ويقع البحث في عدة نقاط:
النقطة الاولى ـ ضرورة الحكومة الاسلامية:
ان حاجة المجتمع الى حكومة تدير اموره ادارة صحيحة قائمة على اساس
العدل والانصاف ليس بالامر الذي يمكن انكاره. وذلك ان كل مجتمع
عرضة للظلم والعدوان، ما لم تكن ثمة حكومة عادلة وحكام اتقياء
يحولون دون وقوع ذلك، كما ان تأسيس المدينة الفاضلة ووصول الجميع
الى حقوقهم امر مرهون بوجود الحكومة القائمة على اساس العدل
والتوزيع المتكافئ للثروات العامة بين الناس ورفع التمييز الطبقي
بينهم، وتطبيق قانون الشرع الالهي وسد منافذ الشر والظلم التي تحدق
بالمجتمع وتهدده.
ان مما لا شك فيه ان جميع الانبياء (ع) الذين بعثوا لتحقيق سعادة
المجتمع البشري انما كانوا يهدفون ـ مضافا لابلاغ الرسالة ـ الى
اقامة الحكومة التي تضمن في كنفها سعادة الناس في الدنيا والآخرة؛
بعد ان كان الانسان عاجزا ـ وهو يعيش في خضم الحياة المادية ـ عن
ارتقاء سلم التكامل المعنوي بدون الاستعانة بهدى الانبياء (ع)
وتعاليم الوحي.
ومن هنا فان تحقيق السعادة باعتبارها مطمحا كبيرا في بعثة الانبياء
(ع) امر لا ينسجم ووجود الحكومات الجائرة؛ اذ لا يفتأ حكامها من
التمادي في قضم حقوق الضعفاء ونهب الثروات العامة، وليست المحاكم
والقضاء في مثل هذه الحكومات ممن يهمه امر الضعفاء والمحرومين
لتدافع عنهم وتحفظ حقوقهم، اذ ان ما يعني ذوي المناصب والمواقع في
ظل الحكومة الجائرة ليس هو الا المصالح الخاصة، ومما يعزز هذه
الحقيقة ويدعمها، وجود ما تثبته التجربة التاريخية. ولعل من نافلة
القول التأكيد على ان المجتمع البشري كلما انغمس وتمادى في
الشهوات، والانكباب على الدنيا وطلب الجاه، كلما ابتعد عن جادة
السعادة واخطأ الطريق، فلا ضامن لسعادته غير اجراء القانون الالهي
وتطبيقه.
ويدل على ذلك امور:
اولا: ملاحظة سيرة النبي (ص) والائمة المعصومين (ع) من بعده، فقد
تصدى (ص) في اول الدعوة لطواغيت عصره وواجههم مواجهة جرت الى الحرب
بينهم وزوال سلطانهم وظهور الدعوة عليهم، ثم تصدى بعد ذلك لامر
الحكومة في القضاء وتنفيذ الاحكام وادارة الامور الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية، وتحديد مستقبل القيادة بتعيين من يقوم
بالامر من بعده، ليكفي المجتمع مؤونة الانتخاب، الامر الذي لا يمكن
تفسيره بانه كان تدبيرا فرديا منه (ص) لا يمت الى الدين والوحي
بصلة؛ وذلك لعصمته (ص) الرادعة له عن العمل خارج دائرة الامر
الالهي {وما ينطق عن الهوى}[1].
ومن هنا فان ما قام به (ص) يدل بشكل قطعي على ان امر الحكومة هو من
صلب الدين وحاقه، وان الفصل بينهما مناف لروح الدين وصريح الشرع
المبين، وان تشكيل الحكومة بمعزل عن الدين يعد نقصا كما ان وجود
الدين مجردا عن الحكومة يعد نقصا كذلك، فاذا لا يمكن التفكيك بين
الدين والحكومة.
ثانيا: ان المنصف المتأمل في تعاليم القرآن والسنة والمفاهيم
الواردة فيهما يدرك بوضوح ان تطبيقها يعتمد اعتمادا كاملا على وجود
الحكومة الاسلامية.
فقد ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه: {فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا
بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه...}[2]. وقال تعالى
ايضا: {لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان
ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع
للناس...}[3]. وقال عز شأنه: {كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من
الظلمات الى النور باذن ربهم الى صراط العزيز الحميد * الله الذي
له ما في السموات وما في الارض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين
يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها
عوجا اولئك في ضلال بعيد}[4].
ان الملاحظ لهذه الآيات يجد التأكيد البليغ فيها على ان تشكيل
الحكومة هو من الوظائف الاساسية للانبياء (ع)؛ حيث صرحت بان
الانبياء قد انزل معهم الكتاب ليحكموا به بين الناس، ويقيموا العدل
والقسط على اساس الكتاب، وهذا يعطي بمجموعه ان النبي هو الذي يجب
ان يتصدى للحكم في المجتمع، والا فمن المحال ان يقوم النبي باقامة
العدل والقسط مع كون القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بيد
المجتمع لا بيده.
كما ان من المحال ايضا ان يكون وجود القرآن لوحده منشأ لرفع الظلم
والفساد والفقر وهداية الناس واخراجهم من الظلمات الى النور، ما لم
يكن النبي على رأس الامور والمتصدي لتطبيق تعاليم الكتاب ودساتيره
الداعية الى هداية الانسان وتحقيق سعادته في الدنيا والاخرة.
وثمة آيات اخر تدل على الحقيقة المذكورة، قال تعالى: {انا انزلنا
اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله ولا تكن للخائنين
خصيما}[5].
وقال ايضا:{ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون}[6].
وقال: {ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون}[7] وقال:
{ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون}[8]. وقال:
{وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم}[9]. وقال: {وان
احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم واحذرهم ان يفتنوك عن
بعض ما انزل الله اليك}[10]. وقال: {فان تنازعتم في شي ء فردوه الى
الله والرسول}[11].
فقد دلت هذه الآيات على ان المجتمع الاسلامي لابد من ان تديره
حكومة اسلامية؛ لان النزاع بين الناس امر لا محيص منه والرجوع فيه
الى غير الحاكم الاسلامي امر مبغوض ومحرم، فلابد اذا من مرجع لحل
الخصومات ورفع الاختلافات، فلو لم يكن مرجع لذلك كان هذا بنفسه
باعثا على الفوضى والاختلاف والنزاع، وهو خلف الغرض.
وقد عين القرآن المرجع لحل الاختلاف في الله تعالى والرسول (ص)،
وواضح ان المرجع في ذلك لابد ان يكون هو الحاكم على الناس لكي يحكم
بينهم، وتكون له القدرة على تنفيذ الاحكام، فهذه الآيات وغيرها
الكثير تدل دلالة صريحة على ان الشطر الاهم من وظائف النبي انما
يتمثل في تشكيل الحكومة في المجتمع على اساس الكتاب.
وعليه فلا شك في ان فكرة الفصل بين الدين والحكومة مما يتعارض
وصريح القرآن الكريم وينتهي في مآله الى تحريف الآيات السابقة بما
يلزم منه الكفر اولا، والفسق ثانيا.
ولا يبعد ان يكون ذلك هو المراد من قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما
انزل الله فاولئك هم الكافرون}، وقوله: {ومن لم يحكم بما انزل الله
فاولئك هم الفاسقون}. فالقرآن يحكم بكفر المنكر للدين من خلال
تعطيل الاحكام وانكارها والفصل بين الدين وامر الحكومة، كما يحكم
بفسق المتأول للآيات الصريحة في امر الحكومة بما يؤدي الى انكارها.
ثالثا: ان سيرة جميع الائمة الاطهار (ع) وهم عترة النبي (ص)
وخلفاؤه من بعده، تدل بوضوح على السعي الى تأسيس الحكومة، فالامام
امير المؤمنين (ع) قد سعى بعد تنصيص النبي (ص) له بالخلافة وبشكل
حثيث قل نظيره بين الحكام الى تأسيس الدولة وتقلد مهامها في اول
فرصة سنحت له بذلك حتى نال الشهادة في هذا الطريق، كما نالها من
بعده في نفس السبيل ولداه الحسنان (عليهما السلام) سيما ولده
الحسين الشهيد الذي ضحى بكل شي ء، وتحسن الاشارة هنا الى قولة له
(ع) يقول فيها: "اللهم انك تعلم انه لم يكن ما كان منا تنافسا في
سلطان ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك
ونظهر الاصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك
وسننك واحكامك، فان لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا
في اطفاء نور نبيكم "[12].
وقد ورد نظيره في نهج البلاغة، وهو واضح وصريح في اعتبار امر
الحكومة من صلب الدين وحاقه.
ولسنا بحاجة للتأكيد على ان سائر ائمتنا (ع) كانوا بصدد تأسيس
الحكومة الشرعية في اقرب فرصة ممكنة، ولذا لم يرغد احد منهم في
عيشه، فهم بين طريد وشريد او رهن الاقامة الجبرية او رازح في السجن
حتى نالوا الشهادة جميعا.
ولو كانوا يؤمنون بفكرة الفصل بين الدين والحكومة لما جرى الذي
كان، بل كانوا في راحة ودعة من جانب الحكومات الظالمة الحاكمة
آنذاك، وهذا ما لا يقره النقل التاريخي ولم يتحقق في الواقع، بل
تحقق عكسه.
فكل هذه الشواهد تدل على عزم الائمة (ع) الراسخ على تشكيل الحكومة
الدينية.
بل وحتى لو صرفنا النظر عن ذلك، فان مقتضى خلافتهم عن النبي (ص)
ونصبهم من قبله كاف في اثبات المدعى حيث يثبت لهم ما كان ثابتا له
(ص) من وظائف وشؤون، واهمها تأسيس الدولة وتطبيق الشريعة، بل انهم
انما قد نصبوا لاجل ذلك وتبليغ الرسالة.
فالمتلخص هو:
1ـ ان التأمل في سيرة الائمة (ع) وتحليلها يثبت اهتمامهم وتخطيطهم
للامر المذكور.
2ـ ان ما تمليه وظيفة النبي (ص) والتأمل في فلسفة الدين ومحتواه
وكذا فلسفة عصمة الائمة (ع) يوصلنا الى الامر المذكور ايضا حتى لو
غضضنا الطرف عن الشواهد والقرائن السابقة، بل ان بعض الائمة (ع) قد
تصدى عملا لامر الحكومة، فيما كان البعض الآخر منهم بصدد التخطيط
والاعداد.
ورابعا: ان المتأمل في الفقه الاسلامي سيما الوارد منه عن ائمة اهل
البيت (ع)، يجد انه يختلف في احكامه عن سائر الاديان الاخرى، فهو
عبارة عن مجموعة من الاحكام والدساتير التي لا يمكن تطبيقها من دون
قيام الحكومة الاسلامية، كما في احكام الجهاد، والغنائم، والقصاص،
والحدود، والديات، والشهادات، والقضاء، والولاية على الصغار
والمجانين، واحياء الموات، واستثمار الثروات العامة كالارض
والمعادن والمياه والجبال وغيرها من الاحكام التي يعتمد تنفيذها
على قيام الحكومة مع كونها مما يرتبط بشؤون المجتمع لا الفرد.
هذا مضافا الى حكم الخمس الذي هو عبارة عن دفع عشرين بالمئة من
الفوائد والارباح في المجتمع الى الحاكم الاسلامي يضعها فيما
يحتاجه المجتمع، وعليه لا يمكن اعتبار الخمس امرا شخصيا راجعا الى
الفرد، بل هو لمنصب الحكومة كما عليه جملة من الفقهاء، وهذا يستدعي
بالضرورة وجود حكومة يكون لها مثل هذا الحق. كما يكون بيدها ايضا
امر الجهاد ومعاملة اهل الذمة ومصارف الانفال والخمس والزكاة وتكون
هي المرجع في حل المنازعات والخصومات. وبعبارة واحدة: ان حياة
المجتمع الاسلامي وديمومتها مرهونة بوجود الحكومة والقيادة الشرعية
ليقوم الناس بالقسط والعدل، وهو الهدف الاساسي من بعثة الانبياء
كما جاء به صريح القرآن الكريم.
وعليه فلا مجال للشك في ان الدين لا يمكن انفكاكه عن السياسة، كما
ان السياسة في المجتمع الاسلامي لا يمكن ان تكون بمعزل عن الدين
وتعاليمه.
النقطة الثانية ـ المحقق النراقي ونظرية الحكم الاسلامي:
لقد اعتبر كثير من فقهائنا المتقدمين البحث في المسألة السابقة
غنيا عن الكلام، بل امرا بديهيا وواضحا، وكان المهم عندهم البحث
فيما يتفرع على هذا الاساس ويترتب عليه من مسائل. والا فانه لا
ينكر احد من الفقهاء والعلماء تصدي النبي (ص) وامير المؤمنين
والامام الحسن (عليهما السلام) لامر الحكومة، كما لا ينكر احد ما
كان يستهدفه الامام الحسين (ع) من نهضته وثورته التي كانت لاجل
اسقاط الحكم اللاديني واقامة حكم الله في الارض، كما انه لا خلاف
بين علمائنا ومفكرينا في ان الائمة (ع) لم يقروا حكومات عصرهم، ولم
يألوا جهدا في السعي لتشكيل الحكم الاسلامي، الا انه لم تتهيأ
الارضية المناسبة لتحقيق ذلك، وكانوا طوال تلك المدة تحت ضغط
الحكومات ومضايقاتها.
ولكن لما انكر بعض المسلمين هذا الاصل تأثرا بدعايات وشبهات
الاجانب الداعية الى فصل الدين عن السياسة، فقد بسطنا الحديث في
هذه الجهة، والا فان ولاية الرسول واوصيائه المعصومين على الناس من
جهة الله سبحانه ـ كما يقول المحقق النراقي ـ هي امر مسلم وثابت
فهم سلاطين الانام وحصون الاسلام[13].
واما النراقي وما حرره يراعه في خصوص نظام الحكم الاسلامي، فهو امر
يستدعي الدراسة والتوقف، فالنراقي هو من نوادر الفقهاء الذين لم
يعرفوا الى الآن، وانه ما لم يرجع الى كتابه عوائد الايام وما حرره
في احد مقالاته عن نظام الحكم في الاسلام وولاية الفقيه الحاكم؛
فانه لا يمكن ان نقدر عظمة تلك الشخصية الواعية التي حاولت ان تنظر
لنظام الحكم في تلك البرهة من القرن الثالث عشر الهجري الامر الذي
يدعو الى الدهشة اذ نرى ان عالما كالنراقي يطرق هذا البحث ويخوض في
تفاصيله في تلك الآونة. وان كان قد تطرق لذلك ايضا فقيه عصره
المحقق الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر حيث بحث المسألة بحثا
قيما، الا ان لدراسة النراقي قيمتها الخاصة والمتميزة.
وقد تركت افكاره ـ فيما نتصور ـ اثرها على فكر الفقيه المجدد الشيخ
الانصاري حيث كتب في هذا الموضوع ايضا، وان كان يختلف مع النراقي
من الناحية الفكرية، الا ان طرحه لاصل المسألة كان بتأثر من
النراقي وصاحب الجواهر.
اجل لم يتعرض المحقق النراقي لاكثر مما نقلناه عنه في اصل فكرة
الحكومة الاسلامية، معتبرا ذلك من المسلمات والبديهيات في الاسلام،
ومن هنا فقد ركز البحث اولا على نوع الحكم في زمان غيبة الامام
المهدي عجل الله فرجه الشريف وانه للفقهاء من باب الولاية، وقد نقل
في ذلك (19) رواية، ثم بحث ثانيا في حدود هذه الولاية وسعتها. وسوف
ندرس بمناسبة انعقاد المؤتمر العلمي التكريمي للفاضلين النراقيين
مسالة ولاية الفقيه، والروايات التي استدل بها بالرغم من انها لا
تمثل جميع الروايات الواردة في ذلك، الا انه يمكن ان تكون كافية
لاثبات ولاية الفقيه في عصر الغيبة، وهذه الروايات هي:
1ـ صحيحة ابي البختري ـ وهي من الروايات المستفيضة ـ عن الامام
الصادق (ع) قال: "العلماء ورثة الانبياء"[14].
2ـ رواية اسماعيل بن جابرعنه (ع) ايضا قال: "العلماء امناء"[15].
3ـ رواية الشيخ الصدوق في كتاب "من لا يحضره الفقيه " عن امير
المؤمنين (ع) عن النبي (ص) قال: "اللهم ارحم خلفائي.
قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون
حديثي وسنتي "[16].
4ـ ما روي عن الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) انه قال:
"لان المؤمنين الفقهاء حصون الاسلام كحصن سور المدينة لها"[17].
5ـ رواية السكوني عن الامام الصادق عن رسول الله (ص) قال:
"الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله
وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فاذا فعلوا ذلك
فاحذروهم على دينكم "[18].
6ـ ما رواه في جامع الاخبار عن النبي (ص): "افتخر يوم القيامة
بعلماء امتي، فاقول: علماء امتي كسائر انبياء من قبلي "[19].
7ـ وفي كتاب الفقه الرضوي عنه (ص): "منزلة الفقيه في هذا الوقت
كمنزلة الانبياء في بني اسرائيل "[20].
8ـ وفي الاحتجاج في حديث طويل عن امير المؤمنين (ع) سأله فيه سائل
فقال: من خير خلق الله بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال:
"العلماء اذا صلحوا"[21].
9ـ وروي في المجمع عن النبي (ص) قال: "فضل العالم على سائر الناس
كفضلي على ادناهم "[22].
10ـ وفي منية المريد ان الله عز وجل قال لعيسى: "عظم العلماء واعرف
فضلهم فاني فضلتهم على جميع خلقي الا النبيين والمرسلين، كفضل
الشمس على الكواكب وكفضل الآخرة على الدنيا وكفضلي على كل شي
ء"[23].
11ـ ما رواه الكراجكي في الكنز عن الامام الصادق (ع) قال: "الملوك
حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك "[24].
12ـ التوقيع الرفيع المروي في كتاب اكمال الدين باسناده المتصل،
والشيخ في كتاب الغيبة، والطبرسي في الاحتجاج، وفيه: "واما الحوادث
الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم وانا حجة
الله عليهم "[25].
13ـ ما رواه الامام العسكري (ع) في تفسيره من الروايات الواردة عن
النبي (ص) والائمة المعصومين (ع) في فضل العلماء الى ان يصل الى ما
رواه عن الامام الهادي (ع)، قال: "لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم
عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين اليه والدالين عليه... لما
بقي احد الا ارتد عن دين الله... اولئك هم الافضلون عند الله عز
وجل"[26].
14ـ ما رواه الشيخ في التهذيب والكليني في الكافي والصدوق في من لا
يحضره الفقيه عن ابي خديجة، قال: قال لي ابو عبد الله (ع): "انظروا
الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته
قاضيا فتحاكموا اليه "[27].
15ـ رواية اخرى له: "اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا،
فاني قد جعلته قاضيا"[28].
16ـ مقبولة عمر بن حنظلة، وفيها: "ينظران من كان منكم ممن قد روى
حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا، فليرضوا به حكما،
فاني قد جعلته عليكم حاكما، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما
استخف بحكم الله، وعليه رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على
حد الشرك بالله"[29].
17ـ ما روي عن النبي (ص) في كتب الخاصة والعامة انه قال: "فان
السلطان ولي من لا ولي له "[30].
18ـ ما رواه الشيخ الجليل ابو محمد الحسن بن علي بن شعبة في كتابه
المسمى بتحف العقول، عن سيد الشهداء الحسين بن علي (عليهما
السلام)، والرواية طويلة ذكرها صاحب الوافي في كتاب الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وفيها: "ذلك بان مجاري الامور والاحكام على ايدي
العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه "[31] الحديث.
19ـ ما رواه في العلل باسناده عن الفضل بن شاذان، عن ابي الحسن
الرضا (ع)، في حديث قال فيه: "فان قال: فلم وجب عليهم معرفة الرسل،
والاقرار بهم، والاذعان لهم بالطاعة؟
قيل له: لانه لما لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملون به مصالحهم،
وكان الصانع متعاليا عن ان يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن ادراكه
ظاهرا، لم يكن بد من رسول بينه وبينهم معصوم، يؤدي اليهم امره
ونهيه وادبه، ويوقفهم على ما يكون به احراز منافعهم ودفع مضارهم،
اذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون اليه من منافعهم
ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته، لم يكن في مجي ء الرسول
منفعة ولا سد حاجة، ولكان اتيانه عبثا بغير منفعة ولا صلاح، وليس
هذا من صفة الحكيم الذي اتقن كل شيء.
فان قال: فلم جعل اولي الامر وامر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة: منها:
ان الخلق لما وقفوا على حد محدود، وامروا ان لا يتعدوا ذلك الحد
لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم الا بان يجعل عليهم
فيه امينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم؛ لانه ان لم
يكن ذلك كذلك، لكان احد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل
عليهم قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والاحكام.
ومنها: انا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا الا
بقيم ورئيس لما لابد لهم من امر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة
الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لابد لهم منه، ولا قوام لهم الا
به، فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيم لهم جمعهم
وجماعتهم، ويمنع ظالمهم عن مظلومهم.
ومنها: انه لو لم يجعل لهم اماما قيما امينا حافظا مستودعا، لدرست
الملة، وذهب الدين، وغيرت السنة والاحكام، ولزاد فيه المبتدعون،
ونقص منه الملحدون، وشبهوا ذلك على المسلمين؛ لانا قد وجدنا الخلق
منقوصين، محتاجين، غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف اهوائهم، وتشتت
انحائهم، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول، لفسدوا
على نحو ما بيناه، وغيرت الشرائع والسنن والاحكام والايمان، وكان
في ذلك فساد الخلق اجمعين "[32].
والروايات في اثبات ولاية الفقيه اكثر من ذلك جدا، والذي نقله ـ
كما اشرنا ـ هو شطر من تلك الاخبار مكتفيا بهذا المقدار لاثبات
المطلوب، وان كان كثير مما اورده مخدوشا سندا ودلالة، وكان الصحيح
الاكتفاء بنقل بعض تلك الاخبار الصحيحة. ولكن روايات المسألة حيث
انها متواترة بنظره فلا ضرر في ضعفها السندي اذا.
هذا مضافا الى مسلكه الخاص في باب حجية اخبار الاحاد، حيث يرى حجية
جميع الاخبار الموجودة في كتبنا وصحة الاستدلال بها. وعليه فان
فيما اورده من الاخبار كفاية.
ولكن يرد على ذلك:
اولا ـ عدم صحة المسلك المذكور في نفسه، بل لا ينبغي التفوه به
فضلا عن الالتزام.
وثانيا ـ على فرض التسليم به فانه يرد عليه:
1ـ ان الالتزام بذلك يصحح سند الروايات لا دلالتها.
2ـ انه يكفي ـ بناء عليه ـ الاستدلال برواية او روايتين، ولا داعي
لهذا العدد من الاخبار.
النقطة الثالثة ـ النظام الاسلامي في عصر الغيبة:
لقد ذكرنا ان الاخبار المثبتة لولاية الفقيه الجامع للشرائط قد
بلغت من الكثرة حدا يغني عن دراسة سندها واحدة واحدة، وان كان
ينبغي ملاحظة دلالتها، الا ان ولاية الفقيه لما كانت امرا مبرهنا
وقطعيا، فانه يمكن اعتبار الدليل عليها شاهدا لصحة تلك الاخبار؛
لعدم انحصار طريق صحة الاخبار في دراسة رواة السند فيها، وان كان
هو الطريق المعمول والطبيعي فيها، بل يمكن الاطمئنان بصدورها من
خلال الشواهد والقرائن الاخرى الدالة على ذلك، بل يمكن ان يقال بان
ما نريد الاستشهاد به ونعتبره قرينة، هو بنفسه دليل قطعي مستقل،
نستغني به عن جعله شاهدا لصحة صدور الاخبار.
والدليل الذي نريد التمسك به هو: انه قد تقدم اثبات ان الحكومة هي
في واقع الدين وحقيقته؛ وذلك للوجوه الاربعة المتقدمة، وهذه حقيقة
لا يمكن انكارها عند ادنى من له المام ومعرفة بتاريخ الاسلام،
وعليه فانه يمكن طرح هذا السؤال وهو:
انه لو كانت الحكومة من ضروريات الدين وكان النبي (ص) او الامام
(ع) على رأسها في عصر الحضور، وكان تكامل المجتمع البشري منوطا
بتطبيق احكام الدين وقوانينه وبسط العدل والقسط فيه، فما هو الحكم
في عصر الغيبة؟ لا شك ان احكام الاسلام لا تختص بزمان دون زمان،
فهي باقية ومستمرة، ولما كان تشكيل الحكومة من اساسيات المجتمع
المدني ومتطلباته فحكمها اذا باق ومستمر بالضرورة، كسائر احكام
الاسلام الاخرى من الحج والخمس والزكاة واحياء الموات وحيازة
المباحات والثروات العامة وغيرها من قوانين الاسلام السارية في
جميع الاوقات والازمان، بل أن كثيرا من هذه الاحكام وغيرها كالقضاء
والقصاص والديات والحدود هي مما يتوقف تحققها على وجود الحكومة،
فلابد ان يكون وجوب وجودها اولى.
وبعبارة اخرى نقول:
1ـ ان الدين جاء ليرسي النظام واسس العدل والقسط، ويعالج حاجات
الناس ويرفعها، وهذه هي من اهداف الاسلام ومقاصده، وهي امور ثابتة
كسائر الواجبات الاخرى التي لا تختص بزمان خاص كزمان الحضور، وبما
ان تحقيق ذلك لا يتم الا مع قيام الحكومة، فلابد ان يكون تأسيسها
واجبا بالضرورة.
2ـ ان تطبيق كثير من الاحكام يتوقف على وجود الحكومة، كما في تطبيق
الحدود والقصاص والشهادات والديات ونظام القضاء الاسلامي والخمس
والزكاة والحج والصلاة وغيرها من الاحكام التي يمكن ان يكون
تطبيقها من قبل الحكومة الاسلامية مفتاحا وعلاجا لجملة من المعضلات
الاجتماعية، وهذه الاحكام هي مما لا تختص بزمان دون آخر كما هو
واضح، فلابد من ان تقام وتطبق في كل عصر وزمان، وهذا لا يكون الا
مع قيام الحكم الاسلامي.
ومن هنا امكن القول بان كل مسلم منصف اذا لاحظ ما ذكرناه بعين
الانصاف فانه لا يمكنه انكاره كما لا يسعه انكار ان كثيرا من
الاحكام الالهية منوطة في تطبيقها بقيام الحكومة الدينية ووجود
الحاكم الاسلامي، ولما كان تطبيق تلك الاحكام ساريا ومستمرا، فلا
محالة يكون وجود الحكومة ضرورة مستمرة ودائمة.
هذا مضافا الى ان تحقق المصالح ودفع المفاسد والاضرار الكثيرة هي
مما يتوقف تحققه على وجود الحكومة وقيام النظام الاسلامي حتى لو
غضضنا النظر عن مسألة تطبيق الاحكام وارتباطها بوجود الحكومة.
وعليه فان وجود الحكومة حكم شرعي ضروري يساوق انكاره انكار اهم
الاسس والاركان في الاسلام.
وتأسيسا على ذلك فانه لو كان ثمة نزاع فهو في من يتولى امر الحكومة
في عصر الغيبة هل هم الفقهاء ام غيرهم؟ قد يتصور البعض ان للامة حق
الانتخاب لمن تشاء من الناس وتقليدهم زمام الامر ورئاسة الحكومة
الاسلامية.
بيد ان ذلك تصور خاطئ وزعم باطل لا يمكن قبوله بحال؛ وذلك لانه لا
يمكن تعيين الحاكم عن طريق الانتخاب؛ لعدم امكان اتفاق جميع الناس
على شخص واحد عادة، ولم يتفق ذلك ولم يتحقق البتة، ولئن اتفق جميع
الناخبين ممن تتوفر فيه شروط الانتخاب فهذا لا يبرر عدم انتخاب
غيرهم ممن لا تتوفر فيه شروط الانتخاب كالصغار والمحجور عليهم او
من لا يدلي بصوته لصالح الشخص المنتخب، وعليه فان الذين يشاركون في
ذلك الانتخاب هم نسبة من الناخبين لا جميعهم، فلا يمكن ان يكون
الحاكم المنتخب حاكما على الجميع، ولا يمكن ان يكون رأي شريحة ـ
ولو كانت هي الاكثرية ـ ملاكا في اتخاذ القرار للجميع، بل في حق
تلك الشريحة حسب.
فلا يحق للشخص المنتخب التصرف في الثروات والاموال العامة، لان تلك
الاموال والثروات ليست بيد الشريحة الناخبة ليكون المنتخب عنهم
متصرفا فيها.
والمتحصل:
اولا: ان تعيين الحاكم بطريق الانتخاب هو مما لا دليل على صحته.
وليس داخلا تحت واحد من العقود الشرعية.
ولعل في بعثة النبي وتعيين الولي والوصي ما يدل على ابطال ولاية من
ينتصب من قبل الناس.
وثانيا: ولئن تنزلنا وسلمنا صحة ذلك الانتخاب واعتبرناه من باب
الوكالة فان الاشكال السابق باق على قوته، وهو ان دائرة التوكيل
تختص بالموكلين فقط، ولا تشمل غيرهم ممن لا يصح منه التوكيل
والانتخاب، وعليه فكيف يكون انتخاب جماعة هو انتخاب الجميع؟! وما
هو الدليل على صحة ذلك؟ انا لا نتصور وجود دليل على ذلك، بل هناك
ما يدل على فساده، فانه لو سلمنا تنزلا كون الانتخاب من باب
التوكيل فلازمه ان يكون لكل بلد ومدينة وكيل، الامر الذي يلزم منه
الفوضى واختلال النظام وهو بنفسه مدعاة الى نزاع واختلاف لا نهاية
له.
وبذلك نخلص الى ان تعيين الحاكم في عصر الغيبة لابد ان يكون من قبل
الله سبحانه كما عليه الامر في عصر الحضور.
وبعبارة اخرى: انه لو كان امر تعيين الحاكم بيد الناس لكان تعيينه
بعد النبي (ص) بيدهم، مع ان الامر لم يكن كذلك، بل كان بالنصب
والتعيين لا لخصوص الامام الاول فحسب، بل لجميع الائمة الاثني عشر،
مما يدل على اهمية امر الامامة، وانه بيده سبحانه ومن جهته اما
بالمباشرة او مع الواسطة. ومن هنا فلابد من الاعتراف بان امر
الولاية والحكومة في زمن الغيبة مما يجب تعيينه من قبل النبي (ص)
والائمة الطاهرين (ع) ايضا.
وقد افصحوا (ع) عن ذلك التعيين في احاديث كثيرة، نظير:
"العلماء ورثة الانبياء" و "الفقهاء حصون الاسلام " و"الفقهاء
امناء الرسل " و "العلماء حكام على الملوك " وغيرها من الاحاديث
والنصوص الواردة في هذا المجال، والتي لا يمكن الاغضاء عنها لمجرد
ضعفها السندي، وذلك للقرينة المتقدمة التي تورث الاطمئنان بصدور
مثل هذه الاخبار، ولا اقل من الظن القوي الراجح جدا الذي يمنع من
اسقاطها حتى على فرض انفتاح باب العلمي فضلا عما نحن عليه الآن من
عدم وجود طريق للعلم لنا ولا انفتاح باب العلمي.
الدليل الثاني: انه بعد التسليم بفرضية ضرورة قيام الحكومة
الاسلامية القائمة على اساس حكم الكتاب والسنة، فان المتصدي لامر
الحكم لابد ان يكون محيطا بحكم الكتاب والسنة، وهو ما يصطلح عليه
بالمجتهد او الفقيه الجامع للشرائط.
بيان ذلك: ان كل نظام يتقوم بثلاثة اركان: الحاكم، والرعية،
والقانون. وحيث فرضنا اسلامية الحكومة، فلابد ان تكون الرعية مؤمنة
متدينة، وقانونها الذي يسوسها ويدير امورها هو الكتاب والسنة، مع
الاخذ بنظر الاعتبار الفاصلة التي تفصلنا وعصر النص والتشريع مع
تعرض الحديث الى حالات الدس والوضع، فان استنباط الاحكام منها لا
يتيسر الا لذوي الخبرة والاختصاص فيها، فامام المسلمين هو الواقف
على حكم الكتاب والسنة القادر على فهمهما والاستنباط منهما، وهو
التالي تلو المعصوم في التحلي بالفضائل والكمالات النفسية المشار
اليها في الحديث الشريف المروي عن الامام الحسن العسكري (ع) حيث
قال: "من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه،
مطيعا لامر مولاه، فللعوام ان يقلدوه "[33]. وهذا المعنى هو المعبر
عنه عند فقهائنا بـ "المجتهد الجامع للشرائط ". فهل يمكن بعد
التسليم بالمقدمات السابقة التي ندعي بداهتها، التردد فيما وصلنا
اليه من استنتاج؟! لا نرى مجالا للترديد في ذلك، بل ان تعيين غير
الواجد لهذه الصفات امر قبيح ومخالف للحكمة الربانية. فلاشك ولا
ترديد عندنا في ان امام المسلمين في كلا البعدين المادي والمعنوي
هو المجتهد الحائز على الصفات المذكورة وغيرها من الصفات والشروط،
والمنصوب من قبل النبي (ص) وبعض الائمة المعصومين (ع)، فان تعيين
مثل هذا الامام لطف وهو واجب وتركه قبيح، والقبيح عليه سبحانه
محال. كما ان تعيين غيره الفاقد لهذه الصفات ترجيح للمرجوح على
الراجح وهو قبيح ايضا، فولي الامر الذي تجب طاعته في عصر الغيبة
على ضوء ما تقدم من النصوص والمقدمات هو الفقيه الجامع للشرائط.
وقد دلت على مثل هذا النصب الآية الشريفة: {...لاينال عهدي
الظالمين}[34]، كما يستفاد ذلك ايضا من قوله سبحانه: {يا داود انا
جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق}[35].
فالملاك والمعيار في امر الحكومة هو ان تكون بالحق والعدل، وواضح
انه لا يقوم بمثل ذلك الا الواجد للشرائط والصفات المذكورة لا غير.
ويشهد لما ذكرنا انه لم يختلف فقهاؤنا في انه يجب دفع سهم الامام
من الخمس (وهو عشرة بالمئة) الى المجتهد ومرجع التقليد، وذهب آخرون
الى وجوب دفع جميع الخمس (وهو عشرون بالمئة).
وعلى ضوء هذا الرأي، فان ثمة سؤالا يثار تنتج الاجابة عليه ثبوت
الاجماع على ولاية الفقيه، وحاصل هذا السؤال هو: ان كل فتوى يجب ان
تستند الى دليل ما، فهل الفتوى المذكورة مما قام عليها الدليل ام
لا؟ ان كان الجواب انها مما لم يقم الدليل عليها، فهو جواب لا
يصدقه الواقع، اذ فقهاؤنا اجل شأنا من ان يفتوا بغير حجة ولا دليل.
وان كان الجواب انها مما قام عليها الدليل، وهو كون الفقيه نائبا
عن الامام (ع)، فالدفع اليه بلحاظ النيابة الثابتة له بالاجتهاد
وتوفر سائر الشرائط الاخرى فيه، فانه يرد عليه: بان حيثية النيابة
ان كانت منحصرة في الافتاء وحجيته فقط فهذا المقدار من النيابة لا
يسوغ له اخذ الاموال المرتبطة بميزانية الدولة، وانى له احراز رضا
الله سبحانه والامام المعصوم (ع) بالتصرف بها وتحمل مسؤولية ما هو
من شؤون الامام وصلاحياته؟ فينحصر الجواب بكون الفقيه هو الولي
الشرعي في عصر الغيبة وله جميع ما للامام (ع)، ومنها الخمس.
وتأسيسا على ذلك، فان من العجيب ان يفتي الفقيه بوجوب دفع سهم
الامام (ع) الى المجتهد ولا يرى ثبوت الولاية له في عصر الغيبة؛ اذ
ليس ثمة ما يدل على صحة تصرفه في ما هو للامام (ع) سوى ثبوت ما هو
للامام من شؤون مضافا الى حجية فتواه.
وعليه، فلابد من الاعتراف بان جميع الفقهاء في مختلف الاعصار
والامصار يقرون عمليا بثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة، والا
كيف جاز لهم التصدي لشؤون الامام (ع)، سيما مع تصرفهم في الاموال
العامة للميزانية المخصصة لامر الحكومة الامر الذي لا يمكن توجيهه
الا بنصب انفسهم نوابا وولاة عنه.
وقد تأتي دعوى الاجماع من بعض فقهائنا ـ ومنهم المحقق النراقي ـ
على انتقال جميع شؤون الامام (ع) للفقيه من هذا المنطلق، مما يلزم
منه اجماعية ولاية الفقيه المطلقة.
النقطة الرابعة ـ حدود ولاية الامر في النظام الاسلامي:
خلصنا في النقطة السابقة الى ثبوت الولاية للفقهاء الجامعين
للشرائط في زمن غيبة الامام (ع)، فيجب عليهم التصدي لجميع الشؤون
الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية، ولا يحق لغيرهم التصدي
لذلك مع وجودهم.
ويقع البحث هنا عن حدود هذه الولاية ودائرتها، فهل هذه الولاية
مطلقة وواسعة بحيث تسوغ للفقيه ان يفعل ما يشاء كما توهمه البعض،
ام انها تتحدد ببعض الامور التي يمكن ان يقوم بها عدول المؤمنين
كما ذهب اليه آخرون، ام انها برزخ بينهما، اضيق من الاولى واوسع من
الثانية كما هو مقتضى القاعدة، وهو مذهب اكثر فقهائنا؟ وتفصيل
الكلام وبسط البحث لاثبات صحة الرأي الثالث وتفنيد الاولين بحاجة
الى مقام آخر، وسوف نختصر البحث في هذه النقطة بما نراه كافيا في
الاقناع واثبات المطلوب، فنقول:
اما الاحتمال الاول: فانه يكفي في التصديق بضعفه صرف التصور له،
حيث يلزم منه تقدم الفرع على الاصل، وهو واضح البطلان؛ اذ لم يثبت
مثل هذه الولاية للامام المعصوم (ع) نفسه، بان يكون مختارا مطلقا
فيما يفعل، بل ورد في القرآن الكريم نفيه عن النبي (ص)، فان لازم
قوله سبحانه: {وما ينطق عن الهوى}[36] عدم السماح للنبي باتباع
الهوى، وانما هو مكلف باتباع الوحي {يوحى اليه}، فاذا كان النبي
يتحرك على ضوء الوحي وهديه، فلا غرو ان يتحرك الائمة (ع) من بعده
في نفس الاطار لكونهم خلفاء عنه، والفقهاء اولى باتباع ذلك ولا يحق
لهم التعدي عنه، بل هم ملزمون بالعمل على طبق الكتاب والسنة ولا
يحيدون عن ذلك، والا عد معصية توجب عزلهم عن مقام الولاية، الا ان
تكون صغيرة تستدرك بالتوبة والندم.
واما الرأي الثاني فانه ايضا مما لا وجه له؛ وذلك:
اولا: لاطلاق ادلة ولاية الفقيه.
وثانيا: لاستلزامه الحط من شأن فقهاء اهل البيت (ع) ومكانتهم الامر
الذي لا ينسجم وما جاءت به الاخبار في فضلهم واعتبارهم في درجة
انبياء بني اسرائيل وتفضيل مدادهم على دماء الشهداء، وكونهم ورثة
الانبياء وامناء الرسل، بل هو خلاف صريح الذكر العزيز {قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[37].
ومما يدعم ويعزز بطلان الرأي المذكور ويعضد صحة الرأي الاخير جملة
من الشواهد والقرائن الاخرى التي وردت في السنة الفقهاء، وبشكل خاص
في كلمات المحقق النراقي، وقبل التعرض لهذه الشواهد نستعرض رأي
المحقق النراقي مع شي ء من البسط فنقول:
لقد بحث المحقق النراقي فكرة ولاية الفقيه في مستويين، الاول في
اثبات اصل هذه الولاية، والثاني في اثبات حدودها، وذكر بعد الفراغ
من الاول انه يثبت للفقيه جميع ما للنبي (ص) والائمة (ع)، وذلك
اولا: للاجماع؛ حيث نص عليه كثير من الاصحاب بحيث يظهر منهم كونها
من المسلمات. وثانيا: للاخبار الوارد فيها كون الفقيه وارثا
للانبياء وامينا للرسل وخليفة لرسول الله، وحصن الاسلام، ومثل
الانبياء وبمنزلتهم، والحاكم والقاضي والحجة من قبلهم، وانه المرجع
في جميع الحوادث، وان على يده مجاري الامور والاحكام، وانه الكافل
لايتامهم الذين يراد بهم الرعية، ومن الواضح ان المتفاهم العرفي من
هذه التعابير هو ان كل شأن وامر ونهي كان للنبي (ص) او الائمة (ع)
فهو ثابت للفقهاء ايضا، فلهم الفصل في القضايا السياسية
والاجتماعية وغيرها.
ولا يمكن طرح هذه الاخبار لضعفها سندا، وذلك:
اولا: لوفرتها وكثرتها؛ الموجبة للاطمئنان بالصدور.
وثانيا: ان اكثرها وارد في كتبنا المعتبرة، مما يضفي عليها اعتبارا
خاصا.
وثالثا: انجبار ضعفها بعمل الاصحاب[38].
ولا يخفى انه قد ادعى الاجماع اولا، الا انه نقضه فيما بعد عندما
صرح بانه اختيار الاكثر، ولكنه حيث صرح في آخر كلامه بان عمل
الاصحاب جابر لضعف الاخبار المذكورة، فيمكن ان يكون المراد من
دعواه الاجماع هو اتفاقهم العملي بمعنى ان سيرتهم العملية في اخذ
الاخماس والتصرف في سهم الامام (ع) قائمة على قبول الولاية
المطلقة، ولا وجه لمثل هذه السيرة لولا الالتزام بالولاية المطلقة.
ثم لا يخفى ان دعوى الاجماع على الولاية المطلقة ليس مما اختص بها
النراقي، بل صرح بذلك معاصره صاحب الجواهر، حيث قال: "ان ظاهر
الاصحاب عملا وفتوى في سائر الابواب عمومها، بل لعله من المسلمات
او الضروريات عندهم "[39].
وبه صرح ايضا السيد العاملي في مفتاح الكرامة مضافا لدلالة العقل
والاخبار.
وقد يعترض فيقال: ان كلام السيد العاملي هو في مسألة القضاء وهو
غير ولاية الفقيه.
فيجاب:
اولا: بان التفكيك بين القضاء والحكومة قد حدث في القرون المتأخرة،
وقد كان في الازمنة المتقدمة بينهما ترابط وتلازم، فالامام امير
المؤمنين (ع) كان قاضيا وواليا في آن واحد. الا ان يكون هناك موجب
للتفكيك كما لو اراد ولي الامر عدم التصدي للقضاء، والا فان
المتفاهم العرفي من منصب القضاء زمن الغيبة هو الحكومة والولاية
ايضا. وعليه فان كلام السيد العاملي وان كان في القضاء، الا انه لا
تفكيك بينه وبين منصب الولاية.
ثانيا: ان الدليل الذي اقامه السيد العاملي في القضاء جار بطريق
اولى في منصب الولاية المطلقة.
ثالثا: ان الادلة التي استدل بها للقضاء شاملة للولاية المطلقة، بل
ظاهرة فيها، وعليه فان الاجماع الذي نقله السيد العاملي هو في
الولاية المطلقة، ومثله الاجماع الذي نقله ايضا عن الشهيد الثاني
في المسالك.
هذا، وقد ادعى الاجماع غير من ذكرنا كفخر المحققين في ايضاح
الفوائد والمحقق الكركي في رسالته في صلاة الجمعة والفاضل المقداد
في التنقيح الرائع والسيد الطباطبائي صاحب الرياض، والمحقق
الاردبيلي في مجمعه، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، وغيرهم من الاكابر.
ولا نريد من وراء هذا النقل الاستدلال بفتاوى الاعلام وآرائهم
ليقال انه اجماع مدركي وهو ليس بحجة، بل نريد الاشارة من خلال ذلك
الى ان المسألة لو لم تكن واضحة وبديهية عند هؤلاء الاعلام لما
ادعوا الاجماع عليها.
والحاصل هو ان سيرة الفقهاء قائمة عملا على تقلد ما للامام من
اختيارات ووظائف، وهذا معناه الاعتقاد العملي بولاية الفقيه، بل
انهم (قدست أسرارهم) صرحوا بذلك. وما ذكرنا من دعوى للاجماع ان لم
يتم فلا اقل من الشهرة المنضمة الى الاخبار المتقدمة، ولا شك انها
عاضدة لتلك الاخبار.
وهذا المقدار كاف في افادة الاطمئنان لمن لا يقول بالانسداد، فضلا
عن القائل به وقليلا ما يظفر بمثل هذا الظن القوي.
وعلى كل حال فهذه جميعا شواهد ومؤيدات لما ذكرنا، والا فان المسألة
مبرهنة بالادلة الساطعة والقطعية، فلا حاجة لمثل هذه الاستدلالات
الفقهية الدارجة والمتعارفة، ومع ذلك سنذكر ما وعدنا به من الشواهد
المعززة للراي الثالث، وهي ما يلي:
1ـ ان مفاد الروايات الكثيرة المتقدمة وكذا الاجماعات المنقولة
الكثيرة والادلة السابقة، اعتبار الفقيه نائبا عن الامام (ع) على
وجه الاطلاق، حين لم تقيد بشي ء، ومقتضى النيابة والخلافة والوراثة
ثبوت جميع ما للمنوب عنه من شؤون واختيارات، الا ما قام الدليل
الخاص على استثنائه خاصة. فكل ما كان ثابتا لمثل الامام علي بن ابي
طالب (ع) كحاكم يدير امور المسلمين فهو ثابت للولي الفقيه لكي يتاح
له تدبير الامور وادارتها، والا تعذر عليه الادارة الصحيحة
والمطلوبة.
وهذه الولاية مشروطة ـ كما تقدم ـ بان تكون على ضوء حكم الكتاب
والسنة؛ لكونها نابعة عن ولاية الائمة الطاهرين (ع)، وهي غير خارجة
عن مدار الكتاب والسنة كما هو واضح، سواء قلنا بان علومهم
بالالهام، ام بالاكتساب كعلوم سائر الفقهاء، فعلى كلا التقديرين
تتحدد حركتهم بحدود الشرع والمصلحة العامة، وهكذا الفقهاء من بعدهم
لهم جميع ما للائمة ولكن في حدود الشرع والاحكام الشرعية ايضا.
شبهة الاستبداد:
وعلى ضوء ما تقدم فان من المغالطة بمكان ما قد يثار حول نظام الحكم
في ولاية الفقيه وانه قائم على الفردية، ومن لوازم الفردية
الاستبداد.
والجواب على ذلك: بان الحاكمية في ظل ولاية الفقيه هي حاكمية للفقه
والدين وليست للفرد، ودور الفقيه فيها هو استنباط الاحكام وتشخيص
المصالح والمفاسد المرتبطة بالنظام على ضوء الاسس الفقهية والمباني
الاجتهادية، ومن ثم يتم تنفيذ تلك القوانين والاحكام في المحاكم
الشرعية والنظام الاداري للدولة.
ثم لا ينبغي ان يخفى انه لو قدر للامام (ع) الحضور فانه لا يسلك
غير هذا الطريق في ادارة الامور، لتعذر حضوره بشخصه في جميع البلاد
في آن واحد، كما كان عليه الامر في زمن امير المؤمنين (ع)، فلم يكن
امامه الا ان يرسل من ينوب عنه في البلاد ويتولى امرها ويعمل ضمن
اطار القوانين والاحكام الالهية والشرعية. ويستفاد هذا المعنى ايضا
من عهد امير المؤمنين (ع) لمالك الاشتر.
وعلى هذا الاساس فانه لو صحت الولاية في عصر الحضور لفرد او جماعة
من اجل ادارة الامور الاجتماعية والسياسية، فان ذلك يصح في عصر
الغيبة بطريق اولى، بل انه ضروري ولازم كما سيأتي تفصيله.
2ـ لا شك ان المجتمع عرضة لمشكلات كثيرة يتطلب حلها والبت فيها الى
خبير مجرب يرعى رضا الله سبحانه فيما يأمر وينهى ويحرص على ارتقاء
المجتمع وتطوره. فالمجتمع المدني بحاجة ـ على سبيل المثال ـ الى
التخطيط الدقيق، والتوظيف الصحيح للثروات والاموال العامة وموارد
الانفال في مجالات الاعمار والمصالح العامة للمسلمين وميزانية
النظام الاسلامي والدفاع عن كيان الشريعة في شتى الميادين والحقول
الاعلامية والثقافية والسياسية والعسكرية والتقدم العلمي
والتكنلوجي، وغير ذلك مما له دخل ومساهمة في تقدم المجتمع ورقيه.
ولا شك في صحة وحسن جميع ذلك الا ان تحققه منوط بوجود قيادة حكيمة
عادلة حريصة على تطبيق الشرع واحكامه، بحيث يكون المعيار في
حركاتها وسكناتها وجميع برامجها هو خدمة المجتمع وتطويره. وهو
عبارة اخرى عن نفس الهدف والفلسفة من بعثة الانبياء والاولياء (ع)،
والفقيه هو الاولى بتقلد ذلك مع غيابهم (ع).
اذا، مقتضى اللطف الالهي من جهة، ووجوب كل عمل حسن على الله سبحانه
من جهة اخرى يوجبان ـ من باب اللطف ـ تنصيب الفقهاء الجامعين
للشرائط نوابا عن ائمة الهدى (ع).
3ـ الظاهر من فقهائنا الاتفاق على ان للمجتهد الجامع للشرائط جميع
ما للامام (ع)، وان لم يصرح بذلك البعض منهم، او صرحوا بخلافه
قولا، الا ان عملهم وسيرتهم مبنية على ما قلناه. وهذا الامر يعضد
بلا شك الاطلاق المدعى في دليل ولاية الفقيه.
ومما قامت عليه سيرتهم في هذا المجال:
1ـ تصرفهم في جملة من الاموال، كسهم الامام، وسهم بني هاشم
(السادات)، والمظالم، ومجهولة المالك، ووارث من لا وارث له، وغير
ذلك، ولا تخريج لذلك الا من باب الولاية المطلقة، فالفقيه يتصرف في
الاموال المذكورة بما انه نائب عن الامام (ع) في جميع ما للامام من
شؤون؛ وذلك لكونه حجة ونائبا عنه (ع)، اولا، ولضرورة وجود الحاكم
والولي في المجتمع كما تقدم، فيجب ان يتوفر لديه من الميزانية ما
يدير به امر المجتمع، وحينئذ فلابد ان يكون مأذونا في اخذ اموال
الخمس وغيره من الاموال للمصارف المذكورة ثانيا. فلا وجه اذا لمثل
هذه السيرة غير الولاية العامة الثابتة للفقهاء.
الا ان يدعى عدم اتفاق الجميع على جواز هذه السيرة والتصرفات
المالية. الا ان ذلك باطل من وجوه:
(1) انه لا مخالف في المسألة بشكل عام.
(2) ان المخالفين في جواز اخذ الخمس قلة لا يعتنى بعددهم.
(3) اتفاق الاكثر بما يقرب من الاطباق على القول بالولاية العامة
للفقهاء في عصر الغيبة مما يعزز مدعانا؛ فان ما ذكرناه ـ مضافا الى
الروايات الكثيرة المطلقة ـ كاف في حصول الاطمئنان.
ولئن تنزلنا، وسلمنا عدم كون البيان المذكور حجة نوعية لاثبات
المطلوب وانه حجة شخصية وتفتقد الملاك الثابت فيها، فان الاتفاق
المذكور بضميمة الاخبار معا يولدان ظنا قويا ومعتبرا على ما
ذكرناه، فتأمل.
2ـ التصدي للقضاء والفصل في الخصومات والمرافعات والحكم فيها، وهذا
مما اتفقوا عليه فتوى، وربما تصدوا ايضا لاقامة الحدود. وهذا ان دل
فانما يدل على القول بولاية الفقيه، وقد ادعى المحقق النراقي
الاجماع على ذلك، وصرح في الجواهر بعدم وجدان الخلاف فيه الا ما
يحكى عن ظاهر ابني زهرة وادريس قال: "ولم نتحققه، بل لعل المتحقق
خلافه؛ اذ قد سمعت معقد اجماع الثاني منهما الذي يمكن اندراج
الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون اجماعه عليه لا على خلافه "[40].
ثم نقل عن المحقق الكركي في رسالته التي الفها في صلاة الجمعة
قوله: "اتفق اصحابنا على ان الفقيه العادل الامين الجامع لشرائط
الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الاحكام الشرعية نائب من قبل ائمة
الهدى (ع) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل "[41].
وقد صرح قبل ذلك في اقامة الحدود للفقهاء بانه "لابد من اقامته
مطلقا، بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم
الفرق بين مناصب الامام اجمع، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين
الاصحاب، فان كتبهم مملوة بالرجوع الى الحاكم المراد به نائب
الغيبة في سائر المواضع "[42].
ثم خلص بعد ذلك الى القول بان: "من الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك،
بل كانه ما ذاق من طعم الفقه شيئا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم
امرا، ولا تأمل المراد من قولهم: "اني جعلته عليكم حاكما وقاضيا
وحجة وخليفة " ـ الى ان قال: ـ وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي
لا تحتاج الى ادلة "[43].
وقد ادعى المحقق النراقي الاجماع صريحا على ثبوت ولاية القضاء
واقامة الحدود للفقهاء في عصر الغيبة وذكر ان ذلك من الضروريات
المسلمة، مضافا الى ان ذلك هو مقتضى النيابة عن المعصوم (ع)،
ومقتضى عدم رضاه سبحانه بتعطيل الحدود وبقاء الخصومات بين الناس،
مما يلزم منه وجوب النصب، ولا احد يتولى ذلك غير الفقيه الجامع
للشرائط.
هذا كله مضافا الى الروايات الواردة في ذلك[44].
ولسنا بحاجة الى سرد كلمات الفقهاء في اثبات مثل هذا المنصب
للفقهاء بعد شمول الادلة السابقة لولاية الفقيه له وانه من اهم
وظائف الحاكم الاسلامي، سيما وانه قد ورد في الكتاب الالزام
والتأكيد على اتباع ولي الامر، المتجسد بالفقيه في عصر الغيبة، كما
ورد الامر بالرجوع الى الله والرسول في المنازعات وعدم جواز
الترافع الى الطاغوت وان الحكم بغير "ما انزل الله" هو على حد
الكفر، وعدم النصب يلزم منه تعطيل الاحكام وهو مما لا يلتزم به
احد؛ اذ لا فرق بين عصر الغيبة والحضور في لزوم اجراء الاحكام، مع
لزوم الاهمال لذلك تحقق الهرج والمرج وضياع الحقوق.
يضاف الى ذلك كله الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار التي قد
يخدش في سندها، ولكن اذا ضم اليها ما قدمناه من الشواهد والادلة
كان ذلك كافيا في الحكم بصدورها منهم (ع).
ومن تلك الاخبار الكثيرة ما رواه حفص ابن غياث قال: سألت ابا عبد
الله (ع): من يقيم الحدود؛ السلطان او القاضي؟ فقال: "اقامة الحدود
الى من اليه الحكم"[45].
ومقبولة عمر بن حنظلة ورواية ابي خديجة وهما غاية في الصراحة، بما
لا يقبل التشكيك والتردد في دلالتهما. وكذا الامر في التوقيع
الشريف.
وورد في رواية علي بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)
قال: سألته عن يهودي او نصراني، او مجوسي اخذ زانيا، او شارب خمر
ما عليه؟ قال: "يقام عليه حدود المسلمين اذا فعلوا ذلك في مصر من
امصار المسلمين او في غير امصار المسلمين اذا رفعوا الى حكام
المسلمين "[46].
ان جميع الروايات الواردة في اقامة الحدود والتي توجب ذلك على
الامام[47] ـ بعد المطالبة به في حقوق الناس خاصة ـ تدل على ثبوت
مثل هذا الحق للامام، بل انه مما يجب عليه القيام به. ولا دليل على
اختصاص لفظ (الامام) الوارد فيها بالمعصوم (ع) خاصة، بل هو شامل
للفقيه ايضا؛ وذلك:
اولا ـ انه قد ورد في بعض تلك الاخبار التعبير بـ "الامام بحق"،
ويراد به ونظائره ما قابل الامام الجائر.
وثانيا ـ انه قد قامت القرائن القطعية من الخارج على عدم امكان
الحكومة واقامة الحدود لحكام الجور، فيتعين ان يكون المراد من
الامام في هذه الاخبار هو الامام العادل الامين العالم الجامع
للشرائط وهو الفقيه عند غياب المعصوم (ع)، الى غير ذلك من الروايات
والشواهد الكثيرة جدا والتي قد يدهش المرء من كثرتها، وهي تدل على
ما قلناه بوضوح.
ومن هنا فقد جزم الشيخ المفيد بان "اقامة الحدود الى سلطان الاسلام
المنصوب من قبل الله تعالى، وهم ائمة الهدى من آل محمد (ع)، ومن
نصبوه لذلك من الامراء والحكام وقد فوضوا النظر فيه الى فقهاء
شيعتهم مع الامكان ـ الى ان قال: ـ وللفقهاء من شيعة الائمة (ع) ان
يجمعوا باخوانهم في الصلوات الخمس، وصلوات الاعياد، والاستسقاء،
والكسوف، والخسوف، اذا تمكنوا من ذلك وامنوا فيه من معرة اهل
الفساد ولهم ان يقضوا بينهم بالحق. ويصلحوا بين المختلفين في
الدعاوى عند عدم البينات، ويفعلوا جميع ما جعل الى القضاة في
الاسلام؛ لان الائمة (ع) قد فوضوا اليهم ذلك عند تمكنهم منه بما
ثبت عنهم في الاخبار، وصح به النقل عند اهل المعرفة به من
الآثار"[48].
ولا يخفى ما لكلامه (قدس سره) من الاهمية البالغة لعظمة شأنه بين
فقهائنا وتقدمه وقربه من عصر النص، ولذا فقد نقل عنه الشيخ الحر
العاملي مقاطع من كلامه هذا ـ وكانها متون روايات ـ في كتابه
الروائي (وسائل الشيعة).
وقد عد المحقق النراقي في عداد ما للفقيه من وظائف اقامة الحدود
والتعزيرات الا انه صرح انهم قد "اختلفوا في ثبوت ولايتها للفقيه
في زمن الغيبة ".
وثمة موارد اخر تسالم الفقهاء على اعتبارها من وظائف الفقيه وله
فيها الولاية، كالافتاء، فلهم ولايته وعلى الرعية اتباعهم في
فتاويهم، ولا شك في ثبوت ذلك لهم. وتدل عليه الادلة الكثيرة وهي
مذكورة في مظانها.
وايضا الولاية على اموال الايتام، وهو موضع اجماع، بل هو ـ كما قال
النراقي ـ من الضروريات ومما قام عليه الاجماع القطعي، والمنقول
منه متواتر، وقد ادعى ذلك ايضا في اموال المجانين والسفهاء مضافا
لدلالة الكتاب والسنة.
وهناك موارد اخرى قد ذكرت، الا انها بحاجة الى بحث في بعض احكامها
وحدودها بعد تسليم اصلها. ولا مجال للتعرض لذلك في هذا المقال.
نتائج البحث:
نخلص مما تقدم الى النقاط التالية:
1ـ ان حاكمية الدين في المجتمع اصل مسلم وضروري، لا يمكن لمسلم
منصف انكاره.
2ـ ان هذا الاصل لا يختص بزمان دون زمان، وان مما تقتضيه الحكمة
والرأفة الالهية تنصيب من يقوم بامر الحكومة لتحقيق حاكمية الدين
وبسط العدل والقسط وحفظ حقوق الضعفاء.
3ـ ان الذي يمكن ان يتصدى لمثل هذا الدور الخطير هم الفقهاء العدول
الجامعون للشرائط.
4ـ ان هذه الولاية مطلقة يتمتع فيها الحاكم باختيارات تامة تفي
بتحقيق الاهداف المذكورة في النقطة الثانية. نعم تتأطر هذه الولاية
بحدود الموازين الشرعية والمصالح العامة للمجتمع الاسلامي.
____________________
[1] النجم: 3.
[2] البقرة: 213.
[3] الحديد: 25.
[4] ابراهيم: 1. 3.
[5] النساء: 105.
[6] المائدة: 44.
[7] المائدة: 45.
[8] المائدة: 47.
[9] المائدة: 48.
[10] المائدة: 49.
[11] النساء: 59.
[12] تحف العقول: 239. ط ـ مؤسسة النشر.
[13] عوائد الايام: 536.
[14] الكافي 1: 32، باب صفة العلم وفضله، ح 2.
[15] المصدر السابق: 33، ح 5.
[16] من لا يحضره الفقيه 4: 420، ح 5919.
[17] الكافي 1: 38، باب حق العالم، ح 3.
[18] المصدر السابق: 46، باب المستأكل بعلمه، ح 5.
[19] فقه الامام الرضا (ع): 338، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع).
[20] بحار الانوار 75: 346.
[21] الاحتجاج 2: 264.
[22] تفسير مجمع البيان 9: 418.
[23] منية المريد: 121.
[24] كنز الفوائد: 195.
[25] كمال الدين واتمام النعمة: 484.
[26] تفسير الامام العسكري (ع): 345، ح 225.
[27] وسائل الشيعة 27: 13، ب 1 من صفات القاضي، ح 5.
[28] وسائل الشيعة 27: 139، ب 11، ح 6.
[29] المصدر السابق: 136، ح 1.
[30] مسند احمد 6: 166، دار صادر، بيروت.
[31] تحف العقول: 238، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين.
[32] علل الشرائع 1: 253 ـ 254، ط ـ المطبعة الحيدرية، النجف.
[33] وسائل الشيعة 27: 131، ب 10 من صفات القاضي، ح 20.
[34] البقرة: 124.
[35] سورة ص: 26.
[36] النجم: 3.
[37] الزمر: 9.
[38] عوائد الايام: 536.
[39] جواهر الكلام 16: 178.
[40] المصدر السابق 21: 394.
[41] المصدر السابق: 396 ـ 397.
[42] المصدر السابق: 397.
[43] المصدر السابق.
[44] عوائد الايام: 552.
[45] وسائل الشيعة 18: 338، ب 28 من مقدمات الحدود، ح 1.
[46] المصدر السابق: ب 29، ح 1.
[47] المصدر السابق، انظر: باب 32.
[48] المقنعة: 810 ـ 811.