مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

خصائص الحاكم الاسلامي أو خصائص القيادة الاسلامية
محسن السماوي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحكومة من وجهة نظر المذاهب الاسلامية
المقدمة:
قال تعالى: (هو الذي جعلكم خلائق في الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربّهم إلاّ مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً)[1].
وقال تعالى: (... واذكروا إذ جعلكم خُلفاءَ من بعد قوم نوح... )[2].
الخلافة والخليفة، والخلائف، كلها مفردات قرآنية وردت في العديد من المواضيع والنصوص القرآنية، وورود هذه المفردات في القرآن يوحي على أهمية وحساسية موضوع الخلافة في القرآن الكريم، لذا كانت موضع اهتمامه من حيث التركيز والتكثيف لوجود الملازمة والرابطية الفكرية والحركية بين الخليفة والمجتمع من جهة، والخليفة واقامته لاحكام الله من جهة ثانية، وهى الميثاق والعهد مع الله تعالى.
قال الله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم..»[3] والميثاق يترتب عليه الاستخلاف وخلافة الانسان فى الارض، ولكن «هذه الخلافة العامة للانسان على الارض ليست مطلقة، ولا يتمتع بها الانسان كيفما كان حاله، بل هي مشروطة بأصل التوحيد واعمار الارض»[4]. وشرطية اعمار الارض، وتوحيد الله تعالى يستبطن شروطاً وخصوصيات لدى الخليفة القائم على هذا الإعمار لتحقيق معنى العدالة الاجتماعية، وهناك ضوابط وكوابح «حددتها الشريعة من خلال القرآن وسنّة النبي(ص) وأهل بيته (ع)».
كوظيفة أساسية لتحقيق مفهوم الميثاق، هذه الضوابط لها قيمتها العملية على صعيد الواقع.. وبما ان الامة الاسلامية آمنت بالعقيدة الاسلامية كمنهج في حياتها الواقعية فهى بحاجة الى الخليفة الذي يمتلك خصوصيات قيادة التجربة لادارة عملية الصراع الحضاري، والسياسي، والفكري، والنهوض بمستوى عُمق وطموح هذه التجربة، و ستكون هذه الخصائص صمام الامان في توجيه الخلافة، وتحديد اطارها العام.
يقول الامام الشهيد الصدر «قدس سره» «الخلافة.. حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوة وهي حركة لا تتوقف فيها لانها متجهة نحو المطلق وأي هدف آخر للحركة ـ سوى المطلق ـ سوى الله سبحانه وتعالى ـ سوف يكون هدفاً محدداً، وبالتالي سوف يجمد الحركة ويوقف عملية النمو في خلافة الانسان. وعلى الجماعة التي تتحمل مسؤولية الخلافة أن توفر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كلّ الشروط الموضوعية، وتحقّق لهـا منافعها اللازمة وتصوغ العلاقات الاجتماعية على اساس الركائز للخلافة الربانية»[5].
والسير الى الله، والعمل على اقامة أحكامه، يستدعي الخليفة التلبّس بهذه الخصائص كوظائف مؤثرة في العقيدة والمجتمع. لانّ « الله ـ عزّ وجلّ ـ .
الذي استخلفه واسترعاه أمر الكون. فصفات الله ـ تعالى ـ وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجور الذي لا حدّ له هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للانسان الخليفة، فقد جاء في الحديث «تشبهوا بأخلاق الله». ولـمّا كانت هذه القيم على المستوى الالهي مطلقة ولا حدّ لها، وكان الانسان الخليفة كائناً محدداً فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث الى الله...»[6].
يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: «ومن شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة من استخلفه في صفاته وأعماله فعلى خليفة الله في الارض أن يتخلق
باخلاق الله، ويريد ويفعل ما يرده الله ويحكم ويقضي بما يقضي به الله ـ والله يقضي بالحق ـ ويسلك سبيل الله ولا يتعداها»[7].
«إذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الابداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل، وكشف ما في هذه الارض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كلّه ـ بإذن الله ـ في المهمة الضخمة التي وكلّها الله إليه »[8].
إذن فالإتصاف بأخلاق الله تعالى من العدل، والرحمة، والعطف، والحنان والشجاعة الى غيرها من الصفات، يُعدُّ أحد القواعد الفكرية المهمة لاختيار القيادة في الامة.
ولما كانت الخلافة والامامة حالة طبيعية يتم تشخيصها من قبل الامة في واقعنا السياسي والاجتماعي المعاصر، فيحتّم على الامة اختيار الانسان الذي تتوفر فيه الشروط الموضوعية لتسلم منصب الخلافة والامامة في المجتمع والتي أخضعها القرآن الكريم لاعتبارات منطقية، فالاختيار يحتوي على الدّقة الموضوعية، لذا فالقرآن لم يعتبر اختيار الامامة للامة يتم من خلال النزعة الشخصية، أو تتم فى الاطار الحزبي الفئوي الضيّق، أو أسروي عشائري عشوائي قال تعالى:
«و إذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذُرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين»[9].
فهو جعل تشريعي يخضع لاعتبارات وأسس فكرية واجتماعية سليمة، لذا تشكل عملية الاختيار والانتقاء القاعدة البنيوية والفكرية الثانية في العملية الاستخلافية.
أما ماهي تلك الخصائص الفكرية والاسس الحركية العملية لذلك الاختيار؟ يقع البحث في ثلاثة عناصر بنيوية، تستبطن عدة مفاهيم ورؤى ذات العلاقة بموضوع منصب الخلافة والامامة.
المبحث الاول: الكفاءة والقدرة والتي تدخل تحتها مفاهيم النضوج العلمي، والحس الاجتماعي، والشجاعة، والاقدام، والانفتاح لبناء العلاقات..
المبحث الثاني: الملامح الأخلاقية العامة كخصائص في الشخصية القيادية. كالمحبة والتواضع، والاسلوبية في التعامل مع القاعدة الجماهيرية.
المبحث الثالث: البناء الفكري والاجتماعي، بناء الامة عقائدياً، والرقابة و الصيانة الاجتماعية، والمساواة والعدل بين أفراد المجتمع.

المبحث الاول: الكفاءة والقدرة
1ـ العلمية:
لا يمكن أن نتصور لخليفة ربّاني ينهض لقيادة الامة عقائدياً، لا يتمتع بمستوى علمي بارز يؤهله في قيادة المسيرة، ومواجهة المشاكل العقائدية
والاجتماعية التي تحيط بالواقع الاجتماعي والسياسي.
وقد اختلف الفقهاء في تعيين المراد من الامام. أو الخليفة من حيث المؤهلات العلمية.
قال ابن خلدون «... وأما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم... فاما اشتراطه العلمفظاهر لانه انما يكون منفذاً لاحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها، وما لا يعلمها لا يصح تقديمه لها. ولا يكفي من العلم إلاّ أن يكون مجتهداً لأنّ التقليد نقص، والامامة تستدعي الكمال في الاوصاف والاحوال...[10].
وقال عبد القادر البغدادي: «احدهما العلم، واقل ما يكفيه من أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين في الحلال والحرام وفي سائر الاحكام...»[11].
أما أبو بكر الباقلاني فيرى: «.. ان يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين.. وأما ما يدل على أنه يجب أن يكون من العلم بمنزلة ما وصفناه فأمور.
منها: إجماع الامّة على ذلك ممّن قال بالنصّ والاختيار.
ومنها: أنه الذي يولي القضاة والحكام وينظر في أحكامهم، وما يوجب صرفهم وجرحهم ونقض أحكامهم، ولن يملك علمه بذلك وتمكنه منه إلا بأن يكون منهم في العلم أو فوقهم.
ومنها: إجماع الأمّة على أن للامام أن يباشر القضاء والاحكام بنفسه، ولا يستخلف قاضياً، ما استغنى بنفسه ونظره...»[12].
وقد تمت الاشارة الى هذه الخصوصية وأهميتها عند الكثير من الفقهاء والمفكرين المسلمين، وقد اشار القرآن على ذلك عند وصفه للرسول القائد (ص)، قال تعالى:
«الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم»[13].
وقد أشار العلامة الطباطبائي في تفسير هذا النص على أن الدين الذي جاء به الرسول الأعظم (ص)، هو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلق بحياة الانسان من الشؤون والأعمال التي قسمها الى طيبات فأحلها والى خبائث فحرّمها، ولا يعادله في تفصيل القوانين المشرعة أي شريعة دينية وقانون اجتماعي[14].
وقد أنجز الرسول الاعظم (ص) بنفسه المهام الاساسية في الحكم والادارة، وتشريع القوانين وتنظيم حياة الفرد والجماعة، يمارس هذا الدور بحكم ولايته الشرعية المطلقة على الناس، وهذا ما يتطلب فيه من القدرة العلمية في تنظيم وتشريع هذه القوانين.
وقال الامام علي (ع): «يا أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله»[15].
فالعمل السياسي والفكري النهضوي الذي يستهدف في تحركه اقامة الدولة والمجتمع الصالح يتطلّب قيادة اسلامية عالمة بالاحكام والقوانين التشريعية ومصادرها الاساسية، لأن الاحكام والتشريع هو العمود الفقري لجسم الدولة وهو يحدد مسيرتها وأطارها الفكري العام. والفقيه، العالم هو صمام الامان لتنفيذ مبادئ الشريعة على أساس قدراته الفقهية التشريعية الفذة حتى لا تتخبط مسيرة الدولة في متاهات القوانين الوضعية..
ولهذا فالقرآن الكريم يرفض كل المقاييس والمعايير عدا المعيار العلمي، والقدرة الكفائية في بعث القادة الرساليين قال تعالى:
«وقال لهم نبيهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملكُ علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إنّ الله اصطفاه
عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي مُلكه من يشاء والله واسع عليم»[16].
فالعمل التغييري الثوري والتجديدي ينطوي على تغيير في المفاصل الفكرية والعقيدية في حياة الناس وهذا ما يستدعي الى توفير قواعد فكرية، وقوالبا عقيدية في تغيير المفاهيم السائدة في حياة هذا المجتمع، أو تلك الامة، وتلعب القيادة دوراً كبيراً مؤثراً في العمل على توفير الارضية المناسبة لتأخذ هذه المفاهيم التغييرية موقعها المناسب في حياة الناس، والمسيرة الالهية حركة واحدة، ذات سلسلة تاريخية ممتدة طويلة وان اختلف الزمان والمكان في بعث الانبياء، فالحركة واحدة، وغاياتها واحدة، وان اختلفت الخصوصيات الفكرية تبعاً لاختلاف الازمنة. قال تعالى:
«إنا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده...»[17].
والعلمية التي نريد ليس أن تتوفر الشخصية القيادية، وأن تكون مستوعبة لكل المعارف والعلوم الانسانية والطبيعية، بل الذي نريد هو الاحاطة بعلوم الشريعة الاسلامية، ومعرفة القواعد الكلية العامة للتشريع الاسلامي فمن العسير أن يحيط القائد أو الفقيه المرجع بكل العلوم وإن كان يحتاج على سبيل الايجاب الجزئي الى التوفر على بعض العلوم والمعارف الانسانية حتى يكون قادراً على تطبيق القواعد التشريعية للفقه الاسلامي من خلال هذه المعرفة.. ولهذا يمكن أن يستعين الفقيه القائد بالخبرات والاختصاصات العلمية من أبناء المجتمع الذين يرفدونه بالتجارب والخبرات العلمية الحديثة ليطبق تلك القواعد الكلية العامة أو يستنتج منها أحكامه الشرعية، لهذا تأتي أهمية هذه الخصوصية في رفد حركة الامة بالاحكام الاسلامية المنسجمة مع الواقع الفكري والاجتماعي المعاصر والعام في الحياة ويحقق معنى الخلافة الالهية الحقّة على الأرض..
2ـ الحس الاجتماعي:
لكل أمة من الأمم، ولكل مجتمع من المجتمعات تقاليد وأعراف اجتماعية سائدة. بل هناك مجتمعاً واحداً نجد فيه نسيجاً مختلفاً غير متجانس من الثقافة والاعراف بوجود القوميات المختلفة فيه من حيث اللغة، والثقافة والتمدّن، والمعتقدات الدينية والمذهبية والاعراف الاجتماعية التي تتحكم بقومية دون أخرى في ذلك المجتمع.
وعلى ضوء هذا يتحتم على القائد المثالي أن تكون له احاطة اجتماعية واسعة من خلال الحس والحركة في الواقع، فهناك بوناً شاسعاً بين المعرفة الحسية الواقعية من خلال الدراسة الميدانية، وبين المعرفة النظرية المحضة كما هو الحال، الفرق بين النظرية والتطبيق للمفاهيم والافكار.
هذا الحس الواقعي يمكن ملاحظته من خلال حركة الرسول الاعظم (ص)، وهو يمارس دوره الاجتماعي كقائد للامة. فقد تولى مسؤوليات القضاء في المدينة بين الناس، ونفذ العقوبات، والتعزيرات والحدود، كما نفذ بعض أصحابه مسائل قضائية عندما تولوا القضاء كالامام علي (ع) الذي تولى القضاء في اليمن.. كذلك معاذ بن جبل، ومعاذ بن نوفل، وأبو موسى الاشعري...[18].
ولهذا فان الجهل بالواقع، أو فقدان الاحساس بأوضاعه يبعده عنه أولاً ويسلّمه الى القوى الاخرى.. فيوجهوه في غير الوجهة التي يتجه اليها في عقيدته ودينه ثانياً [19].
وقد وجه القرآن النبيّ الاعظم في أن يكون له حضوراً اجتماعياً فاعلاً ومؤثراً في الوسط الاجتماعي قال تعالى:
«وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره»[20].
لأنّ الاسلوب الانزوائي في العمل الفكرى والاجتماعي، لا يجعل القيادة لها الدور الكبير في العملية التغييرية، ولهذا فقد أحس الكافرون والمشركون ما لدور النبي(ص) المؤثر في المجتمع، فأخذوا يبحثون عن الاساليب الفاعلة لابعاده (ص) عن هذا الدور، قال تعالى:
«وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه ملكٌ فيكون معهُ نذيراً * أو يُلقى إليه كنزٌ أو تكون لهُ جنةٌ يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً»[21].
وقد أجاب القرآن على هذا الإتهام بقوله:
«وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق...»[22].
ومن هنا يظهر معنى قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق) يراد منه ان الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الاسواق لاكتساب المعاش فانها اتصال غيبي لا يجامع المتعلقات المادية، وليست إلاّ من شؤون الملائكة[23]..
ومن خلال هذا يتضح ان المشركين كانوا يسعون جادين في ممارسة الضغوط النفسية والاجتماعية على الرسول لابعاده عن الحياة الاجتماعية والقرآن الكريم يدفعه الى الحضور الاجتماعي الفاعل لممارسة دوره الرسالي والتبليغي بين أفراد المجتمع من خلال حضوره الواقعي المثالي الفاعل لأن طبيعة الانسان يتأثر بأخيه الانسان، ويتفاعل معه، يتأثر بتفكيره وبأخلاقه، وسلوكه، ويستمع الى ما يقوله من الحق والصدق لهذا أخذوا يحاولون عزل النبي(ص) عن الأمة باثارة بعض الشكوك وانتحال بعض الشبهات لابعاد الناس عنه(ص)، حتى ان الامام أمير المؤمنين علي (ع) حذّر واليه في مصر من مغبة الاطالة في الاحتجاب عن الناس إذ قال (ع):
«وأما بعد فلا تطولن احتجاجك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شُعة من الضيق وقلة علم بالامور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل»[24].
واذا كان القرآن الكريم قد دفع بالقيادة الاسلامية الى عمق المجتمع فانه لم يطلب منها الحضور الاجتماعى فحسب بل أكّد على وجود الرابطية والتفاني والإيثار بين القيادة والامة لأنّ الامة عندما تتحسس وجود حالة التفاني والايثار والسلوكية الاخلاقية العالية لدى قيادتها فانها تنظر بعين الود والاحترام والالتزام بخط ونهج قيادتها، لان القيادة أضحت تعيش الهموم والمعاناة التي تحملها الامة فلا تنفصل عنها، وقد أكد القرآن في العديد من آياته على تلك الرابطة التي تحكم علاقة الامة بقائدها من خلال السلوك المثالي للقيادة. قال تعالى:
«و يطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»[25].
وقوله تعالى:
«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم»[26].
وقوله تعالى:
«فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر...»[27].
ومن خلال ذلك يتضح ارسال الانبياء والرسل قادة للامة، لماذا لم يختار الله ملائكة لأداء هذا الدور الرسالي الخطير ؟ وهذه شبهة أثارها المشركون بوجه رسول الله كما مرّ سلفاً:
«... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه مَلَك فيكون معه نذير..».
ومن الواضح ان الرسول (الانسان) يختلف جوهرياً عن الرسول (الملك) لان الرسول (الانسان) يمتلك من مقومات الانسانية ما تجعله أن يؤثر في الحياة الانسانية، فيكون القدوة في حياة الانسان، القدوة في الحركة، القدوة في الفعل، القدوة في العمل، القدوة في التفكير، القدوة في العواطف والاحاسيس، ولهذا فان الرسول(ص) لم يأمر قومه بشيء إلاّ أتمر به قبلهم، ولم ينهاهم عن شيء إلاّ ونهى نفسه عنه أولاً لهذا يكون قدوة وأسوة لهم يتأثرون به فهو يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، وينكح كما ينكحون النساء ويحب ويبغض وينام ويمشى، ويتعب فيستراح... وهكذا فان الرسول (الانسان) تتوفر عنده كل الخصائص والمقومات الانسانية، مادية ومعنوية معاً، أما الرسول (الملك) فانه يفتقد الكثير من هذه المقومات، لهذا لا يصلح لاداء هذه المهام الاجتماعية الخطيرة فيكون نصيبه الفشل في الميدان لأنه سيواجه نوعاً من المخلوق يختلف عنه جوهرياً. لذا تأتي حكمة وفلسفة بعث الأنبياء كقادة للناس من النوع الذي يتأثرون به ويتأثر بهم، وهذا التأثر بين القيادة والامة لا يأتي جزافاً، بل يأتي من خلال الحس والروح الاجتماعية التي تتطبع بشخص القائد الرسالي، فالعزوف أو الاعتزال والهروب من الميدان الاجتماعي نصيبه الفشل والسقوط الفكري والسياسي معاً، لأنّ الامة لا تتأثر بانسان يعيش في الابراج بعيداً عن همومها مهما أوتي من العلم والمعرفة.. أما الحضور الميداني خصيصة مهمة من خصائص القيادة تذلل رقاب الناس، وتنقاد اليه وتتأثر به.
3 ـ المواجهة والاقدام
يحتاج العمل التغييرى، في الكثير من الظروف التي يمرُّ بها، وحركة الصراع الذي تمارسه حركة الرسالة الاسلامية، الى المواجهة والاقدام والشجاعة الميدانية، وهي احدى متطلبات الخصائص المهمة في الشخصية القيادية، سواء كان على مستوى العمل الخارجي، والذي يتطلب في بعض الحالات الى تلك الجرأة والشجاعة لمواجهة التحديات الخارجية أو على المستوى الداخلي من تقنين وتطبيق الاحكام الاسلامية والذي يتطلب هذا الاقدام والجرأة، ولذلك أمرّ الله تعالى النبي الاعظم (ص) في تطبيق الاحكام في المجتمع المسلم، وعدم التواني والتقاعس لاجراءها. قال تعالى:
«الزانية والزاني فاجلدوا كُلّ واحد منهم مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله...»[28].
وقد أماط الفقهاء المسلمون اللثام عن خصوصية الشجاعة في شخصية القيادة الاسلامية، وتحدثوا عنها باسهاب لاهميتها وضروريتها.
قال ابن خلدون: «و أما الكفاية فهو أن يكون جريئاً على اقامة الحدود، واقتحام الحروب بصيراً بها، كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء، قوياً على معاناة السياسية ليصح له بذلك ما جعل اليه من حماية الدين، وجهاد العدو وإقامة الاحكام، وتدبير المصالح...»[29].
وقال شارح «المواقف»: «ذو رأي وبصيرة بتدبير الحرب والسلم، وترتيب الجيوش، وحفظ الثغور، ليقوم بأمور الملك شجاع قوي القلب، ليقوى على الذب عن الحوزة، ولحفظ بيضة الاسلام بالثبات في المعارك»[30].
لذلك فان بعض الظروف الحركية التي تمرّ بها حركة الدعوة الاسلامية تتطلب شيئاً من الاقدام والحدّية. ولهذا عندما استنفذت أغراض الحوار الفكري
والعقائدي، وأخذ المشركين يواجهون النبي ودعاة الاسلام باستحداث أساليب القتل والسجن والتعذيب، أمر الله تعالى رسوله في الإعلان عن الدعوة لضرورة الظرف الذي تمرُّ به حركة الاسلام بعدما أضحى أمراً واقعاً في المجتمع لا يحتاج فيهالعمل اسلوب السرية والإخفاء، قال تعالى:
«وقل إني أنا النذير المبين *.. فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين، الذين يجعلون مع الله الهاً آخر فسوف يعلمون، ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون»[31].
وهذا الاقدام والتحدي نتلمسه في شخصية ابراهيم (ع) عندما استنفذ جميع الاغراض السلمية، رأى من الحكمة المواجهة لكسر طوق العزلة الذي يحاول الظالمون والمترفون فيه، الوقوف بوجه الرسالة، ولهذا قال لهم ابراهيم (ع) ـ كما جاء النص في القرآن:
«وتالله لاكيدنّ أصنامكن بعد أن تولُّوا مُدبرين فجعلهم جُذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعلهم اليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقالُ له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون»[32].
ولا يعني هذا ان العقيدة الاسلامية تدعو الى العنف وممارسة القوة في نشر دعوتها وهذه شبهة وجهها الاستعمار الحديث الى الدين الاسلامي. بل ان الاسلام هو دعوة للحوار العقيدي من خلال الادلة والبراهين المنطقية دون ممارسة الضغط والقول وهذا هو الشعار الذي يرفعه لممارسة الكلمة الطيبة والحوار الهادف بالحكمة والموعظة الحسنة، بيد ان ظروف هذه الكلمة، حاول أعداء الاسلام مواجهتها بالقوة وممارسة الظلم، هذا ما شهدته رسالات السماء في الكثير من العصور، لذلك كانت الدعوة بحاجة الى القوة والاستعدادات للدفاع عن اسلوب الحوار العقائدي والفكري. لأنّ المجتمع الاسلامي قائم على أساس «العدالة، ويحمل رسالة العدالة، فهو بطبيعة الحال معرض للعدوان بالاضافة الى ملاحظة أن العدوان طبيعة ثابتة في الدول ذات الانظمة والفلسفات المادية والضالة.. ولذا ففي حين ان مبادئ السلام، والحوار، والتعايش، والتعاون مع الآخرين، سمات ثابتة في تكوين المجتمع الاسلامي فانه ـ بسبب استهدافه للعدوان من القوى الخارجية ـ يستعد للحرب الرادعة وللدفاع ضد العدوان»[33].
ولهذا فرض الله تعالى على المسلمين الاستعداد والتهيأ لمواجهة أي عدوان يفرضه الظرف الذي يعيشه الاسلام مع القوى الضالة قال تعالى:
«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبونَ به عدوّ الله وعدوّكم»[34].
ولهذا نجد العديد من النصوص الحركية في القرآن الكريم تدعو القيادة الاسلامية الى ممارسة العمل الميداني من خلال الاقدام في مواجهة أي تحدي عدواني على مستوى مشاكل الداخل التي تواجه المجتمع المسلم، وتعمل على هتك حرمة النظام و القانون الاسلامي، لذا جاءت أهمية توفر عامل الشجاعة بالنسبة للقائد الاسلامي في مواجهة ذلك. كذلك عندما ندرس التاريخ الاسلامي دراسة واعية فاننا سنجد على مواقف كبيرة وقفها الرسول الاعظم(ص) واصحابه في مواجهة هذه التحديات التي يمكن الاستعانة بها في حركة الاسلام الحديث وهو يواجه التحديات في العصر الحاضر كمنطلق في حركة العقيدة والفكر السياسي الاسلامي.
4 ـ الانفتاح وبناء العلاقات:
الاسلام رسالة عالمية شمولية لجميع أبعاد الحياة، لا يختص بأقليم معين، وليس يعيش الحالة الطائفية الضيقة، لهذا فان الله تعالى قد خاطب رسوله، بانه رسولاً للناس جميعاً:
«قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعاً...»[35].
وهذا الانفتاح الرسالي الشامل خصوصية ذات معنى سياسي وعقائدي لاستيعاب والتأثير على كل الاقطاب والمحاور التي تعيش الحالة غير الاسلامية، وهذا ما يتطلبه العمل الرسالي والقيادة الرسالية من توفير كل مقومات الانفتاح الفكري والسياسي على تلك الاقطاب والمحاور لبناء العلاقات السياسية والفكرية وفق الضوابط والاسس الاسلامية الصحيحة حتى ان الرسول الاعظم (ص) «وضع.. أسس العلاقات الخارجية مع الاقوام والدول الاخرى. فأنشأ علاقات مع نصارى (نجران) وبعض القبائل. وأوفد السفراء الى الدول الاجنبية (مصر، وفارس، وبيزنطية، والغساسنة) وغيرهم. وعقد المعاهدات، وهادن بعض الجماعات، والقبائل، ورفض الهدنة مع البعض الاخر[36].
فالاسلام يملك رؤية واعية لدراسة وبناء العلاقات الدولية، لانه يحمل أهم ايديولوجية عالمية واسعة، لانه ينظر الى الناس جميعاً نظرة اسلامية وانسانية واعية قال تعالى:
«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم»[37].
ويقول أحد المستشرقين: «ان الاسلام ترسّخ، بطموحه لحمل الشريعة النهائية، واصلاح النظام الكوني. أيديولوجية عالمية. وكان على العالم الاسلامي الخاضع لشريعة الهية صريحة ذات دعوة عالمية، أن يحدد نمط العلاقات التي كان في وسعه عقدها مع الامم المجاورة..»[38].
وقد وجه القرآن الكريم رسوله الكريم في تأسيس مبدء الحوار الفكري ومد جسور العلاقات العقائدية مع الفكر الاخر رغم الاختلافات الايديولوجية، وفق الضوابط والموازين الشرعية قال تعالى:
قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»[39].
«و انها لدعوة منصفة من غير شك، دعوة لا يريد بها النبي(ص) أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم لبعضاً..»[40].
وهذه الانطلاقة القرآنية تحدد طبيعة الانفتاح الفكري، وتنظيم أسس العلاقات الخارجية مع القوى الفكرية الاخرى، خصوصاً إذا كانت تحمل متبنيات فكرية ذات قواسم مشتركة مع الفكرة الاسلامية، وان اختلفت في بعض الاطر والوظائف والمباني الفكرية فانها تلتقي في مفهوم التوحيد كركيزة أساسية في العلاقات الدينية والمذهبية.. «وبذلك نبتعد عن أجواء التعصب الذي يتجمد فيه الانسان أمام قناعاته ولا يتحرك خطوة واحدة الى الامام في مجال المناقشة والحوار، بل يعمل على المحافظة، بكل ما في طاقته على مواقعه الفكرية والعملية، وبروح متزمتة حاقدة ويمكننا في هذا الاتجاه أن نلتقي بالاساليب الهادئة المتزنة التي تحتفظ بافكارها عندما نحتفظ بها من موقع الانفتاح على الافكار الاخرى ومناقشتها لحساب وتحصيل القناعات من خلال ذلك كله.»[41].
وقد ولدت القناعات القرآنية في أن تبعث الرسول الى مخاطبة فرعون الذي كان يتمشرق بالالوهية الواهية لتثبت قاعدة سياسة الانفتاح رغم وجود الحواجز النفسية قال تعالى كما في قصة موسى (ع):
«اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى»[42].
وفي موضع آخر من القرآن:
«اذهبا الى فرعون انه طغى»[43].
وهنا تكمن من خلال هذه النظرة القرآنية في تحديد ملامح ومقومات السياسة الانفتاحية لبسط النفوذ وإيصال الكلمة الرسالية الهادفة في بناء العلاقات، والتخلص من الموانع والحواجز التي تقف دون ذلك، وهذه خصوصية من خصائص القيادة الاسلامية المنفتحة على الواقع لترشيد وتكوين المفهوم الاسلامي الواعي لانجاز هذه المهام.. والتخلص من النظرة الضيقة، والتشويه المتعمد الذي يثيره خصوم الاسلام تجاه الدعوة والعنصر الضيق في حركته.

المبحث الثاني: الملامح الاخلاقية العامّة
وفي هذا المبحث نريد التركيز على بعض الخصائص الخلقية المهمة المتكونة في شخصية القائد الرسالي، والتي تترك أثارًا ايجابية فاعلة في حياة الامة ومنها:
1ـ المحبة:
عند دراسة الابعاد الحركية والفكرية للقرآن الكريم نجده قد تحدث باسهاب عن حالة المعاناة في شخصية الرسالات من موقع حبهم وشعورهم العاطفي المرهف تجاه الامة التي عاشوها قال تعالى:
«فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً»[44].
وقوله تعالى:
«... فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ الله عليم بما يصنعون»[45].
ثم قوله تعالى:
«وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»[46].
ففي هذه النصوص القرآنية محفزاً قوياً لتهدئة خواطر النبي(ص) لانه يتألم ويحزن على سلوك قومه ومعاندتهم لخطه الرسالي فالقرآن من خلال هذه اللفتات يريد أن يُؤسس قواعد في شخصية الرسول كأسس ومنطلقات حركية تخدمه في سيرته الرسالية، و أن تتكون في روحه أن قبول المجتمع لدعوته أو رفضها لا تعدوا أن تكون مسألة طبيعية في خط الرسالة، وان يحمل هم التوازنية، وان لا يتحسس ويتألم من قومه.. ولهذا نجد من خلال ذلك وجود هذا الهم الرسالي الفياض تجاه الامة لأن القيادة الاسلامية الميدانية كلما كانت تحمل هذا الهم وتلك الروح، وذلك الاحساس الرسالي المرهف كلما كان لها التأثير العملي والواقعي في حياة الناس. فتتلاحم معه، وتذوب في خطه ومنهجه. قال تعالى: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»[47].
وقوله تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك..»[48].
وقوله تعالى: «و إنك لعلى خُلق عظيم»[49].
ولهذا فاننا «نلتقي بالصورة المشرقة المتمثلة في رسول الله في قلبه الكبير الرحيم الرقيق الذي يتسع لكل مشاكل المسلمين وأخطائهم فلا يتعقد ولا يتشنج ولا يضيق ولا يقسو، بل ينفتح ويتسع ويرق ويلين، وفي اسلوبه الرقيق الذى يتفايض بالاحاسيس الطيبة والمشاعر الطاهرة، والنبضات الرحيمة.. فلا تتحرك كلماته من موقع قوة لتؤذي المشاعر، ولا تنطلق من حالة فظاظة لتدمي الاحساس، بل هو اللين والرحمة والعطف والعاطفة والحميمة التي تدخل الى القلوب بكل عفوية وبساطة ومحبة..»[50].
وإذا كان قلب الرسول (ص) يحمل تلك المحبة والعاطفة تجاه امته فان الامة ستنقاد اليه، مادامت تتحسس تلك العاطفة الرحيمة الودودة، لهذا فالقرآن يوجه الامة في الانقياد والطاعة للرسول والالتفاف حول قيادته الرشيدة الواعية قال تعالى:
«لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيراً»[51].
وقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم..»[52].
وبدون هذه العاطفة وذلك الحنان فان الامة ستتمرد على قيادتها عندما تحس منها الغلظة والخشونة والقسوة في المعاملة، فالقرآن يريد أن يوجد رابطة محكمة بين القيادة والقاعدة من خلال هذه المشاعر والعواطف والتي ستترك آثارها الايجابية في حركة الصراع.
قال تعالى: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فان عصوك فقل إني بريءٌ مما تعملون»[53].
وقد جسّد الامام علي هذا المعنى في خطابه السياسي لعامله على مصر إذ قال(ع): «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فانهم صنفان إمّا أخٌ لك في الدين واما نظير لك في الخلق يفرط بينهم الزلل، وتعرض لهم العلل وتؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه..»[54].
2 ـ الاسلوب وآلية الخطاب:
أما البُعد الاخلاقي الاخر الذي يلعب دوراً خطيراً في عملية التغيير الاجتماعي هو الاسلوبية، وآليات التخاطب الفكري والسياسى، والذي يستدعي توفرها في الشخصية القيادية، من خلال الاسلوب المنسجم مع الخط الاسلامي بصورة عامة، حتى أن القرآن الكريم استعمل مفهوم الحكمة في هذا التعامل والتخاطب.
قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»[55].
وهذا النص القرآني يريد أن يقول ابحثوا عن أدوات التخاطب من خلال الدليل والبرهان المنطقي، والاسلوب الذي يكسب العدو ولا ينفره من الدين الاسلامي، كما ان القرآن يطالب المعاندين والجاحدين لمنهج الرسالة ابداء دليلهم في القضايا التي يطرحونها «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» فانه يوجه المسلمين الى الا تزام بهذا المبدء الفكري العام للوصول الى الاهداف العليا في حركة الاسلام، لذلك دعى الله نبيه الى الابتعاد عن اسلوب الخشونة والغلظة كما مرّ سلفاً قال تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم..»[56].
فالآلية، الناجحة في التخاطب الفكري والسياسي قد تفتح الطريق أمام العقد والحواجز التي تعمل على إبعاد الناس عن الفكرة الصحيحة، لهذا أمر القرآن النبي الاعظم أن يفتح قلبه وأحاسيسه للمشركين الذين حاربوه لان هؤلاء قد يعيشون لبعد وعدم النضوج العقائدي لتقبل الفكرة الاسلامية وعن طريق هذا الانفتاح الواسع قد يهتدي الانسان به الى الصواب قال تعالى:
«وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه وأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون»[57].
فالقرآن يوجه القيادة الاسلامية في أن تهيأ أجواء الأمان والطمأنينة للعدو ليكسب العقول والنفوس من خلال آلية خطابية تعتمد الذكاء والمرونة، والانفتاح، رافظاً الانفعالية، وهذا معناه انه يفتح الطريق أمام خصومه ليطرحوا الافكار والمباني التي تزخر بها عقائدهم. فلا ينفعل أو تسري الى نفسه روح الانهزامية الفكرية، مادام يعتمد في اسلوبه ومنهجه على القدرة الالهية المطلقة التي تزوده بكل أدوات المعرفة واليقينية للخط الذي سار عليه. ولهذا يدعوه القرآن الى الصبر وعدم ابداء الضيق قال تعالى:
«ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين»[58].
وقوله تعالى: «أفمن زُين له سوء عمله فرءاه حَسناً فان الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون»[59].
والقرآن الكريم يريد أن يضع الرسول أمام هذه الحقائق والسنن الاجتماعية، فالتجرد والرفض والعناد والمكابرة مفاهيم متأصلة في سلوك المجتمعات فهي بحاجة الى التروي والحكمة والاسلوبية للتخلص منها بلا مجافاة أو لا أبالية تعمل على هتك حرمة العلاقات الاجتماعية أو تُنفرز المجتمع من قيادته ولهذا نجد الامام علي (ع) يوصي أحد ولاته بالموازنة والسلوكية المنضبطة عند مواجهة الناس فيقول (ع): «واخفض للرعية جناحك وألن لهم جنابك وآس بينهم في اللحظة والنظرة»[60].
3ـ التواضع:
وهذه من أبرز الخصائص الاساسية في الفكر السياسي الاسلامي، فالتواضع يعمل على تأسيس وتكوين قوة اجتماعية كبيرة تلتف حول القيادة الاسلامية، حتى أن القرآن الكريم وسيرة الرسول وأهل بيته ركزت على هذه الخصيصة لاهميتها ودورها الاجتماعي الكبير. وقد جاءت الخطابات القرآنية مرّة بصفة عامة، تخاطب الجماعة الاسلامية المؤمنة.
كما في قوله تعالى: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»[61].
وأخرى خصصت النصوص القرآنية خطابها بتوجيهه مباشرةً الى الرسول (ص) قال تعالى: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين»[62].
وهناك نصوص قرآنية أخرى تناولت مفهوم التواضع بشكل واضح وصريح داعية الجماعة الاسلامية الواعية الى التحلي بهذا المفهوم قال تعالى: «ولا تمش في الارض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا»[63].
وفي وصية لقمان الحكيم لابنه: «ولا تُصعّر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إنّ الله لا يُحبّ كُلَّ مختال فخور وأقصر في مشيك واغضض من صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير»[64].
وقد حذر أمير المؤمنين علي (ع) أحد ولاته من الاعجاب بالنفس، وحب الاطراء والتمرد الخلقي قائلاً: «و إياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين. واياك والمّن على رعيتك باحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك»[65].
والوالي يعتبر في موضع القائد والممثل الشرعي للخلافة الاسلامية، فلابد أن تتوفر فيه خصال التواضع وخفض الجناح ليشكل هذا المفهوم بُعداً أخلاقياً تأثيرياً على نفوس الناس فتلتزم الطاعة والانقياد للوالي أو الخليفة. لذا ركز أمير المؤمنين على هذا البُعد الاخلاقى..

المبحث الثالث: البناء الفكري والاجتماعي
1ـ بناء الامة عقائدياً:
تحتل المسألة العقائدية والفكرية موقعاً مهماً في حياة الامة. فكل مجتمع له تركيبة عقائدية، وقاعدة فكرية ينطلق من خلالها في حياته وحركته، وهذه
العقائد أو الافكار هي التي يتكون منها تاريخ وحضارة الامة. والاسلام أراد أن يعالج واقع الانسان على ضوء ما آمن من المثل والقيم في منهجه كطريق للحياة، ودون الاعتماد على الافكار الاخرى، كي يحافظ على سلامة المجتمع من الأفكار الاخرى، فيسعى الى تأطير المجتمع بسياج فكري متين للتخلص من مشارب الافكار المادية الضالة. ولهذا أخذ الاسلام يهتم ببناء المجتمع الاسلامي بناءً عقائدياً و فكرياً من خلال مؤسساته ومعاهده الفكرية التي تخضع لسلطة الولي الفقيه، والقائد الاسلامي النموذجي لهذا فالاسلام لم يعمل لاصلاح الانسان دون اصلاح المؤسسات الاجتماعية.. كما فعلت المذاهب والدعوات الحديثة ففشلت وانما أصلح الواقع والانسان معاً[66].
لذا ركزت كل دعوات الانبياء على مسألة الاصلاح الفكري والعقائدي. قال تعالى: «... إن أريدُ إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله..»[67].
وقوله تعالى: «وقال موسى لاخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين»[68].
وعن الامام الحسين (ع) قال: «اللهم انك تعلمُ انه لم يكن الذي كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك..»[69].
ولهذا تظهر فلسفة بعث الانبياء والمصلحين في تاريخ البشرية، ان هناك وضعاً اجتماعياً وعقائدياً فاسداً بحاجة الى التغيير والاصلاح وهذا يتم من خلال قطبين أساسيين في العملية التغييرية. القطب الاول: وهو عملية هدم الافكار الفاسدة، والقضاء على كل الوان التخلف الفكري والاجتماعي، والثاني هو ممارسة العمل الفكري من خلال وضع المناهج الدراسية الواعية، لأن المجتمع لا يمكن أن يكن يعيش في فراغ فكري، والاسلام كعقيدة تملك مقومات ملئ هذا الفراغ، ومن الطبيعي إنّ العمل العقائدي والبنيوي يواجه مشاكل فكرية واجتماعية كبيرة وشاقة. لأن عملية هدم الافكار والمخلفات الاجتماعية قضية ليست بالسهولة القضاء عليها، كذلك وضع الادوات العقائدية الجديدة بحاجة الى النفس الطويل الذى تتمتع بها القيادة الاسلامية التي تمتلك الدولة فتعمل من خلال مؤسساتها الثقافية الواعية على ترشيد حركة الفكر والبناء العقائدي للامة، لهذا دعى القرآن الكريم الرسول(ص) الى الصبر والاستقامة في طريق المعاناة: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير»[70] [71].
وقوله تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم»[72].
وفي هذا الخطاب دعوة الى النبي في الاستمرارية في خط الانبياء والرُسل، لهذا يظهر من خلال ذلك ما للمشاكل من دور كبير في تثبيت القيادة، ومحاولة شل حركتها السياسية، لهذا فهي بحاجة الى المواصلة في الطريق لتكوين بنية تحتية ذات بُعد عقائدي وفكري لتحصين المجتمع..
2 ـ الرقابة والصيانة الاجتماعية:
أما الرقابة وصيانة الحقوق والواجبات الاجتماعية تُعدُّ من أساسيات النظام السياسي الاسلامي، وقد بذل الاسلام جهوداً حثيثةً في سبيل ضمان الحقوق
الفردية والاجتماعية للمجتمع، وعلى سبيل المثال، اننا عندما ندرس النصوص النبوية. فان هناك اهتماماً واضحاً من قبل الرسول الاعظم لتنظيم الاقتصاد الاسلامي وتطبيقه في مجالات متعددة حتى لا يتم استغلال واحتكار البضائع من قبل المتلاعبين بالسوق..
روى الطبراني أن النبي(ص) أقرّ اختيار موضع في المدينة ليكون سوقاً لها: وقال: «نعم سوقكم هذا، فلا ينقص ولا يضربن عليكم خراج»[73].
«والظاهر ان المراد من الخراج ضريبة الانتفاع بالسوق، فدلّ على أن السوق من المرافق العامة التي ينتفع بها مجاناً..»[74].
«والظاهر أنه (ص) كان يعهد إلى بعض النساء أن يتولين مراقبة النساء البائعات، ومسلكهن في السوق التي تختلط فيه النساء بالرجال، وقد يحصل نتيجة ذلك بعض ما يخالف الشرع والآداب العامة»[75].
«ويظهر من الاخبار الكثيرة التي رويت عن النبي (ص) في تحريم الاحتكار، وذمه، والنهي عنه، ولعن المحتكرين، ان ظاهرة الاحتكار كانت شائعة في المدينة، وغيرها في الدول الاسلامية.. وإنها تكررت في عهد النبي(ص) مرات عدة..»[76].
وفي رسالة الامام علي (ع) الى مالك الاشتر، لما أراد توليته على مصر أمره (ع) أن يردع المحتكرين، ويقف أمام تصرفاتهم بحزم وقوة. إذ قال (ع): «.. فامنع من الاحتكار، فان رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، و أسعاره لا تجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فمن قارف حكره، بعد نهيك إياه، فنكل به، وعاقبه من غير اسراف..»[77].
هذه النصوص التاريخية، تدلل على الذهنية الاجتماعية التي تتحرك من خلالها القيادة الاسلامية، المتجسدة بشخص الرسول(ص)، أو الامام علي(ع) لتنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمع على أساس المتابعة الميدانية اليومية لوضع حداً للتلاعب بالشؤون الاقتصادية العامة التي تحرك اقتصاد المسلمين آنذاك، وهذا ما يمكن فهمه من خلال بعض اللقطات الفكرية للقرآن الكريم كما في حركة نبي الله شعيب (ع) قال تعالى: «والى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم مُحيط»[78].
وقوله تعالى: «فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض ..»[79].
فقد كان أصحاب الأموال والتجار يستغلون المستضعفين، ويتعدون على حقوقهم من خلال التطفيف كحالة لها ترويج لا يستند الى أي قاعدة ومنطلق صحيح لهذا أراد شعيب أن يكون ويحقق معنى العدالة الا جتماعية في الجانب الاقتصادي الذي هو عصب حياة الناس والذي تستوفي منه الدقة في المتابعة والصيانة الذي يتحرك من خلالها القائد الرسالي لتثبيت أواصر الاخوة وتحقيق العدالة..
أو اننا عندما نقف عند حركة نبي الله لوط (ع) ودوره الكبير لقطع مادة الفساد الاجتماعي الذي كان يمارسه قومه دون رادع إذ قال لهم:
«تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون»[80].
فالاسراف والتعدي الخطير لهذا المرض الاجتماعي يتطلب من القيادة العقائدية الموقف الرسالي الحازم لفرض صيانة عقائد الناس وتنظيم حياتهم الاخلاقية والاجتماعية، لانها قد تتعرض في بعض الظروف لحالات الانهيار بعدما تداخلت فيها بعض الثقافات المادية المنحرفة واننا عندما ندرس حالة المجتمعات الغربية التى أطلقت الحريات سواء كان في جانبها الاقتصادي أو الجنسي، فان مجتمعاتها لا زالت تعيش مشاكل مادية ونفسية جسيمة، والتي تثير حولها المشاكل الاجتماعية الفكرية نتيجة لهذه الانحلالية والاباحية المطلقة والتي تستدعي الى الصيانة وتنظيم العلاقات على ضوء الاسس الصحيحة والسليمة لضمان حياة مجتمع أفضل.
3 ـ المساواة والعدالة:
عانت البشرية منذ فجر تاريخها الطويل الكثير من ألوان الظلم والطغيان نتيجة لممارسات الحكام الظلمة عبر هذا التاريخ، لهذا كانت البشرية بحاجة ماسة الى العدل والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا ما يتطلب وجود حاكم عادل لقيادة البشرية نحو شاطيء الامان. ومن أهم الشروط لتولي منصب القيادة العامة للمسلمين أن يكون الحاكم عادل في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية، وخلق جوّ المساواة بين أفراده.. قال القلقشندي الشافعي من ضمن ما ذكر من شروط في صفاة الحاكم: «العاشر العدالة: فلا تنعقد امامة الفاسق، وهو التابع لشهوته، المؤثر لهواه من ارتكاب المحظورات والاقدام على المسكرات، لأن المراد من الامام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره!»[81].
وقال عبد القادر البغدادي «والثاني ـ العدالة والورع وأقل ما يجب له من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحملاً وأداءاً»[82] و«كما يستفاد من روايات اشتراط العدالة فيما امامة الجماعة فلئن كانت العدالة شرطاً في الامامة لصلاة الجماعة فما ظنك بامامة الامة في حلها وترحالها والتصرف في مقدّراتها، و تؤيد هذا الشرط رواية سدير»[83].
والرواية مروية عن أبي جعفر (ع) إذ قال: «قال رسول الله (ص): لا تصلح الامامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم»[84].
من الاولويات والمهام الاساسية التي تكون مورد اهتمام القيادة الاسلامية هي اقامة العدل، وتحقيق المساواة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، وهذه الخصوصية تعد من اساسيات وجود الدولة الاسلامية قال تعالى:
«إنّا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما»[85].
وهذه هي القاعدة والمنطلق لأصول الحكم وأخلاقيته في المفهوم الاسلامي فلا يحق للقائد التجاوز على الحدود الشرعية والقواعد الاساسية في الفكر الاسلامي، لانّ هناك رقابة الهية مستمرة ترقب تحركات الرسول، أو الامام، أو القائد الفقيه، وتسدده في خطواته ما دامت تنسجم مع الخط الاسلامي الصحيح.
ففي حديث للامام الصادق (ع) عن أمير المؤمنين(ع): إذ قال لعمر بن الخطاب: «ثلاث ان حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن وان تركتهن لم ينفعك شيء سواهن قال: وما هن يا أبا الحسن؟ قال: «اقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط والقسم بالعدل بين الاحمر والاسود» قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت»[86].
فاقامة العدل ركيزة من ركائز الاسلام. لانها تعزز وحدة الأمة، وتذوب شخصيتها في الكيان الاسلامي الذي تجسد القيادة الاسلامية الواعية وجوده من خلال الخصائص الاساسية لقيام الدولة الاسلامية، وتحقيق معنى المجتمع الاسلامي الصالح.
خاتمة:
ان استجلاء الخصائص الاساسية والصفاة العامة للقيادة الاسلامية في واقعنا المعاصر المستوحاة من القرآن الكريم وحركة الرسول(ص) لها اهميتها الاساسية في الفكر الاسلامي، وهذا يتم من خلال نجاح وتجسيد معنى الدولة الاسلامية التي ترسي قواعد أساسية وتطبيقها على اساس العقيدة الاسلامية، لذلك أضحت القيادة الاسلامية والحكومة ذات أهمية بالغة في التاريخ والفكر الاسلاميين، وهي الاطار السياسي العام والمنظومة التي تحاكي الواقع الانساني لحياة المسلم وتنظم حياته على أساس الاسلام..
ولا يفوتنا القول ان هناك ارهاصات سياسية وايديولوجية انفجرت في العقدين الاخيرين من حياة المسلمين مثلته في المقدمة انفجار الثورة الاسلامية في ايران، وتحركات المسلمين في معظم البلاد الاسلامية، والذي مهدت له الثورة الاسلامية باقامة أول نظام اسلامي ذا بُعد سياسي وفكري وعقائدي أصيل.
هذه الارهاصات السياسية أخذت تدعوا الى قيام نظام اسلامى مشابه في ايران، و ان اختلف في بعض الخصوصيات. وهذا ما يحتاج بدوره الى قيادة اسلامية واعية، وذا كفاءة عالية في الادارة والتنظيم مما يستدعي الى توفر خصوصيات وشروط موضوعية لهذه القيادة الاسلامية لتطبيق القاعدة الاسلامية وفق المنهج الاسلامي الصحيح.
وذكر هذه الخصوصيات في البحث الآنف الذكر لا يعني اننا استوعبنا تمامية البحث فلعل هناك بعض الخصوصيات المهمة والتي بحاجة الى دراسات اسلامية واسعة، والتي يتم من خلالها دعم العمل الفكري والسياسي الاسلامي، ووضع مناهج فكرية اساسية في طبيعة التحرك لاقامة النظام الاسلامي الشامل.
_____________________
[1] فاطر: 39.
[2] الاعراف: 79.
[3] النور: 55.
[4] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الاسلامي، ص 278.
[5] الصدر، محمد باقر، الاسلام يقود الحياة، ص 142.
[6] المصدر السابق، ص 141.
[7] الطباطبائى، محمد حسين، الميزان، ج 23 ص 194.
[8] سيد قطب، في ضلال القرآن، ج 1 ص 56.
[9] البقرة: 124.
[10] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون ص 193.
[11] البغدادى، عبد القاهر بن طاهر، اصول الدين، ص 277.
[12] التمهيد في الرد ص 293 عن نظام الحكم والادارة في الاسلام، شمس الدين محمد مهدى ص 156.
[13] الاعراف: 157.
[14] الطباطبائى، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن ج 8 ص 280.
[15] نهج البلاغة.
[16] البقرة: 247.
[17] النساء: 162.
[18] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الاسلامي، ص 167 ـ 168.
[19] فضل الله، محمد حسين، خطوات على طريق الاسلام، ص 165.
[20] الانعام: 68.
[21] الفرقان: 7 ـ 8.
[22] الفرقان: 21.
[23] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 15 ص 184.
[24] مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ج 4 ص 104.
[25] الانسان: 8.
[26] التوبة: 128.
[27] آل عمران: 159.
[28] النور: 2.
[29] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون ص 193.
[30] الجرجاني، علي بن محمد، شرح المواقف ج 8 ص 349.
[31] الحجرات: 89 ـ 97.
[32] الانبياء: 57 ـ 61.
[33] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الاسلامي ص 111.
[34] الانفال: 60.
[35] الاعراف: 58.
[36] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الاسلامي ص 169.
[37] الحجرات: 13.
[38] بوازار مارسيل، انسانية الاسلام ص 220.
[39] آل عمران: 64.
[40] قطب، سيد، في ظلال القرآن ج 1 ص 406.
[41] فضل الله، محمد حسين، من وحي القرآن ج 6 ص 46.
[42] طه: 43 ـ 44.
[43] طه: 24.
[44] الكهف: 6.
[45] فاطر: 8.
[46] يوسف: 103.
[47] التوبة: 128.
[48] آل عمران: 159.
[49] القلم: 4.
[50] الاحزاب: 21.
[51] الانفال: 24.
[52] الانفال: 24.
[53] الشعراء: 215 ـ 216.
[54] مغنية محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة ج 4 ص 48.
[55] النحل: 125.
[56] آل عمران: 159.
[57] التوبة: 6.
[58] الحجر: 97 ـ 98.
[59] فاطر: 8.
[60] مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة ج 4 ـ ص 24.
[61] الفرقان: 63.
[62] الشعراء: 215.
[63] الاسراء: 37.
[64] لقمان: 18 ـ 19.
[65] مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة ج 4 ـ ص 118.
[66] الصدر، محمد باقر، رسالتنا، ص 100.
[67] هود: 88.
[68] الاعراف: 142.
[69] تحف العقول 173، البحار ج 100 ص 81.
[70] هود: 112.
[71] المعارج: 5 ـ 7.
[72] الاحقاف: 35.
[73] التراتيب الادارية، 2 / 163، عن نظام الحكم والادارة، شمس الدين محمد مهدي ص 592.
[74] شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والادارة في الاسلام ص 592.
[75] المصدر السابق: 593.
[76] المصدر السابق: ص 594.
[77] نهج البلاغة ج 3 ص 100.
[78] هود: 84.
[79] الاعراف: 85.
[80] الاعراف: 80 ـ 81.
[81] القلقشندي، مآثر الاناقة في معالم الخلافة، ج 1 ص 36.
[82] البغدادي، عبد القادر بن طاهر، اصول الدين ص 277.
[83] الحائري، كاظم، أساس الحكومة الاسلامية ص 60.
[84] الحائري، كاظم، أساس الحكومة الاسلامية ص 159 عن أصول الكافي.
[85] النساء: 105.
[86] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة ج 18 ص 156 عن كتاب الحياة ج 2 ص 425 للحكيمي.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية