مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

سبب عدم عنونة مبحث ولاية الفقيه قبل عصر النراقي الثاني
قاسم المالكي


بالرغم من أن مسألة ولاية الفقيه وإقامة الدولة المطابقة لموازين الإسلام من الأمور التي أعارها الإسلام العناية الكبيرة باعتبار أنها الوسيلة الوحيدة لحفظ الأمن والاستقرار والحفاظ على بيضة الإسلام ودفع الأخطار الخارجية وكبح جماح الفتن الداخلية والوسيلة للحفاظ على أحكام الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أضف إلى ذلك فإن الكتب الحديثية فيها الكثير من الروايات التي تدعو إلى إرجاع كثير من الأمور إلى السلطان أو الوالي أو الحاكم وذكر أحكام السجن وبيت المال التي هي من لوازم الحكومة. ووردت كثير من كلمات الفقهاء تذكر ذلك الارجاع، لكن جاء الكثير منها مبهمة من هو المقصود بالسلطان ومن هو المعني في ذلك في عصر الغيبة.
ويتضح هذا الأمر أكثر في مسألة الخمس وخاصة نصفه الذي يتعلق بمنصب الإمام على قول قوي، فقد اغفل بعض قدامى فقهاء الشيعة ذكر سهم الإمام وموارد صرفه في زمن الغيبة ومنهم الصدوق[1] وابن زهرة[2] والحلبي[3].
ولعل أول من تعرض من الفقهاء لحكم الخمس وسهم الإمام وإنفاقه في زمن الغيبة هو الشيخ المفيد، إذ يقول: (وقد اختلف القوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة وذهب كل فريق منهم فيه إلى مقال، فمنهم من يسقط فرض إخراجه لغيبة الإمام وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار، وبعضهم يوجب كنزه)[4].
وممن أرجع الخمس للإمام هو القاضي عبد العزيز بن البراج، إذ قال: (ففي حال عدم درك حضور الإمام يدفع الخمس إلى أحد فقهاء المذهب الثقات ويوصي بايصاله إلى الإمام)[5].
ألا أنه لم يتحدث عن التصرف بالخمس بل اكتفى بالحديث عن حفظه وتسليمه لفقيه أمين.
ومن العجب أن الشيخ المفيد أوجب دفع الزكاة إلى الفقيه، وهذه إشارة مهمة لولاية الفقيه فقال: (فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من نصبه من خاصته لشيعته، فإذا عدم السفراء بينه وبين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته، لأن الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له في ديانته)[6].
ولم يسري هذا الأمر إلى الخمس، إلا انه يرى انه ملك شخصي للإمام، وعلى ما يظهر بدأ القول بوجوب دفع الخمس إلى الفقهاء في زمن العلامة الحلي، قال: (ما يخصه يحفظ له إلى حين ظهوره أو يصرفه من له أهلية الحكم بالنيابة عنه في المحتاجين)[7].
وإذا أردنا أن نراجع أقوال الفقهاء في المسائل التي لها علاقة بالحاكم والإمام والسلطان في الأبواب المختلفة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء والمتاجر والمكاسب والقصاص والحدود وغيرها، فإنها كذلك تشير إلى الإمام والحاكم والوالي والسلطان دون أن تبين هل المقصود بذلك الإمام المعصوم أو غيره. وإذا كان بالنسبة للخمس هناك اعتقاد انه ملك شخصي للإمام كما هو عند بعض الفقهاء فإن هذا أقل احتمالا ـ بل غير محتمل ـ في المسائل الأخرى.
وحتى يتضح الأمر أكثر ننقل بعض كلمات الفقهاء في هذا المجال:
قال الشيخ الطوسي في النهاية، صفحة 300: (وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرياسة، وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما باليد فهو أن يؤدب فاعله بالضرب من التأديب، أما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه).
وفي الشرائع، ج1ن ص342: (ولو افتقر الجراح أو القتل، هل يجب؟ قيل نعم، وقيل لا إلا بإذن الإمام وهو الأظهر).
وفي كتاب التجارة من الشرائع، ج2، ص14: (وأن يكون البائع مالكا أو ممن له أن يبيع عن المالك كالأب والجد للأب والوكيل والوصي والحاكم وأمينه).
وفي المتاجر من النهاية، ص 374: (ومتى ضاق على الناس الطعام ولم يوجد إلا عند من احتكره كان على السلطان أن يجبره على بيعه ويكرهه عليه).
وفي المكاسب من النهاية: (تولي الأمر من قبل السلطان العادل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الواضع الأشياء مواضعها جائز مرغب فيه وربما بلغ حد الوجوب).
وفي موضع آخر من نفس الباب: (ومتى تولى شيئا من أمور السلطان من الإمارة والجباية والقضاء وغير ذلك من أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل ذلك الأرزاق والجوائز والصلات، فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، وإن كان من جهة سلطان الجور فقد رخص له قبول ذلك من جهتهم لأن له حظا في بيت المال).
في الشرائع كتاب الحجر، ج2، ص102: (ولا يثبت حجر المفلس إلا بحكم الحاكم. وهل يثبت في السفيه بظهور سفهه؟ فيه تردد، والوجه أنه لا يثبت وكذا لا يزول إلا بحكمه).
وفي الوكالة لا ينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولى الحكومة عنهم. (الشرائع، ج2، ص198).
قال العلامة في التذكرة، ج1، ص452: (يشترط في الإمام أمور... أن يكون منصوصا عليه من الله تعالى أو من النبي أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق.
وحتى يكون التساؤل أكثر موضوعية لماذا لم تعنون مسألة ولاية الفقيه في كتب القدماء.
نقول: بالرغم أن مباحث طبيعة الحكومة في الإسلام ووظائفها بحثت بحثا مفصلا من قبل علماء المذاهب الإسلامية الأخرى وعنونت بعناوين مختصة بها ووضعت مصنفات لبحثها كالأحكام السلطانية للماوردي وغيرها، ورغم مما اتصف به علماء الإمامية أنهم لا يتركون بحثا يطرقه علماء المذاهب الأخرى إلا وتناولوه بما يتناسب والفكر الإمامي، خاصة مدرسة بغداد التي كانت في تماس مع المذاهب الإسلامية الأخرى، حتى تجد من تتلمذ على يد أستاذ مخالف لمذهبه وبالعكس، وهذا مما أدى إلى ظهور الفقه المقارن كما تجده في كتاب الخلاف للشيخ الطوسي وغيره. فكيف بعد ذلك لم يتعرضوا لمسألة الحكومة أو ولاية الفقيه بشكلها التفصيلي ولم يوضع لها عنوان في كتبهم؟
يرجح البعض أن السبب في ذلك هو الاعتقاد أن الحكومة في عصر حضور الأئمة (ع) من حقوقهم، إلا أنهم لم يتسلموا منصب الحكومة وعاشوا ظروف التقية بحيث تصور البعض أنها ليست لهم أو أنهم في غنى عنها. وفي عصر الغيبة كان الشيعة وفقهاؤهم مترددين، وغالبا هم في شدة وتقية مما جعلهم آيسين من رجوع الحكومة إليهم وصارت في نظرهم أمر ممتنع، لذا كان البحث فيها وفي فروعها وفي شرائط الحاكم ونحو ذلك عندهم بحثا لغوا وبلا فائدة[8].
ونضيف إلى ذلك أنهم كانوا يتوقعون أن فترة الغيبة لن تطول وأن الظهور قريب، لذا ذهب بعضهم إلى ضرورة الاحتفاظ بسهم الإمام من الخمس، فقال الشيخ المفيد في المقنعة: (فإن خشي إدراك المنية قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته ليسلمه إلى الإمام إن أدرك قيامه، وإلا وصى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان)[9].
وقال أبو الصلاح الحلبي في الكافي: (يصرف سهم الهاشميين عليهم ويحفظ سهم الإمام يسلم إليه)[10].
وعندما طالت الغيبة وحصل وعي جديد نجد بعض الفقهاء أضاف شيئا جديدا حيث يرى أن سهم الإمام يمكن أن يصرف على الهاشميين بإذن الفقهاء في حال عدم كفاية سهمهم، نقل ذلك صاحب الحدائق عن الدروس للشهيد الأول.[11]
وبمرور الزمن مع تكامل الوعي وبالاستعانة بتجارب الفقهاء في عصر الغيبة وتلاقح كتاباتهم وحصول فرص ارتفع معها الضغط نسبيا وتمكن بعض الفقهاء من الإفصاح عن رأيهم ومارس بعضهم بعض المسؤوليات المناطة بالفقيه كما حصل ذلك زمن الدولة الصفوية والدولة القاجارية، عندها طفحت مسألة ولاية الفقيه إلى السطح، وصدع بأهميتها المحقق الكركي وبحث بعض جوانبها في العصر الصفوي، وأكمل صورتها أحمد النراقي في العصر القاجاري وعنونها بعنوان مستقل، وبعد ذلك أنزلها إلى ساحة الواقع السيد الإمام روح الله الخميني (رحمه الله) بنهضته المباركة في العصر الحاضر.
________________
[1] الهداية، ص54، المقنعة، ص15 في الجوامع الفقهية.
[2] الغنية، ص507 الجوامع الفقهية.
[3] اشارة السبق، ص126 الجوامع الفقهية.
[4] المقنعة، ص285، طبع الدار الإسلامية، قم.
[5] المهذب البارع، ص180، الدار الإسلامية، قم.
[6] المقنعة، ص252.
[7] غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، ج1، ص293.
[8] ولاية الفقيه للمنتظري، ص421.
[9] المقنعة، ص286.
[10] الكافي، ص173.
[11] الحدائق، ج12، ص444.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية