع والاستغلال.
المرحلة الثالثة: مرحلة طلب الخير للآخرين والتألم لهم وهو ما عبَّرت عنه النصوص الإسلامية بـ (النصح) ووفقاً لمبدأ "كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيته"[33] فإن الجميع يرون أنفسهم شركاء في تحمل مسؤولية الآخرين وإنَّ مصيرهم مشترك وهذه العلاقة تشد العواطف الاجتماعية إلى بعضها شدّاً محكماً تماماً، كما يقوم ركاب حافلة ما بنهي السائق عن الإسراع أو الالتزام بقوانين المرور العامة لأنهم يدركون ارتباط مصيرهم بمصير السائق تماماً.
وللمرحوم الكليني في أصول الكافي فصل تحت عنوان "النصيحة لأئمة المسلمين" ينقل فيه الحديث التالي "ثلاثة لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: اخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم"[34].
ويقول الامام الصادق (ع) وهو يوضح مسؤوليات الأعضاء نحو الله تعالى "وزكاة اللسان النصح للمسلمين والتيقظ للغافلين"[35].
وفي هذه المرحلة يلعب النقد السليم والبناء ـ النابع من العواطف والالتزام بالمسؤولية والمصير المشترك والمتبادل لأبعاد المجتمع وزواياه ـ دوراً مهمّاً نظير دور اللّعاب في الفم، أو الانسولين في المعدة، حيث يسهل مراحل الهضم السليم، ويشبع حاجة البدن، وينفي كل الشوائب والموانع وأنماط الرين والوسخ.
المرحلة الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما من الفرائض الدينية الكبرى والضمان لتنفيذ الأحكام الإلهية، ووصفتهما النصوص الإسلامية بعبارة: "بهما تقام الفرائض" و "أسمى الفرائض".
يقول تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[36].
وقد اعتبرت هذه النصوص ترك هذه الفريضة الإلهية الكبرى أهمّ العوامل في ظهور الطواغيت وانتشار الفساد والضلال في المجتمع، وبلغت إلى حدٍّ اعتبرت فيه تبدُّل القيم وحلول القيم السلبية محل القيم الحقيقية في المجتمع التوحيدي نتيجة ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أيجاد أرضية تحقق المعروف والأعمال والأساليب الصالحة، ونفي الأرضية المساعدة لظهور المنكر والأعمال الطالحة والفساد والضياع، ولهذا فإن كيفية القيام بهذه المرحلة تختلف باختلاف الظروف. وفي الواقع يجب القيام في كلِّ مورد ومورد بما يقتضيه الأمر ليتمَّ تحقق المعروف وتنتفي أرضية المنكر، وبذلك يتمّ للفرد القيام بدوره في المشاركة في البناء السياسي والاجتماعي.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتمّان بنحو القول تارة وبشكل العمل تارة أخرى، كما يتمان مرة ثالثة بشكل التخطيط وتهيئة الأرضية المناسبة، كما أنّه قد يتمُّ تحقيقهما بالاكراه والإجبار. وفي كل هذه المراحل فان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوضح حق مشاركة الفرد في المصير الاجتماعي العام.
ورغم أنّه في النظام الجمهوري الإسلامي تتمّ السيطرة على الخطوط والحركات في المجتمع الإسلامي بواسطة الفقيه العادل الواعي لزمانه، الشجاع والمدير المدبّر، وتغلق بذلك أبواب الانحراف والابتذال والرجعية في النهضة ومحو مكاسب الثورة إلاّ أنّه تتمّ عملية سيطرة داخليّة أكثر جامعيةً وشمولاً بحيث تشمل القيادة نفسها، فتمنع أي انحراف أو ابتذال ورجعية في أي بُعد كان في المجتمع، وبالتالي تنفي تسرُّب العلل والأمراض إليه.
وبنفس المستوى الذي تمتلكه في الإسلام فريضة التعليم والتعلّم، والإرشاد والهداية، والنصح وطلب الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأهمية السامية بحيث تفضل على باقي الفرائض ويُعبِّر الإمام الصادق (ع) عنها: "بهما تقام الفرائض" فإنَّ هذه الخصائص ترجح على مميّزات وخصائص النظام الجمهوري الإسلامي إلاّ أنَّنا لم نشاهد مع الأسف قيام الحكومة بشكل رسمي بعمل مؤثر في هذا السبيل، ومتناسب مع المادة الثامنة من الدستور، تاركة إيّاه على حالته السابقة، في حين أنّ وزارة الإرشاد الإسلامي ومنظمة الاعلام الإسلامي ودائرة مكافحة المنكرات والمحاكم والجرائد ووسائل الاعلام العامة والمنظمات المتنوعة تقوم كل بدورها بالنسبة للمادة الثامنة من الدستور. إلاّ أنّ اللازم هو قيام تنسيق مركزي في هذه النشاطات دون أن يتحول العمل إلى روتين رسمي، فتقوم الدولة بما يلزم لتوسيع نشاط الفعاليات والمسؤوليات النابعة من هذه المادة.
حق المشاركة وحق النمو والتحرر
من المتعارف أن تعتبر الحرية مقابل الاستبداد الداخلي والاستقلال مقابل النفوذ والتسلط الأجنبي ناشئتين من حاكمية الشعب، إلاّ أنّه ـ ووفقا للثقافة الإسلامية فانَّ الحريّة والاستقلال تعتبران ولدين لأمّ واحدة، ووجهين لعملة واحدة. إن الحرية في المفهوم الإسلامي لا تنبع من الميول والرغبات المادية الإنسانية لكي تحدد بحرية الآخرين وميولهم. إنّ الحرية موهبة إنسانية خاصة، ويجب أن تكون متناسبة مع الخصائص الإنسانية وناشئة منها.
عن الإنسان يمتلك قدرة تفكير منطقي، وميولات ساميةً: من قبيل الميل نحو المعرفة، والخير، والجمال، والتدين وأمثال ذلك من مختصات الإنسانية وملاكاتها.
إنّ الإنسان بحكم الفطرة موجودٌ مزدوج وموجود متضادٌّ، وبتعبير القرآن الكريم: هو مركب من عقل ونفس، أو من روح وجسم، والحريةُ المطلقة لأحد البعدين تعني القضاء على البُعدِ الآخر.
إنّ الحرية من خلال الرؤية الإسلامية تقوم على أساس ذلك العنصر والحقيقة الإنسانية التي تقتضي بنفسها التكامل الانساني، وليست إلاّ الاستعدادات الإنسانية الخاصة. إن الحرية هي حق الإنسان باعتبار انسانيته واستعداده للتكامل، وهذا الحق ينشأ من الاستعدادات غير المحدودة للانسان. إنَّ الإنسان حرُّ في تنمية هذه الاستعدادات، وهذه الميول ـ وهي من مقولة الإدراكات والأفكار والصفات العالية ـ هي التي تشكل سرَّ الحرّيّات الانسانية المتعالية. ولا يمكن المشاركة في المصير الاجتماعي واستيفاء حق المشاركة دون تحقق هذا المستوى من النمو.
ولكي يتمَّ الوصول إلى هذه الموهبة الكبرى فإنّ أمام الإنسان كفاح في جبهتين:
1 ـ الجبهة الداخلية مقابل أنماط القيود والتبعيات التي يرتبط بها بغير الله أي بآلهة الباطل والشر.
2 ـ الجبهة الخارجية مقابل الطواغيت وكل العوامل التي تقف عقبة في طريق الله وهو طريق حرية الشعوب.
إن الإنسان المكافح يسعى مستعيناً بهداية الوحي الإلهي والانبياء لطيِّ هذا السبيل حتى النصر الكامل. أيْ حتى التحرُّر في سبيل النمو والتعالي اللامتناهي نحو الله. وهذه هي الحرية المطلوبة في الثقافة والتصوّر الإسلامي، وإن هزيمة الإنسان في إحدى هاتين الجبهتين تعني ضياع الحرية. وحتى لو استطاع في الجبهة الخارجية أن يسيطر على عوامل الطاغوت والعقبات التي تقف في وجهه في سبيل الفتح والظفر ولكنه بقي في العمق أسير القيود والميول والتبعيات لغير الله تعالى. بمعنى تبعيته للأنِانيّة وحبُّ الذات، والغضب والشهوة وباقي أنماط الأسر النفسانية، فإنه بنفسه سيسبب ظهور عوامل أعداء الحرّيّة في الجبهة الخارجية (أي المجتمع). إنّ الحرّيّة بهذا المعنى هي المفهوم الأصيل للتوحيد الإبراهيمي الحنيف.
وإنّ القرآن يجعل فلسفة بعثة الانبياء خلاصَ الإنسانية وتحريرَها من هذه القيود والأحمال الثقيلة التي تنوء بها، والتبعيات الداخلية. {ويضعُ عنهم إصْرَهُمْ والأغلالَ التي كانت عليهم}[37]. وعلى أساسٍ من الحرية الداخلية يعرِّفُ أميرُ المؤمنين الإنسان في المجتمع فيقول: "لا تكنْ عبدَ غيرك وقد جعلك الله حُرّاً"[38].
وهذا زهرة بن عبد الملك (قائد جيش الإسلام) يشرح لرستم (القائد الايراني) أهداف الإسلام، ويؤكد على هذه الحقيقة: "إخراجُ العبادِ من عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ اللهِ"[39].
وبتحقيق مثل هذا التكامل والتحرّر يستطيع الفرد أن يقوم بدوره في تعيين المصير الاجتماعي، وصياغة النظام السياسي وأسلوب القيادة الاجتماعية.
حق المشاركة والاستقلال
ليس الاستقلال إلاّ الجانب السلبي من الأمر أي انّه يعني نفي التسلّط والتبعية لغير الحق والقوى الشيطانية وعوامل التقييد الإنساني.
إنّ علاقة الاستقلال بالحرّيّة تشبه كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) فإنّ نفي الآلهة الوهمية يشكِّل أرضية إثبات العبودية الخالصة لله، فما لم يتمَّ الاستقلالُ وكانت العوامل المقيِّدةُ والقوى الشيطانية متوفرة فإن الحرية لن تتوفر، وإذا لم تتوفر الحرية فإن أغلال الأسر سوف تُحكمُ وجودها وحينئذٍ لن يكون أيُّ أستقلالٍ.
فنفي أي من الاستقلالِ والحرية يعني الاعتداء على مجال الآخر. والقرآن الكريم يؤكّد تاكيداً خاصاً على استقلال المجتمع الإسلامي، وينفي أيُّ نوع من التسلط الأجنبي حين يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء: 141 ) ولا ريب في أن حق المشاركة في الحياة العامة سوف لن يتمَّ له وجود مع وجود مثل هذه السلطة الأجنبيّة.
هذا وان الإسلام لينهى حتى عن الاعتماد على القوى المعتدية وغير التوحيديّة فيقول: {ولا تَركَنُوا إلى الذين ظلموا فتمَسَّكُمُ النارُ}[40] ويدين أيَّ تسليمٍ للصلاحيات، واعطاءٍ للامتيازات لهم. وهذا يعني التبعية والميل اليهم. ويحذّر من هذه الولاية التعاقدية معهم لكي يتم الاستقلال الفردي فيكون الفرد قادراً على الايفاء بدوره المؤثر في البناء الاجتماعي.
يقول تعالى:
{لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين}[41].
{أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزَّة لله جميعاً} [42].
{بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فإنّه منهم} [43].
{ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون} [44].
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أنَّ الحرّيّة التي تصاحبها المسؤوليّة الإنسانية والحاكميةُ الموجَّهةُ التي فوَّضها الله للإنسان وجعله مسلَّطاً على مصيره تقتضي حرية واستقلال المجتمع القائم على أساسٍ من تلك القيمة السياسية التي أوجدت شعباً متَّحد المسلك والفكر.
وهكذا فانّ الحرية والاستقلال اللَّذين تملكهما ايران هما انعكاس للمباني العقائدية للنظام السياسي الإسلامي، وهما يتبلوران بشكل خصّيصة لازمة لهذا النظام.
وعلى هذا الأساس يحصل حق المشاركة في المصير الاجتماعي على مفهومه الأصيل والحقيقي ويتيسَّر أمام الأفراد إمكان استيفائه، وتتوفر أرضية التوعية اللازمة للحصول على هذا الحق الحياتي.
وأيُّ ضعف في الاستقلال يشكل دائماً ضعفاً لمسألة التمتع الفردي بحق المشاركة في المصير الاجتماعي. ومن هنا فإنه لكي نصل إلى المستوى الأسمى للتمتع بحق المشاركة في البناء الاجتماعي والسياسي للمجتمع، يجب أن يتوفر الاستقلال الكامل في كل المجالات والى حدِّ الاكتفاء الذاتي.
حق المشاركة والإمامة
إنَّ حاكمية الشعب وهي تُعبِّر عن حق أفراد الشعب في المشاركة المصيرية الاجتماعية والسياسية، تُطرح في نظام الإمامة دون أن تواجه أية مشكلة وذلك على أساسٍ من اعتقاد الأفراد بحقّانية الإسلام وكل تعاليمه الحياتية، حيث يختار الفرد ـ على أساس من حريته وإرادته ووفقا لاعتقاده ـ سبيل الوحي ونظام الإمامة، وبهذا فإن قيام نظام الإمامة (أي الحاكمية الإلهية ) لن يوجّه اية ضربة لحاكمية الفرد ومسألة القيام بدوره في صياغة المصير الاجتماعي.
إن نظام الإمامة سواء كان بشكل حكومة النبي (ص) أو المعصوم (ع) أو بشكل حكم الفقيه (الإمامة النائبة) كان دائماً يستمدُّ جذوره من الحاكمية الشعبية واستيفاء حق مشاركة الأفراد في تعيين المصير الاجتماعي، وقيادة المجتمع.
وتوضيح ذلك أنّه في نظام الإمامة رغم كون النبي والمعصوم بانتخاب إلهي إلاّ أنّ البيعة المُعبّرة عن آراء المجتمع تمهد سبيل التحقق العيني للإمامة، وتمنح النبي والإمام فرصة تطبيق النظام الإلهي في المجتمع، وفي نظام ولاية الفقيه حيث تتمَّ الإمامة النائبة يكون انتخاب الوليِّ الفقيه لتنفيذ الحاكمية الإلهية بواسطة الشعب ممّا يُعبِّر عن تجسيد لعملية استيفاء الفرد لحقوقه في تعيين المصير الاجتماعي، دون أن يكون له دوره في تعيين نوعية الصفات والشرائط المعتبرة في ولاية الفقيه، لأنّ هذه الأمور مما يعينه المذهب إلاّ أنهم بتعيينهم شخص القائد يكونون قد استوفوا حقَّ المشاركة في المصير الاجتماعي.
وهذا هو معنى الآية الكريمة:{ونريد أن نمنَّ على الذين استضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}[45].
فالمستضعفون بتحررهم من قيود الطاغوت والاستكبار ومعرفتهم الصحيحة للامام وفي أوج حريتهم يبايعون الامام، ويقيمون نظام الامامة، ويصبحون بالتالي ورثة الارض. ذلك أن انتخاب الامام هو بنفسه نوع من تسلُّم القيادة والإمامة وفي مثل هذه الظروف يتسلّم المستضعفون جميعاً ـ وعلى أيِّ مستوىً كانوا ـ نوعاً من القيادة، ذلك أنَّ القيادة والإمامة تُعد تبلوراً لإرادتهم الاجتماعية وكل فرد يقوم بدوره في إطار إمامة الإمام.
أمّا أن يتصوَّر البعض أنّ الآية تشير إلى قيادة المستضعفين بدلاً من إمامة الأئمة فهو تصوُّر خاطئ عن نظام الإمامة في الإسلام، ذلك أنَّ الإمامة سواء في شكلها الأصلي أو في شكلها النيابي لها شرائط مسلَّم بها ولا تقبل الإنكار بحيث ما لم يتوفر القادةُ عليها لا يمكنهم الوصول إلى مقام القيادة.
وبهذا التوضيح نعرف أنّ حق الاشتراك في صياغة المصير الاجتماعي ليس منسجماً مع مبدأ الإمامة وحسب، بل يشكل أساساً لنظام الإمامة. فالإمامة في التفكير السياسي الإسلامي تستمدُّ جذورها ومشروعيَّتها من مسألة القيام بحق المشاركة، وحق المشاركة في تعيين البناء الاجتماعي والسياسي متى ما اتجه اتجاهاً مخالفاً لنظام الإمامة فإنه بطبيعة الحال سيُسخّر لخدمة الطاغوت والاستكبار الداخلي والخارجي، وهذا الأسلوب يعني بالضرورة الخروج عن النظام الإلهي، والعمل خلافاً للاعتقاد التوحيدي. وهو أمر لا يمكن القبول به.
والآيات التي تنهى عن التولي والركون إلى الظالمين والمستكبرين والطواغيت لَتَصْدُقُ في هذا المجال.
________________________
[1] مجموعة ورام / ص 6.
[2] الأعراف: 157.
[3] الوافي / ج 3 ص 4014 / 22 ونهج البلاغة الخطبة 145.
[4] الشعراء: 22.
[5] وسائل الشيعة / ج 3 ص 243.
[6] نهج البلاغة / الرسالة 31.
[7] المادة (23).
[8] "فلسفة الحكم عند الامام" الدكتور نوري جعفر، ص 34، و "نظام الحكم والادارة في الإسلام" باقر شريف القريشي، ص 301.
[9] البقرة / 279.
[10] النساء / 148.
[11] البقرة: 256.
[12] الفتح: 18.
[13] نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.
[14] الشورى: 38.
[15] آل عمران: 159.
[16] غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي (طبع الجامعة في طهران ): ج1، ص 52.
[17] نفس المصدر: ج 1، ص 256.
[18] نفس المصدر: ج 5، ص 169.
[19] نفس المصدر: ج 3، ص 428.
[20] نفس المصدر: ج 4، ص 179.
[21] وسائل الشيعة: ج 8، ص 428.
[22] نفس المصدر.
[23] غرر الحكم للآمدي (طبع جامعة طهران): ج 2، ص 428.
[24] نفس المصدر.
[25] نهج البلاغة: الرسالة رقم 6.
[26] نفس المصدر.
[27] نفس المصدر.
[28] نهج البلاغة: الخطبة رقم 3.
[29] تحف العقول: ص 46.
[30] أصول الكافي: ج 1، ص 332.
[31] النحل: 125.
[32] آل عمران: 104.
[33] مجموعة ورام: ص 6.
[34] أصول الكافي: ج 1، ص 332 طبع المطبعة الإسلامية، وخصال الشيخ الصدوق: ص 72.
[35] بحار الأنوار: ج 96، ص 7.
[36] التوبة: 71.
[37] الأعراف: 157.
[38] نهج البلاغة: الرسالة 31.
[39] الكامل لابن الاثير: ج 2، ص 321، 331.
[40] هود: 113.
[41] النساء: 144.
[42] النساء: 139.
[43] المائدة: 51.
[44] التوبة: 23.
[45] القصص: 5.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية