مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

رجل من قم

بسم الله الرحمن الرحيم

(إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء)
تقديم
في الوقت الذي كانت فيه الدوائر الاستعمارية تشدّد قبضتها على ثروات المنطقة دون حسيب أو رقيب بل وفي كثير من الأحيان بمباركة القابضين على زمام الأمور والحكم كالنظام الشاهنشاهي البائد، الذي كان يعتبر شرطي الاستكبار في المنطقة.
وفي غمرة هذه الأجواء القاتمة والبائسة التي خيّم الركود فيها على الآمال والتطلعات، هبّت عاصفة الحق تدكّ حصون الشاه وقصوره، من خلال ثورة إسلامية قادها رجل عارف بالله فقيه بالدين وعالم بأمور الدنيا، وقف حياته للإسلام المحمدي الأصيل، إنه الإمام الخميني حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذي استطاع أن يرسم الصورة الحقيقية للإسلام الذي حاول الكثيرون تشويهه وتطويعه وفقاً لمصالح الاستكبار، فكما تميّز الإمام عن الآخرين بعلمه وفقهه وعرفانه، فإنه (قدّس سرّه) تميّز بقدرته السياسية كقائد استراتيجي استطاع ببعد نظره وشجاعته وإقدامه وميزاته الأخرى، أن يسقط أكبر قاعدة استعمارية تمثلت في النظام الشاهنشاهي البائد، ويقيم على أنقاضها (جمهورية إسلامية) كأعظم حصن للإسلام الأصيل تقف في وجه المصالح الاستكبارية رغم كل الضغوط والظروف الصعبة.
ولعل أبرز مظاهر عظمة شخصية الإمام هو ذلك التأثير الكبير الذي كان يمتلكه في نفوس الجماهير، إذ يكفي أن يصدر بيان واحد من الإمام، حتى تخرج جماهير الشعب الإيراني المسلم وتملأ الشوارع والساحات معبّرة عن تمسّكها بالإسلام الأصيل والسير على خط الإمام، من خلال تقديم مئات الشهداء والجرحى.
ولم يقتصر تلك العلاقة المتينة بين الإمام والجماهير على سنوات حياة الإمام، بل تعدّته إلى يوم وفاته من خلال التشييع المليوني الهائل الذي لم يشهد العالم له مثيلاً، في تعبير صادق عن الوفاء والولاء.
ومن أجلى صور الولاء والوفاء لمدرسة الإمام الراحل هو الالتفاف حول خليفته الوفيّ الصالح الإمام الخامنئي (دام ظله) الذي يعد نبراساً للسائرين على ذلك الخط الذي رسمه الإمام الخميني (قدّس سرّه)، كما أنه يعدّ حصناً ومتراساً تجاه كل المؤامرات التي تحاك ضد الثورة الإسلامية التي تعدّ بحق من مفاخر الإسلام في العصر الحديث.
وفي الذكرى السنوية للعروج الملكوتي لمفجّر الثورة الإسلامية ومحيي فكرة ولاية الفقيه في العصر الحديث، الإمام الخميني العظيم (قدّس سرّه)، عملت لجنة التحقيق والتأليف التابعة لشؤون الثقافة والتعليم في مكتب الإمام الخامنئي (دام ظله)، على إصدار كتاب بالمناسبة وفاءً وولاءً لذلك الراحل الكبير (قدّس سرّه).
نسأل الله أن يتقبّل منا هذا القليل، إنه سميع مجيب.
رحيل الإمام وصال الحبيب وفراق الأحبّة
كان الإمام الخميني في أجواء شعبان أوائل حزيران سنة 1989م يجهّز نفسه لملاقاة عزيز صرف كل عمره من أجل كسب رضاه، ولم يُحن قامته مقابل أي قوة إلى أمامه، ولم تبكِ عيناه إلا له. أشعاره العرفانية تحكي جميعها عن ألم الفراق، وتبيّن العطش لحظة وصال المحبوب. والآن تصل هذه اللحظة العظيمة بالنسبة له، والمفجعة الشاقة لأتباعه. هو نفسه كتب في وصيته قائلا: "بفؤاد هادئ، وقلب مطمئن، وروح سعيدة، وضمير آمل بفضل الله، أستأذن من خدمة الأخوات والأخوة، لأسافر إلى المقر الأبدي، ولي حاجة مبرمة لدعائكم الخير، وأسأل الله الرحمن الرحيم أن يتقبّل عذري في القصور والتقصير في الخدمة".
كان الناس قد عرفوا منذ أيام بمرض الإمام (قدّس سرّه)، وبالعملية الجراحية التي أجريت له. الحقيقة أن وضع الناس الروحي في تلك الأيام لم يكن من الممكن وصفه، كانت مراسم الدعاء تقام في كل حيّ، وبيت، ومسجد، في جميع أنحاء إيران، ومن قبل عشاق الإمام في خارج البلاد. ولم يكن المرء يستطيع أن يرى شخصاً قادراً على إخفاء الحزن والاضطراب على وجهه. العيون تنهمر بالدوع، والقلوب متوجهة إلى (جمران)، الساعات تمر ببطء، وإيران كلها كانت في حالة دعاء. فريق الأطباء استعمل كل ما كان بإمكانه، ولكن الله قدّر أمراً آخراً، {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربّك راضية مرضية}[1].
الساعة العاشرة والثلث من ليل يوم الثلاثاء (13 خرداد سنة 1368هـ.ش) كانت لحظة الوصال. توقف عن العمل قلبٌ أحيا قلوب الملايين بنور الله، والمعنويات، وقد صوّرت أيام مرض الإمام والعملية الجراحية ولحظة لقاء الحق بواسطة آلة تصوير خفية وضعت من قبل عشاق الإمام في المستشفى. وعندما بُثّت الصور عن حالات الإمام المعنوية وهدوئه في تلك الأيام، أحدث ذلك ثورة في القلوب لا يمكن إدراكها إلا بالتواجد في ذلك المكان. الشفاه كانت دائماً تتحرك بذكر الله. في آخر ليلة من حياته، وبعد خضوعه لعدة عمليات جراحية صعبة وطويلة، في سن 87 سنة، وفي حال أن عدة إبر مصل كانت موصولة بيده؛ كان يصلي صلاة الليل ويقرأ القرآن. في الساعات الأخيرة كان لديه طمأنينة وهدوء ملكوتي، وكان يذكر دائماً الشهادة بوحدانية الله ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، وبهذه الحالة ارتفعت روحه إلى الملكوت الأعلى، وترك رحيله في القلوب حرقة لا تلتئم.
عندما انتشر خبر الرحيل، كأن زلزلاً عظيماً قد حدث، تفجّرت الأحزان، وبكت إيران كلها، وكل من عرف اسم الإمام الخميني (قدّس سرّه) في العالم، وسمع كلامه، وبكي وضرب على صدره. لم يكن أي قلم أو بيان قادراً على وصف آثار الحادثة، وأمواج الأحاسيس التي لا يمكن السيطرة عليها في تلك الأيام.
للشعب الإيراني والمسلمين الثوريين الحق أن يحدثوا هذه الضجة، وأن يوجدوا أجواءً لم يسمع التاريخ بمثلها. فهم قد فقدوا شخصاً أعاد لهم عزّتهم التي دِيست، وقطع أيدي الملوك الظلمة، والمستعمرين الأمريكيين، والغربيين عن أرضهم، وأحيا الإسلام، وأعطى المسسلمين العزّة، وأقام الجمهورية الإسلامية، ووقف بوجه جميع القوى الجهنمية والشيطانية العالمية، وقاوم مدة عشر سنوات في مواجهة مئات المؤامرات لقلب النظام والانقلابات، والاضطرابات، والفتن الداخلية والخارجية، وقاد ثماني سنوات من الدفاع وكان في الجبهة المقابلة له عدو مدعوم من قبل القوتين العظميين الشرقية والغربية من جميع النواحي. لقد فقد الناس المحبوب، ومرجعهم الديني، المنادي باسم الإسلام الحقيقي. فعرفوا عند ذلك ذلك المعنى الحقيقي للحديث المأثور: "إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء".
حيث عاشوا ذلك الجرح الغائر وأحسوا بألمه ووجعه.
انتخاب الخليفة
في اليوم الرابع عشر من خرداد سنة 1368هـ.ش، 4 حزيران 1989م، اجتمع مجلس الخبراء، وبعد قراءة آية الله السيد علي الخامنئي وصية الإمام الخميني (قدّس سرّه) التي طالت مدة ساعتين، بدأ البحث وتبادل الآراء لتعيين خليفة للإمام، وقائد الثورة الإسلامية.
وبعد عدة ساعات انتخب في النهاية آية الله خامنئي (رئيس الجمهورية في ذلك الوقت) الذي هو من طلاب الإمام الخميني (قدّس سرّه)، ومن الوجوه المضيئة للثورة الإسلامية، ومن قادة ثورة (15 خرداد) ـ 5 حزيران)، وقد كانت له مواقف مشرّفة في جميع مراحل ثورة الإمام الصعبة والسهلة إلى جانب الأنصار الآخرين.
سنوات مضت، والغربيون وعملاؤهم المدعومون من قبلهم في داخل البلاد قد يئسوا من هزيمة الإمام، وكانوا يعدون أنفسهم لزمان موت الإمام (قدّس سرّه)، ولكن وعي الشعب الإيراني، وانتخاب الخبراء السريع للقائد ودعم أبناء وأنصار الإمام، أضاع كل آمال أعداء الثورة. وموت الإمام (قدّس سرّه) لم يكن نهاية طريقه، بل في الواقع إن عصر الإمام الخميني (قدّس سرّه) كان قد بدأ بشكل أوسع مما سبق، فهل يموت الفكر والصلاح والمعنويات الحقيقية؟!
واجبنا تجاه خط الإمام ونهضته
ينبغي على الأمة التي عاشت في ظل بركات ثورة الإمام، ونهلت من معين فكره، واكتسبت العزّة بخطه، أن تتحمل إرثه المبارك وفاءً لهذه الشخصية الفريدة والنسمة المباركة من خلال ما يلي:
أولاً: الوفاء لشخصه:
من خلال وسائل عديدة، أهمها تركيز البعد العاطفي في العلاقة بيننا وبين شخص الإمام بعد رحيله، ونجعل منه بهذا الرابط امتداداً حقيقياً للحسين (عليه السلام) وقضيته، فيبقى خالداً كجدّه الحسين (عليه السلام) بفكره وعطائه وثورته، وقد صرّح الإمام الخميني (قدّس سرّه) مراراً وتكراراً، بتلك العلاقة الخاصة جداً بين ثورته المباركة ونهضة جدّه الحسين (عليه السلام) في مقارعة الظالمين، حيث يقول (قدّس سرّه): "كل ما عندنا هو من ثورة الحسين (عليه السلام)".
ومن هنا فأي إحياء لشخصية الإمام (قدّس سرّه) هو في الواقع إحياء لشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته وثورته، فثورة الإمام الراحل (قدّس سرّه) كانت من العوامل المهمة في إحياء ثورة الحسين (عليه السلام) وفكره وهي الممهّدة لثورة المهدي ودولته، فالإمام (قدّس سرّه) امتداد للحسين (عليه السلام) وتمهيد للمهدي (عليه السلام)، فالوفاء له وفاء لهذين الامتدادين النورانيين.
ثانياً: الوفاء لخطّه ومدرسته:
لقد تميّز خط الإمام (قدّس سرّه) الأصالة الإسلامية، واستقاء الفكرة والمنهج، وتحديد الهدف والطريق، وغيرها من القرآن والسنة خالصاً من كل شائبة، غير متأثر بأي شيء آخر غيرها، وعلى الأسس والقواعد الشرعية في التعامل مع مصادر الشرع والفكر الإسلامي.
فالإمام الخميني مستنبط لا منظّر، وقدرته الاستنباطية ـ الاجتهادية ـ العالية هي التي مكّنته من الوصول إلى هذه السياسة وتأسيس هذا الخط الفكري لا قدرته التنظيرية؛ وعظمة الإمام (قدّس سرّه) ترجع بالدرجة الأولى إلى الإسلام والقرآن وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، فهي التي حرّكت الناس، وهي التي أخرجتهم من بيوتهم إلى الشوارع للاحتجاج على الحكم الشاهنشاهي البائد، فعانوا الشدائد في سجون الشاه، وهي التي دفعتهم إلى جبهات الدفاع عن الحق والشهادة في سبيل الله، وهو السرّ الذي خفي على الآخرين الذين أرادوا أن يخلقوا ثورة وحركة على أساس الفكر الغربي ولكن في إطار وقالب شرقي وبأسلوب وطريقة إسلامية؟ وسواء قدمت هذه أو أخرت تلك فالنتيجة واحدة وهي الفشل.
إن منابع الثقافة والفكر في مدرسة الإمام الخميني نجدها اليوم متجسّدة في تراث ضخم من كتب وبيانات وخطابات الإمام؛ غطّت جميع أبعاد الحركة، وأمّنت الغطاء الفكري الضروري الذي تحتاجه الأمم والشعوب لأجيال وأجيال قادمة، فحق أن تسمى (المدرسة المحمدية الأصيلة). فالمصطلحات المتجددة كولاية الفقيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق المحرومين، وأحكام الحكومة الإسلامية، كلها أمور يرجع الفضل في انبعاثها ودخولها ساحة البحث العلمي بشكل واسع ومركّز إلى الإمام (قدّس سرّه)، بالإضافة إلى أمور يرجع أصلها وتأسيسها إلى الإمام (قدّس سرّه) مثل شرائط المرجعية.
ولم تتوقف هذه المدرسة الفقهية بوفاة الإمام (قدّس سرّه)، بل هي آخذة في التطور نحو بُعد جديد؛ يظهر في أفقه تطوّر في موازين المرجعية شكلاً ومضموناً نحو الأفضل، بحيث ينصبّ رجوع الأمة إلى الفقيه الولي المدبّر العارف بزمانه، القادر على إعطاء الحكم في (الحوادث الواقعة) كما تشير الرواية "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا بها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"[2]، والحوادث هي جزئيات الأمور، والمصاديق الخارجية للأحكام الشرعية، التي يستلزم العلم بها معايشة المجتمع، ومواكبة الحياة، ومشاكلها المختلفة، فضلاً عن ملكة الاجتهاد.
إن عظمة فقه الإمام وأصوله، وقابليتها للعطاء والدوام بلحاظ القدرة الاستيعابية لتطور الزمن والعصر، الذي ينتظره المسلمون، هو في الحقيقة الامتداد الحيوي لثورته، والعجلة المحرّكة لنهجه وحركته.
ومن الواضح أنه لم تكن حركة الإمام (قدّس سرّه) مجرد مقاومة الظلم، ودفاع عن المحرومين، بل كانت أكبر من ذلك بكثير، كانت حركة هدم وبناء في نفس الوقت، فالشاه يسقط، وهناك بديل وهو الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، والثقافية الغربية تسقط وهناك الثاقفة الإسلامية، وقد كانت هذه الثقافة مدرسة متكاملة تطرح أساس الحركة وبواعثها، ثم أسلوب العمل، ومنهج التطبيق، ثم نتائجها وأهدافها، وهي بهذه الشمولية سحبت البساط من تحت (البدائل) الأخرى غير الإسلامية، وأرجعت الطاقات والإمكانيات التي كانت آخذة في التجمّد داخل تلك القوالب الهجينة إلى حضن الإسلام وحصنه، وفتحت أمامها باب العمل الحقيقي لخدمة دين الله وعباده.
مدرسة الإمام كانت ومازالت مدرسة عملية وواقعية مع كل ما تطرحه من أهداف، وآمال كبيرة والاهتمام بهذا التراث، ودراسته ونشره والعمل به يعتبر من أكبر مصاديق الوفاء للإمام والاستمرار على نهجه، فينبغي على الملتزمين بفكره أن يحيوا هذا التراث بشتى السبل، ويحافظوا على شعارات خط الإمام الحيّة، ومبادئه القويمة في سلوكهم وممارساتهم، ويصرفوا الجهد الأكبر والطاقة العظمى في إطار هذا الأمر المهم.
ثالثاً: الوفاء لأعماله وإنجازاته:
إن الدارس لسيرة حياة الإمام (قدّس سرّه) يلاحظ بشكل واضح أنه قد كرّس حياته كلها على الإخلاص للإسلام ومبادئه العالية، ولهذا كان النجاح والتوفيق مصاحباً له دائماً.
وعلى رأس هذه التوفيقات والنجاحات قيام نظام الجمهورية الإسلايمية في إيران، هذا النجاح الذي يعتبر ثمرة دماء الشهداء، وتضحيات المجاهدين تحت ظل توجيهات الإمام الخميني (قدّس سرّه).
ووفاءً لروح الإمام (قدّس سرّه) ولدماء الشهداء الأبرار ينبغي العمل على الحفاظ على تلك الأعمال والإنجازات بكل الوسائل الممكنة والمتاحة.
الإمام الخامنئي (دام ظله) استمرار للمسيرة
لقد كانت مسألة وجود خليفة للإمام (قدّس سرّه) يقود مسيرة الثورة إلى أهدافها المنشودة بكل أمانة وإخلاص من مصاديق بُعد النظر، والفكر الاستراتيجي الذي كان يتحلّى به الإمام الخميني (قدّس سرّه)، فعمل على تخريج عدد كبير من الفقهاء والمفكرين من مدرسته، ليؤدوا رسالتهم ودورهم المبارك، وقد أثبتت الأيام أنهم بحق صمام أمان هذه الأمة، وروّاد طلائعها وحصون مبادئها، يشغل الواحد منهم مساحة كبيرة من وعي الأمة، ويحتضن شريحة واسعة من أبنائها.
ومن أبرز هذه الفئة المباركة، سماحة المرجع الديني ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله) الذي تصدّى بانتخاب أهل الخبرة لمقام القيادة والولاية الشرعية، وأصبحت مهمة الدفاع عن الجمهورية الإسلامية منوطة به، وموكولة إلى قيادته، وحكمته في إدارة الثورة والدولة الأمة.
ولذلك ينبغي على السائرين على خط الإمام (قدّس سرّه) أن يسخّروا جميع إمكانياتهم وقدراتهم، ويضعوها تحت تصرّفه حتى يتمكّن من النجاح في مهمته الخطيرة.
وليست هذه المسألة اختيارية أو اعتباطية، فإن الإيمان بولاية الفقيه يجعل من الائتمام بالقائد الإمام الخامنئي واجباً على كل مسلم غيور.
الحذر من مؤامرات الأعداء:
ينبغي على المسلمين أن يأخذوا حذرهم من مؤامرات أعداء الثورة الذين يعملون بكل ما أوتوا من مكر ليضعفوا الثورة، من خلال ما يلي:
(1) إفراغ الثورة من محتواها الفكري:
حيث يرفعون في هذا السبيل كلمات حق يراد بها الباطل من قبيل (أن الثورة غير مرتبطة بشخص مهما كانت عظمته) أو (أن الشخصيات المطروحة والمتصدية فيها الكفاية وتغنينا عن رحيل الإمام (قدّس سرّه)، أو (أنها مرحلة جديدة تتطلب فكراً وفهماًُ جديداً لا يمكن لميّت أن يؤدي الدور فيه؟) سعياً منهم لإقناع الكثير بالتنازل عن فكر الإمام ومبادئه.
ولا يخفى أنها جميعاً مغالطات مغرضة، فقد ارتبطت الثورة بشخص الإمام، لا بلحاظ ذاتي، بل بتمثيله للإسلام، وتجسيده للمدرسة الأصيلة، ونيابته عن صاحب الأمر (عج)، فقد كنا نعرف إسلامية الفكرة بتأييد الإمام وتبنّيه لها، وعدم إسلاميتها بإعراضه عنها وانحرافها بوقوفه (قدّس سرّه) في وجهها، واتخاذه موقفاً منها.
وسنبقى نستلهم المواقف الأصيلة من خلال دراسة هذا التراث العظيم الذي خلّفه لنا الإمام (قدّس سرّه)، من فكر ومواقف عملية، وتلاميذ قادرين على أن يفوا بمتطلبات الساحة الحركية لأجيال وأجيال قادمة، وستبقى الأمة الإسلامية تتعامل مع الخميني الحيّ بروحه وخطه وفكره.
(2) العمل على إضعاف القيادة الجديدة:
ولا تقل خطورة هذا الأمر عن سابقه، فالأمة أحوج ما تكون الى قيادة ثابتة للفقيه الولي الذي حدّد إمام الأمة (قدّس سرّه) طريقة انتخابه وتعيينه، إذ أوكل هذا الأمر المهم إلى مجلس الخبراء، الذي ضم أربعة وسبعين مجتهداً من أهل الخبرة، اجتمعت كلمتهم بأغلبية ساحقة على تأييد سماحة آية الله العظمى الإمام الخامنئي (دام ظله) كفقيه وليّ.
وقد أثبت الإمام الخامنئي (دام ظله) بقيادته الحكيمة، وقدرته السياسية والإدارية، وبمنهجه الشامل، بقاء شخص الإمام (قدّس سرّه) بشخصه وفكره وليس هذا بغريب، فلقد كان (دام ظله) في طول مسيرته التلميذ الوفيّ لأستاذه الإمام (قدّس سرّه) عاملاً بآرائه مقتدياَ بسيرته ناهجاً خطه، وقد عاهد ربّه والأمة، بعد تنصيبه في هذا المقام، على البقاء أميناً على هذه المبادئ، كما صرّح في أول خطاب له.
وعدالته التي شهد بها الإمام (قدّس سرّه) عندما أمضى انتخابه رئيساً للجمهورية ونصبه إماماً للجمعة في طهران، وغيرها من المناصب التي يشترط فيها العدالة كانت ولاتزال صمام الأمان لأصالة الفكر وسلامة الخط والثورة، فمقام القيادة هو مقام الأبوّة لجميع أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف توجهاتهم، وبالفعل برهن الإمام الخامنئي (قدّس سرّه) خلال الأعوام المنصرمة على لياقته وتمتعه بصفات القيادي الكبير، والمخضرم الخبير، الذي لا بعرف الكلل ولا الملل، وقد شغلت قيادته مساحات كبيرة من الأمة، كما أن توجيهاته الأصيلة لم تقتصر على إيران فحسب، بل شملت الأمة على امتدادها، فكان يتابع بنفسه كل ما يشغل العالم الإسلامي ويفتش في كل زاوية من زواياها عن كل ما فيه نجاحها ونهضتها.. فبورك به قائداً عملاقاً قد نهض بجناح.
الإمام في أيامه الأخيرة: صبر على الشدائد وسكينة في استقبال الموت
لقد كان الإمام الراحل (قدّس سرّه) في أيامه الأخيرة مثالاً للصبر على الشدائد، والسكينة والطمأنينة في استقبال الموت، ذلك ما نتلمّسه من خلال ما قاله مقرّبون له ممن كانوا معه في تلك الأيام، وإليكم بعضاً منها:
ادعوا الله أن يتقبّلي ويختم لي بالحسنى:
قال الإمام وهو يودع عياله ـ بعد أن قرر الأطباء ذهابه للمستشفى لإجراء العملية الجراحية له ـ: "إنني ذاهب من بينكم هذه المرّة بلا عودة".
فقالوا: بل ستعود سالماً بعد تحسن صحتك، لكنه كرر القول: "لكنني أعلم أن ذهابي هذه المرّة سيكون بلا عودة"، ثم وجّه كلامه إلى زوجة الحاج السيد أحمد (ره): "اتصلي هاتفياً بوالدكم ـ وهو رجل قوي الإيمان وعالم ـ واطلبوا منه أن يدعو الله بأن يتقبّلني في جواره ويختم عاقبتي بالحسنى".
وعند مغادرته للمنزل باتجاه المستشفى كان الحاج السيد أحمد واقفاً في زاوية، فأشار إليه الإمام ـ والأطباء والممرضون حوله ـ بأن يقترب ففعل وعندها قبّله على وجنتيه، وهذا مما لم يرَ أحد الإمام يفعله من قبل وهو شاهد على علمه بأنه ذاهب بلا عودة"[3].
***
اطلبوا من الناس أن يدعوا الله أم يتقبّلني في جواره:
عندما أراد الإمام أن يودعنا قال: "إن صحّتي لن تتحسّن، اطلبوا من الناس أن يدعوا الله لي بأن يتقبّلني في جواره".
وفي صباح يوم الجمعة وقبل ذهابه إلى صلاة الجمعة، جاء إلينا أخونا العزيز الشيخ الهاشمي الرفسنجاني وقال: أريد أن أرى الإمام لكي أنقل للناس في خطبة الصلاة خبر سلامته وتحسّن صحته. قلت: لا مانع من ذلك. فدخلنا معاً على الإمام الذي قال لنا: "قولوا للمشاركين في صلاة الجمعة أن يدعوا الله بأن يعفو عني وينقلني إلى جواره"، فالإمام كان يعرف بما سيقع.
عندما خرج الشيخ الهاشمي الرفسنجاني من غرفة الإمام خنقته العبرة، قال لي: ماذا نفعل؟ كيف يمكن أن نخاطب الناس بهذا الكلام، يمكن أن يستغل الأعداء ذلك؟ قلت له: اصبروا حتى أدخل على الإمام مرّة أخرى لعله يأمر بإخبار الناس بأمر آخر أقلّ مرارة.
دخلت عليه وقلت: إن الناس يحبّونك يا سيدي، ومثل هذا القول سيحزنهم كثيراً، فلو سمحت أن يقال لهم: بأنك ستشكرهم على ألطافهم بنفسك بعد أن تتحسّن صحتكم.
أجاب الإمام بعد أن رمقني بنظرة: "لا بأس، قل للشيخ الهاشمي أن يقول للناس: إن فلاناً قال هذه العبارة أيضاً". ثم نقلت للشيخ الرفسنجاني هذه العبارة التي نقلها بدوره للناس في خطبة صلاة الجمعة"[4].
***
يستيقظ بنفسه لصلاة الليل حتى في أيام مرضه:
كان للإمام جدول لأعماله اليومية يعدّه بنفسه ويكتب فيه جميع أعمال يومه وليلته في كل ساعاتهما باستثناء ساعات السحر التي يقوم فيها لنافلة الليل والعبادة ما بين الساعتين (2ـ4) بعد منتصف الليل، كان برنامجه اليومي محسوباً بدقة يستثمر كل لحظات حياته، ولم يكن هذا لبرنامج يتغير كثيراً حتى في أيام مرضه؛ وقد لاحظنا أن التزامه به وبأوقات عباداته النهارية والليلية قد تحول إلى ملكة ثابتة فيه.
وفي أيام مرضه كان يستيقظ قبل ساعة من أذان الفجر ـ وفي غير ذلك كان يستيقظ قبل ساعتين من الفجر ـ ويستعد لمناجاة محبوبه جل وعلا ويحيي ليله بالعبادة. كان ينهض للعبادة بشوق لا يمكن وصفه، وكنا نحضر عنده ـ وهو راقد على سرير المرض ـ لكي نوقظه لأداء نافلة الليل، لكنه كان ينهض فور حلول وقتها وبنشاط غريب وكأن ثمة من يوقظه لإقامتها[5].
***
الصلاة هي وصيته الأخيرة
كانت الصلاة من أهم أعمال الإمام الذي لم يترك نوافلها إلى آخر لحظة من حياته، فعندما فقد القدرة على تحريك شفتيه أخذ يؤديها بالإشارة، لقد شعرت بذلك بكل وضوح، حتى كان بعض الأطباء يتصورون أنه يطلب شيئاً بهذه الإشارات، فكنت أخبرهم بأنه يصلي، كان شديد الاهتمام بالصلاة، وهي آخر ما أوصى به"[6].
***
ردّد التسبيحات الأربعة إلى أن أغمي عليه:
لم يغفل الإمام وإلى آخر لحظة عن ذكر الله والدعاء والصلاة، وقد ذكر الحاج السيد أحمد أن الإمام بدأ يصلّي منذ ضحى اليوم الأخير من حياته دون انقطاع ولم نكن نعرف أي صلاة يقيمها، لكنه سأل بعد فترة من الانشغال بالصلاة: "هل حان وقت صلاة الظهر؟"، أجابوا: نعم، فأقام صلاتي الظهر والعصر.
وكان يردّد التسبيحات الأربعة: (سبحان الله الحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) إلى أن أغمي عليه (الإغماء الأخير)[7].
***
آخر وصية:
في الساعة الثامية عشرة من ظهر ذلك اليوم (يوم وفاته) طلب حضور نساء عائلته، وعندما دخلن عليه قال: "هذا الطريق طريق صعب"، ثم أخذ يكرر القول: "لا تعصوا الله"، ثم طلب حضور السادة التوسلي والآشتياني والأنصاري وتحدث إليهم بشأن اختلاف الآراء بين الفقهاء، ولم أعرف ما قاله لهم.
وفي الساعة العاشرة وعشرين دقيقة ظَهَر على الشاشة الطبية الخط المستوي (مشيراً إلى توقف نبض قلب الإمام)، فدخل الأخوة حرس الثورة وانفجروا بالبكاء لوعة.
كان وجه الإمام دافئاً للغاية، لقد تحوّل فجأة هذا الوجه الضعيف الشاحب بسبب المرض إلى وجه ممتلئ حيوية ونورانية، لقد قاسى الإمام ـ طوال عشرة أيام ـ أشد الآلام القاتلة دون أن يُظهر أدنى شكوى، وكلما سألناه: كيف حالك يا سيدي؟، كان يجيبنا: "كتب الله لكم أنتم السلامة"[8].
***
رحل عن الدنيا وهو ذاكر لله:
نقل الإمام يوماً عن العارف الجليل المرحوم الشاه آبادي، أن الشيطان يسعى لإغفال الإنسان عن ذكر الله عند الاحتضار بأن يستعرض له الأشياء التي يحبّها، ولعل هذا الذي دفع الإمام لأن يأمر قبل ثلاثة أيام من وفاته بعدم إدخال حفيده علي بن السيد أحمد عليه. كان الإمام في حالة الذكر المستمر حتى إنه أفاق مرة وشفتاه المباركتان تتحركان، وعندما قرّب الطبيب أذنه منهما سمع الإمام يلهج بذكر (الله أكبر)، وقد عرجت روحه من الدنيا وهو يذكر الله[9].
_______________________
[1] سورة الفجر: الآية 27، 28.
[2] وسائل الشيعة، ج27، ص140.
[3] حجة الإسلام والمسلمين الآشتياني، مجلة (مرزداران)، العدد 193.
[4] حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني.
[5] حجة الإسلام والمسلمين الأنصاري، صحيفة رسالت، 9/3/1372هـ.ش.
[6] السيدة زهراء المصطفوي، صحيفة جمهوري اسلامي، 7/3/1368هـ.ش.
[7] آية الله الخامنئي، صحيفة اطلاعات، 19/3/1368هـ.ش.
[8] السيدة زهراء الإشراقي، مجلة (زن روز)، العدد 1220.
[9] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، مجلة (حوزه)، العدد 45.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية