مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

مشروعية الحكومة العلوية بين الإلهية والبشرية
مصطفى جعفر بيشه فرد


مدخل
يمكن دراسة منشأ مشروعية الحكومة العلوية من زوايا مختلفة: تاريخية، علم اجتماعية، حقوقية، دينية، وسياسية، وتتمحور هذه المقالة، بحثاً وتحقيقاً، حول المشروعية السياسية للحكومة العلوية بعد مرورها سريعاً على المشروعات الأخرى المذكورة آنفاً.
نواجه، في ما يرتبط بالمشروعية السياسية للحكومة العلوية، ثلاث رؤى هي: المشروعية الإلهية، والمشروعية الإلهية ـ الشعبية، والمشروعية الشعبية، وسوف يجري في البداية عرض هذه المقولات الثلاث اعتماداً على كلمات مدّعيها.
وبعد ذلك ـ ومع الالتفات إلى السابقة الطويلة للمقولتين: الأولى والثانية؛ حيث ترجع إحداهما إلى أنصار الإمام علي (عليه السلام) فيما ترتبط الثانية بالفِرَق الإسلامية الأخرى، وكذلك نظراً لغزارة المؤلّفات والمصادر التي عالجتهما ـ سوف يتركّز البحث الرئيس على المقولة الثالثة ذات الجوانب الأكثر عملية، والتي تعدّ من المباحث السياسية الحيّة في المجتمعات المعاصرة، وعقب ذكر مستندات هذه الرؤية سنسلّط الضوء على تقييمها من وجهة عقلية، قرآنية، روائية، وإجماعية، وكذلك من ناحية المدى العملي لها على امتداد التاريخ... وذلك من خلال إبراز تأمّلات سبعة في هذا المجال.
وفي خاتمة المطاف، سوف تتمّ الإشارة المختصرة إلى دور الشعب في الحكومة العلوية وفقاً لمبنى مشروعيتها الإلهية.
1ـ المشروعية التاريخية للحكومة العلوية
عقب مقتل عثمان بن عفان وبقاء الخلافة وإدارة الأمور من دون تولّ، تجمّعت النخب والخواص، من الشخصيات البارزة للمهاجرين والأنصار وبقية الأفراد النافذين في المجتمع الإسلامي في تلك البرهة من الزمن، إلى جانب عدد كبير من أبناء مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)، في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، بهدف التفكير في حلّ للمسألة والقيام بالاستشارات والمشاورات اللازمة في هذه القضية المهمّة والحيوية، وقد غصّ المسجد بالحاضرين...
وعلى أثر اقتراح بعض الخواص والسابقين في ساحات الإيمان والجهاد، من أمثال عمار بن ياسر وابن التيهان وأبي أيوب الأنصاري، وإرشادهم، وكلماتهم المضيئة في ما يتعلّق بفضل أمير المؤمنين (عليه السلام) وسابقته وجهاده وقرابته، تبلورت الاستعدادات المتراكمة بفعل أحداث خمس وعشرين سنة الماضية، فاتفقت كلمة الجميع على علي (عليه السلام), لقد تدفّق الناس من الخواص والعوام إلى منزل أمير المؤمنين (عليه السلام) كسيل جارف من العواطف والإحساسات، وتجمّع هذا الحشد الكبير على باب منزله واضعين الإمام (عليه السلام) بكلمتهم الواحدة تحت الضغط ليقبل بتولّي منصب الحكومة والولاية... تلك هي الحادثة التي حصلت للمرّة الأولى والأخيرة في تاريخ الخلافة[1].
يقول الإمام (عليه السلام) في وصف هذه البيعة: (وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب)[2].
إنّ الخطوة الأولى للإمام (عليه السلام) تمثّلت في رفضه اقتراح البيعة والخلافة له؛ فقد كان (عليه السلام) مطّلعاً على الأوضاع، ولم يكن يرى الأرضية الاجتماعية مهيأة للقيام بإصلاحات والرجوع إلى الخطوط الأصلية المرسومة في الكتاب الإلهي والسنة النبوية، وكان يعلم أن تغيّرات المجتمع قد بلغت من كثرة التبدّلات والتنوّعات ما بلغت... وغطّت الفتنة كل مكان، وبدا مصير الحركة مجهولاً غامضاً، إذ فقد المجتمع قدرة تحمّل القيم العلوية والعودة إلى مرحلة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لقد قال (عليه السلام) في بيان رفضه هذا: (دعوني والتمسوا غيري... وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً)[3].
إلا أنّ ذلك لم يُنه ضغط الشعب، ما جعل الإمام مضطرّاً لقبول البيعة والحكومة، إلا أنه قال: (فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا في المسجد)[4]
ووفق نقل بعض المؤرّخين تمّت البيعة يوم السبت الواقع فيه التاسع عشر من ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين للهجرة، لقد كانت بيعة علنية وواضحة للخليفة الرابع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ حيث اتجّه الجميع من شبّان وشيوخ، رجال ونساء، مهاجرين وأنصار، إلى المسجد، لقد جرت البيعة بمشاركة سياسية منقطعة النظير ولا سابق لها، ممزوجة بالعشق غير الموصوف وأمام أعين الجميع، واستقرّت من ثم قواعد الحكومة العلوية مع هذه المشروعية التاريخية انطلاقاً من الانتخاب الحرّ ومن إرادات الشريحة الكبرى في المجتمع، لتتلألأ وتبعث بنورها الوضّاء إلى كل مكان[5].
إنّ النقولات الحاكية عن مبدأ شرعية الحكومة العلوية في التاريخ ومشروعيتها لا تحكي عن اختلاف بين الفِرَق الاثنين والسبعين للمسلمين، بل إنّ التأييد العام كان هو الدعامة لهذه الخلافة.
2 ـ المشروعية العلم اجتماعية للحكومة العلوية
المقصود بالمشروعية العلم اجتماعية هو مبدأ القبول والاعتراف بالسلطة والاقتدار السياسي لدى مختلف شرائح المجتمع؛ فطبقاً لفكر ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني المعروف، فإن الحكومات التي تريد أن تحوز طاعة المواطنين لها، تسعى لتسويغ سلطتها وإبرازها على أنها سلطةٌ مشروعةٌ، وبحسب رؤية (فيبر) العلم اجتماعية، تمنح السلطة نفسها المشروعية عن طريق أحد أمور ثلاثة هي: الطريق التقليدي، الطريق الكاريزمي والطريق العقلاني ـ الحقوقي.
والمسألة المهمّة في تحليل العنصر المشترك، في كلمات فيبر، هي أنّ نظرته لمسألة المشروعية إنما هي نظرة علم اجتماعية،أي أنه يرى(المشروعية) بنحو لا تختلف فيه كثيراً عن (المقبولية)، فقد كان فيبر في صدد العثور على جواب لهذا التساؤل، وهو: كيف تكتسب السلطات المختلفة القبول لدى الشعب؟ وما هو الطريق الذي تتبعه في هذا الصدد؟ وما هي التسويغات التي تقدمّها لذاتها أمامهم؟ إنه يرى أنّ هذه الطرق الثلاثة المذكورة هي الجواب عن أسئلته هذه[6].
ووفقاً للمقدّمة السابقة، كيف يمكن تفسير قبول المسلمين للحكومة العلوية؟ ومعرفة أنه عن أي طريق جرى اكتسابها للمشروعية العلم اجتماعية؟ إذ إنّ الجواب عن هذا السؤال ليس بهذه الصعوبة، ويمكن الادّعاء بأن الرؤى ـ من ناحية علم اجتماعية ـ متوحّدةٌ ومتّفقةٌ أيضاً في ما يتعلّق بأساس مشروعية الحكومة العلوية، فبالإضافة إلى أنّ الخصوصيات الشخصية والفردية لهذا الإمام (عليه السلام)، من حيث العلم والشجاعة والتدبير والتقوى، ومن حيث السوابق التاريخية لا سيّما ما يعود إلى زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل الهجرة وبعدها، وما يتعلّق ببروزه في معارك بدر وأحد وخيبر وفتح مكة من جهة، وقرابته وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكونه من قريش ـ حيث تروي مصادر أهل السنة أن (الأئمة من قريش)[7] ـ من جهة أخرى .... بالإضافة إلى أنّ ذلك كلّه قد هيّأ الأرضية المناسبة للاعتراف التقليدي والكاريزمي به (عليه السلام)، إلا أنه على أية حال فإن الشيء الذي يمثّل محور المشروعية الاجتماعية لحكومته (عليه السلام) هو تلك البيعة والموافقة من جوانب الشعب لا سيّما من شورى المهاجرين والأنصار.
من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي، فإنّ ما حدث مع الإمام (عليه السلام)، في يوم البيعة، في الساحة السياسية للمدينة المنورة، كان إلى حد مُعيّن من نوع المقبولية العقلانية ـ الحقوقية، وهو أمرٌ استثنائي ولا مثيل له خلال مئات السنين من عمر الخلافة سواء في ذلك قبله أم بعده (عليه السلام)، كما هو الحال في اعتماد الإمام (عليه السلام) ومراراً على هذه المشروعية الاجتماعية لحكومته، فقد أعلن وبالصوت العالي في قبال الناقضين للبيعة من أمثال طلحة والزبير، قائلاً لهم: (أما بعد فقد علمتما، وإن كتمتما، أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما ممن أرادني وبايعني، وإن العامّة لم تبايعني لسلطانٍ غالبٍ(غاصب) ولا لعرضٍ حاضرٍ..)[8]
يسوّغ الإمام (عليه السلام)، في هذا النص المتقدّم، سلطته وحاكميته ببيعة الناس وتقديمهم إياه لتسلّم الولاية، ويعرّفها بوصفها نوعاً من المقبولية العقلانية ـ الحقوقية، إلا أنه وعقب الخطبة الأولى للإمام (عليه السلام) بعد البيعة، هبّت رياح المعارضة له، كما أن الأشخاص الذين شعروا بأن منافعهم غير المشروعة مهدّدة بالخطر قاموا بالعمل على الفتنة لدى سماعهم الخطوط العامة لحكومة الإمام (عليه السلام) ليحدثوا بذلك أزمة مقبولية لهذه الحكومة[9].
3ـ المشروعية القانونية للحكومة العلوية
إنّ البحث عن المشروعية القانونية إنما يعني بالإجابة عن السؤال الآتي: هل الحكومة مطابقة للقانون أو لا، وهل يجيز القانون مثل هذه الحكومة؟ مع غض النظر عن حقّانية النظام القانوني الحاكم على المجتمع أو عدم حقّانيته والاعتقاد بصحته أو عدم صحته، فإنه، ولأجل الحيلولة دون وقوع الهرج والمرج، وبهدف تأمين الأمن والاستقرار والهدوء والمصالح العليا، على جميع الأشخاص الذين قبلوا الحياة داخل المجتمع أن يرتبطوا بالنظام القانوني الحاكم وأن يكون لهم إزاءه التزامٌ عمليٌ، حتى لو كانوا يرونه من الناحية النظرية والفكرية غير صحيح؛ ومن هنا يُطالب الكفّار الذمّيون الذين وافقوا على العيش داخل المجتمع الإسلامي بالتدليل على التزامهم العملي بشرائط الذمّة والقوانين الحاكمة على المجتمع الإسلامي، حتى ينعموا بالاستفادة من العطاءات القانونية للمجتمع والاستظلال بمظلّة الهدوء والأمن والاستقرار والدفاع عن حقوقهم، حتى لو كانوا غير معتقدين في تصوّراتهم الخاصّة بهذه القوانين، والشيء الذي نلاحظه اليوم أيضاً في دساتير البلدان المختلفة إنما هو أنموذجٌ آخر لهذا الواقع، فإن كافة الفئات والاتجاهات ـ وبقطع النظر عن الرؤية الكونية والبُنى الفلسفية والمدرسية التي تؤمن بها ـ ملزمةٌ بالاعتراف بالدستور وبالتدليل على ارتباطها به حتى لو لم تكن قد وافقت عليه.
وطبقاً لهذه المقدمة، لابدّ ـ في مقام الإجابة عن التساؤل المتقدّم، وهو: ما هي المشروعية القانونية للحكومة العلوية؟ ـ من القول: إنه بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) تمّ الاعتراف بشكلٍ معيّنٍ للخلافة كما تمّ منحه الاعتبار والقانونية، ألا وهو انتخاب الخليفة عن طريق شورى المهاجرين والأنصار، وذلك بالرغم من أنّ هذه الطريقة لم تكن محل قبول الكثير من الصحابة وأعيان المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يرونها حقّة ومشروعة، إلا أنها كانت تعد المنشأ الوحيد للمشروعية القانونية للحكومة والخلافة، أي أنّ الحكومة التي كانت تتمّ عن طريق شورى المهاجرين والأنصار كانت تتّسم بالمشروعية القانونية، وهذا المبنى القانوني قد تمّت الموافقة عليه من قِبَل الجميع طوعاً أو كرهاً.
ومن هنا فليس ثمّة اختلافٌ بين المشروعية القانونية للحكومة العلوية والمشروعية القانونية لحكومة الخلفاء السابقين، نعم, هل أنّ الإمام (عليه السلام) وكذلك الموالين له كانوا يعدّون هذا النظام القانوني، سالف الذكر، حقاً أو لا؟ وهل أنهم كانوا يرون له المشروعية القانونية أو السياسية أو لا؟... إنّ هذه مسألةٌ أخرى..، إلا أنّ هذه الطريقة كانت هي الطريقة الجارية والمعترف بها، كما أنّ الإمام (عليه السلام) كان يحتجّ بها على مخالفيه من أمثال معاوية، فإن معاوية لم يكن من أولئك الذين حضروا يوم البيعة في المدينة كما أنه لم يبايع الإمام (عليه السلام)، إلا أن الإمام كان يدعوه ـ مع ذلك ـ في رسالته إليه ـ والتي يشير فيها إلى المشروعية القانونية المتقدمة لحكومته ـ إلى إتباعه وإطاعته: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار)[10].
نعم، هل كان احتجاج الإمام هذا برهانياً أو جدلياً؟ إنّ ذلك موكولٌ لمباحث أخرى، إلا أنه على أية حال كاشفٌ عن المشروعية القانونية لدولته (عليه السلام).
إنّ من النقاط المثيرة للتعجّب، في ما يتعلّق بالحكومة العلوية، أنّ حقّانية هذه الحكومة مؤمّنة ومضمونةٌ طبقاً لكافة المباني، وهي معدودةٌ من إجماعيات كافة الفرق الإسلامية، ومن هذه الجهة يمكن مقارنة الحكومة العلوية بالحكومة النبوية فقط لا غير، وعلى خلاف حكومة الخلفاء الثلاثة السابقين ـ والتي لم تحز على إجماع من هذا القبيل في ما يتعلّق بحقّانيتها ـ لم تتمكن التساؤلات والاستفهامات من مواجهة حقّانية الخليفة الرابع؛ لأنها كانت عميقة ومستحكمة على مستوى مشروعيتها القانونية، لا سيّما بالنسبة لأولئك الذين كانوا يرون حقّانية الحكومة قائمة على الشورى.
4ـ المشروعية الدينية للحكومة العلوية
المقصود بالمشروعية الدينية كون الحكومة مورداً لتأييد الشريعة الدينية، واعترافها بالسلطة وتصرفاتها في أموال الناس ونفوسهم.
ليس ثمّة اختلاف نظري بين المسلمين في ما يتعلّق بالمشروعية الدينية لحكومة الإمام علي (عليه السلام)، وفي أن دولته قد أُقِرَت من قِبَل الشرع أو لا؟ فقد قبل السنة والشيعة ـ متفّقين ـ مشروعيتها الدينية، إلا أنه ومنذ صدر الإسلام وحتى اليوم طرحت رؤيتان متفاوتتان إلى تفسير هذه المشروعية انطلاقاً من الاختلافات البنيوية بين الشيعة والسنة في مسألة الإمامة، والنزاع التاريخي القديم بين هاتين الطائفتين ينبعث متبلوراً من هذه النقطة بالذات، فباستثناء بعض من الخوارج الذين يرفضون مبدأ لزوم الإمامة توافق الفرق الإسلامية على أصل ضرورتها ووجوبها[11]، وذلك مع تفاوت يتمثل في: أنّ الشيعة يرون وجوب النصب والتعيين على الله تعالى[12]، وحيث إنّ وجوب شيء على الباري تعالى يعني الضرورة الوجودية وظهورها من ناحيته، فإن الإمامة سوف تصبح وفق ذلك من المسائل الكلامية[13]، وذلك بخلاف قاطبة أهل السنة فإنهم يعدّونها من المسائل الفقهية[14]، ويرون وجوبها تكليفياً يتحقق بانتخاب الشعب وتعيينه[15]وطبعاً فإن أهل السنة الذين يعدّون المشروعية الدينية للحكومة شعبية ينقسمون إلى فئتين أساسيتين هما:1 ـ أتباع الوجوب الشرعي للإمامة،2 ـ وأتباع الوجوب العقلي لها.
يرى أكثرية أهل السنة، من الأشاعرة وبعض المعتزلة، أن وجوب نصب الإمام على الناس إنما هو وجوبٌ تكليفيٌ شرعيٌ تعبديٌ، ويثبت الغزالي هذا الوجوب بالاستعانة بمقدمات ثلاث هي:
1 ـ إن نظام أمر الدين مقصودٌ لصاحب الشرع (صلى الله عليه وآله).
2 ـ إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.
3 ـ إن نظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاعٍ.
والمقصود بالدنيا، في تصور الغزالي هنا، هو تلك الأمور التي يحتاجها الإنسان قبل الموت وتوجب سعادته الأخروية، لا الدنيا التي تعني التنعّم واللذات الزائدة عن الحاجة[16].
إلا أن هناك فريقاً آخر من المعتزلة كان يرى أيضاً نصب الإمام والمشروعية الدينية للحكومة أمراً شعبياً، بَيْدَ أنه كان يعدّه حكماً عقلياً؛ وذلك لأن وجود القائد يختزن منافع كثيرة جداً، كما أنه مانع عن المفاسد والأضرار أيضاً.
وبناءً عليه فعلى الشعب ـ عقلاً ـ القيام بانتخاب شخصٍ لمقام قيادته( أي الشعب) وحاكميته[17].
واستتباعاً للتفاوت، في المبنى، بين الشيعة والسنة، في ما يتعلّق بالمشروعية الدينية للنظام السياسي مثّلت الحكومة العلوية مصداقاً لهذا الاختلاف.
فأهل السنة كانوا يرون المشروعية الدينية للحكومة العلوية نتاجاً لشعبيتها وانتخابيتها، وفي نظرهم فإن المجتمع الإسلامي في تلك المرحلة الزمنية قام بواجبه الشرعي، أو العقلي، يوم البيعة بانتخابه علياً (عليه السلام)، وقد وقع عملهم هذا مرضياً للشارع ومتطابقاً والمقررات الدينية.
وفي المقابل يعتقد الشيعة القائلين بالنّصب الإلهي لعلي (عليه السلام)[18]أن مبايعة الناس أمّنت الاستقرار للحكومة الإلهية للإمام (عليه السلام)، وهم بذلك يكونون قد أدّوا ـ وبعد سنين ـ تكليفهم الشرعي المبني على الطاعة للإمام المنصوب من قبل الله تعالى.
وعلى هذا الأساس، فقد كان هناك ـ على امتداد تاريخ المناقشات الإعتقادية والكلامية بين الفرق الإسلامية ـ نظريتان في ما يتعلق بالحكومة الشعبية، ولم يحلظ وجود أية نظرية أخرى ـ مع الأخذ بالاعتبار المباني المذكورة ـ في أي كتابٍ من الكتب الكلامية والعقدية أو الكتب الفقهية.
إنّ المسألة المهمة، في هذا البحث، تتمثل في الالتفات إلى المباني المشتركة والأصول الموضوعية المقبولة في الرؤيتين المتقدمتين، فمن جملة المباني المشتركة بين هاتين النظريتين، في ما يرتبط بالمشروعية السياسية للحكومة العلوية، والتي سيشار إلى أهميتها لاحقاً، القبول بالحكومة ونظام الإمامة السياسي بوصفه أمراً دينياً، واعتبارها من الأجزاء التي لا تنفك عن جسد الشريعة الإسلامية، فعلى امتداد تاريخ المنازعات الكلامية والعقدية لم يحصل أبداً أي اختلاف أو شقاق بين المسلمين في ما يتعلق بتعريف الحقيقة السياسية للإمامة والولاية وقبولها وضرورتها ولزومها بوصفها أمراً دينياً باستثناء بعض من الخوارج[19]، لقد اندرج تصور المسلمين للإمامة والخلافة ضمن هذا النوع من التعريفات من قبيل (الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا)[20]، أو (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة وحراسة الدين وسياسة الدنيا)[21]، ويعرّف ابن خلدون ـ في مقدمته ـ حقيقة الخلافة بأنها: نيابة عن صاحب الشرع في مجال حفظ الدين وسياسة الدنيا، وعلى أساس ذلك يصنّف تصرفات صاحب الشرع إلى نوعين: تصرفات دينية وأخرى دنيوية، ويعتقد أن التصرفات الدينية نابعة من التكاليف الشرعية التي يجب على صاحب الشرع إبلاغها للناس وتوجيههم وهدايتهم على ضوئها.
أما التصرفات والسياسات الدنيوية فهي نابعة من متطلبات رعاية مصالح الناس في مجال العمران والبناء[22].
ويقول أبو حامد الغزالي، في مجال العلاقة بين الدين والسلطان: (الدين والسلطان توأمان، والدين أسّ والسلطان حارس)[23].
بَيْدَ أن الشيعة والسنة ـ ومع قبولهم بهذه الرؤية المشتركة واعتبارهم لها أمراً دينياً ـ قدّموا رؤيتين مختلفتين في ما يرتبط بحقيقة الحاكمية السياسية وكيفية الوصول إلى السلطة والمشروعية الدينية، وهاتان الرؤيتان هما: الرؤية الإلهية والرؤية الشعبية، وطبعاً فإن نظرية المشروعية الشعبية، حيث إنها تنتهي إلى رضا الشارع تعالى، فإنها سوف تكون مشروعية إلهية أيضاً، ومن هنا يمكن التعبير عنها بالمشروعية الإلهية ـ الشعبية.
5 ـ المشروعية السياسية للحكومة العلوية
تعد مسألة المشروعية السياسية من أهم المباحث المرتبطة بعلم السياسة والفلسفة السياسية وأعمقها، وهي تنفرد من بين أنواع المشروعيات التي تقدمت حتى الآن بأنها أكثرها بنيوية، والمقصود من تعبير المشروعية السياسية الرائج هو الجواب عن هذا التساؤل: من هو الشخص الذي له الحق في الحاكمية والإلزام السياسي؟ وفي الواقع فإن مسألة المشروعية السياسية ومسألة حق الحكم وإلزام الناس بالطاعة والتبعية تعني: لماذا يحق للحكومة ممارسة الحكم والإلزام؟ ولماذا يجب علينا إتباع أوامرها؟ إنّ هذين السؤالين متفاوتان، بَيْدَ أنهما في الحقيقة سؤال واحد ألا وهو البحث عن المشروعية السياسية.
هناك اتجاهات مختلفة في ما يتعلق بالمشروعية السياسية للحكومة العلوية يمكن ملاحظة أبرزها في هذه الرؤى الثلاث، وهي:
1ـ الرؤية الشيعية القديمة، ألا وهي المشروعية الإلهية.
2ـ الرؤية السنية القديمة ألا وهي المشروعية الإلهية ـ الشعبية.
3ـ الرؤية التي يراها بعض المثقفين المعاصرين وهي المشروعية الشعبية.
وفي البداية، لابد لنا من تبيين هذه الرؤى الثلاث، لا سيّما الرؤية الثالثة نظراً لجدّتها، وعقب ذلك ـ ونظراً لعدم وجود المجال الكافي للبحث الموسّع ومن كافة الجوانب لهذه الرؤى الثلاث من حيث الأدلة والمستندات ومن حيث نقاط التمايز في ما بينها ـ سوف يقتصر على إبراز تقييم موجز للرؤيتين الثانية والثالثة بصورة مشتركة وفي وقت واحد.
1 ـ المشروعية الإلهية للحكومة العلوية
بعد رحيل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) تخلّف بعض من كبار الصحابة، من أمثال سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، عن مبايعة الخليفة الأول متبّعين الإمام علياً (عليه السلام)، وقد شكلت هذه المجموعة النواة الأولى لمدرسة الأتباع للعترة الطاهرة (عليهم السلام)، معتبرة أنّ الخلافة والولاية حق إلهي للإمام علي (عليه السلام)، وعلى امتداد خمس وعشرين سنة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبالرغم من وفاة ثلاثة من هؤلاء غير عمار بن ياسر إلا أن جمعاً من الصحابة وعدداً كبيراً من التابعين من الحجاز واليمن والعراق انضمّوا إلى أتباع علي (عليه السلام)، وقد اتّجهوا جميعاً من كل حدب وصوب إلى الإمام عقب مقتل الخليفة الثالث وانتخبوه لمنصب الخلافة[24]، لقد قبل هؤلاء المشروعية السياسية للحكومة العلوية على أساس النص والنصب الإلهي فقط، وقد كانت هذه النظرية على امتداد التاريخ أيضاً من الرؤى الخاصة بالشيعة ولم تنسب إليهم أية نظرية أخرى[25]، فالبارزون من علماء الشيعة ـ ووفقاً لتعاليم العترة الطاهرة (عليهم السلام) التي بلورت وبنت جذور التشيّع وأسسه على مفهوم الإمامة ـ كانوا يرون الدولة والحكومة حقاً، كما كانوا يعدّون أوامرها ملزمة الإتباع، وبالتالي فهي تتمتع بحق الإلزام السياسي وفقاً لما جعله الخالق تعالى لها من الحق في إصدار الأحكام.[26]
ووفقاً للرؤية الشيعية للتوحيد والربوبية التشريعية، لا يرى الإنسان الموحد غير الله تعالى أهلاً للطاعة وإعطاء الأحكام، بل إن مشروعية أي سلطة سياسية وأي قانون لابد من أن تكون مستمدة من مبدأ الربوبية، وإلا فإن الجهاز السياسي أو الحقوقي الذي يقع في عرض النظام التشريعي الإلهي سوف يكون معارضاً بشكل واضح لنظام التوحيد ويعد بالتالي طاغوتاً، وطبقاً لهذا المبنى سوف نلاحظ الترابط بين المشروعية الدينية والمشروعية السياسية على أساس النصب الإلهي في النظرية الشيعية، فالحكومة التي تحوز على المشروعية السياسية حائزة بالتبع على المشروعية الدينية، ومنشأ هاتين المشروعيتين لابد من أن يكون مبدأ جعل الولاية والربوبية التشريعية الإلهية.
وعلى أساس المبنى المذكورة فإن حكومة الإمام علي (عليه السلام)، كما كانت حائزة على المشروعية الدينية ومحلاً لتأييد الباري تعالى، فقد كانت حاصلة على المشروعية السياسية وحق الإلزام والآمرية أيضاً، وأساس هذين الأمرين كان هو النصب الإلهي لعلي (عليه السلام) للإمامة.
إنّ المستند الشيعي للمشروعية السياسية والدينية للأمير (عليه السلام) ـ بالإضافة إلى الأدلة العامة لبحث الإمامة كقاعدة اللطف والحكمة الإلهية ـ هو النصوص الخاصة المدرجة في الكتاب والسنة والدالة على نصب الإمام علي (عليه السلام) للتولّي والخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)؛ ففي قاعدة اللطف يقال: إن (الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض)[27]أي أن اللطف من فروع الحكمة الإلهية، فعباد الله تعالى لا يعرفون الكثير من مصالحهم ومفاسدهم في أمور دنياهم وآخرتهم والخالق الحكيم لم يخلق الخلق عبثاً وإنما خلقهم للكمال والعبادة، وهو أمرٌ غير ممكن من دون إرسال الرسل والأنبياء والتكاليف، إذاً فمن الواجب عليه تعالى إرسال الرسول، وحيث إنّ الرسول أيضاً كبقية الناس مفارق للدنيا كما تقتضيه الحكمة الإلهية احتاجت الناس إلى الإمام المعصوم ـ حيث لا خليفة للرسول ـ نظراً لحب الشهوات والرياسة الغالب على الناس وقلة العلم واليقين الأقل من الكبريت الأحمر[28]، ومعه فوجود الإمام لطف واللطف واجبٌ على الله تعالى، وبناءً عليه فلأجل تحقق الأغراض الدينية والدنيوية للشارع لابد من نصب إمام لرئاسة المجتمع دينياً ودنيوياً.
وبالإضافة إلى دليل اللطف الذي يثبت الإمامة العامة، هناك في ما يتعلق بالإمامة الخاصة لعلي (عليه السلام) آياتٌ كآية الولاء وآية أولي الأرحام وأحاديث، كحديث الغدير وحديث المنزلة تمثل دليلاً على نصبه (عليه السلام)، وتدلل على أن الحكومة العلوية سواء في مجال المشروعية السياسية أم في مجال المشروعية الدينية منبثقة عن المبدأ المتعالي والحكيم على الإطلاق سبحانه[29].
ووفقاً لهذه الرؤية يصبح انحصار دور رأي الناس وبيعتهم في إبراز الأرضية لإعمال الولاية واضحاً، وبعبارة أخرى دور الانتخاب لا يكمن في المشروعية الدينية أو السياسية وإنما يبرز تأثيره بشكل شفّاف وواضح على مستوى المشروعية الاجتماعية وعنصر المقبولية والاعتراف العام، وطبعاً لا يوجد أي تلازم منطقي ولا تكويني بين المشروعية السياسية والمشروعية العلم اجتماعية، فكم من حكومة حائزة على المشروعية السياسية بَيْدَ أنها من منظور علم الاجتماع ـ ونظراً لعدم ترحيب المواطنين بها ـ تواجه أزمة مشروعية، أو العكس، بحيث أنها حائزة على المشروعية العلم اجتماعية وعلى عنصر المقبولية إلى حد كبير بَيْدَ أنها تعاني من مسألة الحقّانية والمشروعية السياسية، وعليه فالرابطة بين هذين الأمرين هي العموم والخصوص من وجه، والمثال على مادة افتراق الأول منهما هو حكومة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)؛ إذ إنها بدليل عدم المقبولية لم تستطع الاستمرار في الحياة؛ وذلك بالرغم من كونها ذات مشروعية سياسية ودينية، أما المثال على مادة افتراق الثاني فهو حكومة بعض من خلفاء صدر الإسلام أو الحكومات المدّعية للديمقراطية الحالية؛ فإن هذه الحكومات بالرغم من حيازتها على الاعتراف العام إلا أنها ـ في نظر الكاتب ـ فاقدة للمشروعية السياسية، وبعض منها ثابت بوضوح أنه ليس لديه ولم تكن لديه مثل هذه المشروعية.
2ـ المشروعية الإلهية ـ الشعبية للحكومة العلوية
لا تختلف الرؤية القديمة والتاريخية لأهل السنة، في ما يرتبط بتفسير المشروعية السياسية للحكومة العلوية وتبيينها، عن رؤيتهم للمشروعية السياسية للخلفاء الذين سبقوه.
إنّ من الأهمية والحساسية بمكان الالتفات إلى مسألتين مهمتين ترتبطان بالمشروعية في فكر أهل السنة ألا وهما:
الأولى: أن أهل السنة بالاتفاق يرون في الخلافة والإمامة جزءاً ماهوياً للدين ويعدونها من الذاتيات الجوهرية الداخلية للشريعة الإسلامية، وقد جرت الإشارة إلى هذه المسألة في بحث المشروعية الدينية آنفاً.
الثانية: إنّ الطريق المشروع لإحراز هذا المنصب إنما يكون ـ وفق النظرية السنية ـ من خلال النص والنصب من طرف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الإمام السابق. وفي غير هذه الحالة، فإن الاختيار والانتخاب من قِبَل أهل الحلّ والعقد وبيعة عموم الناس سوف تمنح الحكومة المشروعية السياسية.
يرى السيد شريف الجرجاني ـ في شرح المواقف في المقصد الثالث(في ما تثبت به الإمامة)، ولدى بيانه طرق تعين الإمامة ـ أن مجرد اللياقة وتوفّر جملة مميزات في فرد ما ليسا موجبين لإمامته وقيادته، بل إنه بالإضافة إلى ذلك لابد له من توفّر أمر آخر يكون هو المظهر والموجد للإمامة ومانح المشروعية للحكومة: (وإنما تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع، وتثبت أيضاً ببيعة أهل الحل والعقد عند أهل السنة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية، خلافاً للشيعة)[30].
والفخر الرازي ينقل شبيه هذا الكلام أيضاً[31]، وطبعاً فإن بعض أهل السنة يبرزون طريقاً ثالثاً لإثبات المشروعية بالإضافة إلى الطريقين المتقدمين، ألا وهو (الثالث: القهر والاستيلاء)[32]، أي الحصول على السلطة من طريق القهر أو الإجبار والاستفادة من الضغط والقوة، وبناءً عليه فعندما لا نعثر على نص ونصب من طرف القائد السابق فإن التكليف الشرعي أو العقلي لأهل الحل والعقد وعامة الناس يتمثل في إقدامهم على تعيين إمام جديد.
وعلى أساس هذا المبنى نفسه رجع الناس إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أثر فقدان الخليفة الثالث وانتخبوه للخلافة والإمامة، وكما يقول الغزالي: (وإمامة عليّ بالتفويض فلا تلتفت إلى تجاهل من يدّعي أنه (صلى الله عليه وآله) نص على علي)[33].
والمستند لنظرية أهل السنة في استحصال الحكومة العلوية المشروعية السياسية من انتخاب أهل الحلّ والعقد ومن بيعة عامة الناس، عبارةٌ عن:
أ ـ أدلة عامة وكلّية يشرحونها في تبيين مبناهم، ويعتقدون أنه، وبظهور الحكومة العلوية، تحقق مصداق خارجي لهذه الأدلة، وصار لها تحقق عيني.
ب ـ وأدلة خاصة.
إنّ أكثر الأدلة العامة ـ المشاهدة في الكتب السنية القديمة ـ عمدة وأساسية هو إجماع الصحابة، يذكر القوشجي المتكلم البارز لأهل السنة فيقول: (وتمسك أهل السنة بوجوه: الأول، وهو العمدة، إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول (صلى الله عليه وآله) وكذا عقيب موت كل إمام)[34].
الاستدلال الثاني لأهل السنة ـ والملاحظة في الكتب القديمة أيضاً ـ عبارة عن أن الشارع قد وجّه مجموعة من الأوامر إلى الناس كإقامة الحدود، حفظ الثغور، تجهيز القوة العسكرية للجهاد، وبشكل عام التكاليف المربوطة بحفظ النظام والدفاع عن أساس الإسلام وبنائه، ومثل هذه التكاليف ليست ميسّرة إلا في ظل وجود إمام وحاكم، ومن هنا يجب على الناس ـ وبعنوان المقدمة ـ القيام بهذا التكليف وإنجازه[35].
وبالإضافة إلى ذلك كلّه، ركّز المفكّرون الجدد على تكثير الأدلة لتدعيم مبنى الانتخاب لدى أهل السنة وتقويته وتحكيمه، ومن جملة هذه الأدلة آية الشورى {وأمرهم شورى بينهم}، إذ بقرينه كلمة (أمر) في هذه الآية الناظرة إلى السياسة والحكومة لا يكون المقصود المشورة في إعمال الولاية فقط بل هي جارية في التصدّي أيضاً، وهي بذلك ترشد إلى أنّ الولاية تنعقد بانتخاب الناس وشورى أهل الخبرة، فالشخص الذي يتعيّن ويعرف بعد مشورة أهل الخبرة الكاملة، ومن ثم يبايعه المواطنون يصبح إماماً، وبالتالي تكتسب حكومته المشروعية.
وهذا المنهج المرضي للشارع كان مورداً لعمل المسلمين منذ اليوم الأول لغروب شمس النبوة، وقد تم تطبيقه في انتخاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً[36].
المستندان الرابع والخامس لأهل السنة هما السنة القولية والفعلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أكّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ أولاً ـ في كلماته على وجوب نصب الإمام على الأمة، ومنع بقائها بلا إمام، كما أنه لم يُعيّن ـ ثانياً ـ شخصاً بعد رحيله، وإنما أحال الأمر إلى الناس أنفسهم، وهو بتشريع نظام البيعة يكون قد رسّخ منهج اكتساب المشروعية للنظام السياسي الإسلامي [37].
ما تقدّم كان عبارة عن المدرك العام لمبنى أهل السنة على الإمامة وحكومة الإمام علي (عليه السلام) ومشروعيتها السياسية، أما الأدلة الخاصة التي يمكنها أن تشكّل أدلة أهل السنة فهي: التمسّك ببعض من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحاديثه والتي تبيّن المشروعية السياسية للحكومة في موارد متعددة على أساس البيعة، كما وعلى أساسها استدل واحتجّ الإمام (عليه السلام) لإثبات حقّانية حكومته ومشروعيتها، وذلك من قبيل الرسائل التي كتبها إلى معاوية وطلحة والزبير، والتي تجعل ملاك المشروعية قائماً على شورى المهاجرين والأنصار وبيعتهم [38]، وكذلك ما حدث في اليوم الأول لبيعته (عليه السلام)؛ حيث امتنع منذ البداية عن القبول وقال لهم: اتركوني والتمسوا غيري وإن الشخص الذي ترونه مناسباً وتنتخبونه للولاية سأكون قبل الجميع مطيعاً له، فعلى حد قول ابن أبي الحديد تدلل مقالة الإمام هذه في يوم البيعة على أنه لم يكن يرى إمامته منصوصة؛ وذلك لأنها لو كانت منصوصة فلا يحق للإمام أن يقول: (دعوني التمسوا غيري) أو يقول: (لعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم)، وبناءً عليه، فإذا لم تكن إمامته (عليه السلام) منصوصة، ولم تكن ذات مشورعية إلهية، فسوف يتم التحوّل إلى الوجه الآخر الذي ذهب إليه قاطبة أهل السنة، ألا وهو مبنى الانتخاب،كما ينقل الإمام علي (عليه السلام) نفسه فيقول: (والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل.. أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا شيئاً، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً)[39].
إن تقييم مبنى أهل السنة هذا وبحثه يحتاجان إلى مجال كبير خارج عن قدرة هذه المقالة، وسوف نلاحظ بعضاً من الأمور المهمة والجديرة بالانتباه حول هذا المبنى وأدلته أثناء البحث عن النظرية الثالثة.
لكن الأمر الجدير بالاهتمام، في ما يتعلق بالمبنى المذكور لأهل السنة، هو:
1 ـ إننا نلاحظ، في مبنى أهل السنة ـ كما الشيعة ـ الترابط بين المشروعية السياسية والدينية، ونستنتج من ذلك: أن منشأهما ومنبعهما واحدٌ، وهو انتخاب الناس وأهل الحل والعقد وبيعتهم.
ووفقاً لهذه النظرة، فحينما تستقر الحكومة العلوية على أساس هذه الطريقة فإنها بالإضافة إلى كونها حينئذ مورداً لرضا صاحب الشريعة، ومن ثم متلازمة والمشروعية الدينية، فإنها تكون أيضاً قائمة على الحقّانية، وبالاعتماد على ذلك تكتسب المشروعية وحق الآمرية والإلزام السياسي.
2 ـ إنّ المشروعية لدى أهل السنة تتشكّل من فرعين هما: الإلهية والشعبية، فالحاكم والوالي المنتخب هو جهة خليفة ونائب عن الله تعالى يعمل على تنفيذ الأوامر الإلهية وإجراء الحدود وتجهيز الجيش وحفظ الثغور، وجميع هذه الأعمال يتم إنجازها عن طريق مبدأ الربوبية التشريعية، ومن هنا تكون المشروعية إلهية، ـ ولذلك يرى عامة علماء أهل السنة أن الخليفة ظل الله، ويتصور أبو جعفر المنصور العباسي نفسه سلطان الله على الأرض، وقد كان هذا التكفير والتعبير عنه متداولين على ألسنة الشعراء أيضاً[40].
ومن جهة أخرى، وحيث أن انتخاب الشعب يمثل أساس المشروعية، والحاكم إنما يقوم بعمله بوصفه وكيلاً ونائباً عن الشعب فإن المشروعية ستكون شعبية، وكما يقول ابن تيمية: (والولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم)[41]، وكما جاء في نهج البلاغة أيضاً: (فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجكم، فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة)[42].
يعلل الإمام (عليه السلام) هذا الأمر ـ الذي تجري فيه مخاطبة المسؤولين عن الأمور الاقتصادية والمالية في الدولة العلوية بضرورة الإنصاف في تعاطيهم مع الناس والتحلّي بروح التحمّل في سبيل رفع احتياجات الشعب ـ ببيان هذه الحقيقة، ألا وهي: أنّ خزّان بيت المال هم في الواقع خزّان الناس وممثلو الشعب وسفراء الأمة والقادة، وعليه فإذا أخذنا بالنظر كون خزانة بيت المال شعبة من الحكومة والنظام السياسي، فسوف تصبح الولاية وتسلّم المقاليد، في نظر الإمام علي (عليه السلام) وكالة من طرف الأمة أيضاً، وفي الحقيقة فإن ولاية الإمام (عليه السلام) التي كانت سابقاً قائمة بالشعب أقرّت من طرف الشارع، وهذا ما يسمّى بالحكم الإمضائي قبال الحكم التأسيسي[43].
3 ـ المشروعية الشعبية للحكومة العلوية
بالإضافة إلى النظريتين القديمتين والتاريخيتين لأهل السنة والشيعة في ما يتعلق بالمشروعية السياسية للنظام العلوي، هناك نظرية ثالثة لقيت شيوعاً في العقود الأخيرة بوصفها رؤية جديدة، ألا وهي نظرية المشروعية الشعبية لحكومة الإمام علي (عليه السلام).
لقد طُرحت هذه الرؤية من قِبَل بعض المحافل الثقافية الدينية ـ أعم من الشيعة والسنة ـ وجرى تأييدها والدفاع عنها أيضاً، وتكتسب هذه النظرية أهمية خاصة، على صعيد البحث والدراسة، في عصرنا الحاضر، نظراً لحساسية مباحث المشروعية السياسية بين المسلمين وأهميتها، وبالخصوص بعد الثورة الإسلامية في إيران واستقرار نظام سياسي مبني على التعاليم الدينية، وتباري هذا النظام والأفكار المبنية على العلمانية وفصل الدين عن الساحة السياسية، وإنّ الاهتمام والتوجّه إلى الأمور اللطيفة والحساسة لهذه النظرية، والى مبانيها ومبادئها التصورية والتصديقية، وكذلك ملاحظة اللوازم والنتائج النظرية والعملية لها في المجتمع الإسلامي، إنما هو جزء من مسؤولية المنظّرين في مجال الفكر السياسي الإسلامي، والعاملين في هذا المضمار تأليفاً وتحقيقاً وإنتاجاً فكرياً.
من ناحية تاريخية، أول شخص في العصر الأخير روّج للنظرية الثالثة بين المسلمين وفجّر ردود الفعل والصراعات الشديدة في محافل أهل السنة العلمية، لاسيّما في أوساط علماء الأزهر، هو علي عبد الرازق، مؤلف الكتاب الذائع الصيت: (الإسلام وأصول الحكم)، وقد تواصلت هذه النظرية بعده في بعض المحافل الثقافية الشيعية وشكّلت محوراً لدفاع بعض الفئات السياسية وبعض الشخصيات من أمثال المهندس مهدي بازركان والدكتور مهدي الحائري اليزدي، وبقطع النظر عن التطابق الكامل، أو التفاوت البسيط، في نظرة هؤلاء إلى هذه النظرية، فإن المطالب التي ستأتي لاحقاً تتعلق أولاً بذكر النقاط التي تمثل المفاتيح لهذا البحث مع ذكر بعض من الشواهد على هذه الرؤية الثالثة مما يرتبط بالحكومة العلوية، وبعد ذلك سوف يعمد إلى تجزئة هذه النظرية وتحليلها.
لدى مواجهة هذا السؤال:هل تصنّف الخلافة والإمامة جزءاً من ذاتيات جوهر الدين؟ وأساساً هل يتوقّع من الدين الإسلامي التدخّل في شؤون السياسة والحكومة، وهذا التدخّل يجري على أساسه تبيين مشروعية الحكومة العلوية أو أن الدين بذاته ليست له وظيفة سوى الهداية المعنوية والإرشاد إلى طريق السلوك الأخروي، أما السياسة والتدبير والتنظيم الاجتماعي للمجتمع فإنها مقولة خارجة عن الدين ولا ترابط بينها وبينه، ومن ثم لا تلازم ولا ارتباط بين هاتين المقولتين؟ لدى مواجهة هذا السؤال نلاحظ أن جواب النظرية الثالثة هو نفي تدخّل الدين في المجال السياسي .
وانسجاماً مع هذه النظرية يركّز علي عبد الرازق بحثه في الجوانب المتعددة للرسالة والحكومة، ويرى أن الرسالة مغايرة للملك، كما يعتقد أنه لا تلازم إطلاقاً بين هذين الأمرين، وأنه بمقتضى آيات من قبيل { لا إكراه في الدين} (البقرة / 99) { إنما أنت منذرٌ} (الغاشية/21)، { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس/99)، تنحصر رسالة نبي الإسلام ـ كسائر الأنبياء والسفراء الإلهيين ـ بالوعظ والبيان، وحتى الآثار الحكومية في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، كجباية الزكاة وتعيين مصارفها، أو إرسال الولاة والحكام إلى المناطق المختلفة، يطرح فيها هذا السؤال: هل أن تشكيل الحكومة الإسلامية كان جزءاً من البعثة أو أنه كان خارجاً عن إطار الرسالة؟ وحتى لو كان الرأي القائل: (إن الحكومة جزءٌ من الرسالة) هو الرأي المقبول لدى جمهور المسلمين، إلا أنه يمكن الموافقة على ذلك فيما لو كان الرسول (صلى الله عليه وآله) مبلغاً ومنفذاً في مكان واحد، في حين أنّ هذا المدّعى ليس له مدرك بل هو مناف لمعنى الرسالة، وعلى تقدير صحة هذا القول فإنه يستتبع سؤالاً آخر وهو: لماذا لم يبين النبي (صلى الله عليه وآله) النظام الحكومي للشعب ولم يضع بين يدي المسلمين قواعد هذا النظام؟
ربما يمكن، في مقام الجواب عن هذا السؤال، القول: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله)؛ حيث كان عنده منهج بساطة وحياة بسيطة غير معقدة وغير متشابكة، فإن نظامه كان بسيطاً وعارياً عن التعقيد، إلا أنه على أية حال، فإن أية حكومة أو نظام سياسي بحاجة إلى قواعد وقوانين، وهذه التنظيمات ليست متنافية مع سلامته وبساطته الطبيعة[44].
ويكشف علي عبد الرازق النقاب عن فكره فيقول، في متابعة بحثه في الباب الثالث، تحت عنوان(رسالة لا حكم ودين لا دولة) بصراحة: مع الأخذ بالنظر المشكلات الخاصة بالرسالة والحكومة فليس هناك مفرٌ من التفكيك بينهما، فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن سوى رسول لا ملكاً ولا مؤسس دولة، وظواهر القرآن الكريم من قبيل { فما أرسلناك عليهم حفيظ} (الشورى/ 48)، أو { لست عليهم بوكيل} (الأنعام/ 66)، و{ إن عليك إلا البلاغ} (الشورى/ 48)، و{ ما أنت عليهم بجبّار} (ق/45)، و{ إنما أنت مذكرٌ لست عليهم بمسيطر} (الغاشية/22) وغيرها من الآيات صريحة بأن النبي ليس حفيظاً على الناس أو وكيلاً، كما أنه ليس جباراً ومسيطراً، فإذن ليست لديه (صلى الله عليه وآله) حكومة وإدارة، لأن لازم السلطة والسياسة هو السيطرة والسلطنة اللامحدودة على الناس[45].
وبذلك يخطو علي عبد الرازق الخطوات الكبيرة والأساسية في تفكيك الدين عن السياسة وفي علمنة هذا الدين، إلا أنه لا يواصل تقدمه هذا بعد ذلك، فإذا كانت الحكومة قسماً منفصلاً عن البعثة والرسالة ومغايراً لهما، وليس هناك شيءٌ باسم الحكومة الدينية في التعاليم الإسلامية، إذن ما هو منشأ المشروعية السياسية للحكومة النبوية وكذلك الحكومات التي جاءت بعده إلى زمان علي (عليه السلام)؟ وكيف يمكن تفسير هذه الحكومات وتسويغها؟.. إن علي عبد الرازق لا يملك جواباً صريحاً عن ذلك، بيد أن الجواب التكميلي المنسجم مع الخطوات الأولية له يمكن العثور عليه عند سالكي طريقه والمقتفين دربه، فـ (حركة الحرية) الإيرانية ـ ومع تصويبها نظيرة علي عبد الرازق وتأييدها لمسألة أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم تكن لديه أية وظيفة عدا الإبلاغ والتذكير والتحذير والبشارة والإرشاد ـ تشير لدى بحثها عن نظم المجتمع ونسقه وإدارة الأمور إلى أن ذلك شاملٌ لوظائف الأجهزة العسكرية والعمرانية والسياسية ومسؤولياتها وغيرها، وهذه المؤسسات موجودةٌ في جميع المجتمعات المتمدنة، وهي في حال التطور والنمو على الدوام.
إنّ القرآن الكريم يضع بشكل بسيط ومختصر عنوان(أمر) أو (أمور) لهذه المجموعة من المسائل، ويرى أن طريقة الإجراء والقيام بها يكون من خلال المشورة والشورى بين الناس أنفسهم{ وشاورهم في الأمر}، و{ أمرهم شورى بنهم}، وفي كلا الموردين فالأمر الملاحظ وبوضوح هو المنهج الديمقراطي والشعبي، فالقرآن يضع اختيار أمور المجتمع وإدارتها بيد الناس أنفسهم، فالناس أنفسهم هم من عليهم أخذ القرارات في ما يتعلق بترتيب أنفسهم، فالناس أنفسهم هم من عليهم أخذ القرارات في ما يتعلق بترتيب أمورهم، والإنسان نفسه هو الذي يجب عليه تدوين نظام الحكم المناسب والمحتاج إليه عن طريق التجربة والتحقيق والتفحّص، ولم تكن (وليست) وظيفة الأنبياء والأديان وضع مسودّة عمل ومقررات حكومية أو اقتصادية أو تعليمية للناس، كما أنهم لم يعلّمونا الطبخ والخياطة وبناء البيوت، ولم يدرّسونا العلوم الرياضية والفلسفية والفيزيائية[46].
وانطلاقاً من هذه المقدمات، قبلت(حركة الحرية) علمانية الحكومة وعرفيتها ـ وبشكل عام ـ تنحيتها عن ساحة الدين ومجاله.
ويكتب منظّر هذه الحركة، في مواصلة ما تقدم، فيقول: إنه إذا فسرنا الديمقراطية، من حيث المبدأ، على أنها حكومة الناس على أنفسهم وإدارة الأمم أمورها بنفسها، ورأينا أن الطريق الموصل إلى ذلك هو إظهار نظر الأكثرية عن طريق الانتخابات أو المشاورات الحرة، فإن هذا هو بالضبط ذاك النظام الإداري للأمور العامة الذي أوصى به القرآن الكريم، وقد عمل علي (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) في زمان خلافتهما بها ـ أي الديمقراطية ـ في مرحلة سابقة جداً على الثورة الإسلامية في إيران[47].
من وجهة نظر الدكتور بازركان، فإن عدم قبول الخلافة، من قِبَل الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وعدم تنسيق الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي مسلم الخراساني، وتنسيق سيد الشهداء (عليه السلام) مع الناس بعد دعوتهم إيّاه أمور تدلل على (أن الخلافة والحكومة من وجهة نظر الإسلام والإمام ليست من حق يزيد والخلفاء، وليست من حقهم هم، كما أنها ليست من حق الله تعالى! وإنما هي من حق الأمة بإنتخابها)، ويضيف فيقول: (إذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) يرى الخلافة ملكاً شخصياً ووظيفة إلهية أو نبوية فإنه لا يعطي لنفسه الحق في إعطائها للآخر عن طريق الصلح)، ويكمل الدكتور بحثه بتحليل الحكومة العلوية ليخلص إلى أن مشروعيتها شعبية، كما يعتقد بأن علياً (عليه السلام) لم يكن يرى الخلافة حقاً له، ولهذا فإنه لم يقدم على شيء بغية الوصول إلى السلطة[48].
الشخصية الثالثة البارزة، في النظرية الثالثة والتي يمكن تصنيفها العضو الأبرز في هذه الفئة هي الدكتور مهدي الحائري اليزدي، إنه يحلل مفهوم الإمامة بنظرة فلسفية، ويتحدث عن شعبية المشروعية السياسية للحكومة العلوية على هذا الشكل فيقول: (إنّ هناك بحثاً ـ بالرغم من أنه ليس عميقاً ـ يرشد إلى أنّ القيادة السياسية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن جزءاً من الوظائف البنوية للنبي (صلى الله عليه وآله)، كما لم تكن مظهراً من مظاهر إمامة الإمام علي (عليه السلام)؛ فالنبي قبل البيعة لتولّي الأمور كان نبياً لله تعالى، وكذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان حائزاً على مقام الإمامة السامي والإلهي قبل انتخابه كقائدٍ سياسي وخليفة رابع)[49].
من أسباب التفاوت عند الحائري بين الإمامة وإدارة البلاد ـ واللذان يملكان رابطة كالرابطة بين الخطّين المتوازين ( بالرغم من إمكانية تحقيقهما الانسجام والتناغم من الناحية العملية) ـ هو أنه إذا كانت النبوة والإمامة توأمين، ومهمة التنفيذ وتحقيق الأوامر الإلهية والتي تحصل عن طريق القوة القهرية من جانب السلطة الحاكمة، فإنه لن تتصور حينئذ أية مسؤولية على المكلّفين، ومع انتفاء أصل المسؤولية هذا، فإن التكاليف والأوامر والنواهي سوف تبقى عقيمة وبلا أثر، كما أنّ الثواب والعقاب سوف يتم تعطيلهما، بل إنّ الآيات التي من قبيل { وما على الرسول إلا البلاغ، وإنما أنت مذكرٌ لست عليهم بمسيطر، وما أنت عليهم بجبار} تعلن ـ وبشكل متواصل ـ عن العلاقة الوطيدة جداً بين الوحي والنبوة من جهة وبين الناس من جهة أخرى، بحيث لا تبقي أي مجالٍ للشبهة والتردد[50].
أما قضية أنّ بعض الأنبياء، كالنبي محمد (صلى الله عليه وآله)، كانوا متولّين للشؤون السياسية أيضاً، كما أنّ الإمام علي (عليه السلام) قد نال منصباً سياسياً عن طريق البيعة وانتخاب الشعب، فلابد لنا من أن نعرف أنّ هذه المناصب السياسية إنما جاءتهم عن طريق الناس إضافة إلى مقامهم الإلهي السابق، وقدّمت إليهم نظراً لضرورات الزمان والمكان، وليست جزءاً من الوحي الإلهي، فهذه الأمور تمثل فرصاً استثنائية ونادرة على امتداد التاريخ، بحيث إن الناس عندما يصلون إلى حدّ الرشد والبلوغ السياسي والاجتماعي فإن عقلهم العملي سوف يهديهم إلى انتخاب الأصلح والأحسن، وبناءً عليه لا يمكن ملاحظة أي عنصر دالً على البعد السياسي ـ مهما كان صغيراً ـ لدى تحليل عناصر النبوة والإمامة حتى يجري استخراجه، والتغاير بين هذين الأمرين هو تغايرٌ بين الأمور الإلهية والأمور البشرية[51].
من وجهة نظر مؤلف كتاب (الحكمة والحكومة) فإن منصب القيادة السياسية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إنما كان منذ البداية بانتخاب الشعب وبيعته، وبعد ذلك كانت هذه البيعة الشعبية مرضية ومقبولة وممضاةً من جانب الباري تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح/18)، كما أن الآية المباركة{ وأمرهم شورى بينهم} (الشورى/38) تدلّ على هذه الحقيقة أيضاً[52].
وفي تحليل الكاتب المذكور لمفهوم الإمامة يظهر أنها من شرائط النبوة القبليّة، وهي جزؤها التحليلي الذي لا ينفك عنها، فأي نبي ورسول إمامٌ، إلا أنه ليس كل إمام رسولاً ونبياً، فمقام الإمامة إنما هو مقامٌ محض وليس مرتبطا بانتخاب الشعب وبيعته، أما الخلافة التي تعني القيادة السياسية فهي ظاهرةٌ دنيويةٌ ليس لها أية واقعية من دون الانتخاب، غايته أن الناس تنتخب أحياناً النبي أو الإمام لتولّي أمورهم، كما هو الحال في بيعة الشجرة وانتخاب علي (عليه السلام) في المرحلة الرابعة للخلافة، وأحياناً لا يوفّق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ـ نتيجة عدم الرشد السياسي أو لأسباب تاريخية ـ لانتخابهم من قِبَل الناس[53].
إنّ الدكتور الحائري، ولدى عرضه لنظريته الخاصة في ما يتعلّق بالإمامة والسياسة وتوازنهما، يمنح قاعدة اللطف رؤية خاصة، ويعتقد أنّ التفسير الحقيقي لهذه القاعدة إنما هو في كون الشريعة مرشداً حقيقياً للرفاهية والسعادة العقلية، ويتمثّل دورها الأساسي في إيصالها البشر، ومن خلال تعاليمها الإلهية، إلى الرشد والكمال العقلانيين.
ووفق هذا التفسير، يكون الأمر الذي نفهمه من قاعدة اللطف في دائرة النبوة والإمامة هو أنّ الأنبياء والأئمة معلّموا العدل والقسط العقلانيين، أما أنهم بالإضافة إلى مقام التعليم هذا لابد من أن تكون وظيفة تنفيذ العدالة وإدارة شؤون البلاد في عهدتهم أيضاً وأن ذلك بمثابة جزء من وظيفتهم الإلهية، فهذا مما لا يمكن استفادته لا من محتوى قاعدة اللطف ولا من المدلول المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي للأدلة الأخرى للنبوة والإمامة[54].
إنّ من جملة الأدلة التي يمكن أن تساعد على تدعيم النظرية الثالثة وتقويتها وتشكّل أساساً لها هو التمسّك بظهور بعض من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعلي (عليه السلام) في هذه الخطب والكلمات يشرح أساس مشروعية حكومته وملاكها، وهو يبيّن بشكل عام أنّ البيعة والشورى هما الأساس الحقيقي لأي حكومة أو ولاية، من قبيل (إنما الشورى للمهاجرين والأنصار)، و(لعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم) اللتان تقدمتا قبل ذلك، وكذلك ما قاله (عليه السلام) بعد البيعة له في مسجد المدينة: (أيها الناس ـ عن ملأ وأذن ـ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتهم)[55]، وكذلك ما قاله بعد تلقّيه الضربة، وعندما جاءه أصحابه يسألونه عن البيعة للإمام الحسن (عليه السلام): (لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر)[56].
ومن هنا أيضاً كتب الإمام الحسن (عليه السلام) بعد البيعة له رسالة إلى معاوية: (ولاّني المسلمون الأمر بعده)[57]، كما جاء في معاهدة الصلح مع معاوية أيضاً الآتي: (صالحه على أن يسلّم إليه أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين)[58].
ويمكن استنتاج الأمور الأساسية الآتية في إطار تقسيم نهائي لمجموع الشواهد والكلمات المذكورة حول النظرية الثالثة، وهي:
1 ـ ليست السياسة من الأجزاء الذاتية للدين، وبناءً عليه ففي التحليل الماهوي لإمامة علي (عليه السلام) لا يمكن مطلقاً التوصّل إلى قيادته السياسية وإدارته الاجتماعية.
2 ـ إنّ تشكيل الحكومة العلوية، على غرار سائر الأمور العرفية الأخرى، تابعٌ لرغبة الشعب وإرادته وللشروط الاجتماعية الخاصة.
3 ـ إنّ منشأ المشروعية السياسية للنظام العلوي هو البيعة وانتخاب الناس، والإمام (عليه السلام) في الحقيقة وكيلٌ عن الشعب, إلا أنه لم تكن لديه ولاية شرعية وإلهية والقيادة السياسية.
4 ـ مع الأخذ بعين الاعتبار إلغاء دور التدخّل الديني في الأمور السياسية، واعتبار الدين والسياسة خطّين متوازين، فإن البحث عن المنشأ الديني للحكومات سوف يكون منتفياً أيضاً؛ وذلك لأن الشارع لا يمكنه أن يعطي وجهة نظر إيجابية أو سلبية فيها.
إنّ رأي الدين في ما يتعلّق بالنظام السياسي للمجتمع سيكون ـ وطبقاً للفكر العلماني ـ بلا أثر ولا شرط، وفي النتيجة فإن أية مقولة بإسم منشأ المشروعية الدينية للحكومة العلوية ستكون بعيدة عن دائرة الإمضاء أو الرد الشرعي وخارجة تخصصاً عن المجال الذي تبدي فيه الشريعة رأياً لها، وهذا على خلاف النظريتين: الأولى اللتين لاحظنا فيها الترابط بين هذين النوعين من المشروعية.
تأملات في النظرية الثالثة
إنّ المسائل المتعلقة بالنظرية الثالثة تحتاج إلى مباحث موسّعة ومفصّلة سيّما مع ملاحظة أصولها ومبانيها التي من جملتها فصل السياسة عن البناء الديني وتهميش الشريعة بالنسبة للحياة الاجتماعية، وهذا أمرٌ خارج عن قدرة هذه المقالة، إلا أنه سوف تجري الإشارة إلى بعض المباحث التي تمثل مفتاحاً أساسياً لتشكل أسس البحث؛ وذلك في حد الضرورة، وبحسب ما يفسح به المجال، نعم إن بعضاً من المسائل المشار إليها يمكنها أن تفيد في تقييم النظرية الثانية ودراستها أيضاً، فتكون من المشتركات بين النظريتين.
التأمل الأول: النظرية الثالثة من وجهة نظر العقل العملي والفلسفة السياسية
السؤال الأساس في المشروعية السياسية والذي يمثّل مركز ثقل هذا البحث ومركز تأمّل العمل العملي، وهو ما يتطلب أيضاً جهداً نقاداً هو: هل يمكن حقيقةً اعتبار الرضا والرأي العام، أو انتخاب الناس، أساساً للمشروعية، سواءٌ بعنوان العلّة التامة للمشروعية كما هو الحال في النظرية الثالثة أم بعنوان جزءٍ من العلة لها، كما في النظرية الثانية؟
كما تقدم سابقاً فإن المعطى المهم الذي يمثّل كُنه جوهر المشروعية السياسية هو حق إلزام الحكومة للمواطنين وإجبارهم على إطاعتها وإتباعها في أوامرها، ومع أخذ هذا التعريف بالنظر يطرح السؤال الآتي: كيف يمكن للرضا والإرادة العامة، أو أكثرية الناس، إنتاج الحقّانية والصحة والصواب من ذاتها، أو أن تكون كاشفاً عن صحة انتخاب الشعب حتى يقبل عقل الإنسان وتفكيره بلزوم التسليم والاعتراف لها بحق الحاكمية المنتخب؟ والوجه في تأمّل الفكر هنا يمكن تلخيصه بالأمور الآتية:
1 ـ إنّ الأقلية التي لم تكن مستعدة ـ لسبب أو لآخر ـ للبيعة والانتخاب ولم تقبل رأي الأكثرية، ما هو الدليل العقلاني على لزوم إتباعها للأوامر الحكومية؟ كيف يمكن للدولة ممارسة حق الإلزام السياسي على الأقلية والحال أنها لم توافق على مشروعية الحكومة؟ وطبعاً فهؤلاء سيقضون حياتهم، مجبورين، في تلك الأرض التي لم يقبلوا الحكم فيها، وهم بملاحظة التفكير المصلحي والترجيح للملاكات ملزمون بإتباع الحكم؛ إذ لا يمكنهم مثلاً ترك أرض آبائهم وأجدادهم، لكن هل إنّ ذلك موجبٌ لثبوت حق الإلزام السياسي عليهم؟ والمشكلة نفسها أيضاً تبرز بحق أولئك الذين لم يكونوا حائزين على شروط المشاركة في الانتخابات زمان إجرائها، وكذلك بحق بعض من الأكثرية الذين أعرضوا عن رأيهم الأول؛ وذلك لأن العقل لا يرى أن هناك حقاً في إلزامهم السياسي من قِبَل الدولة، وعندما لا نتمكن من التوصّل إلى إثبات الإلزام السياسي للدولة في حق هذه الفئات من الناس فإنه لن يلف المجتمع حينئذٍ غير الفوضى والهرج والمرج.
2 ـ لنفرض أنّ مواطني المجتمع ـ ليس الأكثرية فقط بل الأفراد جميعهم ـ قد أعطوا الموافقة على الحكومة بحيث إنهم يعرفون أنهم بذلك يطرحون القيم العقلانية والأخلاقية تحت أقدامهم، ويقدمون بذلك على ترويج الفساد والفحشاء والظلم، هل إنّ لمثل هذه الحكومة ـ بالرغم من انبثاقها عن الرضا والإرادة العامين ـ حق الإلزام السياسي؟ هل يمكن القول بوجوب تقديمهم الطاعة للأوامر غير الأخلاقية التي تصدرها هذه الحكومة؟ إنه من المقطوع به عدم وجود مثل هذا الوجوب الأخلاقي من ناحية الحكمة العملية.
3ـ مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود إطلاع المسائل السياسية أو تخصص كافة بها بالنسبة لأكثرية الشعب لا سيّما الشباب والأفراد قليلي التجربة، وعدم وصولهم إلى مرتبة الوعي الكامل في ما يتعلق بهذه الأمور، كما أنّ المسائل العاطفية والقضايا الخيالية نافذةٌ في مثل هذه الشريحة وبشكل كبير، وهي بالتالي عرضة للمزيد من المخادعات من طرف وسائل الإعلام التي تقوم على دعم رأس مال الرأسماليين وأصحاب الثروات ... مع هذا كله هل يمكن قبول هذه المقولة المنقولة من جهتين والتي تقول: (إن إرادة الأكثرية دائماً على حق)[59]؟ أو لا أقل اعتبار درجة كشف الواقع فيها أكبر منها في رأي الأقلية وتصوّر أنّ رأي الأقلية يشتمل على أخطاء أكثر؟ وذلك في حال أن أرباب القوة والتزوير يمكنهم توجيه الأفكار العامة إلى الجهة التي يريدونها فيما الأكثرية الجاهلة هي أيضاً ـ وبفعل التأثّر الشديد بذلك ـ قد وضعت نفسها في طريق لا يضمن سوى المنافع الواقعية للأقلية المقتدرة.
هل يمكن لدولة ما اعتبار نفسها مالكاً لحق الأمر والطاعة, والقول: إنّ لها المشروعية السياسية ووصولها إلى سدة الحكم عن هذا الطريق؟
يكتب هارولد لاسول، أحد مؤسسي العلوم السياسية الأمريكية الحديثة، عن تأثير أجهزة الإعلام في توجيه الرأي العام، فيقول: (لا يجوز أن نقع في القطعيات الديمقراطية في ما يتعلق بتمكّن البشر بأنفسهم من تحديد الأمور في المسائل التي تكون مورداً لرغباتهم، لا أنهم لا يقدرون، إنهم أكثر حماقة وعجزاً وجهلاً من ذلك، إننا نحن الأفضل والأصلح في ما يرتبط بالمسائل التي تهمهم، وطبعاً فإنهم يملكون حق إبداء رأيهم ظاهرياً، بَيْدَ أنه لابدّ لنا من أن ننتبه إلى أنهم لا يستفيدون من حقهم هذا)[60].
مع الالتفات إلى المناقشات الجادّة المتقدمة يشكل الأمر من ناحية منطقية على العقل الإنساني في اعتماد الإرادة العامة للشعب أساس المشروعية السياسية لحكومة نظير حكومة الإمام علي (عليه السلام)، وافتراض أن حق الإلزام والآمرية السياسية لعلي (عليه السلام) إنما كان عن هذا الطريق.
التأمل الثاني: النظرية الثالثة من وجهة نظر القرآن والسنة
وكما كان اعتبار المشروعية الشعبية، من وجهة نظر العقل العملي، مورداً للتردد والتساؤل، كذلك على مستوى الكتاب والسنة كانت هذه الإبهامات والمناقشات منعكسة بأشكال متنوعة أيضاً، فمن جهة يخطئ القرآن الكريم في آيات الأكثرية المجتمعية، وهو باستخدامه تعابير حادة، من قبيل{ أكثرهم لا يعقلون} { ولكن أكثر الناس لا يعلمون} { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} { ولكن أكثر الناس لا يشكرون} التي وردت مكرراً في القرآن الكريم يقلل من قيمة رأي الأكثرية على نطاق عام، ومن جهة أخرى وفي الآية الكريمة{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرُصون} (الأنعام/ 116) يجعل ملاك عدم اعتبار الأكثرية وعدم التبعية لها وسبب ذلك إتبّاعها للحدس والظن والتخمين، وبناءً عليه فإن رضا الأكثرية العددية وآراءها مع الأخذ بعين الاعتبار كون قراراتها مبنيةً على الحدس والتخمين لا يمكن اعتباره ـ مطلقاً ومن دون قيد أو شرط ـ أساس المشروعية وعلامة الحقّانية للحكومة المنبثقة عنها، إلا في الموارد التي يثبت فيها أنّ نظر الأكثرية قد أبرز على أساس الموازين العلمية والتحقيقية ووفقاً للتأمّل والتفكير، وأنه لم يكن مبناه الظن أو التخمين الصرف؛ وذلك من قبيل إظهار نظر أكثرية الخبراء في فرعٍ علمي مُعيّنٍ أو في فنٍ خاص.
وقد طرح هذا البيان القرآني بوضوح أكثر على مستوى الروايات الشيعية تطبيقاً على واحد من المصاديق، أي المشروعية السياسية.
وكان ثبوت الإمامة السياسية الحقّة والمشروعية على أساس الانتخاب العام وتحققها مورداً للسؤال والنقد، فقد أكّدت الروايات على أنّ الإمامة لا تكتسب المشروعية إلا عن طريق النصب الإلهي، فعندما يسأل سعد بن عبد الله القمي الإمام القائم (عج): (أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم) يجيبه الإمام: (مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح، قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة..)[61]، كما يصرّح في هذه الرواية بأنه (لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار)، فهي تدلل على أنه لا يمكن تأمين المشروعية للحكومة العلوية عن طريق رأي الشعب، وفي رواية أخرى ينقلها الشيخ الكليني عن الإمام الثامن (عليه السلام) جاء: (هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ إنّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم...)[62]، كما ورد في رواية ثالثة اعتبار انتخاب الإمام من قِبَل الشعب أمراً غير منطقي ولا يخلو من تناقض، حيث إنّ ذلك بمنزلة شراء شخص ما لعبدٍ ليكون هذا العبد مولى لذاك المشتري ويتولاّه[63].
إنّ المسألة الجديرة بالتأمل، في ما يرتبط بالروايات المتحدّثة عن الإمامة، هي أنّ الإمامة، وفق القراءة الشيعية لها، بالرغم من أنها مقام إلهي رفيعٌ وعالي الرتبة، بعيد عن إدراك الأفراد العاديين، لا يمكن حصرها إطلاقاً بالمقام القدسي لها وفرز القيادة السياسية لدى تحليل محتوى الإمامة عن بنائها المتكامل.
إنّ ما يقوله الدكتور مهدي الحائري في ما يتعلق بالمقام الإلهي للإمامة صوابٌ، وهو كلامٌ متطابقٌ والفكر الشيعي بحيث يكون علي بن أبي طالب (عليه السلام) حائزاً على مقام الإمامة قبل البيعة أيضاً, وأنّ هذا المقام غير مرهون لانتخاب الشعب[64]، إلا أن الأمر المثير للتعجّب هو تفكيكه الإمامة عن القيادة السياسية وتصوره واحدة منهما من الأمور الإلهية وثانيتهما من الأمور البشرية الشعبية، وذلك في حين أنّ أي مفكّر أو محقق ـ حتى لو لم يكن شيعياً أو مسلماً ـ يطالع الروايات المتعلقة بالإمامة والولاية المنصوصة عن أئمة الشيعة المعصومين ويدرس هذه الروايات التي لا تحصى، وهي تفوق حد التواتر، فإنه لن يسمح لنفسه بالتشكيك في أنّ مسألة السياسة والإدارة الاجتماعية تعدّ واحدةً من مناصب الإمامة، ومن محاسن الصدف أن النزاع الواسع والشامل بين الشيعة والسنة والدفاع الذي قام به أهل البيت (عليهم السلام) عن إمامتهم كان قبل كل شيء هذه المرتبة من الإمامة، حتى لو كانت هذه المرتبة من المراتب النازلة لمقام إمامتهم ومصنفةً مرحلةً ناسوتية لها، إلا أنه حيث كانت إمكانية غصبها ميسّرة ويد التعدّي لم تكن لتصل إلى المقامات الأرفع كانت هذه المرحلة من الموارد التي وقعت فيها المعارضة والتعدّي التاريخيين.
إنّ تجميع الروايات المذكورة يحتاج إلى دراسة واسعة جداً، لكن نظرة سريعة وإجمالية لكتاب الإمامة من بحار الأنوار وكتاب الحجة من أصول الكافي ومطالعة بعض من هذه الروايات، ومن بينها الروايات الواردة في أبواب من قبيل: باب فرض طاعة الأئمة، باب أن الأئمة ولاة أمر الله، باب التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمة في أمر الدين، باب أن قول الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فيهم نزلت.
إنّ نظرة إجمالية لذلك كله تبيّن هذه الحقيقة المذكورة.
إنّ بحث روايات الإمامة والولاية التي جمع بعضها الحر العاملي، في الباب الأول من أبواب مقدمات العبادات من كتاب وسائل الشيعة، والكثير منها غير قابل للمناقشة من حيث السند مطلقاً.. يقدم الموقعية الحساسة للولاية السياسية في البناء الرفيع للمعارف الدينية؛ فطبق هذه الأحاديث بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية، إلا أن الولاية أرفع من الجميع وتمثل الركن الركين من بينها: (الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن)[65]، هل يمكن حمل الولاية المطروحة في هذه الروايات على غير التدبير السياسي؟
إذا أراد محققٌ ما أن يعرف الإمامة فقبل أن يرجع إلى اجتهاده في تعريفها من المناسب أن يعود إلى النصوص المعتبرة في هذا المجال وأن يحصل منها على تحليل المفاد الواقعي للإمامة ومعرفته، فالإمام الثامن (عليه السلام) يعرفها كما يأتي: (إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (عليهم السلام)، إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين. إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف)[66].
وعلى خلاف الاجتهاد بالرأي الذي مارسه الدكتور الحائري، والذي فكك فيه بين الإمامة والخلافة، ترى الرواية الشريفة المذكورة الإمامة خلافة الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله) عينها ومقام الإمام علي (عليه السلام) وميراث الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام).
هل أنه مع نظرة هذه الرواية إلى الإمامة التي تعرفها على أنها زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزة المؤمنين، ترشد إلى أن الإمامة داخلة في الفروع والأصول معاً، وأن الإسلام المتحرك والحيوي الشامخ في رفعة السماء بفروعه وتمامية الصلاة والزكاة والحج والجهاد إنما تكون بها، هل أنه مع هذه الأوصاف يمكن تحديد الإمامة بالمقام الإلهي بحيث لا يكون لها أي علاقة بالنظام الاجتماعي وبإجراء الفرائض الإلهية في حياة الناس؟ إنّ الاستدلال الفلسفي للدكتور الحائري على توازي خطّي الإمامة والسياسة هو أنه إذا كانت الإمامة توأماً والوظائف الإجرائية ومسؤولية تنفيذ الأوامر الإلهية، فإنه لن تكون هناك أية مسؤولية على عاتق الشعب، ومن ثم سوف تتعطل التكاليف والأوامر والنواهي والثواب والعقاب، ولن يبقى هناك أي غرض لبعثة الأنبياء (عليهم السلام).
من المناسب قراءة الجواب عن هذا الاستدلال على لسان الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حسبما ينقل ذلك الفضل بن شاذان، فعندما يسأله الراوي عن دليل جعل أولي الأمر والأولياء الإلهيين ونصبهم ولزوم الطاعة لهم من قِبَل الشعب(أي المشروعية السياسية للأئمة (عليهم السلام) وحق الآمرية ولإلزام من قبلهم من جهة والإتباع والإطاعة لأوامرهم من جهة أخرى)، يشير الإمام (عليه السلام) إلى بعض أسباب الإمامة النصبية والجعلية[67]، والأدلة الثلاثة التي يذكرها الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الرواية ـ والتي تنتظم جميعها على أساس البراهين العقلية، ولم تؤخذ أموراً تعبّدية ـ هي : (منها أن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحد لِما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول في ما حظر عليهم؛ لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام، ومنها أنّا لا نجد فرقةً من الفرق، ولا ملةً من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيّم ورئيس، ولَمّا لابدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابدّ منه ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون فيأهم ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم، ومنها أنه لو لم يجعل إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيّرت السنن والأحكام، ويزداد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين، لأنّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم...).
طبقاً للأدلة المذكورة لا يطرح في الإمامة السياسية ـ بأي وجه من الوجوه ـ بحث نفي التكليف وانعدام فائدة الثواب والعقاب، فالناس مكلّفون، وعليهم أن يعملوا بوظائفهم عن إرادة واختيار، لكن حيث إن جعل القانون من دن وجود ضمان تنفيذي له سوف يصيّره فاشلاً لا يحقق للناس السعادة المرجوّة منه، وبالتالي سوف تبقى أهداف المتقنن منقوصة ومبتورة، فلأجل إجراء القوانين الإلهية والحيلولة دون وقوع الفساد وهجوم أنواع الآفات المزمنة والأمراض الفكرية والأخلاقية والدينية على المجتمع, والحفاظ على الناس الذين لا ملاذ لهم أمام كل هؤلاء المرئيين وغير المرئيين، تقتضي الحكمة الإلهية بإرسال أفراد للقيام بهذه الوظائف، ومن أهم تكاليف الناس هو تهيئة الأرضية ـ وعن ميل منهم ورغبة ـ لظهور حاكمية مثل هذا الإمام المنصوب من قِبَل الله تعالى وبروزه، نعم, إنّ بحث دور الشعب والمشروعية العلم اجتماعية هو بحث آخر تقدم سابقاً وسوف تأتي الإشارة إليه لاحقاً، وعلى أية حال ففي مسائل من قبيل إجراء الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مرتبة الإقدام العملي له تكون هذه الحقيقة من الضروريات الفقهية، وهي أن المنفّذ هو الإمام المنصوب من قِبَل الله سبحانه، وبالتالي فالاجتهاد مقابل النص في مثل هذه الموارد أمر خارج عن منهج التحقيق العلمي.
التأمل الثالث: النظرية الثالثة وفق الأدلة الخاصة بالحكومة العلوية
لقد كانت التأملات السابقة تدور حول أصل مدّعى النظرية الثالثة، وكبراها الكلية في ما يتعلق بمشروعية الإمامة العامة، ونقصد، في هذا التأمل، البحث في تطبيق تلك الكبرى الكلية على الحكومة العلوية، فهل أن الأدلة والشواهد الخارجية تؤيد تبلور المشروعية السياسية للحكومة العلوية عن طريق بيعة الناس؟
بالإضافة إلى الأدلة الكلية في ما يرتبط بالإمامة العامة والبراهين العقلية والنقلية الكثيرة المدوّنة في المباني الكلامية للشيعة، نواجه في ما يخص إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) كمّاً هائلاً من الأدلة النقلية الروائية وغير الروائية يؤيّد ـ وفاقاً للمباني الشيعية ـ عدم كون مشروعية الإمامة السياسية له (عليه السلام) مرتهنة بالبيعة عقب مقتل عثمان، وأن البحث عن الإمامة السياسية له كان مطروحاً منذ ولادة نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في غار حراء، فعندما نزل ملك الوحي على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان علي (عليه السلام) يسمع أنين الشيطان، وقد أيدّه الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال له: إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى غير أنك لست بنبي، (ولكنك لوزير وإنك لعلى خير)[68].
وعندما نزلت آية: { وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء/ 214) جمع النبي (صلى الله عليه وآله) أهل بيته وقال لهم: (أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم)، فأجابه الإمام علي (عليه السلام) بجواب إيجابي، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا)[69].
هل هذا غير المشروعية الإلهية للحكومة العلوية؟ فحتى لو كان الإنسان غير شيعي لا يمكنه ـ من وجهة نظر تحقيقية وخبرية ـ إنكار هذه المستندات أو أن يورد عليها إشكالاً سندياً أو دلالياً، والأهم من ذلك كله بحث رواية الغدير والآيات النازلة حولها وكلمات الإمام علي (عليه السلام) نفسه وكذلك الصحابة وأئمة الشيعة في ما يرتبط بتجزئة ذلك كله، بحيث إنه مع الأخذ بعين الاعتبار المصادر الكثيرة التي دوّنت فيها لا حاجة إلى تكرارها مجدداً، وإنما نكتفي بهذه الإشارة وهي: ما هي تلك المسألة المهمة التي وقعت والتي يمثل عدم إبلاغها للناس عدم إبلاغ الرسالة والوحي، كما ينبه القرآن الكريم إلى ذلك {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة / 67)؟ إنه إبلاغٌ لأي حادثة مهمة ونداء ضروري بحيث يحتاج إلى إعطاء الضمانات من طرف المولى سبحانه{ والله يعصمك من الناس}، ما هي هذه الفئات والأحزاب التي كانت ترى منافها مهددة بالخطر؟ ومن أي موضوع كان قلق النبي (صلى الله عليه وآله)؟
على أية حال فمسألة الغدير وقرائنها الداخلية والخارجية جميعها تقديرها من حيث الزمان والمكان، وخوف وقوع الفتنة التي احتملت في نصب علي (عليه السلام) للخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)[70]، وترحيب الصحابة في يوم الغدير بالإمام علي (عليه السلام) وبيعتهم له في ذلك اليوم وإطلاق كلمات: (بخ بخ لك يا علي)[71]، إلى جانب تواتر هذه الحادثة والاستنتاجات التي خرج بها الشعراء والأدباء والمفكّرون منها؛ ذلك كله يثبت بالحتم المشروعية الإلهية للحكومة العلوية.
إنّ من النقاط الجديرة بالانتباه في ما يتعلّق بحديث الغدير هو الاحتجاجات والمناشدات التي أريد منها إثبات الإمامة السياسية لعلي (عليه السلام)، فأول مستدل بهذا الحديث هو الإمام علي (عليه السلام) نفسه في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، كما استند إليه (عليه السلام) بعد ذلك أيضاً مرات عديدة لإثبات ولايته السياسية كما في يوم الشورى، أيام عثمان، يوم الرحبة، يوم الجمل، يوم الركبان ويوم صفين، هذا إضافة إلى احتجاجات الصديقة الزهراء عليها السلام والإمام الحسن (عليه السلام)، فقد حسم كل من عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص وعمار بن ياسر والأصبغ بن نباته وقيس الأنصاري وعمر بن عبد العزيز والمأمون العباسي التردد، ورد الشك هذه الحقيقة، وبين أنّ حقه (عليه السلام) كان قد جرى غصبه[72].
وفي المناظرة التي وقعت بين الإمام علي (عليه السلام) والأشعث بن قيس يعاتب الأشعث بكلمات نابية وبذيئة الإمام (عليه السلام) فيقول له: يا أمير المؤمنين! لم تخطبنا خطبة منذ قدمت العراق إلا وقلت: والله إني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ولما ولي تيم وعدي ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟! فقال له أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: ( يا بن الخمّارة! قد قلت قولاً فاستمع، والله ما منعني الجبن ولا كراهية الموت، ولا منعني ذلك إلا عهد أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله)) وهنا يتذكر الإمام (عليه السلام) ما حصل بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) فيقول: (ثم أخذت يد فاطمة وابني الحسن والحسين ، ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة، وناشدتهم حقّي ودعوتهم إلى نصري فما أجابني منهم إلا أربعة رهط: سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر)[73].
والسؤال المهم: ما هو الحق الذي جرى نهبه من الإمام (عليه السلام) من وجهة نظر مقترحي النظرية الثالثة والذي لأجله قام بمثل هذا السعي الكاشف عن مظلوميته من دون توفيق؟ فإذا كان حقاً أن الإمام (عليه السلام) قد اكتسب مشروعيته السياسية من خلال البيعة ولم يكن قبل ذلك ذا حق سياسي فلماذا يقول في خطبة الشقشقية: (والله تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحى... فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً)[74].
التأمل الرابع: النظرية الثالثة من زاوية إجماع الفريقين
إذا أردنا تقييم النظرية الثالثة وتأييدها من زاوية الإجماع فإن هذه النظرية تقع مخالفة ومن جهتين لاتفاق الشيعة والسنة؛ فهي ـ اصطلاحاً ـ متضمّنةٌ لخرق الإجماع المركّب، وبذلك يمكن عدّها بدعةً فكريةً.
فأولاً: طبق مدّعى النظرية المذكورة تخرج السياسة عن ماهية الدين وتعاليمه الوحيانية وتؤخذ بوصفها أمراً عرفياً، في حين أنه ـ ووفق التعريفات التي يقدمها المتكلمون والمفكرون المسلمون الشيعة والسنة للإمامة والتي تقدمت ـ لم يكن هناك أي شخص ينكر الماهية السياسية لمقولة الإمامة[75]، والباحثون المسلمون في تعريفهم للإمامة جعلوا عنصر الرئاسة الدنيوية، أو السياسة الدنيوية، مترافقاً والرئاسة الدينية والتدخل في الأمور الدينية، وهم بذلك يبرزون موقفهم من الفكر العلماني، واختلاف الشيعة والسنة إنما كان في شرائط الإمامة المذكورة ولزوم العصمة وانتخابيتها أو نصبيتها.
ثانياً: إن الفرق الثاني الحاصل بين هذه الرؤية والإجماع هو أن الحكومة العلوية ـ وفقاً لها ـ منفصلة بشكل كامل عن الوحي والمشروعية الدينية، في حين يشهد تاريخ المنازعات الفكرية والسياسية بين الشيعة والسنة لهذه الحقيقة، وهي أن كلا الفريقين كان يرى أن حكومة هذا القدوة الحقيقي هي حكومة إلهيةٌ وقعت مورداً لرضا الشرع وتأييده، والشيعة وحدهم هم من لم يكن يرى لانتخاب المهاجرين والأنصار دوراً في مشروعيتها السياسية، فيما كان أهل السنة يعتقدون أن المشروعية الإلهية قد جرت عبر قناة البيعة والانتخاب من طرف المجتمع.
وبناءً عليه، فلا شك في أن الرؤية الثالثة هذه قد طرحت جانباً مقولة الإجماع، وخرق إجماع المسلمين المسلّم والقطعي علامة على عدم القيمة وعدم العلمية لهذه النظرية، وذلك لأنه وفقاً لمسلك أهل السنة ومبانيهم في حجية الإجماع المعتمدة على رواية ( لا تجتمع أمتي على ضلالة)[76] وسيرهم على الاعتقاد القائل: إنه كلما اتفقت الأمة الإسلامية على أمر ما فإن هذا علامة صحته واعتباره ـ وهم في الواقع يرون العصمة للإجماع ـ فإن عدم صحة النظرية الثالثة سيكون حينئذ واضحاً لا إبهام فيه.
أما وفقاً لمسلك الشيعة فإنه بالرغم من أن الإجماع لا حجية ذاتية له، وهو معتبر من حيث كشفه عن قول المعصوم ورأيه فحسب، إلا أنه من الواضح جداً أنّ إجماع علماء الشيعة على نفي القول الثالث إنما هو ناشيء عن الدروس التي تعلّموها من العترة الطاهرة (عليهم السلام).
وكما تقدّم في التأمّل السابق فإن مسألة المشروعية الإلهية للحكومة العلوية تعدّ من قطعيات مذهب الشيعة وضرورياته، وإنكارها يصنف إنكاراً لواحد من أصول المذهب الشيعي، وبالتأمل والتدقيق في الزوايا المتعددة للرؤية الثالثة يصل الإنسان إلى أن الأشخاص الذين ينتسبون إلى أهل البيت (عليهم السلام) إلا أنهم متورطون في هذه النظرية ـ إذا نفينا الاحتمالات الأخرى ـ لا أقل يظهرون علناً عدم اطلاعهم على المبادئ التصديقية والتصورية للإمامة الشيعية؛ وذلك لأنهم يعملون على الاجتهاد الحدسي والتخمين، وهم من دون استقصاء كامل للمستندات ومن دون التفحّص الكافي والوافي لجوانب الموضوع يميلون إلى هذه البدعة الكبيرة، وإذا جوّز شخص ـ ولو على فرض المحال ـ الاجتهاد في الأصول أيضاً فإن الاجتهاد لابد من أن يكون على أساس الموازين المعروفة في المحافل العلمية، وإذا قبلنا التعدد في القراءة فلابدّ من تحديد الفواصل والحدود بين القراءة والتهجّي الخاطئ.
التأمل الخامس: النقد الإجمالي للأدلة النقلية للرؤية الثالثة
واجهنا في هذه النظرية طائفتين من الشواهد النقلية هما:
الطائفة الأولى: كانت عبارة عن الآيات القرآنية التي تدلل على أنه لا شأن للنبي (صلى الله عليه وآله) في الزعامة السياسية وأنّ وظيفته التذكير وإبلاغ الرسالة، ولابد في ما يتعلق بهذه الآيات من التعليق ولو إجمالاً بـ:
1 ـ إنّ الحصر الوارد في هذه الآيات ليس حصراً حقيقياً وإنما هو حصرٌ إضافي؛ وبالتالي فالآيات التي استند إليها ليس لها ظهور في إثبات المدّعى.
2 ـ في قبال هذه الآيات توجد آيات أخرى إذا لم تكن نصّاً في مدلولها فلا أقل من أنها ذات دلالة أقوى في مقام المعارضة من قبيل { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب/ 60)،وآية أولي الأمر، وآية الولاية وآيات أخرى كثيرة نزلت في شأن القضاء والقيادة السياسية للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام).
3ـ إذا تمّ قبول الآيات المذكورة، ولم يكن لها أي معارض، فإنه بالاستعانة بالأدلة القطعية النقلية والعقلية التي تمّت الإشارة إلى بعضها في طيّات التأمّلات السابقة سوف يكون ظهور هذه الآيات ساقطاً عن الحجية.
الطائفة الثانية: من الشواهد النقلية للنظرية الثالثة هي روايات أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلماته التي جاء فيها اعتماد حكومته على بيعة المهاجرين والأنصار وشوراهم واعتبار حكومته المشروعة والحقّة مبنية على البيعة والشورى.
وفي مقام الإجابة عن هذه الشواهد لابد من الالتفات إلى عدة أمور ضرورية:
1ـ إنّ هذه الروايات معارضة بروايات أخرى من كلماته (عليه السلام) من قبيل جملة مقاطع مختلفة لخطبة الشقشقية يعلن فيها الإمام (عليه السلام) أنّ حقّه مغصوب منهوب.
2ـ إنّ ظهور هذه الروايات إنما هو ظهور بدوي، فمع الأخذ بعين الاعتبار الأدلة القطعية العقلية والنقلية على الإمامة العامة والخاصة للشيعة كقاعدة اللطف وحديث الغدير، والمطالب التي تقدمت في التأملات السابقة، سوف نلزم برفع اليد عن ظهور هذه الأدلة وبالتالي إسقاطه عن الحجية.
3ـ إنّ الكثير من تلك الشواهد إنما جاءت مدركاً حقوقياً وسياسياً كالمكاتبات لمعاوية أو طلحة أو الزبير، وكذلك مكاتبة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية أو صلحه معه، والأمر الذي شكّل أساس الحوار في مثل هذه المستندات إنما هو ذاك الأمر الذي كانت خاصيته القانونية مورداً لقبول الطرفين معاً، ومن هنا يكون الإمام (عليه السلام) في مثل هذه المستندات التاريخية في مقام إثبات المشروعية والمنشأ القانوني لحكومته والذي يجري قبوله اجتماعياً لدى مجتمع تلك الحقبة، حتى لو لم يكن يرى الإمام (عليه السلام) صحة ذاك القانون أو تلك المشروعية الحقوقية وصوابيتهما، بل كان يرى مشروعيته السياسية مستمدة من النصب والتعيين الإلهيين.
4ـ إذا نظرنا إلى تلك الشواهد بالنظر المنطقي، ومن زاوية مسألة الصناعات الخمس، فإننا سنلاحظ أنّ هذه الشواهد إنما جاءت في مقام الجدل، وفي الجدل يمكن الاحتجاج بمقدمة يقبلها الطرف الآخر حتى لو كان المتكلم غير معتقد بتلك المقدمة.
التأمل السادس: النظرية الثالثة في محك التجربة
إذا تأملنا النظريات الثلاث المرتبطة بأساس المشروعية السياسية للحكومة العلوية من البعد العملي، وقرأناها قراءةً معرفية في الميدان التاريخي ووضعنا نتائجها على منضدة النقد والتشريح، فإنه لابدّ لنا من الاعتراف بالتأسّف على عدم وجود نتائج عملية مقبولة مشرقة على المستوى التاريخي من طرف مؤسسي المشاركة الشعبية في المشروعية السياسية وأتباعها، فلم يحرف الإسلام عن مسيره ويبدل حكومته الإسلامية بعد عدة عقود إلى نظام ملكي وسلطاني ويسلّط جبابرة العالم من أمثال يزيد والحجاج والأمويين والعباسيين على الشعوب المظلومة, ويعدم الظروف المهيّئة لعالمية الإسلامية سوى الانحراف عن المشروعية الإلهية وغصب مقام الإمامة من علي (عليه السلام) باسم الانتخاب والبيعة والشورى وأمثال ذلك، وإذا لم ينخدع الناس بل قبلوا التوحيد بتمام مراتبه لا سيّما بُعده الربوبي التشريعي واتجهوا بكامل الرغبة إلى الولاية السياسية للوصي والخليفة الحقيقي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن التاريخ البشري ـ كان بلا شك ـ سيتبلور بشكل آخر، ولم تكن لتصبّ جميع تلك المظالم وكل ذاك الجور على الناس الذين لا يملكون الدفاع عن أنفسهم.
وكذلك الحال اليوم فهل ما يرد على البشر والمليارات من بني الإنسان نابعاً من غير أولئك المدّعين والمتولّين للمشروعية الشعبية؟ إنّ الظالمين والرأسماليين والمزوّرين العالميين الذين يسيطرون على السياسة والاقتصاد والثقافة العالمية، يمارسون اليوم بقبضتهم على وسائل الإعلام والاتصال المسيطرة على المجتمعات والبشر وباسم الشعب أكبر عملية نهب وسرقة لمنافع الناس.
إنّ التاريخ مليءُ بالغصص والظلمات البشرية، والمرحلة التاريخية المضيئة تتمثل في تلك الأيام التي تمركزت فيها المشروعية الإلهية.
واليوم وبعد قرون، تبقى الحكومة النبوية والعلوية كنقاط مضيئة ومتلألئة من حياة البشرية؛ فتلك السنوات القليلة المليئة بالإشعاع كانت تعبّر عن سنوات الاستقرار لحاكمية ولي الله تعالى على الناس، ومع تلك العبرة وذاك الدرس من الماضي والحاضر لابد للناس من الوصول إلى هذه الحقيقة وإدراكها، وهي أن الطريق الوحيد لنجاة البشرية إنما هو تمركز حكومة مبنية على أساس المشروعية الإلهية، والسر في وضع اليد على هذه الحقيقة على أساس الحكمة واللطف الإلهيين في أدلة الإمامة الشيعية هو أنه لا وجود لطريق آخر أمام البشر لتأمين سعادتهم الدنيوية والأخروية.
إنّ اليوم الذي تشعّ فيه رؤية المشروعية الإلهية وتملأ شمس الحكومة المهدوية العالم كله سيحيي في القلوب أمل العدالة الاجتماعية والاحترام والكرامة الواقعية للإنسان، ويرفع سلطة الجهل والفقر والظلم والفساد والشرك العالمي: (أليس الصبح بقريب).
التأمل السابع: دور الشعب في الحكومة العلوية وفق مبنى المشروعية الإلهية
لأجل تحديد دور الناس في الحكومة العلوية، طبقاً لمبنى المشروعية الإلهية وإزالة توهمّ الاستبداد وسحق الحقوق والكرامة الإنسانية طبق هذا المبنى، نستند إلى كلمات الإمام علي (عليه السلام) التي يخاطب بها شيعته: (وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إليّ عهداً فقال: يا بن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه فإن الله سيجعل لك مخرجاً)[77].
تعكس هذه الرواية دور الشعب في الحكومة العلوية طبق مبنى المشروعية الإلهية، وتبيينه، كما ترفع النقاب عن هذه الحقيقة الكبرى، وهي أنه حتى لو لم يكن رأي الشعب أساساً للمشروعية السياسية، إلا أنه على مستوى المنشأ التاريخي للحكومة والتحقق الخارجي لها وبالمنظار العلم اجتماعي مهمٌ جداً وأساسي أيضاً، فبالرغم من أن رأي الناس ليس ملاكاً لتشخيص الحق والباطل والصلاح والفساد والثواب والعقاب، وإذا ما صوّت الشعب كله على نفي التوحيد أو المعاد أو أي واحد من الضروريات الدينية أو العقلانية فإن هذا التصويت يقيم على أنه فاقد للقيمة، إلا أنه مع ذلك فلرأي الشعب تأثيرٌ محوريٌ، وهذا التأثير لا يمكن البحث عنه في الدور التكويني والظهور العيني لحاكمية الحق فقط بل إنّ له تأثيرين أساسيين آخرين هما:
أولاً: في الموارد التي لم تقبل فيها الفِرَق والفئات بالمشروعية الإلهية، لا يحق لأي شخص النقاش في نفوذ حكم ولي الأمر أو الخدشة فيه؛ ذلك استناداً إلى المشروعية القانونية التي يكتسبها النظام على أساس قاعدة الإلزام أو الجدال بالتي هي أحسن، إنّ امتياز قاعدة الإلزام هو في كونها تمثل في الساحة الاجتماعية ـ ومن ناحية حقوقية ـ نظرية احتياطية وسلوكاً قائماً على أساس الوفاق الجمعي، فهي لا تجبر الخصم فقط على السكوت والتسليم للنظام بل إنها موجبة لتحكيم أسسه أيضاً.
ثانياً: بالرغم من أنّ ولاية الإمام علي (عليه السلام) وإمامته وفق مباني الإمامة الشيعية إنما قامت على أساس النصب ولا حاجة لها في أصل مشروعيتها السياسية ولا في فعاليتها للبيعة، لكن هل أن بيعة الناس بعد مقتل عثمان كان لها تأثيرٌ ونفوذٌ تكوينيان فحسب أو أنه كان لها تأثير آخر أيضاً؟ من وجهة نظرنا لابد من الاعتراف بدور آخر لبيعة الشعب، وهو أنه إذا لم يقبل الناس على البيعة كما حصل في السنوات التي أعقبت رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله) فهل كان لأمير المؤمنين الحق في إعمال ولايته حينئذ؟ وهل كان إعماله الولاية أمراً مشروعاً بالنسبة إليه؟ وفي الحقيقة ما هو المبنى الشرعي الذي دفع الإمام (عليه السلام) للسكوت والتزام المنزل؟ هل كان ذلك لأجل غضّ النظر عن حقه فحسب ولذلك لم يكن له حضورٌ في الساحة وهل أنّ إحقاق الحق كان عملاً مباحاً حتى غضّ الإمام الطرف عنه؟ أو أنه كانت وظيفته الشرعية والإلهية هي السكوت وإغماد السيف؟
إنّ الأمر الذي يخطر في الذهن هنا هو أن الإمام كان يرى،بشكل جيد، أنّ إعمال ولايته والسعي للحصول على حقّه المغتصب سوف يؤدي في النهاية إلى ذهاب الإسلام وشيوع الهرج والمرج وعدم الاستقرار للدين الفتي بأسسه الجديدة، ومع هذه الظروف هل كان من الجائز للإمام (عليه السلام) الدخول في الدماء لأجل التصدّي لولايته المشروعية؟ إنّ الجواب سلبي بلا شك من الناحية الفقهية، وعلى مستوى قواعد باب التزاحم الملاحظة هنا ضرورة، وذلك لأن ولي الأمر مسؤول ـ من خلال ترجيحه للمصالح الأهم وحفظ المصالح الإسلامية العليا ـ عن التجاوز والتغاضي عن حقه، وهذا السكوت لا يمكن تقييمه على أنه عمل مباح بل إنه تكليف شرعي، أما عندما أقدم الناس على البيعة فإن الحجة أصبحت بذلك تامة، وسيكون الولي مسؤولاً عن التصدي حينئذ: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.. لألقيت حبلها على غاربها)[78].
إذن، وفقاً لمبنى المشروعية الإلهية، فسواء كان هناك انتخاب وإقبال شعبي أم لم يكن فإن الولاية مجعولة وفعلية للإمام (عليه السلام) إلا أن مشروعية إعمالها والتصدي لها منوطان برضا عامة الناس، فإذا لم يقبلها الناس فإن موضوع إعمال الولاية لن يكون له تحقق، ومع عدم تحققه وسيطرة خطر الهرج والمرج والاضطراب الشديد لأسس الإسلام فإن الوظيفة حينئذ هي السكوت، والمسألة الأساسية والدقيقة للبحث التي يمكنها أن تثير الكثير من الشبهات الواردة على مبنى المشروعية الإلهية والإمامة الشيعية هي عدم التفكيك بين أصل مشروعية الولاية وبين إعمالها، فعلى أساس مبنى المشروعية الشعبية أو المشروعية الإلهية ـ الشعبية يكون أصل الإنشاء وفعلية الولاية مبنيان على رضا الشعب وانتخابه وما لم يكن هناك رأي من طرف الشعب فإنه لا يقال لأي إنسان أنه (ولي)، أما طبقاً لمبنى الإمامة الشيعية فإن أصل الولاية متوقّف على النصب والتعيين سواءً في مرحلة الإنشاء أم في مرحلة الفعلية، وبالجعل والنصب يطلق على المنصوب أنه (ولي)، إلا أن جواز إعماله لولايته متوقفٌ على تبلور الأرضية الاجتماعية المناسبة وترحيب الناس بها، ودليل لزوم الاجتناب عن الفوضى وعدم النظام وتقوية المصالح الدينية حاكمٌ على دليل جواز إعمال الولاية[79].
وبناءً عليه فبين المشروعية الإلهية المنظورة هنا في الحكومة العلوية والمشروعية الإلهية المعاصرة التي يجري تدوينها في الأنظمة الحقوقية تفاوتٌ جذريٌ وعميقٌ، ففي الفكر السياسي السائد في الغرب يعبّر عن المشروعية الإلهية للدولة كما يأتي: (أي حاكم منصوب من جانب الله، وهو من هذه الجهة مسؤول أمام الله فقط لا أي شخص آخر، ومن هنا يكون هذا الحاكم فوق القانون وفوق الناس)[80].
وتعود جذور هذا الفهم للمنشأ الإلهي للنظام السياسي إلى الفكر المسيحي والحكام المستبدين في التاريخ؛ حيث كانوا يعدّون أنفسهم ظل الله تعالى وممثليه، وهم من هذه النقطة بالذات يقفزون على الرقابة وعلى مسألة الشعب، وقد شكلت هذه المسألة من منشأ لظهور النظريات المنافسة كرضا الشعب وإرادته أو العقد الاجتماعي، أما في المشروعية الإلهية المنظورة لان هنا فالملاك فيها ـ كما تمّ الاستنتاج من (لك ولاء أمتي ) ـ عبارة عن الرضا والإرادة الشعبية العامة، وفي هذا الطراز الفكري يتحوّل الحاكم إلى خادم للشعب كما تكون السلطة مؤطّرة بإطار القوانين الشرعية, وتستقر الحقوق المتبادلة بين الوالي والرعية؛ فالشعب بممارسته وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لقادته يمارس الرقابة والإشراف بهدف إرادة الخير والحيلولة دون انحراف أجهزة الدولة، كما أن النظام مطالب بتقديم الأجوبة عن تساؤلات الناس، وحتى الحياة العادية واليومية للحاكم لابد من أن تكون في حد أضعف شرائح المجتمع، وقد دوّنت النماذج الواقعية لهذا الأمر في السيرة الحكومية للإمام علي (عليه السلام).
لماذا تأخرت الحكومة العلوية 25 سنة؟ ولماذا أقبل الناس عليها بعد هذه السنين؟ ولماذا لم تتمكن من مواصلة المسيرة؟ إنّ ذلك كله يرجع إلى إرادة المجتمع نفسه، والحكومة التي تستمد مشروعيتها من الجانب الإلهي لا يمكنها أبداً الاستيلاء على السلطة بالقهر والغلبة والقوة رغماً عن الميول الشعبية العامة؛ لأن ذلك لا ينسجم مع أهداف مثل هذه الحكومة؛ فمكان ولاية ولي الله تعالى هو قلوب الناس والهدف من ذلك هو رشد الإنسان وتعاليه وحفظ حرمته وكرامته، والدفاع عن الحقوق الإلهية للناس والحيلولة دون حصول الظلم السحق للمنافع والحقوق المادية والمعنوية لهم، ذلك كله من الأهداف الأساسية للمشروعية الإلهية، كما شهد بذلك التاريخ في زمن حكومة علي (عليه السلام)، إلا أن آلهة القوة والحيلة الذين لا يعرفون أي حرمة للإنسان قاموا بمواجهته (عليه السلام) بالفتنة والمكر والخديعة، مشكّلين جيوش الناكثين والمارقين والقاسطين، وهذه الحقيقة هي سرّ ما ينقل في الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن تولوها علياً تجدوه هادياً مهدياً)[81]، وكذلك ما ينقل من كلام له (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فأقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك)[82].
_____________________________
[1] انظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج7، ص 36، وج4، ص8، وابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج1، و 47، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص 302، و 303.
[2] نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الخطبة: 229، ص 350و 351، وكذلك انظر خطبة الشقشقية، ص 49.
[3] المصدر نفسه،الخطبة 92، 136.
[4] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص 302.
[5] ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج1، ص36.
[6] انظر: حسين بشيرية، جامعة مدني وتوسعه سياسي در ايران، ص 102، وصادق لاريجاني، مقالة مباني مشروعيت حكومتها، مجلة انديشه حكمت، العدد8، ص15.
[7] السيد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، ص 468.
[8] انظر: نهج البلاغة، الرسالة 54، ص 445.
[9] انظر: ابن أبي الحديد، مصدر سابق، ج7، ص 36 ـ 43.
[10] نهج البلاغة، الرسالة6، ص 366و 367، وكذلك انظر الرسالة 7، ص 367، (لأنها بيعة واحدةٌ لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار).
[11] انظر: علي بن محمد القوشجين شرح تجديد العقائد، ص 365و 366.
[12] انظر: العلامة الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 366.
[13] انظر: عبد الله جوادي آملي، مقالات بيرامون وحي ورهبري، ص 139 ـ 143.
[14] أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، الباب الثالث، ص 197 ـ 201.
[15] يعتقد مجموعةٌ من اعلام اهل السنة بوجود نص خفي أو جلي للإمامة، وهم على هذا الأساس يصنفون خلافة أبي بكر على أنها تعيينية نصبية، انظر ابن تيمية الحراني ، منهاج السنة النبوية، ج1، ص 135 ـ 137، وابي حامد الغزالي، سؤ العالمين وكشف ما في الدراين، (باب في المقالة الرابعة)، ص 20 ـ 22.
[16] المصدر نفسه، وكذلك انظر ابن خلدون، المقدمة، ص 191، 192، والقوشجي، شرح التجريد،ص 365، والقاضي ابي يعلي، الأحكام السلطانية، ص 19، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص308.
[17] العلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 367، وفي السنوات الأخيرة كان هناك بعض من المتشيعين من الذين لم يكتموا ميلهم لنظرية أهل السنة في المشروعية الدينية للحكومة العلوية، للمزيد من الاطلاع انظر: حيدر علي قلمداران حكومت در اسلام ،ج1، ص 140 ـ 149، ونعمت الله صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه حكومت صالحان، ص 136 ـ 139،و 129 ـ 131.
[18] العلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 367، وفي السنوات الأخيرة كان هناك بعض من المتشيعين من الذين لم يكتموا ميلهم لنظرية أهل السنة في المشروعية الدينية للحكومة العلوية، من الاطلاع انظر: حيدر علي قلمداران، حكومت در إسلام، ج1، ص 140 ـ 149، ونعمت الله صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه حكومت صالحان، ص 136 ـ 139و 129 ـ 131.
[19] انظر: ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، الجزء الرابع، ص 87.
[20] انظر: السيد شريف الجرجاني، شرح كتاب المواقف للأيجي، ج8، ص 344 ـ 352، والقوشجي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 365.
[21] أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص5.
[22] ابن خلدون، المقدمة، ص 218.
[23] الاقتصاد في الاعتقاد، ص 197 ـ 201.
[24] راجع: العلامة الطباطبائي، شيعة در إسلام، ص 15و 16.
[25] إن بعض الكتّاب غير الملتفتين إلى هذا المدّعى ـ وهو أن الرئيس التنفيذي للمسلمين انتخابي، وأن أوصافه قد بينت في القرآن الكريم، ويجب على مسلمي كل زمان انتخاب من اجتمعت فيه هذه الصفات ـ يرون أن حكومة خلفاء الإسلام كانت مشروعيتها السياسية مبنية على هذا الأساس، وأن المشروعية الدينية والسياسية لحكومة الإمام علي (عليه السلام)، كانت انتخابية أيضاً، ويحملون أدلة النصب على أوليته وأحقيته (عليه السلام).
إنظر: السيد أسد الله الموسوي الخرقاني، محو الموهوم وصحو المعلوم، ص 12 ـ 38، وحيدر على قلمداران، حكومت در إسلام، وكذلك انظر نعمت الله صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه حكومت صالحان، ص 129ـ 131. ج1، ص 112 و 121 ـ 123،و 140 ـ 149، و 220 ـ 228. وتقييم ومحاكمة هذا المدعى موكولان إلى المباحث اللاحقة.
[26] انظر أنموذجاً لذلك: الإمام الخميني، المكاسب المحرمة، ج2، ص 105و 106.
[27] الخواجة نصير الدين الطوسي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 362.
[28] راجع: الملا نظر علي طالقاني، كاشف الأسرار، المقالة الثانية، الفصل الرابع، وجوب اللطف، والمقالة الرابعة (الإمامة) الفصل الأول.
[29] انظر الشيخ الطوسي، تمهيد الأصول في علم الكلام، فصل: في أن الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بلا فصل، ص 370، والعلامة الحلي، شرح تجريد الاعتقاد، ص 367 ـ 372.
[30] راجع : شرح المواقف للإيجي، ج8، ص 344 ـ 352.
[31] الفخر الرازي، كتاب الأربعين في أصول الدين، ص 437 ـ 439، وكذلك انظر القاضي أبي يعلي، الأحكام السلطانية، ص 19 ـ 25.
[32] راجع: التفتازاني، شرح المقاصد، ج2، ص 272 ـ 283.
[33] راجع: أبو حامد، محمد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 201 ـ 203.
[34] القوشجي، شرح تجريد الاعقتاد، ص 365، وابن خلدون، المقدمة، ص 191.
[35] م.ن.
[36] انظر: منير حميد البياتي، الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، ص 248 ـ 301و 319 ـ 323، حيدر على قلمداران، حكومت در إسلام، ج1، ص 208 ـ 210و 204 ـ 206.
[37] انظر: منير حميد البياتي، م.ن، والشيخ حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 497 ـ 498.
[38] نهج البلاغة، الرسالة 6، ص 366 ـ 367، والرسالة 54، ص 445، وراجع حيدر علي قلمداران، حكومت در إسلام، ج1، ص 208 ـ 210.
[39] راجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج7، ص 33و 34، وحسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 508.
[40] انظر: الإسلام وأصول الحكم، ص 11 ـ 24.
[41] السياسة الشرعية، ص12، وانظر منير حميد البياتي، الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، ص 337 ـ 346.
[42] نهج البلاغة، الرسالة 51.
[43] صالحي نجف آبادي، ولايت فقيه وحكومت صالحان، ص 129 ـ 131و 136 ـ 139.
[44] راجع الإسلام وأصول الحكم، الباب الثاني، ص 144 ـ 152.
[45] راجع م.ن، ص 154 ـ 160.
[46] نهضت آزادي إيران، وتحليل ولايت مطلقة فقيه، ص 92 ـ 96.
[47] مهدي بازركان، دفاعية
[48] م.ن خدا وآخرت هدف بعثت أنبياء، ص 42 ـ 46، ومجلة أوكي، أن، العدد، 28، ص 49و 50.
[49] راجع: حكمت وحكومت، ص 167و 168.
[50] راجع: م. ن، ص 142 و 143.
[51] راجع: م.ن، ص 143 ـ 145.
[52] راجع: م.ن، ص 151 ـ 153.
[53] راجع: م.ن، ص 169ـ 179.
[54] راجع: م.ن، ص 140 ـ 141.
[55] نقلاً عن حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 505.
[56] مروج الذهب.
[57] نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 506.
[58] م.ن، ص 506 ـ 507.
[59] نقلاً عن صادق لاريجاني، مجلة انديشه حكومت، العدد8، ص 21.
[60] انيشه جامعه، حوار مع نوآم جامسكي، العدد11، نقلاً عن صحيفة رسالت، 25/4/1379هـ.ش.
[61] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، ج23، ص 68و 69.
[62] أصول الكافي، كتاب الحجة، ج1، ص 199.
[63] بحار الأنوار، ج49، ص 206.
[64] انظر ما جاء في التأمل السابع من هذه المقالة.
[65] وسائل الشيعة، أبواب مقدمات العبادات، ج1، ح2، ص 7و8.
[66] الأصول من الكافي، كتاب الحجة، ج1، ص 200.
[67] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص 100و 101.
[68] نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الخطبة القاصعة، العدد 192، ص 301.
[69] ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج1، ص 487و 488.
[70] راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج2، ص 636 ـ 717.
[71] العلامة الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج1، ص 11.
[72] راجع: م.ن، ج1، ص 159 ـ 213.
[73] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج29، ص 419و 420.
[74] نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة الشقشقية، العدد3، ص 48.
[75] نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة الشقشقية، ص 9.
[76] السيوطي، الدر المنثور، ص 180، وهو منقول في السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 249.
[77] الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج2، ص717.
[78] نهج البلاغة، الخطبة: 3، ص 50.
[79] لمزيد من التفصيل يراجع: الكتاب في (بررسي ثبات وتحول در انديشه سياسي إمام خميني)، مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخميني وفكر الحكومة الإسلامية، ج5، ص 242 ـ 258.
[80] راجع: محمد علي خاني، حقوق أساسي، ص 73.
[81] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج1، ص 506.
[82] أسد الغابة، ج4،ص 112.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية