مقدمة
اليوم، ولدى متابعة بحوث والمفكرين وتأملاتهم حول المقولات
السياسية وتنقيح العلاقة والارتباط بينها، نجد أنفسنا في مواجهة
شبكة من المفاهيم المتناسقة نسبياً، تستطيع أن ترسم لنا صورة
واضحة، في مجال استكشاف منظومة الفكر السياسي، لدى العلماء وأرباب
الفكر. فبالتجزئة والتحليل يتمكن المحقق من وضع يده على عناصر
مفهومية وأسئلة متسلسلة، تشكل له شبكة ملائمة لاصطياد المفاهيم
الكثيرة المتفرقة وترتيبها. وبالتالي، فهم الأسس والآراء المختلفة
التي هي مورد البحث والاهتمام في هذا المجال. ويمكن لهذه الشبكة أن
تشكل لنا، أيضاً، أبجدية التوصيف والتعبير؛ لأجل تسهيل نقل هذه
المفاهيم للآخرين.
طبعاً، من الممكن للقصور المحتمل في اللغة وبعض الحشو، أن يفرض
نفسه على موضوع المعرفة، فيشكل، كما يقولون، حجاباً للحقيقة،
ومانعاً من وضوح المراد من بعض الألفاظ المبتدعة والمصطلحات
المنحوتة، خصوصاً، في المقولات ذات المضمون القيمي؛ لأنها تتمتع
بدقة وحساسية زائدة.
من جملة المفاهيم القليلة التي يمكن عدها من "المقولات الأساسية"
في نطاق الفلسفة السياسية مفهوم "الحق" الذي يندرج في عداد
"المقولات القيمية"، فهو يشكل محط نظر كل مفكر في هذا المجال؛ لأنه
على أساسه يبني ويشكل نظريته في باب تعريف المطلوب السياسي.
وآية الله مطهري هو واحد من العلماء المعاصرين يمتاز بأنه أولى
اهتماماً كبيراً، بمختلف قضايا عصره الاجتماعية. ومن المعروف بين
العلماء أن آراءه مبنية على تدقيق وعمق بالغين.
ونحن، في هذه المقالة، سوف نحاول بعض جوانب فكره السياسي بالشرح
والتبيين.
فلسفة الحق
ما هي حقوق الإنسان التي نثبتها؟ وعلى أي أساس نعتبر الإنسان صاحب
حق؟ وكيف نحل مشكلة التعارض بين الحقوق الفردية والمصالح
الاجتماعية النوعية؟ وما هي النسبة بين الحق والمسؤولية (التكليف)؟
وهل يمكن الجمع بين الحقوق الطبيعية والاعتقاد الديني؟
وما الفرق بين النظرية الحقوقية على الرؤية الكونية الإسلامية،
وتلك المبينة على الرؤية الإنسانية[1] (الهيومانيسم) الرائجة؟
هذه بعض النماذج من التساؤلات التي سوف نحاول استلهام أجوبتهما،
مما تركته يراعة الشهيد مرتضى مطهري.
تعريف الحق
يُعرَّف الحق بأنه:
امتياز ونصيب بالقوة يثبت لشخص معين يسمح له بإيجاد شيء، أو رفع
آثاره، أو يعطيه أولوية في أمر معين في مقابل الآخرين. وبموجب هذا
الحق يجب على الآخرين أن يحترموا شؤونه، ويقبلوا بآثار تصرفاته.
وللحق بهذا المعنى، في نظر آية الله مطهري، خصوصيات يمكن أن
نعرِّفه بها تمييزاً له عما يقرب منه في المعنى كالحكم والملك
والتكليف، وذلك من قبيل:
أ- إن الحق أمر اعتباري، ومرتبط بظرف عمل الإنسان، واعتباره كأي
اعتبار آخر (كالملكية مثلاً) يظهر في أن منشأ الاعتبار ليس له وجود
حقيقي، ولا تترتب الآثار المقصودة منه ترتباً تكوينياً.
ب- تم إن الحق يكون للشخص، بخلاف التكليف الذي هو عليه؛ أي يلاحظ
في الحق الحاجات والرغبات البشرية، فيعتبر فيه نوعاً من الإرفاق
بالشخص وامتيازاً له.
ج- يتعلق الحق بالفعل، بخلاف الملك الذي يتعلق بالعين. لكن الحق
ليس مجرد إباحة شرعية، بل هو صلاحية قانونية ترتبط بأعمال يترتب
عليها آثار معينة أو ترفع بها الآثار الأولية لعمل ما.
د- وزمام أمر الحق بيد صاحب الحق، فهو من هذه الجهة على خلاف الملك
والحكم القابل للإسقاط أو الإعراض، وهو كذلك يقبل النقل والانتقال
بخلاف الحكم[2].
هـ- التمتع بالحق غير مربوط بالقدرة والتمكن، بخلاف التكليف الذي
هو مشروط بهما، وعليه فحق الأفراد العاجزين ومن لم يولد بعد يبقى
محفوظاً[3].
لا يقبل المطهري التعريف الذي يطرحه بعض الفقهاء للحق[4]، بما له
من معنى لغوي، أي "الثبوت"، أو "ثبوت شيء لشيء"؛ وذلك لأنه يستلزم
ثبوت حق في كل مورد يثبت فيه شيء؛ إذ الثبوت كالوجود مفهوم عام
يعرض على الماهيات كلها، ويتكثر بتكثرها. من هنا، كان لا بد من
تحديد مفهوم أخص من هذا المعنى له[5].
وهذه الخصوصيات بُيِّنت بشكل مفصل في معرض الحديث عن الحقوق
المطروحة في الفقه، مثل حق الخيار وحق الشفعة وحق القصاص. ووردت
نكات كثيرة أخرى في شرح هذه البحوث في كتبنا الفقهية، وفي مؤلفات
الشهيد مطهري بالتبع، ولكن ليس من المناسب نقلها هنا ضمن البحوث
السياسية، إلا أن هذا المقدار الذي بيَّناه يساعدنا في الوصول إلى
فهم أعمق وأدق لبحث الحقوق الإنسانية في الفلسفة السياسية.
الحقوق الطبيعية والحقوق الوضعية
قُسِّمت الحقوق الإنسانية بتقسيمات مختلفة، إحدى هذه التقسيمات
تلحظ جهة منشأ هذه الحقوق ومصدر اعتبارها، فكما أن الأشياء
الطبيعية في هذا العالم التي لم تصنعها يد الإنسان والتي لها هوية
مستقلة عن إرادته توصف بالطبيعية، فكذلك بعض الحقوق تسمى بالحقوق
الطبيعية، لكونها ثابتة بالذات، وليست ناشئة من الوضع والاعتبار
الإنساني. وذلك في مقابل الحقوق التي تستمد اعتبارها من واضعي
القوانين الوضعية (أو من المشرع في الحقوق الشرعية) حيث تسمى
بالحقوق الوضعية.
ويعد موضوع الحقوق الطبيعية وتبيين ماهيتها وكيفية توجيهها من
المواضيع المهمة في أبحاث الحقوق. ولدى الشهيد مطهري مطالب وأفكار
قيمة في هذا المجال سنوضح بعضها في سياق هذا البحث، بعضها الآخر
إلى مجال آخر.
مع بداية القرن السابع عشر اقترنت النهضة العلمية والفلسفية،
بنهضةٍ في المسائل الإجتماعية تحت شعار حقوق الإنسان، وأخذ مفكرو
وكتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر بطرح أفكارهم حول حقوق
الإنسان الطبيعية والفطرية غير القابلة للسلب، في أوساط عامة الناس
بطريقة تدعو إلى الإعجاب، وقد كان من بين هؤلاء المفكرين جان جاك
روسو وفولتير ومونتسيكو. ولهذه المجموعة حق عظيم في عنق البشرية،
وربما يمكن القول: إن حق هؤلاء على المجتمع البشري لا يقل عن حق
المكتشفين والمخترعين الكبار.
إن الأمر الأساسي الذي استرعى انتباه هذه المجموعة هو أن الإنسان
وبالفطرة وبأمر الخلقة والطبيعة يملك مجموعة من الحقوق والحريات،
هذه الحقوق والحريات لا يمكن لأي فرد أو مجموعة، وتحت أي عنوان،
وبأي اسم أن يسلبها عن فرد أو قوم، بل إن صاحب الحق نفسه لا يتمكن
باختياره وإرادته أن ينقلها إلى غير ويتخلى عنها. وكل الناس في ذلك
سواء الحاكم والمحكوم، والأبيض والأسود، والغني والفقير، متساوون
في هذه الحقوق[6]."
تنشأ الحقوق الطبيعية في نظر الشهيد مطهري من الفطرة والطبيعة،
وليس اعتبارها خاضعاً لواضعي القوانين والتشريعات. من هنا، كانت
غير قابلة للرفع، فلها اعتبار ذاتي، بخلاف الحقوق الوضعية التي
ينشأ اعتبارها من الوضع والاتفاق، وهي قابلة للرفع.
تتفاوت الحقوق الطبيعية مع الحقوق الموضوعة تفاوتاً ماهوياً،
وإطلاق "الحق" على كليهما شبيه بالاشتراك اللفظي، لا أن القانون
أوجد أشياءً تشابه ما في الطبيعة. الحقوق الطبيعية عبارة عن ربطٍ
وعلاقةٍ بين الحق وذي الحق، من نوع الرابطة الغائية؛ بأي أن ذلك
الشيء وجد لأجل هذا الفرد. وأودعت في الطبيعة وسيلة استكماله، وذو
الحق المستحق له حائز على نوع من الاستعداد والقابلية لتلقي هذا
الفيض[7].
انطلاقاً من كون مبدأ الحقوق الطبيعية في نظر مطهري صفحة الوجود،
فقد يطلق عليها، أحياناً، اسم "الحقوق التكوينية". ومع الالتفات
إلى ما صرح به من أن الحق أمر اعتباري ومرتبط بظرف عمل الإنسان،
كما مر في مبحث تعريف الحق، وليس المراد من التعبير بالحقوق
التكوينية أن هذا النوع من الحقوق أمر عيني ومن جملة وجودات العالم
التكويني، وإنما المراد أننا نجدها ونكتشفها في جملة الروابط
الغائية القابلة للملاحظة في صفحة الوجود في مقابل الحقوق الموضوعة
التي وضعناها بأنفسنا.
يقايس (رحمه الله) بين "الملك" و"الحق" بقسميه التكويني
والاعتباري، فيقول:
"ما يُجعل للمالك في الملكية التكوينية هو المملوك نفسه، لا
الإضافة الملكية، كما في البيع مثلاً ليس التبديل والتمليك إضافة
ملكية، بل تمليك وإعطاء ذات العين.
والحق التكويني مثل الملك التكويني؛ أي يُجعل فيه ذات مورد الحق.
والحق الطبيعي ينتزع من وجود منشأ الحق لذي الحق. الفرق بينهما هو
أنه في الحق الطبيعي رابطة غائية؛ أي أن مورد الحق جُعِل وسيلة
لاستكمال ذي الحق، ولأجله. أما الملكية التكوينية فالرابطة فيها
فاعلية؛ أي أن المملوك تابع قهراً للمالك. وبعبارة أخرى؛ واجدية ذي
الحق بالنسبة لمورد الحق ليس بالفعل بل بالقوة وغائي، أما واجدية
المالك بالنسبة للمملوك فهو بالفعل وفاعلي"[8].
في الملكية الاعتبارية يكون المجعول هو المملوك، كما هو الحال في
الملكية التكوينية، لا الملك والجعل فيه، أيضاً، فاعلي لا غائي.
أما الحق الاعتباري، فكلا الأمرين فيه موضع نظر وتأمل؛ وذلك لأنه:
"أولاً: المجعول فيه هو ذات الحق، وليس مورده؛ لذا كان الحق
الاعتباري قابلاً للنقل، والانتقال، والإسقاط، والإعراض كسائر
المملوكات والثروات.
ثانياً: إن كون الحق الاعتباري له جنبة غائية، كما للحق الطبيعي
جنبة غائية، مورد تأمل"[9].
وحول الحقوق الوضعية يقول مطهري(رحمه الله):
"يمكن القول: إن جميع هذه الحقوق تشبه الصلاحيات التي يعطيها
المجلس النيابي للحكومة أو يعطيها رئيس الحكومة لأحد أعضائها، كما
في الأعمال التي لا تنفذ إلا بإجازة قانونية. أي لا بد لها من
شرعية قانونية، فنفوذها موقوف على نوع من السبب الشرعي القانوني.
إذن، الأعمال التي تحتاج إلى شرعية قانونية واعتبار قانوني، أي تلك
التي لا بد أن يترتب عليها أو يرفع بسببها أثر قانوني ما، أو تلك
التي هي ممنوعة ذاتاً، ويحتاج جوازها إلى مجوز شرعي مثل التصرف في
مال الغير أو نفسه أو عرضه، أو إتلافه في مال كحق القصاص أو الغيبة
أو الشتم، في كل هذه الأعمال لو أعطي شخص صلاحية فعل ذلك سميت تلك
السلطة والصلاحية حقاً. فالحق فيها هو عبارة عن الصلاحية القانونية
للاستفادة من الأسباب القانونية أو الأعمال الممنوعة.
طبعاً أثر الحق في المورد الأول النفوذ الوضعي، وفي المورد الثاني
رفع الآثار الأولية لشيء ممنوع"[10].
الحرية والمساواة كحقين
استعرضنا في ما تقدم بعض خواص الحق التي على ضوئها تمكنا من
التفريق بينه وبين الملك والحكم، وبملاحظة هذه الخصائص، سيتولد
لدينا سؤال في كل مورد عبِّر فيه بلفظ "الحق" عن أمر ما في
المحاورات العامة، وهو: هل لهذا الحق هنا تلك الخصائص أيضاً؟
وبعبارة أخرى: هل الحق هنا حقيقي أم سمي حقاً تسامحاً ومجازاً ؟
مثلاً: الولاية التي هي وظيفة الولي، والتي لوحظ فيها مصلحة
الموَلَّى عليه هل تسمى حقاً للولي؟
وهل يمكن اعتبار الحياة متعقاً للحق فنقول: "حق الحياة " مع أنه
غير قابل للإسقاط ولا للإعراض؛ أي أن زمامه ليس بيدنا.
وهل يصح أن نسمي المساواة التي هي غالباً وظيفة في التعامل مع
الآخرين، لا أنها اختيار وصلاحية لأحد بخصوصه، "حقاً" للفرد؟
وفي معرض الإجابة عن هذه التساؤلات يبدي آية الله مطهري وجهة نظر
خاصة، فيقول عن الحق في الحياة:
"ليست الحياة حقاً، وليست حرية الرقبة حقاً، كما أن ملكية النفس
ليست ملكية قانونية... فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يصرف النظر عن
حريته ويبيع نفسه، فكذلك لا يستطيع أن يتخلى عن حياته"[11].
وبالنسبة لحق الحرية والمساواة يقول:
"الحقيقة، هي: أن الحرية والمساواة لا يمكن عدهما من جملة الحقوق؛
إذ لا يصدق عليهما تعريف الحق والملكية. وأقصى ما يقال فيهما:
إنهما من الأمور التي لا تجعل على نحو التكيف ولا تُمنع، فكما لا
يمكن منع الإنسان من التنفس لا يمكن منعه من حريته.
فيجب أن يكون القانون مراعياً للمساواة بين الأفراد في وضعه وفي
تطبيقه. ولكن الحرية والمساواة ليستا حقين في عرض سائر الحقوق.
الحق والملكية يتعلقان بالأشياء الخارجة عن وجود الإنسان. فكما أن
الإنسان لا يمكن أن يكون مالكاً لنفسه لا يمكن أن يكون له عليها
حق. حق الحرية معناه أنه ليس للآخرين أن يسلبوا مني حريتي، وكما أن
معنى ملكية النفس هو أن لا يكون المرء مملوكاً لغيره؛ أي ليس
مالكاً لنفسه ملكاً حقيقياً، فكذلك ليس للإنسان أن يسلب عن نفسه
حريته أو يبيع نفسه، وعليه فالحرية ليست حقاً، بل هي فوق الحق.
طبعاً في مورد الحقوق لا يمكن القول: إنه يلزم أن يكون الحق "على
أحد" أو "على شيء"؛ إذ نرى في الطبيعة، أن كل شيء وجد لأجل شيء آخر
يكون منشأ لانتزاع حق فيه، فالدماغ وُجِد لأجل التفكير، واللسان
وُجِد لأجل النطق والبيان؛ لذا يمكن القول بوجود الحق التكويني في
العقيدة وفي حرية البيان. والحق التكويني فيهما هو الإجازة والإذن
بالاستفادة منهما، وذلك مثل الإذن للضيف بأن يتناول الطعام الذي
وضعه أمامه المضيف.
فموضوع الحق هنا هو ذات البيان، وليست الحرية في الاستفادة من هذا
الحق مقابل المنع منها هي من الحقوق. وبعبارة أخرى: الحق هنا هو
نوع من الإذن والإجازة وعدم المنع من الناحية الطبيعية، لا أنه نوع
من الحرية والاختيار المتعلقين بالعقيدة والبيان؛ بحيث يمكن رفعه
وصرف النظر عنه.
وموضوع المساواة كذلك أيضاً، ينتزع من لزوم عدم التمييز في التعامل
مع الآخرين وضرورة التساوي بين الناس؛ وذلك لأنهم خُلِقُوا متساوين
في الحقوق، وعليه فليست المساواة نفسها حقاً مستقلاً، بل هي متأخرة
عن الحق، ومترتبة على الحقوق"[12].
مبنى الحق وأساسه
قلنا في تعريف الحق: إنه امتياز قُرِّر لصالح ذي الحق، على نحو أنه
بموجب هذا الامتياز يُثبِتُ له مجموعة صلاحيات أو يرفع عنه بعض
الممنوعات والتحديدات، ويُلزِم الآخرين بمراعاة هذه الشؤون
والتعامل معها على أنها رسمية وشرعية.
السؤال المهم المطروح هنا هو:
على أي أساس يعطى هذا الحق للفرد. وما الذي يدعونا إلى الاعتقاد
بأنه يتمتع بهذا الحق؟
ومرادنا من "مبنى الحق" هو تقديم الجواب عن هذا السؤال المتقدم.
وبعبارة أخرى: مبنى الحق هو عبارة عن الملاك الذي يراعى في جعل
الحق؛ أي الأساس الذي يلحظه الشارع و المقنن وكل مصدر تشريعي عندما
يشرِّع حقاً لشخص ما.
فلو افترضنا أن للحقوق منشأً ذاتياً، بمعنى أنها لا تتوقف على جعل
قانون أو شرع، فما هو المعيار لهذه الحقوق وكيف لنا أن نتعرف عليه؟
هذه هي التساؤلات التي تنبغي مناقشتها في مبحث مبنى الحق.
وكما أشرنا سابقاً، فإن الحقوق في نظر مطهري ليست مجرد اعتبار
تشريعي، بل هناك سلسلة ملاكات ومعايير أعلى من القوانين الوضعية،
وهي ليس فقط لا تأخذ مشروعيتها من القانون، بل هي ميزان حقانية
ومقبولية القانون، يعني أن مشروعية عمل المُقَنِّن رهن بمدى
انسجامه مع هذه الحقوق. فوجود العدالة والحقوق متقدم على وضع أي
قانون في الدنيا، ولا يمكن تغيير ماهية العدالة وحقوق الإنسان
بالقانون[13].
حتى في إطار الشريعة، فإن تمام ماهية الحقوق والتكاليف ليست ناشئة
من الشريعة بشكل محض، بل إن طائفة منها لها وجود في نفس الأمر
والواقع؛ بحيث إن جعل الشارع واعتباره لها يتدخل فقط في ضمان
استقامتها. فبعض هذه الحقوق يمكن لنا معرفتها من طريق العقل
والوجدان، وبعضها الآخر تنحصر طريقة معرفته ببيان الشارع الحاكي عن
وجود المصالح والمفاسد الواقعية، والذي هو طريق لفهم حقوق الإنسان
وتكاليفه الواقعية. "التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية".
ومن الواضح أن حقوق الإنسان ليست كلها في رتبة واحدة، فبعضها، وهو
ما يمكن أن نسميه "الحقوق الأساسية"، هو بمنزلة الأساس والبنية
التحتية التي تقوم عليها حقوق أخرى، وتُوجَّه على طبقها. مثلاً: حق
الحياة، وحق الحرية، وحق الاستفادة من النعم الطبيعية، وحق مالكية
ما يحوزه الفرد هي من الطائفة الأولى.
والكثير من الحقوق التي بُيِّنت في القوانين الوضعية ولوحظ فيها
شرائط خاصة تهدف إلى تنظيم الحياة الاجتماعية يمكن إرجاعها إلى
الطائفة الأولى أيضاً.
وعليه فما يستحق أعلى درجات الاهتمام في مبحث مرتكزات الحقوق هو
كيفية توجيه وتبرير الحقوق التأسيسية. من هنا، ينبغي تبيين المبدأ
الذي تقوم عليه الرابطة القائمة بين منشأ الحق وشخص ذي الحق،
ولماذا نثبت لشخص ما مثل هذه القوة أو الصلاحية أو الحصانة؟
ولماذا نلزم الآخرين بالقيام بتكاليف معينة تجاهه؟
وبتعبير الشهيد مطهري: "علينا أن نرى ما هي المباني الأولية للحقوق
الإسلامية التي تتطابق مع الأصول المستنبطة من القرآن الكريم وسيرة
أئمة الدين. كيف يمكن إيجاد علاقة خاصة نسميها حقاً بين الإنسان
وبين شيء آخر؛ بحيث لو أن أحداً سلبه ذلك لقيل عنه: إنه سلبه حقه.
ما هو المنشأ والمحقِّق لهذه العلاقة؟[14]"
الرابطة الغائية والرابطة الفاعلية
يتابع آية الله مطهري حديثه في هذا الصدد فيقول: الموجد أو العلة
أو السبب، ما شئت فعبر، على نحوين: إما فاعلي وإما غائي؛ أي سبباً
لوجود شيء آخر وعلة له... من جهة أنه مقصد ذلك الفعل وغايته...
مثلاً الكلام الذي يصدر عن شخص ما له علاقة به هي علاقة الفعل
بفاعله، وله علاقة أخرى، هي علاقة الوسيلة والمقدمة بالغاية وبذي
المقدمة، فهذان السببان (الفاعل والغاية) لو لم يوجدا لما أمكن
وجود هذا الكلام.فكل منهما هو موجد له...
وفي باب "الحق" و"ذي الحق" نؤمن بوجود نوع من العلاقة الخاصة بين
البشر وسائر مخلوقات هذا العالم. والبشر يرون لأنفسهم حقوقاً،
فعلينا أن ننظر من أين جاءت هذه العلاقة؟ وما الذي يربط بينهما؟ هل
هي من نوع علاقة الوسيلة بالغاية والمقدمة بذي المقدمة أو من نوع
علاقة الفعل بفاعله؟[15] "
يستخدم مطهري، لأجل توضيح هذا المطلب، الاصطلاحات الفلسفية
المنسوبة لأرسطو والمستخدمة في باب العلية؛ حيث يتحدث أرسطو في
كتاب "ما بعد الطبيعة" عن أربعة أنواع من العلل هي:
1 – المادة: وهي القوة والقابلية؛ أي أرضية قبول وجود الشيء.
2 – الصورة: وهي التعين الخاص الذي يعطي الشيء فعليته، وهو منشأ
هويته ومنشأ آثار خاصة وجديدة فيه.
3 – العلة الفاعلية: وهي منشأ حركة الشيء وموجده.
4 – العلة الغائية: وهي الهدف الذي وجد الشيء لأجله.
ويسمي النوعين الأولين بالعلل الداخلية أو علل القوام؛ لأنها متحدة
الوجود مع معلولها وباقية ضمن وجوده. ويسمي النوعين الآخرين اللذين
هما خارجان عن وجود المعلول بالعلل الخارجية أو علل الوجود.
وبما أن المادة والصورة منحصرتان بالمعلولات المادية، فإن العلل
المادية لا عموم فيها لتشمل كل الأشياء، فلا يخلو التعبير عنها
بـ"العلة" عن مسامحة، فتنحصر العلل الموجدة بالنوعين الفاعلي
والغائي؛ ولهذا لم يشر مطهري سوى إلى هذين النوعين.
طبعاً، محل هذا البحث الحكمة النظرية التي ينصب التركيز فيها على
عالم التكوين ومنشأ وجود الحركة والموجودات المادية، - كما هو عند
أرسطو -، أو التركيز على ظهور الحقائق بشكل عام، كما ترمي إليه
الحكمة الإلهية.
فهو هنا -أي في مجال الحكمة العملية -، يستخدم هذه المصطلحات كطرح
ملائم لبيان نظريته في مجال منشأ الحقوق، فيقسِّم العلاقة بين
الإنسان ومورد الحق إلى قسمين: فاعلي، وغائي[16].
القسم الأول (الفاعلي): عبارة عن الحقوق التي تحصل للشخص بسبب سعيه
وعمله، مثلاً: "الشخص الذي يغرس شجرة في الأرض، ويراقبها، ويسقيها
حتى تثمر، تكون العلاقة بينه وبين هذه الثمرة علاقة فعل وفاعل؛ أي
أن فعله هو السبب في وجود الثمرة، ولولا فعله لما كان لها وجود.
وهذه العلاقة بنفسها هي التي تولد حقاً له فيها"[17].
القسم الثاني (الغائي): وهو عبارة عن الحقوق التي نرى أنها ثابتة
للشخص لمجرد أنه إنسان، حتى ولو لم يعمل ولم يسعى لإيجادها؛ وذلك
لأننا نجد أن في الطبيعة أشياءً وجدت لأجل هذا الإنسان. ويمكننا أن
نعد هذا النوع من الحقوق ضمن الحقوق الفطرية والطبيعية.
مبنى الحقوق الفطرية
يعتقد مطهري بأن المنطق الإلهي يقضي بـ "أن كل شخص يأتي إلى هذا
الوجود يثبت له على هذا العالم حق بالقوة، فأبناء هذا العالم لهم
حق طبيعي على آبائهم وأمهاتهم، لا لأجل أنهم سيعطونهم شيئاً فيما
بعد، وإنما لمجرد أنهم أبناء لهم في هذا العالم"[18].
وقد شرح هذه الفكرة بعبارات أوضح في كتابه "عشرون محاضرة"، ولذا
سأنقل حرفياً بعضاً مما قاله فيه:
"وفقاً للرؤية الكونية الإسلامية حول الإنسان، والعالم، والحياة،
والوجود هناك علاقة غائية بين الإنسان ما في هذا العالم من مواهب
ونِعَم؛ أي أن أي أن الخطة العامة للغلق مبنية على أساس العلاقة
بين الإنسان وغيره؛ من موجودات هذا العالم بحيث لو أن الإنسان لم
يكن موجوداً لرُسِمت خطة الخلق على نحو مختلف تماماً. وقد صرح
القرآن الكريم مراراً بأن ما في الوجود من نعم قد خُلِق لأجل
الإنسان، وبحسب القرآن الكريم توجد علاقة بين البشر وبين هذه
المواهب والنعم، حتى قبل أن يقدروا على القيام بأي فعل وبأي سعي،
وقبل أن تُبلَّغ الأحكام بواسطة النبي للناس، وهذه المواهب ثابتة
للإنسان وحق له كما يقول تعالى:
(خلق لكم ما في الأرض جميعاًً) [19].
ويقول في مقدمة قصة خلق آدم (ع):
(ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون)
[20].
الحقوق الفطرية هي عين الحقوق الإلهية، خلافاً لما توهمه بعض
الكتَّاب الجدد، فلا يوجد ثنائية ولا تقابل بين الحقوق الفطرية
والحقوق الإلهية، وليست الحقوق الإلهية منحصرة بالحقوق الوضعية
التشريعية[21] ".
وقد ورد في كتاب "نظام حقوق المرأة في الإسلام" بعض المطالب
المرتبطة بهذا البحث، منها:
1 – تنشأ الحقوق الطبيعية من وجود هدف للطبيعة؛ لأجله جعلت
الاستعدادات في الأشياء، وأعطي لها استحقاقات معينة.
2 – الإنسان، بما هو إنسان، يتمتع بمجموعة حقوق خاصة لا تشاركه
سائر الحيوانات في شيء منها.
3 – طريقة تشخيص الحقوق الطبيعية تعتمد على الرجوع إلى الخلقة
والإيجاد، فكل استعداد طبيعي هو منشأ طبيعي لحق طبيعي[22].
وحول ضرورة التناسق بين عالم التكوين وعالم التشريع يقول:
"مهما نجد في الطبيعة من قوانين غير إلزامية، لا تجبر الإنسان على
طريقة معينة في فعله، ومهما نجد قوانين يضعها العقل والشرع (بواسطة
الوحي) لا تُلزم الإنسان، ولا تجبره على الطاعة، بل تتركه مختاراً،
فإننا لا نشك في أن هذه القوانين الوضعية والاعتبارية مكملة ومتممة
للطبيعة وتسعى لمساعدتها؛ لهذا كانت الفطرة الإنسانية وساحة الخلقة
والإيجاد أفضل منبع إلهامي للقوانين الوضعية[23].
المنطق الإلهي وحده هو الوافي بتوجيه الحقوق الفطرية
يعتقد مطهري بأنه: "لا يمكن تأسيس الحقوق الفطرية إلا على أساس
مبدأ الغائية. وخير دليل على ذلك تناسق نظام العالم وروابطه
الحاكية عن الهدفية فيه. فمثلاً السن وجد للمضغ، وحلمة ثدي الأم
لرضاعة الطفل، والفاكهة للأكل، ولا يوجد غير هذه الطريق لإثبات
الحقوق الفطرية بما هي أمر واقعي. فلا يمكن لنا أن نصل إلى نتيجة
مفادها أن هذا الحق طبيعي أو فطري بمجرد الاعتماد على فكرة
الملائمة الاتفاقية؛ أي أن نرى أننا نرفع حاجاتنا بهذه الأمور بمحض
الصدفة.
ولا يمكن لنا توجيه الحقوق الفطرية إلا على أساس واحد فقط، وهو
مبدأ الغائية وقبول فكرة وجود نظام إرادي وهادف؛ بحيث لو لم يكن
هناك محتاج لما وجد المحتاج إليه. ولو لم نعترف بمبدأ الغائية، فلا
بد لنا من أن نعتبر أن مواهب الطبيعة عبارة عن ثروة جاءت من الريح
والفراغ، ووقعت على الأرض بالصدفة، فصادف أنها كانت مفيدة للبشر.
وهذا لا يصلح مبنى لوجود حق لنا على العالم.
طبعاً، للإنسان حق الأولوية في ما يحصل عليه بعمله وجهده، ولكن
بهذه الطريقة لا يتم توجيه وجود حق ابتداءً ومن دون سعي له على
الطبيعة. في المنطق الإلهي فقط، وعلى أساس قبول مبدأ الطبيعة
الهادفة، تصبح الحقوق الفطرية قابلةً للتوجيه[24].
كيف يكون للإنسان حقٌ على الله تعالى؟
قلنا فيما سبق: إن مطهري يؤمن بوجود حقوق ذات اعتبار ذاتي، وغير
خاضعة للوضع والجعل القانوني، ويرى أن هذه القاعدة تجري في إطار
الشريعة أيضاً؛ أي بقطع النظر عن أوامر الشارع ونواهيه؛ بحيث تكون
خطابات الشارع مبينة لتلك الحقوق والمصالح الواقعية. والسؤال
المطروح هنا هو: كيف يمكن تصوير وجود حق للإنسان على الله تعالى؟
هل هذا الأمر ملائم لعقائدنا المتعلقة بالله وبالتوحيد الربوبي؟
الجواب الذي يتبناه المتكلمون هو أن الإنسان ليس له على الله حق
على نحو الحقيقة، ولكن يمكن استخدام لفظة "حق" في هذا المجال
تسامحاً ومجازاً، ويستدلون لذلك بكلام المعصومين(ع).
يقول مطهري في كتاب "الحكم والمواعظ":
يثبت للذات المقدسة للباري تعالى، وهو الغني الكامل والمالك
المطلق، حقوق على مخلوقاته، والعباد مدينون لفضله ونعمه، ومسؤولون
عن أوامره، وهو غير مدين لأي موجود: لذا يقول الإمام علي (ع):
"ولو كان لأحد أن يجري له، ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله
سبحانه"[25].
وهو غير مسؤول ولا مدين في حال أن المخلوقات مسؤولون ومدينون في
سائر وجودهم:
( لا يُسئل عما يفعل وهم يُسألون) [26]
ومع ذلك فإن الله رغم ثبوت حق الطاعة له على الناس تتفضل على
العباد بالرحمة والعناية، وقد عد ذلك حقاً رسمياً للناس عليه. يعني
مع نعمة الوجود ما من أحد له حق المطالبة بالثواب على طاعة نفسه
مديناً ومع ذلك جعل الله ذلك اللطف والعناية منه حقاً، وعد نفسه
مدينة للبشر بإعطاء الأجر والثواب"[27].
أما إذا غضضنا النظر عن مسألة الثواب على الطاعات، وما نقلناه من
مشرب المتكلمين في هذه المسألة، فكيف لنا، وبأي معنى يمكن توجيه
فكرة وجود حق طبيعي للإنسان على الله على نحو يكون مقدماً على
الشرع؟
لا بد لنا - لكي تتضح هذه الفكرة - من أن نلتفت مرة أخرى إلى مبنى
الحقوق الطبيعية عند مطهري.
يرى مطهري نوعاً من الارتباط الغائي بين ذي الحق ومورد الحق؛ أي
حينما نرى في الطبيعة إنسانا محتاجا لأمر ما، وهو مستعد لتلقي
كمالات خاصة ترفع عنه تلك الحاجة، ثم نرى أن يد مدبر عالم الخلقة
خلقت شيئاً يصلح وسيلةً مناسبة لتأمين الكمال الذي ينشده هذا
الإنسان، عندها نقول باستحقاقه لهذه الوسيلة، من هنا: " يمكن
القول: إن الحق يثبت لذي الحق الذي له استحقاق القابل في مقابل
المعطي؛ أي أن له قابلية تامة على عكس من ليس له هذا الحق؛ حيث لا
يتمتع باللياقة والقابلية اللازمة، فيكون الفيض في مورده هدرا"
[28].
ويقول في كتاب "العدل الإلهي":
في عالم العلاقات الإنسانية، نحكم على الشخص الذي نرى أنه لا يتعدى
على حقوق الآخرين، ولا يفاضل بين الناس بدون مرجح، ويناصر المظلوم،
ويعادي الظالم: بأنه حائز على نوع من الكمال، ونحسِّن فعله، ونسميه
عادلاً. وذلك في مقابل الفرد الذي يعتدي على حقوق الآخرين، ويفضل
بعضهم على بعضهم الآخر بلا سبب، فإننا نعده ظالماً، ونقبِّح فعله.
هذا بالنسبة للناس، أما بالنسبة لله تعالى فهل الحال واحد؟ وهل
عدالة الله تعالى على هذا النحو أيضاً؟ إذا فسَّرنا العدل بهذا
المعنى الأخلاقي المستعمل في دائرة البشر، فلا بد من أن يكون
بالنسبة لله عز وجل بهذا المعنى نفسه. فهل يمكن أن نجد له مصداقاً
عملياً في مورد الله تعالى؟
من الطبيعي أن يقال في مورد الخالق والمخلوق: إنَّ كل ما لدى
المخلوق هو من الخالق، وليس لأحد في مقابل الله تعالى حق ولا
مالكية ولا أولوية، فهو مالك الملك المطلق. من هنا، إذا كانت
العدالة هي مراعاة حق الغير والظلم هو التعدي على حق الغير. فلا بد
من أن نفترض أساساً لهذا الحق عندما نريد تطبيق هذين المفهومين.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن لأفعال الله تعالى أن تتصف بالعدل
والظلم.
ويتابع مطهري حديثه، فيقول:
"معنى العدل الذي يمكن نسبته إلى الله تعالى في نظر الحكماء
الإلهيين هو أن الله يراعي في عملية إفاضة الكمالات الوجودية
القابليات وإمكان الاستفاضة وتلقي الموجودات للفيض؛ ولأنه فياض
مطلق يعطي كل موجود على حسب قابليته واستحقاقه الوجودي الملائم
لمرتبته، ولا يمنع سيبه، ولا يمسك عطاءه عن أحد. فعدل الله عين فضل
وجوده، ومنتزع من فيَّاضيته، لا أن الموجود له عليه حق على نحو
يكون إعطاء هذا الحق تسديد حساب، أو أن للموجود حق المطالبة به.
فإذا حكمنا حكماً قطعياً بعدل الله فمن باب العلم بأن الفياض
المطلق لا يفعل إلا هذا الفعل، لا أننا نفرض تكليفاً معيناً عليه
تعالى " [29].
وعليه يمكننا استنتاج: أننا إذا فرضنا بملاحظة فطرة الإنسان وجود
نوع من الاستعداد والقابلية والربط الغائي بينه وبين أمر معين،
فسنقطع بأن له لياقة واستحقاقاً خاصاً لهذا الأمر. فمع الالتفات
إلى فضل الله ورحمته وحكمته نكتشف أنه -عز وجل- لن يتخلف عن
الإجابة و العطاء المناسب لهذا الاستحقاق.
وعلى ضوء ذلك سوف نعرف بالفطرة والعقل حكم بعض الأفعال، قبل أن
نلجأ إلى خطاب الشرع لأخذ الدليل والحجة الظاهرة.
وتوجد مباحث خاصة حول علامات ومعايير هذا التشخيص القطعي العقلي
وحدوده نتعرض لها في موضعها.
التوأمة بين الحق والمسؤولية
تقرر الرؤية الإسلامية وعلى خلاف بعض الرؤى الغربية الحديثة أن
الإنسان ليس مجرد طالب وآخذ من الطبيعة ومن الآخرين؛ أي لا تُختصر
إنسانية الإنسان في كسب المنافع الشخصية وكثرة التطلب والتحرر من
القيود. فعلى الرغم من أن الميل إلى هذه الأمور هو جزء من طبيعة
وجوده، فإن أحد العناصر المحورية في شخصيته، والأمر الذي يميّزه عن
سائر الحيوانات والجمادات هو الشعور بالالتزام بالحق والفضيلة.
وشرف الإنسان في وجوده هو مبدأ الشعور بنوع من المسؤولية تجاه الله
تعالى.
يقول مطهري في معرض الإشارة إلى آية: (إنا عرضنا الأمانة على
السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها
الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) [30].
"هذه الأمانة التي امتنع الجميع من حملها وقَبِلها الإنسان وحده،
هي التكليف والمسؤولية، فكل موجود من الموجودات (غير الإنسان) يطوي
كل مراحل كماله، ويصل إلى ما يصل إليه من دون إرادة واختيار، ولا
يمكنه أن يبدل طريقه ويغيره بمحض رغبته وإرادته. الإنسان وحده هو
القادر على تغيير حركته نحو أي هدف يريد وفي أي لحظة. الإنسان يطوي
كثيراً من مراتب كماله ورقيِّه في ضوء التكليف والقانون والمسؤولية
القانونية. إنه لافتخار كبير للإنسان أن يتمكن من الالتزام بالحق
والنهوض بالتكليف. رغم أن كثيرا من الناس يريدون أن يتحرروا من قيد
التكليف باسم الحرية.
طبعاً يتمكن الإنسان من أن يعيش بحريته، ويجب أن يعيش بحريته، ولكن
بشرط أن يحافظ على إنسانيته. يمكنه أن يتحرر من كل قيد إلا قيد
الإنسانية. الإنسان الذي يريد أن يتخلص من قيد تكليفه وحقوقه، عليه
أولاً أن يستقيل من إنسانيته.
الإنسان بحكم هذا الاستعداد الفطري، يحصل من جهة على استحقاق كبير
للاستفادة من مواهب الخلقة. ومن جهة أخرى، يُلقى على عاتقه مسؤولية
عظيمة تجاه كل الموجودات المجعولة في خدمته من جماد ونبات وحيوان،
فضلاً عن المسؤوليات العظيمة تجاه أبناء نوعه"[31].
يقول القرآن الكريم:
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه)[32].
أي خلقكم من الأرض ويريدكم أن تعمروها. وعليه، فليس لكم حقوق فعلية
لمجرد كونكم أبناءً لهذه الأرض وهذا التراب والماء. السعي وإعمار
الأرض وإحياؤها أمور ضرورية. فما لم يتم الالتزام بهذا التكليف لا
يخرج هذا الحق من القوة إلى الفعل. وسائر الأحياء تعيش بوحي من
الغريزة، أما الإنسان الذي يملك العقل والاختيار، فإن دائرة عمله
واسعة، عليه أن يعمل ليستفيد من عطاءات الله. نعم، ما دام الإنسان
في مرحلة الغريزة فإنه يأخذ حقوقه من دون تكليف كحق الطفل بثدي
أمه، ولكن عندما يريد أن يرتضع من ثدي أمه الأرض فلن يكون رزقه
حاضراً، عليه أن يسعى في تهيئته، من هنا كان لأمه الأرض عليه حق
العمران في مقابل حقه عليها.
قال الإمام علي (ع) في أوائل أيام خلافته:
"إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"[33].
ويقول (ع) في مجال التلازم بين الحقوق والتكاليف:
"لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له"؛[34]
أي أن هناك تلازماً بين الحقوق والواجبات[35].
إن كثيراً من المناصب الاجتماعية التي هي في الظاهر امتياز وحق
للفرد، هي في الواقع تكليف ومسؤولية. فإن أسأنا الاستفادة من
المناصب الاجتماعية عندها نعلم أنه لا يمكن تسميتها حقوقاً، بل
علينا أن نسميها تكليفاً، وشرائط التكليف غير شرائط الحق. الخلافة
والحكومة كانت لعلي تكليفاً لا حقّاً. كان في أيام الحر يخرج من
دار الإمارة ويجلس في الظل، لعل مولاه افتقده، فلم يجده في هذا
الطقس الحار، هذا في الواقع أعلى من التكليف، إنه رياضة [36].
لزوم اعتراف الحكومات وأولياء الدين بحقوق الناس
من النكات المهمة في كلام مطهري (رحمه الله) هو تركيزه على أن
الاكتفاء بالحقوق الإنسانية وعدم ملاحظة المسؤوليات، وكذلك العكس
بأن نحصر الاهتمام بالتكاليف والوظائف، ولا نراعي الحقوق الإنسانية
يوقعنا في الإفراط أو التفريط، وكلاهما خطأ. ومن يريد أن يبني نظام
المجتمع على أحد هذين سيصل إلى طريق مسدود؛ إذ في القول بمحورية
الحقوق والفردية والتحلل من المسؤوليات والمشاعر الإنسانية تجاه
الآخرين إفراط، كما أن في محورية التكاليف تفريطاً.
وقد أشرنا سابقاً إلى الشق الأول[37]، وهنا نوَضِّح الشق الثاني
بكلمات مطهري. فهو بعدما لفت إلى أن علماء الإسلام بينوا أصل العدل
وأقاموا بناء فلسفة الحقوق عليه وقد تم هذا الأمر على يد علماء
المسلمين لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني:
"إنني أؤمن بوجود عامل نفسي وجغرافي أثَّر في عدم متابعة المشرق
الإسلامي لمسألة الأساس العقلي للحقوق التي قام هو بتشييد دعائمها،
وإن أحد الفوارق بين روح الشرق والغرب يكمن في أن الشرق تتملكه
نزعة أخلاقية بينما يجنح الغرب نحو القانون. يتعطش الشرق للأخلاق،
بينما يتعطش الغرب للحقوق. فالشرقي بحكم طبيعته الشرقية يجد
إنسانيته في إحياء روح العاطفة والتسامح وحب أبناء جنسه والشهامة.
أما الغربي فيجد إنسانيته في التعرف على حقوقه والدفاع عنها
والحيلولة دون تجاوز الآخرين حريمها.
وإن الإنسانية بحاجة إلى الحقوق كما هي بحاجة إلى الأخلاق أيضاً،
وليست الحقوق وحدها معيار الإنسانية، ولا الأخلاق وحدها معياراً
لها. وقد جمع الدين الإسلامي المقدس بين الأمرين معاً، فكما أنه عد
العفو والإخلاص والنزاهة ظواهر أخلاقية مقدسة، عد التعرف على
الحقوق والدفاع عنها ظواهر إنسانية ومقدسة أيضاً[38].
ويتحدث في كتاب "في رحاب نهج البلاغة" عن ضرورة اعتراف الحكومات
بحقوق الناس، فيقول:
"وما يحقق رضا الناس طبيعة نظرة الحكومة إلى الشعب وإلى نفسها، فهل
تنظر إليهم بعين أنهم عبيد ومماليك لها، وهي المالكة لهم المتصرفة
فيهم ؟ أم بعين أنهم ذوو حقوق في جميع الأمور، وهي مجرد نائبة عنهم
وممثلة لهم ومؤتمنة عليهم؟
في الحالة الأولى يكون كل ما تعمله لهم من نوع الرعاية التي يقوم
بها صاحب الحيوان لحماية حيواناته، والحالة الثانية تكون من نوع
الخدمات التي يقوم بها مستأمن صالح. وإن اعتراف الحكومات بالحقوق
الواقعية للشعوب وتجنبها لكل عمل يشعر الرعية بعدم الحق بالحاكمية
هما من الشروط الأولية لجلب رضا الناس وطمأنينتهم[39].
ثم يتابع حديثه مشيراً إلى التجربة التاريخية السلبية لشكل حاكمية
الكنيسة وما أدت إليه من بروز النزعة المادية، فيقول:
"عندما نبحث عن علل وأسس هذا الأمر (ظهور المادية) نرى أن منها
ضحالة مفاهيم الكنيسة حول الحقوق السياسية، فأسياد الكنيسة وبعض
الفلاسفة الأوروبيين، ادعوا نوعاً من العلاقة المصطنعة بين الدين
من جهة، وتثبيت الحكومات الاستبدادية وسلب الحقوق السياسية عن
الناس من جهة أخرى. ومن الطبيعي أن يفترضوا بإزاء ذلك، نوعاً من
العلاقة المصطنعة أيضاً بين اللادينية وبين الديمقراطية وحكومة
الشعب للشعب.
وإن من عوامل تراجع الدين أن يدعي أولياء الدين تضاداً بين الدين
والحاجات الطبيعية، لاسيما إذا كانت حاجاتٍ ظاهرة عامة تعم المجتمع
بأسر، وتتحكم في أفكار أفراده.
وتماماً عند بلوغ الاستبداد في أوروبا نقطة الذروة، وعند تعطش
الناس إلى فكر يعترف بحقهم في الحكم والحكومة عرضت الكنيسة أو
أنصارها أو من يعتمد على أفكارها، الفكر الذي يزعم أن لا حق للناس
في الحكومة، وإنما هم موظفون ومكلفون. وكان هذا كافياً في لاستنهاض
المتعطشين للحرية والديمقراطية في مواجهة الكنيسة، بل في مواجهة
الله والدين بشكل عام"[40].
ثم بعد أن يستعرضَ بعضَ ملامح المنطق الاستبدادي الموجود في بعض
نظريات المفكرين الغربيين يقول:
"ما نراه في هذه الفلسفات هو أنها تفترض أن المسؤولية أمام الله
تنفي المسؤولية أمام الناس، وأن التكليف من قبل الله يكفي لنفي
الاعتراف بحقوق الناس، وأن العدل إنما هو ما يفعله الحاكم... وما
لا نراه فيها هو أن يكون الإيمان بالله والعقيدة الدينية ضماناً
لحقوق الناس والعدالة الاجتماعية.
والحقيقة هي أن الإيمان بالله أساس فكرة العدالة وحقوق الإنسان،
ولا يمكن الاعتقاد بوجود حقوق ذاتية للناس وعدالة واقعية، بما هما
أمران واقعيان مستقلان عن كل الفرضيات والتشريعات، إلا بناء على
أساس الإيمان بالله من ناحية، وعلى أساس أنه خيرُ ضامن لتطبيق ذلك
من جهة أخرى[41].
ثم يستشهد بمجموعة من كلمات أمير المؤمنين (ع) للإضاءة على هذا
المطلب" [42].
تقدم حق المجتمع
اتضح مما تقدم أن مطهري في الوقت الذي يعترف فيه بالحقوق الطبيعية
يبحث عن هذه الحقوق في النظام الهادف الحاوي للحقائق والقيم
والغايات. وحقوق الإنسان تكسب معناها ومبرراتها في ضوء هذه الحقائق
والقيم.
إن الحقوق الإنسانية في جوهرها، بحسب الرؤية الكونية الإسلامية،
وعلى خلاف الرؤى التي تجرد الحقوق من عنصر الفضيلة، ملتزمة ومرتبطة
بالحقيقة، وهي وفية للغايات والكمالات المكنونة في خلق الكون
والإنسان. وستفقد فلسفة وجودها عندما تكون خارج إطار الحقيقة.
يقول مطهري: "وكما علينا أن نعرف الحق علينا معرفة الحقيقة أيضاً،
ومعرفة الحقيقة تكون بأن نرى نظام الوجود، ونفهم حركة عالم الوجود
كما هو، لا كما تتخيله أذهاننا وترسمه أوهامنا بعيداً عن الواقع
بمراحل.
وأما معرفة الحق، فتكون بأن نطهر ديننا، ونعلم أننا مدينون إلى
درجة كبيرة، فنعلم أننا مدينون لأقرب الأمور إلينا؛ أي أعضائنا
وجوارحنا، وندرك حقوقها علينا، وكذلك حقوق آبائنا، وأمهاتنا،
وأبنائنا، ومعلمينا، وجيراننا، وأقربائنا، وأزواجنا، ومواطنينا...
فإذا عرفنا أنفسنا وإلهنا والعالم الذي نعيش فيه، وعرفنا الحقوق
التي علينا؛ عندها يمكننا أن ندعي بكل فخر واعتزاز أننا أهل الحق
وأهل الحقيقة أيضاً"[43].
من هنا يقول في معرض بيان كيف يمكن لنا أن نفدي حق المجتمع
بالتضحية بشرائط حق الفرد:
"بما أن مبنى الحقوق هو توجه الطبيعة إلى الغاية، وأن الحياة
الاجتماعية من الغايات الكمالية للطبيعة، وكل ما هو في جانب كمال
الطبيعة حق، ولو استلزم إبطال حق جزئي، وذلك نظير حق النوع الأشرف،
في الاستفادة من النوع الأخس. فليست الحقوق علة تامة، وإنما هي
مجرد مقتض لثبوت مقتضاها ما لم يعرض مانع ما، والظلم هو إبطال الحق
بدون حق، أما إذا أعطتنا الطبيعة حق إبطال حق ما، فليس ذلك
ظلماً"[44].
وعليه فيكون حق الله وحق المجتمع في منع حق الانتحار من هذا الباب:
"ليس لأحد أن يدعي له حرية قتل نفسه متى شاء؛ لأن المجتمع شريك
ومساهم في هذا البناء... ليس لك الحق أن تعدم نفسك قبل أن تسدد دين
المجتمع عليك... ولو فرضنا أن المجتمع سامح بحقه، وأقر قانوناً
يجيز الانتحار، فلا يحق له ذلك من جهة حق الله، فكل شخص قبل أن
يكون مالكاً لنفسه هو مملوك لخالقه، لا بمعنى أن الخالق يحتاج إليه
ويستفيد منه، بل بمعنى أن له هدفاً من وجوده[45].
ولحقوق الإنسان بنظر مطهري حدود وثغور، منها حق المجتمع:
"لا شك في أن الإنسان موجود اجتماعي، وليس معنى ذلك مجرد تجمع عدد
من الأفراد في مكان واحد كالمدينة والقرية مثلاً...ليس مجرد أن
نعيش كقطعان، بل أن يعيش أفراد وفق سلسلة من العلاقات، وذلك في
الواقع شكلٌ من أشكال التركيب بين الأفراد"[46].
وفي معرض الرد على من يقول: إن المجتمع يشبه شركة مساهمة نشأت بسبب
التعاقد بين الأفراد، يقول:
"...لأن المجتمع نفسه موجود مركب كان له حقوق، ولأنه ذو وحدة كان
له عمر وحياة وموت، بل لا يمكن أن لا يكون المجتمع كذلك، فالقول
بأصالة الفرد المؤدي إلى القول باعتبارية المجتمع ككل هو غلط
محض"[47].
وهو بذلك يرد الفرضية القائلة بأصالة المجتمع واعتبارية الفرد وأنه
مضمحل في المجتمع، فالفرد له أصالة والمجتمع له أصالة في نظر
الإسلام، ولكل منهما حقه[48].
وفي معرض الجواب عن سؤال: كيف لنا أن نحد من حرية الفرد لأجل
المجتمع على الرغم من رضا المجتمع بإعطاء الفرد حقه يقول:
"إن الرؤى الفردية المبتنية على العقد الاجتماعي ناقصة؛ إذ لا
يمكننا القول: إن شراكة الأفراد في المجتمع هي موافقة ضمنية على
هذا العقد. أما على المبنى القائل بأن للفرد حقوقاً فطرية، فإننا
في الوقت الذي نعتقد فيه بوجود حق طبيعي له نعترف بأن للمجتمع
أيضاً شخصية قانونية خاصة به، فانتماء الفرد إلى المجتمع يربط
مصيره بالغايات الاجتماعية وفق مقتضيات الطبيعة.فأساس تقدم الحقوق
الاجتماعية على الحقوق الفردية ناشئ أيضاً من هذا الأمر الطبيعي
وحقيقته كامنة فيه"[49].
ومن الواضح طبعاً أنه حينما يلحق الأفراد ضرر جراء تقدم المصالح
العامة على المنافع الخاصة يجب جبران ذلك، مثلا عندما تريد
البلديات أن توسِّع الطرقات وتستحدث معابر جديدة يحق لها أن ترفع
مالكية الأفراد بالقدر الضروري، لكن عليها في مقابل ذلك أن تدفع
لهم أثماناً لأملاكهم على نحو عادل[50].
عدم التعدي على الحقوق غير كاف
لا تنحصر مسألة مراعاة الحقوق الإنسانية عند مطهري بعدم التعدي
عليها، فمجرد منع الأفراد عن نقض حقوق الآخرين أو إلزامهم بتعويض
الظلم والاعتداء الصادر عنهم غير كافٍ، بل يشترط في العيش الجماعي
أن يُسمح للناس بالتعرف على حقوقهم ليتمكنوا من استيفائها. كما
ينبغي أن يكون استيفاء الحقوق المعطاة للبشر عبر الاستفادة من
وسائل الطبيعة، وإلا نكون قد كفرنا النعمة. وهكذا يجب أن يكون
المجتمع، فالإسلام يقبل الشخص القائل للحق والمطالب به، والجو
الاجتماعي يجب أن يكون من هذه الجهة حياً، فالمحيط الساكت والخانع
محيط مساعد على نمو جرثومة الظلم والظالمين.
والأمة الحرة هي الأمة التي تعطي لأفرادها حق التدخل في الأمور
الاجتماعية، وتحث أبناءها على الاستقامة، وتمنعهم من الانحراف[51].
يقول الإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر:
"إني سمعت رسول الله (ص) يقول في غير موطن: لن تُقَدَّس أمة لا
يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع"[52].
وبعبارة أخرى: بعد الفراغ عن الجانب السلبي في مورد الحقوق
السياسية – الاجتماعية؛ أي بعد الفراغ عن منع الأفراد عن هضم حقوق
الغير ينتقل مطهري إلى الجانب الإثباتي فيه، أي لزوم إحياء الحقوق،
وإيجاد الأرضية الملائمة لاستيفاء الحقوق، ويؤكد في هذا المجال على
التعاون الاجتماعي[53].
الإنسية أو الإلهية
قلنا فيما سبق: إن الحق والتكليف متلازمان في نظر مطهري، فمبدأ
الحقوق الطبيعية يسير في نفس الاتجاه الذي تسير عليه الحقيقة
والفضيلة. وإن كلا النظريتين، نظرية الاعتماد على الحقوق وحدها
وتجاهل المسؤوليات الإنسانية، ونظرية الاعتماد على التكاليف وحدها
وتجاهل حقوق الناس، باطلتان.
فالغرب يوم كانت تحكمه الكنيسة، ارتكب الخطأ الثاني، والحركات التي
قامت ضد الكنيسة في العصر الحديث وقعت في الخطأ الأول. واليوم نرى
في الفكر الغربي نظريات ترفع لواء الإنسانية، وتسعى إلى جعل إرادة
الإنسان محور الحقوق، على نحو تتحرر من كل التزام ما ورائي، وتفترض
خلو كل ما يدعو لها من كل هدف وقيمة.
فتوقعاته، وادعاءاته، ومنافعه، ومتطلباته كلها بنيت على أساس
الحقوق بعيداً عن الموازين القيمية. ولم تعتمد في بيان هذه الحقوق
إلا على القيم المادية الحسية والنفسانية، دون أن ترى في الإنسان
جهة أعلى من ذلك. فالقيد الوحيد المعترف به في هذه النظرية هو عدم
مزاحمة حرية الآخرين، وهو قيد تفرضه ضرورة الحياة الاجتماعية.
فدعاة المصلحة الفردية وقفوا عند حدود البدن وضمن إطار المنافع
الشخصية التي يقتضيها حفظ الحياة الجماعية التي يحتاجون إليها. وقد
انتقد مطهري هذا النوع من دعاة الإنسانوية من عدة جهات:
حيث إنهم عجزوا عن إثبات المبررات الكافية للحقوق، وكذلك لم يعرفوا
الإنسان حق معرفته، ولم يُوفَّقوا في نشر الفكر الإنساني وترويج
فكرة حقوق الإنسان.
فحول شرعة حقوق الإنسان، وتناقضها مع مدعيات الفلسفات الإنسانية
الحاكمة في الغرب يقول في كتاب نظام حقوق المرأة:
"إن الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان موضع تقدير وتكريم كل
إنسان ذي ضمير... ومن وجهة نظر هذا الإعلان يختص الإنسان بما له من
الكرامة والشرف الخاصين، بمجموعة من الحقوق والحريات التي لا
تملكها سائر الكائنات الحية التي تفتقر إلى الكرامة والاعتبار
الذاتي، وهنا تكمن قوة هذا الإعلان...ولكن لا بد أن نسأل:
ما هي حقيقة هذا الاعتبار الذاتي الذي منح الإنسان حقوقاً ميَّزته
عن الفرس والبقرة والشاة والطائر؟
وهنا ينكشف لنا تناقض واضح بين أساس الإعلان عن حقوق الإنسان من
جهة، وبين تقييم الإنسان في الفلسفة الغربية من جهة أخرى.
لقد سقط الإنسان في الفلسفة الغربية عن التقييم والاعتبار منذ سنين
طويلة...فقد هوى الإنسان إلى مستوى آلة جامدة، وأُنكِرَت روحه
وأصالته الإنسانية، وأضحى الاعتقاد بوجود غاية وهدف من حركة
الطبيعة عقيدة رجعية بالية. ولا يمكن التحدث في الغرب عن أن
الإنسان أشرف المخلوقات..." [54].
يبين مطهري أن المشكلة الاجتماعية التي تشغل البشر اليوم هي أنهم
نسوا أنفسهم، ونسوا ربهم أيضاً، وبدل أن يلتفتوا إلى واقعهم
وباطنهم مالوا إلى الدنيا الحسية والمادية. وما دام هذا النمط من
التفكير سائداً، وما دام الإيمان الديني مستبعداً، فلن يلقى هذا
الإعلان أي تأييد ومناصرة. "أليست فرنسا من أوائل العاملين على
تطبيق شرعة حقوق البشر، فأين كان هذا الإعلان في الحرب العالمية
الأولى والثانية؟ وأين كان في حرب الجزائر؟ أم لم يكن هناك حقوق
لهؤلاء البشر؟"[55].
ثم يوجه نقداً حاداً للوجودية الملحدة التي تفسر حرية الإنسان
بالتحلل من المسؤولية تجاه الله فيقول:
"يقول سارتر: أنا، وبدليل أني حر، أقول: ليس للإله وجود؛ لأنه لو
كان موجوداً لما تمكن الإنسان من أن يكون حراً، فلو كان هناك إله
فمعنى ذلك أن له ذهناً، وقد تصور طبيعتي في ذهنه قبل خلقي، وإذا تم
حضوري في ذهنه لا يعود بإمكاني أن أكون حراً، بل سأكون مجبوراً على
أن أكون كما كنت في ذهنه"[56].
وقد طُرِح عنوان أصالة الوجود بنحو آخر، ولكن ليس تحت هذا العنوان،
فقد جاء في كلمات علمائنا، وطبعاً وفق أساس قرآني، أن الإنسان ليس
كسائر الأشياء الطبيعية، فهو يختار ويصنع وجوده. من هنا، وبحسب
الملكات التي يكسبها في حياته يحشر يوم القيامة على صور مختلفة:
(شعر فارسي)
يا أخي أنت لست سوى فكرك وما غير ذاك إلا العظم واللحية
فـإن كـن فكرك زهرةً فالجنة وإن شـوكةً فأنت حطب جهنم
(شعر فارسي)
إذا كنت تطلب الجوهر فأنت معدن وإن كنت تبحث عن الروح فأنت روح
سأفشي لـك حـقيقـة هذا السر كـل ما تبحث عـنـه فـأنت هـو
وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يملك طينة وطبيعة وفطرة خاصة به، بل
معناه أن طبيعة الإنسان هي هكذا؛ أي ما يبحث عنه يتمظهر به.
يعتقد مطهري أن فكرة الإنسية والدفاع عن الإنسانية لا يمكن أن تكون
منطقية ومقبولة إلا بشرط الاعتقاد بوجود الله:
"هل يمكن أن تتحقق تلك المعنوية التي تقبلها غالب المذاهب الفكرية
المعاصرة والتي تسمى بالإنسية من دون أن تتوفر على العمق الذي
تقدمه الأديان؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان موجوداً معنوياً؛ بحيث
يتركز في نفسه البعد الإنساني، دون أن يتمكن من تفسير نفسه والعالم
تفسيراً معنوياً؟ أساساً، هل يمكن أن توجد المعنوية بدون الإيمان
بالله، وبدون الإيمان بالمبدأ والمعاد، وبدون الإيمان بمعنوية
الإنسان التي تقوم فيه على مبدأ غير مادي؟ الجواب عن كل هذه
التساؤلات هو النفي"[57].
الأشخاص الذين يُظهِرون محبة الإنسان والإنسانية بناءً على مبدأ
المادية وإنكار الدين لا يملكون منطقاً سليماً؛ لأنه من المسلَّم
به أن محبة الإنسان لا تعني محبة هذا الكائن الحي الذي يمشي على
قدمين ولو كان مجرماً، وكانت كل مسيرته ضد الإنسانية، وإلا لما كان
هناك أساس للتفريق بين الإنسان والحيوان والشجرة. من الطبيعي أن لا
تكون نتيجة المنطق المادي الذي يُنزِل الإنسان إلى الحد الحيواني
غير ذلك.
ونقول في جواب الذين يتظاهرون من جانبٍ بالحرص على خدمة الخلق وحمل
همه، ولكنهم من جانب آخر ينفون الله ويهملون أمره:
إن لم يَسِر الإنسان نحو الله، فلن يؤدي الحرص على إنسانيته.
والإنسانية مورد اهتمام الله، والله مورد اهتمام الإنسانية... فإن
قلنا: إن الإنسان يوجه همه إلى أبناء جنسه من دون الالتفات إلى
الله، كما في المذاهب المادية المعاصرة، فلن نصنع شيئاً لأجله، بل
ادعاء محبته والحرص عليه كذب محض. إن أولئك الذي يدعون أنهم يريدون
نجاة الإنسان عليهم أن يسعوا لنجاة أنفسهم. ماذا تعني نجاة البشر؟
ومم تكون نجاته؟ نجاته من أسر الطبيعة، ونجاته من عبودية أبناء
نوعه، هذا معنى الحرية...فما لم ينجُ الإنسان نفسه من محدودية نفسه
لن يتمكن من أن ينجي نفسه من أسر الطبيعة، ولا من أسر الآخرين.
الإنسان، في الإسلام، هو ذلك المخلوق الذي يهتم بالله؛ ولأنه يهتم
بالله فسيهتم بالبشر، ويهتم بالآخرين[58].
الهوية الحقيقية للإنسان، على ضوء الرؤية الإسلامية، قائمة على
مبدأ الحقيقة الإلهية، وشهود "الأنا" الحقيقي ليس منفصلاً عن شهود
الله. الإنسية - بالمعنى الحقيقي للكلمة- والإلهية كلاهما وجهان
لعملة واحدة. "من عرف نفسه عرف ربه".
__________________
[1] الإنسية (الهيومانيسم): عقيدة راجت في إيطاليا في النصف الثاني
من القرن الرابع عشر، وامتدت منها إلى بقية بلدان أوروبا، وكانت من
أهم عوامل إرساء العلم والثقافة المحدثين، وهي تقوم على مبدأ جعل
الإنسان مقياس كل قيمة، بل يزعم "كونت" أن الإنسانية أولى بالعبادة
من الله. (المترجم)
[2] أنظر: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 221 – 243.
[3] المرجع نفسه، ص168-169.
[4] المحقق الأصفهاني، حاشية على المكاسب، ج1، ص 10. والسيد أبو
القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، ج2، ص 47.
[5] بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 238.
[6] مطهري، نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص 14 – 15.
[7] راجع: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 228 و239 و241.
[8] لفظة "اعتباري" في هذا البحث مستعملة بمعنيين، أحدهما في مقابل
الأمر العيني، أي الشيء المرتبط بظرف العمل، والمدرج في عداد
الحكمة العملية على خلاف الحكمة النظرية، فبهذا المعنى يكون الحق
نحو من الاعتبار. وثانيهما يكون الاعتباري بمعنى الوضعي والتوافقي
في مقابل ما ليس كذلك، وبهذا المعنى تكون الحقوق الموضوعة اعتبارية
بينما الحقوق الطبيعة ليست كذلك، ونحن لاحظنا في هذه العبارة
المعنى الثاني(الكاتب).
[9] ر. ك. بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 240.
[10] المصدر نفسه، ص 240-241.
[11] المصدر نفسه، 233. وكذلك، ص 175.
[12] راجع: المصدر نفسه، ص172، و174، و228- 233، و238-242.
[13] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص 157.
[14] المصدر نفسه، ص 65- 66.
[15] المصدر نفسه.
[16] راجع: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 178.
[17] مطهري، عشرون محاضرة، ص73.
[18] بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 165.
[19] سورة البقرة: الآية 29.
[20] سورة الأعراف: الآية 1.
[21] راجع: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 166.
[22] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص186.
[23] بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص ص47.
[24] المصدر نفسه، ص 164-165.
[25] نهج البلاغة، خطبة 207.
[26] سورة الأنبياء: الآية 23. وراجع أيضاً في هذا الخصوص: الإسلام
ومقتضيات العصر، ج2، ص319-323.
[27] مطهري، الحكم والمواعظ، ص 110-117. (بتصرف)
[28] بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 239.
[29] راجع: مطهري، العدل الإلهي، ص47-50، وص63-64. (بتصرف).
[30] الحكم والمواعظ، ص 105-107.
[31] سورة الأحزاب: الآية 72.
[32] الحكم والمواعظ.
[33] نهج البلاغة، خطبة 166.
[34] المصدر السابق، خطبة 207.
[35] راجع: عشرون محاضرة، ص74. والحكم والمواعظ، ص 106- 108.
[36] راجع: المصدر السابق، ص29- 30.
[37] وسوف نتعرض لهذا الموضوع في مبحث: الإنسانية أو الإلهية.
[38] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص156 – 157.
[39] في رحاب نهج البلاغة، ص118 – 120.
[40] المصدر نفسه.
[41] في هذه الفقرة من كلام الأستاذ يوجد التفاتة دقيقة، وهي :
ليس فقط قبول الدين والتكليف تجاه الله لا ينفي الحقوق الطبيعية
والعدالة الاجتماعية بل بملاحظة القصور والضيق النظريين والعمليين
الموجودين في الفلسفات غير الإلهية في مجال توجيه الحق والعدالة،
وفي مجال إيجاد التأييد المنطقي للإلتزام بها، فإن الدفاع عن الحق
والعدالة لا يتيسر إلا بالرجوع إلى المنطق الإلهي.
[42] راجع: في رحاب نهج البلاغة، ص123-126.
[43] الحكم والمواعظ، ص108.
[44] بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 235-236.
[45] المصدر نفسه، ص189.
[46] مطهري، الإسلام ومقتضيات العصر، ج2، ص122-124. (نقل بتصرف)
[47] المصدر السابق، ج1، ص331. وكذلك راجع: بحث عام في مباني
الاقتصاد الإسلامي، ص 239.، ص 227.
[48] راجع: الإسلام ومقتضيات العصر، ج1، ص324- 335.
[49] راجع: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 233- 234.
[50] المصدر نفسه، ص235، وعشرون محاضرة، ص 135.
[51] راجع: بحث عام في مباني الاقتصاد الإسلامي، ص 233- 234.
[52] نهج البلاغة، قسم الكتب والرسائل، الكتاب 53.
[53] راجع: مطهري، الحكم والمواعظ، ص111- 112.
[54] نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص169- 175.
[55] مطهري، فلسفة الأخلاق، ص 268- 297.
[56] المصدر السابق، ص 215-216.
[57] مطهري، حول الثورة الإسلامية، ص136-137.
[58] مطهري، الإنسان الكامل، 53-54.