مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

دور المحقق النراقي (قدس سره) في تطوير نظرية ولاية الفقيه
الشيخ يعقوب علي البرجي


يعتبر المحقق النراقي من الفقهاء الذين ساهموا بشكل أساسي في تطوير وتثبيت وتوضيح ولاية الفقيه والانتقال بها إلى مرحلة جديدة. وقد تعرض لبحث هذه النظرية ودراستها في كتابه القيم «عوائد الأيام »، في العائدة الرابعة والخمسين.
وفي هذا المقال سوف نسلط الضوء على ابداعاته في هذا المجال من خلال المقارنة بين رأيه وآراء من سبقه من الفقهاء في نظرية ولاية الفقيه، والابداعات التي يمكن الاشارة إليها هي ما سنشير إليه في العناوين التالية:
1ـ دراسة ولاية الفقيه بشكل مستقل:
طرحت مسألة ولاية الفقيه في فترة متقدمة من تاريخ الفقه[1]، إلا أنها لم تأخذ موقعها الخاص في ترتيب أبوابه، حيث بحثها الفقهاء ضمن أبواب الفقه المختلفة بمناسبة البحث عن بعض الأحكام التي يشترط فيها اذن الحاكم.
وكان أول من بحث المسألة وأفردها تحت عنوان مستقل هو المحقق النراقي (قدس سره)، الأمر الذي لفت أنظار من تلاه من الفقهاء إلى البحث في المسألة والاهتمام بها، حتى شقت طريقها إلى كتب القواعد الفقهية، حيث بحثها المير عبد الفتاح المراغي في كتاب العناوين[2] والسيد محمد آل بحر العلوم في كتاب بلغة الفقيه[3] وغيرهم، حيث خصصوا ـ تبعا للمحقق النراقي ـ عناوين وقواعد خاصة بذلك.
نعم جاء الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) فبحث المسألة وبين رأيه فيها في بحوث المكاسب، وركز البحث فيها في كتاب البيع، وتبعه المعلقون عليه فبحثوها في كتاب البيع أيضا.
2ـ التفكيك بين ولاية الفقيه بمعنى الزعامة السياسية عن ولاية الفقيه في الأمور الحسبية:
لقد ذكر الفقهاء الأقدمون في مصنفاتهم صلاحيات واسعة للفقيه[4]، بيد أنه لم يفكك في كلماتهم بين ولاية الفقيه بمعنى الزعامة والقيادة وبين ولاية الفقيه في الأمور الحسبية، أو أنها غير صريحة ـ في أقل التقادير ـ في ذلك، وإن كان الظاهر من عبارات الشيخ المفيد والمحقق الكركي والأردبيلي اثبات الولاية في الأمور الحسبية بشكلها الواسع.
وقد نقل الشيخ المفيد (قدس سره) اشكالا عن بعض أهل السنة يتهمون فيه الشيعة بتعطيل الشريعة في زمن الغيبة، ثم أجاب عن ذلك ببيان فلسفة وجود الإمام ووجه الحاجة إليه، وأنها عبارة عن حفظ الملة والشريعة أو اقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والجهاد. ولا تضر غيبة الإمام (ع) بشي ء من ذلك، كما أن نوابه والأمراء عنه (ع) يقومون بوظائفه في غيبته.
ثم كتب يقول بعد بيان وظيفة الفقهاء في حفظ الشرع وبيان أحكامه واقامة الحدود وتنفيذ الأحكام:
«وكذلك اقامة الحدود وتنفيذ الأحكام. وقد يتولاها أمراء الأئمة وعمالهم دونهم، كما كان يتولى ذلك أمراء الأنبياء وولاتهم ولا يحوجونهم إلى ذلك بأنفسهم. وكذلك القول في الجهاد. ألا ترى أنه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمة دونهم، ويستغنون بذلك عن توليهم بأنفسهم»[5].
ولا شك في أن مراده من الأمراء وعمال الأئمة (ع) في عصر الغيبة الذين يتصدون لحفظ الدين والملة واقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والجهاد، هم الفقهاء. ويدل على هذا شواهد كثيرة في كلامه (قدس سره)، فهو يصرح بأن الجاهل غير الفقيه ليس له تولي ذلك والتصدي له. كما أنه يصرح أيضا بقيام الفقيه مع غيبة الإمام (ع) بجميع مال الإمام.
قال في كتاب الوصية: «وإذا عدم السلطان العادل ـ فيما ذكرناه من هذه الأبواب ـ كان لفقهاء اهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل والفضل ان يتولوا ما تولاه السلطان، فان لم يتمكنوا من ذلك فلا تبعة عليهم فيه»[6].
ثم صرح بعدم ثبوت الولاية للجاهل بالأحكام، فقال: «ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهل بالأحكام، أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أمور الناس، فلا يحل له التعرض لذلك والتكلف له، فان تكلفه فهو عاص غير مأذون له فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فانه مأخوذ به، محاسب عليه، ومطالب فيه بما جناه»[7].
وتكرر من المحقق الكركي النص على عموم الولاية، قال (قدس سره): «اتفق اصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ على ان الفقيه العدل الامامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل ائمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»[8].
ثم قال: «والمقصود من هذا الحديث هنا: ان الفقيه... نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل»[9].
ثم اجاب في بحث صلاة الجمعة عما قد يتوهم من ان الفقيه منصوب للحكم والافتاء، وصلاة الجمعة امر خارج عنها، بان:
«الفقيه منصوب من قبلهم (ع) حاكما في جميع الأمور الشرعية، كما علمته في المقدمة»[10].
وقد اعتبر المحقق الاردبيلي الفقيه في عصر الغيبة حاكما على الاطلاق[11]، ونائبا عن الامام(ع) في جميع اعماله[12] وقائما مقامه[13]؛ فالفقيه خليفة الإمام ونائبه، والواصل إليه في الزكوات كالواصل للامام(ع)[14].
فهو يرى بناء على ثبوت النيابة العامة ان جميع ما للامام (ع) من صلاحيات هي للفقيه الا ما قام الدليل على خلافه، فللفقيه ـ مثلا ـ جباية اموال الزكاة[15] واخذ الخمس[16] وصرفهما، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر[17]، والتصدي للقضاء[18]، واقامة الحدود والتعزيرات[19]، وغير ذلك مما هو ثابت للامام، وللفقيه التصدي في عصر الغيبة، قال ـ شارحا قول العلامة في كتاب الجهاد: «ويجبر الإمام المحجر على العمارة أو التخلية» ـ: «وجهه انه امر قابل للانتفاع، واليه الاحتياج فتعطيله قبيح؛ فاما انه (ع) يجبره فلأن الأمر إليه وهو الحاكم، واما غيره من الحكام والنواب فيمكن لهم ذلك ايضا»[20].
اما المحقق النراقي فهو اول فقيه فكك بين مفهوم ولاية الفقيه بمعنى الزعامة والقيادة، وبين مفهوم ولاية الفقيه بمعنى كونها من الأمور الحسبية. وقد شرح ابعاد نظرية ولاية الفقيه وبين حدودها على أساس امرين:
قال (قدس سره): «ان كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه؛ امران:
احدهما: كل ما كان للنبي والامام ـ الذين هم سلاطين الانام وحصون الاسلام ـ فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، الا ما اخرجه الدليل من اجماع أو نص أو غيرها.
وثانيهما: ان كل فعل متعلق بامور العباد في دينهم أو دنياهم ولابد من الاتيان به ولا مفر منه اما عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، واناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به؛ أو شرعا من جهة ورود امر به أو اجماع، أو نفي ضرر أو اضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر، أو ورود الاذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعين واحد أو جماعة ولا غير معين ـ اي واحد لا بعينه ـ بل علم لابدية الاتيان به أو الاذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرف فيه والاتيان به»[21].
فقد ذهب (قدس سره) في الأمر الاول إلى اثبات جميع الاختيارات والصلاحيات التي كانت للنبي (ص) والامام المعصوم (ع) للفقيه، وبحث في الأمر الثاني اختيارات الفقيه على أساس الحسبة.
3ـ التفصيل في الاستدلال:
اعتبر المتقدمون على المحقق النراقي ولاية الفقيه امرا مسلما وقطعيا، ومن هنا فانهم لم يخوضوا في الاستدلال على ذلك.
واول من استدل لذلك بنحو مختصر هو العلامة الحلي، فقد كتب عن صلاحيات الفقهاء في اقامة الحدود:
«والاقرب عندي جواز ذلك للفقهاء. لأن: تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم وانتشار المفاسد، وذلك امر مطلوب الترك في نظر الشرع، وما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق (ع)... وغير ذلك من الاحاديث الدالة على تسويغ الحكم للفقهاء، وهو عام في اقامة الحدود وغيرها»[22].
نلاحظ في هذا النص ان العلامة قد تمسك بالدليل العقلي والنقلي على ولاية الفقيه في اقامة الحدود وغيرها، وقد اكد ذلك في كتابيه القواعد والتبصرة ايضا[23].
وممن تعرض لادلة ولاية الفقيه أيضا قبل المحقق النراقي المحقق الكركي مستدلا على ذلك بالاجماع والاخبار، قال (قدس سره): «اتفق اصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ على ان الفقيه العدل الامامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل ائمة الهدى ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»[24]. ثم اضاف ان العمدة في الاستدلال هو ما رواه الشيخ في التهذيب عن عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (ع) قال فيها: «فاني قد جعلته عليكم حاكما»[25]، ثم قال: وقد ورد بمضمونها روايات كثيرة[26].
ولعل مراده الاخبار الاخرى التي تمسك بها الفقهاء بعد ذلك لاثبات ولاية الفقيه.
وعلى كل حال فقد تمسك (قدس سره) بهذه المقبولة في موارد متعددة في الفقه لاثبات النيابة العامة للفقهاء كما في صلاة الجمعة في حال الغيبة، حيث انتهى بعد نقل الاقوال في ذلك إلى جواز اقامتها لاستكمال شروطها بحضوره. ثم قال:
«لأن هم (ع) قد نصبوا نائبا على وجه العموم؛ لقول الصادق (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: «فإني قد جعلته عليكم حاكما»[27].
وممن تعرض لولاية الفقيه أيضا قبل المحقق النراقي المحقق الاردبيلي، وقد تمسك ـ اضافة إلى الاخبار ـ بالدليل العقلي، وسوف نتعرض له اولا ثم نتعرض للدليل النقلي.
الف) الدليل العقلي:
قال (قدس سره) في اثبات الولاية المطلقة للفقهاء حال الغيبة:
«نعم ينبغي الاستفسار عن دليل كونه حاكما على الاطلاق وعن رجوع جميع ما يرجع اليه (ع) كما هو المقرر عندهم، فيمكن ان يقال: دليله الاجماع، أو لزوم اختلال نظم النوع والحرج والضيق المنفيين عقلا ونقلا، وبهذا اثبت البعض وجوب نصب النبي أو الامام (ع)، فتأمل»[28].
وذكر هذا الدليل أيضا في موضع آخر مؤيدا به الدليل النقلي قائلا:
«ويؤيده انه لو لم يكن يلزم اختلال نظام العالم. وبه اثبت بعض وجوب النبوة والامامة»[29].
ان ما ذكره من الدليل العقلي الوارد في ذيل كلامه هو عبارة عن «قاعدة اللطف» المتمسك بها في علم الكلام لاثبات ضرورة النبوة والامامة، وهو يدل على ان المحقق الاردبيلي يرى ان مسألة ولاية الفقيه في عداد باقي المسائل الكلامية وانها استمرار للامامة، والشاهد على ذلك انه قد افاد هذا الكلام في شرح التجريد في رد الاشكال الوارد على قاعدة اللطف.
قال (قدس سره): «الثاني ـ قالوا: الامامة انما تجب لو انحصر اللطف فيه، فلم لا يجوز ان يكون هناك لطف آخر يقوم مقام الامامة، فلا يتعين الامامة للطف، فلا يجب عليه التعيين.
والجواب: ان انحصار اللطف الذي ذكرناه فيه معلوم للعقلاء؛ ولهذا يلتجئ العقلاء في كل زمان وكل صقع إلى الرؤساء دفعا للمفسدة الناشئة من الاختلاف»[30].
وقد ذكر دليلا عقليا آخر في باب الولاية على المحجورين ومن لا ولي له، قال فيه: «ولعل دليل ولاية الحاكم على من لا ولي له، انه لابد من ولي، وليس احد احق منه ولا يساويه؛ للعلم والتقوى، وفي غيره مفقود...»[31].
والملاحظ للعبارة السالفة يجد ان الاستدلال فيها قائم على ركنين يمكن التوسع فيهما بما يثبت به ولاية الفقيه المطلقة لجميع شؤون المجتمع والامة:
1ـ ان ثمة امورا مهمة يجب التصدي لها ولا يجوز تركها واهمالها.
2ـ ان الفقيه اولى في التصدي لذلك من غيره، وذلك لعلمه وتقواه، فلا يمكن لغيره ممن لا يتصف بذلك التصدي لمثل هذه الامور.
ب) الدليل النقلي:
وهو ثاني الدليلين اللذين تمسك بهما المحقق الاردبيلي على انتصاب الفقيه للولاية، ومن الروايات التي كرر الاستدلال بها في موارد متعددة مقبولة عمر بن حنظلة، حيث يرى استنادا إلى هذه المقبولة جواز تصدي الفقيه لبيع مال السفيه والمفلس والغائب، قال: «ولأنه قائم مقام الامام (ع) ونائب عنه؛ كانه بالاجماع والاخبار، مثل خبر عمر بن حنظلة، فجاز له ما جاز للامام الذي هو اولى الناس من انفسهم»[32].
ويظهر منه في باب الحدود الميل إلى جواز اقامتها للفقيه استنادا إلى نفس المقبولة أيضا التي انجبر ضعفها سندا بعمل الاصحاب[33].
كما انه يرى في كتاب القضاء جواز تولي الفقيه القضاء استنادا إلى المقبولة، مدعيا موافقة مضمونها للعقل والقواعد الفقهية مما يصلح لان يكون جابرا لضعفها السندي[34].
وقد ذكر في موضع آخر تضعيف ثلاثة من رواتها، هم: داود بن الحصين الذي صرح الشيخ بانه واقفي، ومحمد بن عيسى الذي ضعفه الشيخ ايضا، وعمر بن حنظلة راوي الحديث حيث لم يرد توثيق فيه، الا انه قال مع ذلك بان «هذه الرواية ـ مع عدم ظهور صحة سندها ـ... مقبولة عندهم، ومضمونها معمول به»[35].
والخلاصة: ان الرواية ـ فيما يراه المحقق الاردبيلي ـ معمول بها ومقبولة لدى الاصحاب بالرغم من ضعفها سندا، وقد اعتبرها دليلا لمطلق الولاية، لا لخصوص ولاية القضاء.
الرواية الثانية التي تمسك بها أيضا قوله (ص): «العلماء ورثة الأنبياء». وقد استدل بها في كتاب الحجر لاثبات ولاية الفقيه على اموال السفيه والمجنون وغيرهما[36].
والذي يظهر انه يرى عدم انحصار الوراثة بتبليغ الأحكام، بل يعم سائر الأمور الاجتماعية الاخرى التي كانت على عاتق الأنبياء، وللفقهاء تحمل ذلك بعدهم باعتبارهم الورثة لهم.
ج) الاجماع:
وهو دليل آخر استدل به المحقق الاردبيلي لاثبات الولاية العامة للفقهاء، حيث يرى قيام الاجماع والاخبار على نيابة الفقهاء عن الإمام المعصوم وثبوت الحكومة المطلقة له[37].
والذي يضاعف من اهمية الاجماع الذي ادعاه المحقق الاردبيلي هنا في مسألة ولاية الفقيه هو عدم اعتماده في بحوثه ـ بشكل عام ـ الاجماعات والمناقشة فيها، فيفتح الطريق بذلك لطرح آراء جديدة واحتمالات مهمة في البحث؛ ولذا فان لتمسكه بالاجماع هنا والتسليم به اهمية ودلالة خاصة.
ان الشيء الجديد الذي اضافه المحقق النراقي في الاستدلال لولاية الفقيه هو عبارة عن امرين:
الامر الاول: جمع كل ما يرتبط من الاخبار الدالة على ولاية الفقيه وطرحها بشكل مفصل، وقد بلغ عدد الروايات التي استدل بها في المقام الاول من بحثه (19) رواية، وتطرق في المقام الثاني إلى تقريب الاستدلال بها، الا انه اهمل البحث السندي في آحادها مكتفيا في الاستدلال بها بدلالة المجموع وانجبار ضعفها بعمل الاصحاب.
نعم، اهتم الفقهاء بعده كالمحقق المراغي والشيخ الانصاري والسيد محمد آل بحر العلوم والآخوند الخراساني والمحقق الاصفهاني وغيرهم بدراسة هذه الاخبار والتأمل فيها من جميع الجهات والابعاد.
الامر الثاني: التفكيك في الاستدلال بين ولاية الفقيه بمعنى الزعامة كما ورد في الأمر الاول وبين ولاية الفقيه بمعنى الحسبة كما ورد في الأمر الثاني.
ادلة الأمر الاول عند المحقق النراقي:
والدليل على هذا الأمر ـ مضافا إلى ظاهر اجماع الفقهاء حيث اعتبروا المسألة من المسلمات ـ الروايات والاخبار التي اعتبرت الفقهاء ورثة الأنبياء، وامناء الرسل، وخلفاء النبي (ص)، وحصون الاسلام، ومثل الأنبياء وبمنزلتهم، والحاكم والقاضي والحجة من قبلهم، وانه المرجع في جميع الحوادث، وان على ايديهم مجاري الأمور والأحكام، وانهم الكفلاء لأيتامهم الذين يراد بهم الرعية.
ان من البديهيات التي يفهمها كل عامي وعالم ويحكم بها: انه اذا قال نبي لاحد عند سفره أو وفاته: فلان وارثي، ومثلي، وبمنزلتي، وخليفتي، واميني، وحجتي، والحاكم من قبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري اموركم وأحكامكم، وهو الكافل لرعيتي، ان له كل ما كان لذلك النبي في أمور الرعية وما يتعلق بامته، مع ان اكثر النصوص الواردة في حق الاوصياء المعصومين ـ المستدل بها في مقامات اثبات الولاية والامامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبي فيه الولاية ـ ليس متضمنا لاكثر من ذلك[38].
ادلة القاعدة الثانية عند المحقق النراقي:
والادلة على هذه القاعدة (وهي ثبوت الولاية فيما لا يرضى الشارع بتركه) فهي ـ مضافا إلى الاجماع ـ امران:
1ـ انه لا ينبغي الشك في ان ما لا يرضى الشارع بتركه لابد ان ينصب الشارع الحكيم له من جهته من يتولاه، والمفروض انه لم يقم الدليل على تعيين احد أو جماعة غير الفقهاء، حيث دلت الروايات السابقة على اناطة ذلك بهم.
2ـ بعد تسليم الفرض السابق ـ وهو عدم رضا الشارع بترك هذه الأمور وانه لابد من وجود من يتولى ذلك ـ فان من يجب توليه لا يخرج عن اربعة صور: اما هو جميع المسلمين، أو العدول منهم خاصة، أو الثقات، او الفقهاء، والاخير داخل في الثلاثة الاول ولا عكس، فيكون ثبوت الولاية للفقهاء قطعيا ولغيرهم مشكوكا، والاصل يقتضي عدم ثبوت الولاية لهم.
4ـ اصالة عدم ثبوت الولاية:
وهي احدى المسائل التي طرحها المحقق النراقي في مبحث ولاية الفقيه، حيث اثبت قبل الخوض في الادلة ان الاصل والقاعدة في حالات الشك هو عدم ثبوت الولاية، وكل ما خالف الاصل وخرج عنه فهو بحاجة إلى دليل، ويبقى الباقي تحت الاصل وهو عدم ولاية احد على احد، قال (قدس سره): «اعلم ان الولاية من جانب الله سبحانه على عباده ثابتة لرسوله واوصيائه المعصومين (ع) وهم سلاطين الانام... واما غير الرسول واوصيائه فلاشك ان الاصل عدم ثبوت ولاية احد على احد الا من ولاه الله سبحانه ورسوله أو احد اوصيائه على احد في امر، وحينئذ فيكون هو وليا على من ولاه فيما ولاه فيه»[39]. ثم اضاف ان «الاولياء كثيرون، كالفقهاء العدول والآباء والاجداد والاولياء والازواج والموالي والوكلاء، فانهم الاولياء على العوام والاولاد والموصى له.. ولكن ولايتهم مقصورة على أمور خاصة على ما ثبت من ولاة الامر، ولا كلام لنا هنا في غير الفقهاء، فالمقصود بيان ولاية الفقهاء الذين هم الحكام في زمان الغيبة والنواب عن الائمة»[40].
5ـ حدود ولاية الفقيه وصلاحياتها:
وهذا أيضا من البحوث التي اسس فيها المحقق النراقي البحث ولم تكن تبحث في الفقه إلى عصره، فقد قام ـ بعد الاستدلال على الولاية بالنصب ـ بملاحظة الاخبار واستقصائها في جميع أبواب الفقه التي تتعرض لوظائف الفقهاء وتحدد دائرة ولايتهم، وهي عبارة عن الوظائف التالية:
(1) الافتاء:
ويعد من وظائف الفقهاء التي يجب على الناس اتباعهم فيها في الشرعيات، وهو ثابت بمقتضى القاعدتين المتقدمتين، كما يستفاد حكمه أيضا من الروايات الخاصة الواردة في هذا المجال.
(2) القضاء:
وهو من وظائفهم وشؤونهم الخاصة التي يجب على الناس الرجوع اليهم في المخاصمات والمرافعات. والدليل على ثبوت هذا المنصب ـ بعد الاجماع وما دل على ثبوت الولاية العامة للفقهاء ـ الروايات الخاصة التي تعرض لنقل شطر منها.
(3) اقامة الحدود والتعزيرات:
وفي عد ذلك من وظائف الفقيه وصلاحياته في عصر الغيبة خلاف بين الفقهاء، والصحيح ثبوت ذلك له، لاطلاق ادلة ولاية الفقيه، مضافا إلى الروايات الخاصة في ذلك.
(4) الولاية على اموال اليتامى:
وهي ثابتة اجماعا، بل هي من مسلمات الفقه القطعية التي نقل الاجماع عليها مستفيضا بل متواترا. وقد تعرض (قدس سره) للبحث في ذلك مفصلا.
(5) الولاية على اموال المجنون والسفيه:
يحجر على المجنون بجميع اقسامه وعلى السفيه في بعضها التصرف في امواله وممتلكاته، وللفقيه الولاية عليهما بالاجماع القطعي المحقق وادلة الولاية المطلقة والروايات الخاصة.
(6) الولاية على اموال الغيب:
والغائب ـ على ما يقسمه النراقي في بداية بحثه ـ على ثلاثة اقسام:
الاول: الغائب عن بلده، المعلوم خبره وناحيته، أو المتوقع رجوعه عادة وعرفا، والمظنون ايابه ولو باستصحاب البقاء، والمتمكن من رجوعه أو توكيله ولو بالكتابة ونحوها، كالمسافرين للتجارة والزيارة والحج.
الثاني: وهو نفس الاول، الا انه غير متمكن من استخبار احواله والتصرف في امواله، ولو لبعد مسافة وامتداد مدة أو حبس.
الثالث: الغائب المفقود خبره. وللحاكم القضاء في كل من الانواع الثلاثة، وبيع ماله لقضاء دينه المعجل بعد مطالبة الدائن ان لم يمكنه التخلص بوجه آخر بلا عسر ولا حرج.
(7) الولاية على النكاح:
فان للحاكم ولاية على نكاح الصغيرة والمجنون والسفيه في الجملة اجماعا.
(8) ولاية الايتام والسفهاء في اجارتهم واستيفاء منافع ابدانهم مع ملاحظة المصالح:
ويدل على ذلك الاجماع والنصوص.
(9) استيفاء حقوقهم المالية وغيرها:
كحق الشفعة، والفسخ بالخيار، ودعوى الغبن، والاحلاف، ورد الحلف، وحق القصاص في الدم، والجنايات، واقامة البينة، وجرح الشهود، وامثالها. وفي كل ذلك الولاية للحاكم للنص.
(10) التصرف في اموال الامام (ع):
من نصف الخمس، والمال المجهول مالكه، ومال من لا وارث له، والدليل على ذلك هو القاعدة الثانية (الحسبة).
(11) جميع ما ثبت مباشرة الإمام له من أمور الرعية:
كبيع مال المفلس، وطلاق المفقود زوجها بعد الفحص، ونحو ذلك؛ للقاعدة الاولى من القاعدتين، والاجماع.
_________________
[1] المقنعة: 675، 163، 811، 252، 270، 152، 442، 678، 721،774، 740 وغيرها، ط ـ مؤسسة النشر الاسلامي. النهاية: 185، 192،700، 704، 706 وغيرها.
[2] العناوين 2: 557، العنوان 73، 74، 75، ط ـ مؤسسة النشر الاسلامي.
[3] بلغة الفقيه. رسالة في الولايات. الطبعة الرابعة.
[4] المقنعة: 163، 252، 270، 431، 442 و...، النهاية: 185، 192، 700، 704، و...، المراسم (ضمن سلسلة الينابيع الفقهية) 3: 376 الطبعة الاولى.
[5] سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (المسائل العشرة) 4: 106.
[6] المقنعة: 812.
[7] المصدر السابق.
[8] رسائل المحقق الكركي (المجموعة الاولى): 142.
[9] المصدر السابق.
[10] المصدر السابق: 153.
[11] مجمع الفائدة والبرهان: 12: 28.
[12] المصدر السابق: 11.
[13] المصدر السابق: 8: 160.
[14] المصدر السابق: 4: 206.
[15] المصدر السابق.
[16] المصدر السابق: 358.
[17] المصدر السابق: 7: 546.
[18] المصدر السابق.
[19] المصدر السابق: 547.
[20] المصدر السابق: 7: 500.
[21] عوائد الايام: 536.
[22] مختلف الشيعة: 4: 478.
[23] المصدر السابق.
[24] رسائل المحقق الكركي: 1: 142.
[25] المصدر السابق.
[26] المصدر السابق.
[27] المصدر السابق: 2: 277.
[28] مجمع الفائدة والبرهان: 12: 28.
[29] المصدر السابق: 18.
[30] الحاشية على الهيات الشرح الجديد على التجريد (ضمن مقالات مؤتمر المقدس الاردبيلي): 3: 199، تحقيق احمد عابدي.
[31] مجمع الفائدة والبرهان: 9: 231.
[32] المصدر السابق: 8: 161.
[33] المصدر السابق: 7: 545.
[34] المصدر السابق: 12: 18.
[35] المصدر السابق: 10.
[36] المصدر السابق: 8: 160، و 12: 28.
[37] المصدر السابق.
[38] عوائد الايام: 537.
[39] المصدر السابق: 529.
[40] المصدر السابق.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية