مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

مفهوم الحاكمية والعلاقة بولاية الفقيه والحريات السياسية
الدكتور الشيخ عباس علي عميد الزنجان


المشكلة الأساس للحكومة في تاريخ البشرية، تتمثل في ايجاد الموازنة بين قدرة الدولة وحقوق الأمة، فكان المفكرون وعلماء السياسة والحقوق في التاريخ، يبحثون عن معادلة من شأنها عقد المصالحة بين القدرة المطلقة للدولة، والصلاحيات والحريات والحقوق الفردية المطلقة. واذا دققنا النظر في هذا التعبير، سنجد التناقض فيه واضحاً، فالقدرة والصلاحيات اللامحدودة للدولة من جهة تتناقض مع الحقوق والحريات الفردية اللامحدودة من جهة اخرى. وهذا التناقض الذي يعني التضاد بين اقتدار الدولة والحقوق الفردية، يعد المشكلة الأساس للهيكل السياسي للحكومة.
وطوال القرون والأعصار، كان المفكرون يبحثون عن مشروع جديد معقول ومقبول لحل هذا التناقض، ليمكن من خلاله إعطاء الحد الأعلى للقدرة والسلطة للدولة، بشكل يتم فيه التضحية بالحد الأدنى من الحريات والحقوق الفردية، وبالعكس أي تأمين الحد الأعلى للحرية والحقوق الفردية، لسلب أقل مقدار من قدرة الدولة وصلاحياتها. ونلاحظ ان المشروع، دقيق بالكامل، لكنه من الناحيتين النظرية والعملية صعب للغاية. فمنذ سقراط وافلاطون وأرسطو وحتى الآن ، كان البحث مستمراً في الفكر السياسي العلماني، وكذلك في المشاريع التي يطرحها الانبياء الكبار، لا يجاد طريق للحل.
الحاكمية بالمفهوم الالهي
وهذان الخطان كانا موجودين في تاريخ الأفكار السياسية، ولكن للأسف، فان التعصب الغربي الأعمى في دراسة تاريخ الافكار السياسية لم يهتم بالخط السياسي للأنبياء، حيث لانجد حتى مصدراً واحداً اهتم بنظرات الأنبياء.
النبي ابراهيم (ع) عاش قبل 19 ـ 20 قرناً قبل الميلاد، وطرح نظرية الحكومة الالهية المبنية على الكتاب المقدس. وكان لابراهيم (ع) صدام واسع مع نمرود، فالأخير شيد نظاماً ودولة استكبارية، والنبي ابرهيم طرح مشروعاً جديداً مقابل النظام النمرودي، ووصل التضاد بين الخطين حداً، كان فيه نمرود يرى ان العلاج الوحيد هو القضاء التام على ابراهيم (ع). كما ثار موسى (ع) ضد فرعون مصر، وطرح نظرية انقاذ المستضعفين، وتفويض الحاكمية للناس. في حين ان هو ميروس (الشاعر اليوناني المعروف) طرح سلسة أفكار باهتة في القضايا السياسية، وذلك قبل سبعة قرون من الميلاد. بينما طرح موسى (ع) في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وابراهيم (ع) في القرن العشرن قبل الميلاد، أفكاراً سياسية عميقة قابلة للتنفيذ.
وكذلك اذا درسنا حياة الانبياء في التاريخ، سنلاحظ ان جذور الافكار السياسية المستندة الى الوحي والغايات الالهية، تتمتع بقدم وأصالة أكبر. وعلى اية حال ، فإن هذين الفكرين تحركا بصورة متوازية، وكانا يبحثان عن مشروع جديد، يصالح بين اقتدار الدولة والحقوق والحريات الفردية.
والسؤال الذي يُطرح هنا، الى أي مدى تم ضمان مسألة الحريات في الحكومة الاسلامية، أو بتعبير آخر، نظام الحكومة الالهية، او نظام ولاية الفقيه؟ وهو السؤال نفسه الذي يطرح بشأن الفكر العلماني والأنظمة الديمقراطية. وهذا يعني ان البشرية لم تصل بعد الى خط النهاية، ولا النهج العلماني ولا النهج الديني، لكي يتم حل المشكلة حلاً عملياً، بصورة تتم فيها التضحية بالحد الأدنى لقدرة الدولة من اجل الحريات الفردية، والحد الأدنى في حقوق الحريات الفردية من اجل اقتدار وصلاحيات الدولة.
وفي القضايا المتعلقة بالحكومة الاسلامية والنظام السياسي الاسلامي، فان ذلك السؤال يُطرح بدقة. في البدء يجب ان نبحث في نظرية ولاية الفقيه باعتبارها نظريةً فقية مقبولة، ثم نجر بها عملياً.
ان دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية يعد تجربة مفيدة في المجالين، لأننا استطعنا بواسطة هذا المشروع ان نضع المادة الخامسة من الدستور الى جانب المادة السادسة، ونصل الى تلفيق منطقي بين الحاكمية الالهية وحاكمية الأمة[1]. والمؤسف ان الاعلام الغربي الشامل الذي حاول اظهار النظام الاسلامي بالمظهر السيء، خاصة من خلال استغلال مصطلح ولاية الفقيه وكلمة الولاية، حملنا ـ من حيث نريد او لا نريد على الانفعال، والا فالمسألة من الناحية النظرية واضحة للغاية. واذا كانت الديمقراطية مصطلحاً غربياً (يونانياً) ذا اتجاه فكري علماني فان هذا النوع من الديمقراطية لا وجود له في النظام الاسلامي، لأن الأساس الأول في النظام الاسلامي ومبنى شكله السياسي للمسلمين ينبع من معتقدهم وايمانهم، والفكر والعمل السياسي يعدان انعكاساً للايمان. ومن هنا فان الديمقراطي القائمة على الفكر العلماني لا وجود لها هنا. ولكن اذا افترضنا ان الديمقراطية اسلوباً من أساليب ادارة المجتمع، قائماً على الرأي العام ونظاماً يستلهم شكله من رأي الأمة، فان هذا المعنى من الديمقراطية، مرتكز في قلب الفكر السياسي الاسلامي والنظام السياسي الاسلامي فالنظام السياسي في عصر الغيبة، أي نظام ولاية الفقيه، قائم على الانتخاب ويعتمد على الرأي العام، هذا اولاً وثانياً فان اساس مرضاة لانه مرضي من الجميع، أي ان الأمة بمختلف طبقاتها ارتضت حكومة الامام وقيادته فالديمقراطية ـ اذن ـ بمعنى الاعتماد على رأي الأمة، موجودة بدقة في النظام الاسلامي.
المعنى الثالث للديمقراطية، والشائع اليوم في العالم، يطلق على المجتمع الذي له ادارة سياسية تضمن الحد الأعلى من الحقوق والحريات الفردية. وبالنظر لأهمية حقوق الانسان في الاسلام، فانه يمكن تخصيص موقع كبير للديمقراطية بهذا المعنى في النظام السياسي اسلامي.
وعند دراسة الفكر السياسي والاطلاع على الحكومة الاسلامية، يجب الالتفات الى هذه النقطة، وهي ان الاسلام، في الوقت الذي يقوم نظامه على الاعتقاد بحاكمية الله تعالى، فانه ينظر الى الانسان والمجتمع بمنظار انساني. ومن هذا المنظار لا بد وان تصطبغ الحكومة بصبغة شعبية، فتتجلى ارادة الله تعالى في ادارة الانسان، وينبغي الاشارة هنا الى عبارة وردت في نهج البلاغة، يقول الامام علي (ع) :"فانهم "أي : الناس" صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"[2]. فالناس من جهة نظر الحكومة الاسلامية صنفان، الأول هو اخوة في الايمان، والثاني ليسو اخوة لنا في الايمان، ولكنهم بشر مثلنا. وهذه الرؤية فرضت على الانسان اصولاً، تتمثل في احترام النظام السياسي الاسلامي والدولة الاسلامية لآراء الناس. وبالطبع فان موضوع نظام الإمامة بالاصالة هو موضوع آخر، ويحتاج الى بحث مستقل.
النظام السياسي في دستور الجمهورية الاسلامية
ان محل ابتلائنا، هو النظام السياسي في عصر الغيبة، والذي نعبر عنه بنظام ولاية الفقيه، حيث تطرح هنا ايضاً قضايا الرأي العام وحقوق الحريات واحترام الانسان. وقد جاء في المادة 14 من دستور الجمهورية الاسلامية:" على حكومة الجمهورية الاسلامية الايرانية وعلى المسلمين ان يعاملوا الأشخاص غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الاسلامي، وأن يحفظوا حقوقهم الانسانية"[3]. وهذه المادة تستند الى الآية الشريفة:{لاينهاكُمُ اللهُ عن الذينَ لم يقاتلوكُمْ في الدين ولم يخرجوكُمْ من دياركُمْ اَن تبروهم وتُقسطوا اليهم ان اللهَ يحب المقسطين}[4]. وفي الحقيقة فان توصية الاسلام بالتعامل باسلوب الاحسان، وليس اسلوب العدل والقانون فقط، لها جانب اخلاقي وانساني أوسع من القانون.
والتأكيد على المادة 14 من الدستور، هو أفضل طريق لحل مشكلة ايجاد التوازن بين قدرة الدولة وحقوق الأمة، على وفق المباني الفقهيةفي النظام السياسي الاسلامي. ونلاحظ هنا أننا حين نطرح قضية الديمقراطية، نطرحها بمفهومها الاسلامي. ويجب ان لا نتصور بما ان هذا المصطلح غربي، فيجب ان لا نستخدمه في مجال المفاهيم الاسلامية. اكرر هنا ثانية، بأن الديمقراطية بمعنى نوع من الفكر والاسلوب الاداري المبني على فصل الدين عن السياسة، ليس لها أي مكان في الفكر السياسي الاسلامي، اما بمعنى قيام النظام السياسي على آراء الناس وحفظ الحقوق والحريات في اطار الدستور، فهو امر مسلم به، والمعنى الوارد في المادة 57 من الدستور حول اطلاق الولاية، هو هذا بالضبط.
ان الولاية في الفقه، هي نوع من التصرف القائم على المصلحة واساسٌ في النظام الاسلامي وفي جميع مجالات الولاية، فان قضية المصلحة تطرح مبنى مسلماً به. من هنا فان الولاية القائمة على المصلحة تشتمل على حقوق الفرد والمجتمع ايضاً. وكلما اتسعت رؤية المصلحة، اتسعت معها مساحة الولاية. فنحن في الكثير من قضايا حياتنا نعتقد بالولاية ونلتزم بها عملياً، حتى غير المسلمين ايضاً، ينظمون قسماً من حياتهم وبرامجهم الفردية والاجتماعية على أساس الولاية، حتى الفرد الاوربي فهو في الكثير من مراحل حياته يحسب للولاية حسابها ويهتم بها، أي انه يؤمن بولاية بعض الاشخاص، مثلاً ايمانه بولاية الخبير، فلا يقول أبداً ان الالتزام برأي الخبير هو ديكتاتورية.
وفي ثنايا النظام القائم على أساس الولاية، تكمن المصلحة العامة للمجتمع. من هنا، فان مسألة ولاية الفقيه بالشكل الذي جاء في المادة 57 من الدستور، وبالمعنى الذي ذكر في الدستور المعدل، ليس بمعنى نفي الاختيار والحرية. أي ان جميع الذين اشتركوا في مجلس تعديل الدستور، أقروا هذه المادة، وأضافوا اليها هذا القيد. وفي النتيجة فان الولاية التي تم التعبير عنها في المادة 57 بـ(المطلقة)، هي ولاية قائمة على المصلحة. حتى أن النقطة كانت مطروحة، وهي إن حل مجلس الشورى الاسلامي من صلاحيات ولي الأمر أم لا ؟ ولكن اكثر الذين صوتوا لصالح الولاية المطلقة، كانوا يعتقدون بأن هذا العمل من مصلحة النظام، والشيء الذي ليس فيه مصلحة للنظام، ليس لزاماً تدوينه في الدستور. مثلما يُدون ضمن صلاحيات ولي الأمر، بأن ولي الأمر يأمر بعدم خروج أي شخص من بيته، فبديهي ان شيئاً كهذا لا نجد له مصلحة ملزمة. واذا وقع شيء كهذا، كما حصل في 10 اشباط 1979 (عشية انتاصر الثورة الإسلامية) حين أمر الامام بخروج جميع الناس الى الشوارع لكسر الاحكام العرفية التي فرضها نظام الشاه، وذلك من أجل المصلحة وتحطيم هيبة الحاكم الطاغوتي. فاذا أوجبت المصلحة ـ يوماً ـ ان يحكم ولي الأمر بعدم الخروج من البيوت، بسبب تلوث البيئة ـ مثلاً ـ ولم يعد كلام الاطباء مؤثراً، فان أمر الولي الفقيه في هذا المجال تحدده المصلحة وليست قضية الدكتاتورية أو التعبيرات المشابهة الاخرى. وحين يكون عنصر المصلحة أرضية للنظام الاسلامي، فان الحكومة ـ شئنا أم أبينا ـ لن تكون على التضاد مع الحقوق والحريات الفردية، لأن الأصل هو مصلحة الفرد والمجتمع.
بالطبع هذا البحث بحاجة الى توضيح أكثر، لكي يتم بحث المعاملات الدقيقة التي يقدمها الاسلام للمصالحة بين الحد الأعلى لاقتدار الدولة والحد الأعلى للحريات وحقوق الناس.
وربما يسأل بعضٌ، كيف يتم التوفيق بين النظام التشريعي بشكله الحالي، أي البرلمانية مع أساس ولاية الفقيه؟ . وهذا أسلوب، أي ان النظام الاسلامي يستخدم هذا الأسلوب لضمان الحقوق والحريات الفردية، والاستفادة من الأساليب التي جربتها البشرية ليس لها معنى حتى تتطابق مع المصلحة. وهذا لا يسمى فكراً تلفيقياً.
وفي بيان الكثير من جزئيات قضايا النظام، يمكن الاستفادة من عنصري الزمان والمكان. فالشيء المسلم به في النظام الاسلامي هو تحديد أساليب دقيقة لضمان الحد الأعلى من اقتدار الدولة والحد الاعلى من الحريات والحقوق الفردية. وفي العمل تتم تجربة فاعليية هذه الأساليب ولكن هذا لا يعني حتمية وجود آيات وأحاديث تتحدث صراحة عن هكذا أساليب فالثابت في النظام الاسلامي، وهو الأصول، ولكن التفاصيل خاضعة للتحول، وحسب تعبير العلامة الطباطبائي، النظام الاسلامي نظام ثابت في وسط متغير. وهذه الحدود هي جزء من الاساس العام لدور الزمان والمكان في حركة تبيين مفاهيم الأصول الاسلامية التي صرح بها الامام الخميني(رض).
خصائص الدين العالمية والشمولية والفعالية
وهنا تتجلى أمامنا ثلاث خصائص ممتازة في الدين، هي عالميته وشموليته وفعاليته. أما عالمية الدين فتتجلى في كونه جاء ليعالج قضية قائمة في كل إنسان، بل ينطوي وجوده عليها، سواء كان من شرق الأرض أم من غربها، ويعطي الغلبة لجوهر مثالي لا يتفاوت فيه الناس، وهو الروح، ومن هنا كانت الأديان عالمية بطبعها وجوهرها.
وتتجلى شمولية الدين في كونه يطارد محورا شموليا قد استوعب الساحة الاجتماعية، فلابد من أن يكون الدين بنفسه محورا شموليا لئلا تبقى للمحور المرفوض باقية في جانب من جوانب الحياة. ولئلا تبقى زاوية من زوايا الحياة متمردة على سيادة التوحيد، ومن هنا ينحل المفهوم العبودي للتوحيد إلى مفاهيم ميدانية بعدد مجالات الحياة، فالنظام السياسي الإسلامي هو مظهر التوحيد في الميدان السياسي، والنظام الاقتصادي الإسلامي هو مظهر التوحيد في الحقل الاقتصادي، وهكذا الأمر في سائر الأنظمة والمجالات التي بمجموعها تتحقق مقولة الباري تعالى {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] وبالنظر إليها تكون العبادة ذات مفهوم حيوي فعال يتساوق مع هدف الدين المتمثل بالهداية، ولو لم تكن العبادة ناظرة إلى واقع اجتماعي تريد تغييره تعود الهداية إلى المفهوم النظري الذي تبين فساده، بل إن شمولية الدين مندكة في عمق محوريته، فالمحورية لا تتصور إلا لشيء ذي جوانب متعددة، بحيث يستوعب الواقع المحيط به من خلالها، فلو لم يكن الدين شموليا لا يعود محورا في الحياة الاجتماعية، وفقدان المحورية الاجتماعية يعني التسليم لمحورية المادة، وهذا ما لا يمكن تصور صدوره عن الدين، فلابد من أن يكون الدين محورا، ولابد من أن تكون محورية الدين وبالتالي شموليته أكبر من محورية المادة وشموليتها، لأن المادة ذات نطاق محدود، بينما يمثل الدين حقيقة ما ورائية مطلقة، وهذا وجه آخر لتقريب شمولية الدين.
ولنقف طويلا عند الميزة الثالثة للدين، وهي الفعالية، فإن التغلب على النزوع المادي وتأثيره الشديد للاستحواذ على شخصية الإنسان يتطلب محورية دينية ذات زخم وفعالية وتركيز بأعلى ما يمكن تصوره من الدرجات والمراتب، بحيث يصبح الغيب قوة حاضرة ومؤثرة في شخصية الإنسان بنحو يكافئ الحس المادي، ويتغلب عليه ويحرر الإنسان من الاحتلال المادي، ويطلق القوى الروحية، ويدعم القوة العقلية، ويحكم سيطرته على القوى الغريزية، وينظم عملها ويشبعها بما تستحقه من الاشباع، ويحول دون طغيانها ونزوعها المفرط نحو المحورية.
وبفضل هذه الفاعلية الدينية يتحقق الإنسان الكامل الذي يتصرف في المادة ويكيفها طبقا لاختياراته، ولا يسمح لها في أن تتصرف به وتقوده. ولهذا الإنسان أعطى الله سبحانه خلافته في الأرض ليتصرف فيها طبقا لقانون الخلافة الذي يقتضي بطبعه تقييد الخليفة بتوصيات المستخلف. وبفضل هذه الفعالية الدينية، يتمكن بعض الكاملين من بلوغ درجة قصوى في الكمال فيمنحهم الله وسام الشهادة «نبوة أو إمامة»، ويكونون حلقة من حلقات خط الشهادة المكلف بهداية البشرية وسوقها إلى الكمال المطلوب.
وبفضل هذه الفعالية الدينية، يتمكن الإنسان الكامل من إنجاز الامتياز الأساس للدين الذي يعجز الإنسان عن العثورعليه في النظم الوضعية، وهو الامتياز الأخلاقي الذي يمثل روح الحضارة الإسلامية، فإن غلبة الغيب على المادة في شخصية الإنسان تترجم في الساحة الاجتماعية إلى ايثار «الآخر»، وهو غيب على «الأنا» وهي المادة المشهودة. وهذا هو جوهر الأخلاق والحل الجذري للصراعات الإنسانية التي استولت على التاريخ والتي بعث الأنبياء من أجل ازالتها، قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه} [البقرة:213]. فإن بداية كل صراع واختلاف عدوان ناشئ من المحورية المادية التي تزين لأحد الطرفين أو لكليهما الاعتداء على الآخر انطلاقا من أنانية توسعية، ولذا قال الإمام الخميني رحمه الله كلمته المعروفة: «لو اجتمع 124 ألف نبي في مكان واحد لما اختلفوا» لأن حضور «الآخر» بشخصيته المعنوية ومصالحه المادية في النفوس القدسية أوضح وأظهر من حضور «الأنا»، فإذا ما حصل هذا الايثار، أو في الحد الأقل هذا التوافق بين «الأنا» و«الآخر»، تكون الصراعات البشرية قد انتهت تماما. وهذا الحل الروحي يتقدم في رتبته وأهميته على الحل القانوني الذي تراهن عليه النظم الوضعية، ولذا يؤكد القرآن الكريم أن الناس في مرحلة الفطرة التي سبقت نبوة نوح (ع) كانوا «أمة واحدة»، ووحدتهم هذه كانت روحية فطرية يوم لم يكن للقانون ولا للشرائع السماوية وجود، حتى إذا ما ضعفت الفطرة ظهر الاختلاف والصراع، «فبعث الله النبيين مبشرين» بالهداية والتربية، وزرع محورية الغيب ومكافحة محورية المادة وصقل الفطرة من جديد في النفوس، ثم «وأنزل معهم الكتاب بالحق بين الناس»، فحكم الكتاب وقوانينه وشرائعه تأتي في رتبة ثانية ومرحلة تالية. ومع أن الفكر الوضعي الحديث يؤمن بأن المجتمع الأول كان موحدا، ثم ظهر القانون في مرحلة تالية، ويطلق على المجتمع الأول اسم «المجتمع البدائي»، وهو نفسه «المجتمع الشيوعي الأول» حسب الاصطلاح الماركسي، إلا أنه مع ذلك يراهن على الحل القانوني، لا لأن أقطاب هذا الفكر عاجزون عن تحليل ظاهرة المجتمع الأول المتوحد من دون قانون، بل لأنهم لا يريدون التصريح بفكرة دينية تقلب منظومتهم الفكرية.
وهذا هو سر ما نؤكد عليه من أن الامتياز الأساس الذي يجده الإنسان في الدين ولا يجده في غيره هو امتياز روحي أخلاقي، مع التأكيد على التفسير الاجتماعي الحضاري الذي يتخذ من الروح والأخلاق قاعدة في بناء الحضارة والنظام الاجتماعي والحذر من التفسير الفردي العلماني الذي يجعل الروح والأخلاق شأنا فرديا. أما الجانب التنظيمي والقانوني الذي يصوغ الدين المجتمع الإنساني وفقه فهو امتياز ثانوي ناشئ من الامتياز الأساس. وهذه هي المغالطة التي يقع فيها العلمانيون والمتغربون حينما يرفضون مقولة تطبيق الشريعة وحاكمية الدين انطلاقا من انتقادات يوجهونها لعدد من أحكام الشريعة، وهي انتقادات ناشئة عن الجهل بحقيقة الدين وجوهره.
وبفضل هذه الفعالية يحافظ الدين على نقائه واستقامته، فإن من أشنع مظاهر انحراف اليهودية ما قالته اليهود: {يد الله مغلولة * غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} [المائدة:64]، أي أنهم حذفوا فعالية التوحيد واعتقدوا أن الله قد خلق الخلق ثم انصرف عنه وأصبح عاجزا عن التأثير فيه. فهو إله غير فعال، وبعدهم جاء النصارى وأساؤوا فهم التركيز الروحي الشديد في المسيحية وتصوروه دليلا على الانصراف عن الدنيا وشؤونها، فألغوا بذلك شمولية الدين.وعلى اثر ذلك أحس أباطرة الروم بالحاجة إلى المسيحية غطاء لتوسيع سلطانهم السياسي وتسويغه، فتحالفوا مع البابوات على أن يحكموا باسم الدين وأن يكون البابا بمنزلة الراعي والمرشد للدولة، وبمرور الزمن تزايد انحراف الكنيسة وأصبحت آلة لتكريس الظلم وتسويغ الجهل والانحطاط، فقامت النهضة الأوربية الحديثة على أساس حذف الدين من الساحة الاجتماعية وحصره بالشؤون الفردية، وهكذا كانت شمولية الدين متوقفة على فعاليته، فلكي يكون الدين شموليا لابد من أن يكون فعالا، ولكي يطبق شموليته على الأرض بنجاح لابد من أن تكون فعاليته في أعلى درجة ممكنة. وهذا هو معنى الإسلام الذي أطلقه القرآن اسما عاما على النبوات والرسالات السماوية كافة، وعلى النبوة والرسالة الخاتمة بنحو خاص. فالإسلام مشتق من صيغة أفعال، وهي صيغة قائمة بطرفين: طرف أعلى يلزم وطرف أدنى يذعن لذلك الالزام، أي أنها صيغة تستبطن فعالية الأعلى وانفعالية الأدنى، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء:65]. فالإسلام هو فعالية الأعلى، والتسليم هو اذعان الأدنى وانفعاليته.
وهكذا يتبين لنا بوضوح أن فعالية الإسلام ضرورة تربوية للفرد، وضرورة حضارية يتحقق بها امتياز الإسلام على ما سواه في المجتمع، وضرورة دينية يحفظ بها الدين نفسه من الانحراف، بحيث يمكننا الآن أن نعتبر، هذه الفعالية في نطاق الإسلام، مقياسا نميز به المدرسة الفكرية الخاطئة من المدرسة الفكرية الصائبة من بين مدارس الإسلام ومذاهبه، وسيتضح عما قليل أن الفارق الجوهري بين مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت (ع) هو فارق الفعالية، فمدرسة الخلفاء الثلاثة آمنت بإمامة عادية غير فعالة، بينما بنيت مدرسة أهل البيت (ع) على أساس إمامة فعالة ذات خصائص غيبية كبيرة تكسبها فعالية استثنائية على الساحة الاجتماعية. معالم الفعالية ووسائلها في الإسلام والفعالية المنشودة في الدين خاصية مضمونة عبر وسائل كافية كامنة في عمق نظام العبادات وجوهر منظومة العقائد. فالصلاة وصفت على لسان الرسول الأعظم (ص) بأنها عمود الدين، لما تنطوي عليه من مران يومي متكرر ومؤكد على استحضار الغيب والمحورية الغيبية في النفس، وفي هذا السياق يأتي تأكيد الشريعة على احضار القلب في الصلاة والانقطاع عن الدنيا فيها، والتدبر في اذكارها وألفاظها، وعدم السجود على ما يؤكل أو يلبس، والدعاء للآخرين في الصلاة قبل دعاء الإنسان لنفسه. فإذا ما استقر محور الغيب في الفرد جاء التأكيد على اتيان المسجد وأداء الصلاة جماعة. وترجيح الصيغة الجماعية على الصيغة الفردية في الدعاء، وتقيد المأموم بمتابعة الإمام، ومراعاة الإمام لحال المأموم، وتقدم الرجال على النساء، محاولة لإقامة الغيب محورا اجتماعيا، واشعار بأن الدين يتخذ من الفرد بداية للوصول إلى المجتمع وأن غرضه لا يتوقف عند الفرد بل إن المجتمع يمثل المقصد الأساس والنهائي للدين، ولذا تمثل صلاة الجماعة الصورة التنظيمية المثالية لما ينبغي أن يكون المجتمع عليه، وتكرار الجماعة بنحو يومي يرسخ في النفس هذه الصورة بحيث تكون الأمثولة التي يسعى لاحتذائها في نشاطه الاجتماعي اليومي، أمثولة القائد المؤمن العادل الذي يلتزم بمراعاة الرعية وتلتزم الرعية بمتابعته، وهكذا تؤدي الصلاة دورها في مكافحة محورية المادة ذلك {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:45] المنبعثين من جسد طاغ قد تحول إلى محور، واقرار محورية الغيب لأنها معراج المؤمن وعمود الدين. ثم إن هذه المحورية تبدأ محورية على صعيد الفرد، ثم تصبح محورية اجتماعية تتصدى لبيان الصورة التنظيمية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الإسلامي القائم على هذه المحورية. ثم يأتي الصوم فريضة سنوية ليؤدي دوره على مدى شهر كامل يدخل فيه المجتمع الإسلامي دورة روحية شديدة التركيز ينقطع فيها انقطاعا تاما عن المادة (أكل، شرب، جماع) طوال النهار من كل يوم، فتبلغ المادة أعلى درجات ضعفها، وتبلغ الروح والمحور الغيبي الذي تدور من حوله إلى اعلى درجات قوتها {كتب عليكم الصيام... لعلكم تتقون} [البقرة:183] وهذا الترقي الروحي الاستثنائي في شهر رمضان سيدخر رصيدا يعين العبادات اليومية الاعتيادية على ترسيخ محورية الغيب وتلطيف المادة واحتوائها وتهذيبها وسلخ المحورية عنها في سائر الأشهر والأٍيام، والحج فريضة أخرى تدخل في هذا السياق. وهذه الفرائض الثلاث تمثل القاعدة الروحية للإسلام والمنبع الكبير لفعاليته وامتيازه الأخلاقي وقدراته التغييرية الفعالة، وعلى أساس منه تبنى سائر الأنظمة في الإسلام كالنظام الاقتصادي والنظام السياسي، ولذا قال الإمام الباقر (ع):«بني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية»، الأركان الثلاثة الأولى هي القاعدة الروحية والتربوية، أما الزكاة فتمثل النظام الاقتصادي المتوازن والقائم على العدالة الاجتماعية. بينما تمثل الولاية النظام السياسي في الإسلام، وهو النظام الذي تقام به سائر الفرائض. وهذا المنهج العبادي الفعال متولد عن منبع عقائدي فعال يتمثل بتوحيد فعال ورؤية كونية فعالة، فالقرآن الكريم نسب القدرة إلى الله سبحانه وتعالى أكثر من 90 مرة، ورفض تحديد هذه القدرة بمجال دون آخر، فهي قدرة شاملة للخلق والتكوين من جهة، وللتدبير والرزق وما يرتبط بشؤون الإنسان والمسيرة الإنسانية وسائر المخلوقات الحية من جهة ثانية، ورد القرآن الكريم بشدة على مقولة اليهود ان «يد الله مغلولة» حيث أجاب {غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة:64].
ومن معالم الفعالية في هذه الرؤية الكونية اطلاقها فكرة خلافة الإنسان عن الله سبحانه وتعالى في الأرض. فالتوحيد الفعال يوجد رابطة فعالة مع الإنسان هي رابطة الخلافة، ليس الإنسان مخلوقا تائها بل هو خليفة الله سبحانه وتعالى والممثل لسيادة التوحيد على الأرض، وقد هبط الإنسان الأول وهو آدم (ع) إلى الأرض وتكون من ذريته مجتمع فطري خال من الاختلافات والنزاعات، وبمرور الزمان ظهرت تعقيدات جديدة على الساحة الاجتماعية لم تكن الفطرة بمفردها قادرة على ايجاد الحلول لها، كما أن الفطرة لم تعد تتمتع بنقائها الأول الذي ربما كان كافيا لها. فأصبحت البشرية بحاجة إلى هداية سماوية ترشدها الى الطريق وتحميها من الضلال، وتنظم شؤونها الاجتماعية، وتزيل عنها الاختلافات، وتصقل فيها الفطرة من جديد، فانبثق من داخل دائرة الخلافة الإنسانية خط جديد أوكلت إليه مهمة تجسيد فعالية السماء على الأرض بمستوى أرقى من الخلافة التي ظهر أن أكثر أفرادها يشذون عنها، ويخونون ميثاق الله سبحانه إليهم فيها، ويقعون ضحية لاغراءات المحور المادي الدنيوي الذي يبدي نفسه أمامهم كانه المحور الوحيد فيضعف احساسهم بالمحور الغيبي التوحيدي وتصبح الخلافة لديهم كما لو كانت وهما من الأوهام. والخط الجديد هو خط الشهادة السماوية المتجسدة، في الأرض، في الأنبياء والأئمة (ع)، وقد جاء تعبيرا عن توحيد يأبى إلا أن يكون في أعلى درجات الفعالية في الأرض بحيث يبعث الله سبحانه وتعالى 124 ألف نبي انتظموا في خمس مراحل، كانت كل مرحلة تبدأ بنبي من أولي العزم ذي شريعة عامة يمتد أمدها إلى حيث ظهور مرحلة جديدة ونبوة عزمية جديدة، ولا يخفى ما في وصف «العزم» الذي أطلق على نبوات نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص) من فعالية مؤكدة.
لقد جاء خط الشهادة ليدعم قاعدة الخلافة، ويكرس مضمونها الرباني، وليدير المجتمع الإنساني إدارة سماوية مباشرة يجتاز من خلالها الإنسان مرحلة الطفولة، وسيتدرج هذا الخط في الكمال بنحو مواز لرشد الإنسان، فيبلغ أرقى مراقيه في النبوة الخاتمة المشتملة بالإسلام. وقبل أن يأذن رعيل النبوة والأنبياء بالرحيل، تأتي الاقدار على حياة سيد الخلق وأشرف المرسلين (ص) وفي الأشهرالاخيرة من حياته الشريفة كان لابد لخط الشهادة من أن يوقف البشرية على حقيقة التحول الذي ستمر به، وطبيعة عمل هذا الخط في المرحلة المقبلة، ذلك أن خط الشهادة كان يتقوم في مرحلة النبوة بعنصرين وركنين هما:
1ــ الوحي المجسد في كتاب سماوي.
2ــ شخصية النبي والرسول (ص).
ولم يكن دور الوحي منحصرا بايصال التشريعات الإلهية إلى النبي (ص)، بل كان إلى جانب ذلك يلعب دورا فريدا في اعداد شخصية النبي (ص) اعدادا استثنائيا بحيث يكون قادرا على احداث موجات التغيير الاجتماعي المطلوبة عبر الأجيال، والاعداد الاستثنائي كان يتمثل بتحويل المعقولات النظرية التجريدية في شخصية النبي إلى حقائق محسوسة ساخنة فعالة، ذلك أن الإنسان يميل إلى جانب الحس المتشعب عن المحور المادي أكثر من ميله إلى جانب العقل المتشعب عن المحور الغيبي، ومهما اشتد هذا الجانب وازدادت المعقولات وضوحا وبروزا وتم تدعيمها بمختلف البراهين والأدلة، فإنه بنفسه يبقى قاصرا عن الغلبة على الجانب الحسي، وحتى لو تمت الغلبة فإنها تتم في نخبة خاصة عاجزة عن التفاهم والتأثير في عامة الناس، ولكي تتم الهداية ويتحقق التغيير الديني المطلوب لابد من وسيلة يتم من خلالها تحويل المعقولات إلى محسوسات، أي تصعيد فعالية المحور الغيبي المعنوي في شخصية الإنسان بحيث تتحول القيم والمثل المعنوية والغيبية الى واقع حسي، وهذه الوسيلة ظهرت لدى الأنبياء بصورة المعجزة الحسية (نار ابراهيم (ع) وعصا موسى (ع) وقيام عيسى باحياء الموتى (ع)) التي يلمسها عامة الناس كما يلمسون ثيابهم، وتؤثر في نفوسهم أكثر من تأثرهم بسائر المحسوسات.
بفعلها يصبح الدين كله بمستوى معين من الحسية، كما ظهرت في الوحي الذي كان يجلي المعقولات في نفوس الأنبياء بحيث تصبح محسوسة لديهم، وهذا هو الاعداد الاستثنائي الذي يقوم به الوحي تجاه الأنبياء (ع) ويتربون على أساسه، ثم ينقلون هذا التحول ويعكسون هذه الحسية إلى المجتمع البشري، فالوحي يربي الأنبياء، والأنبياء (ع) يربون المجتمع البشري. وواضح أن ميل الدين نحو الحسية إنما هو حاجة تغييرية وأسلوب لتحقيق أعلى درجات الفعالية في الخطاب الديني، وليس منهجا ثابتا، بل المنهج الثابت يدور حول المحور المعنوي والغيبي، ولذا حينما آنست النبوات رشدا نسبيا في الإنسان تركت الاتكاء على المعجزة الحسية واتجهت نحو المعجزة الأدبية والفكرية ممثلة بالقرآن الكريم الذي يدل اختتام المعجزات به على أن النبوات تتواضع للإنسان بالمعجزات الحسية لترفعه إليها تدريجيا، ولتوصله في النهاية إلى النضج الكافي الذي يجعلها تؤمن بفعل معجزة فكرية أدبية وليست حسية صرفة.
الإمامة، ضمان مستقبل فعالية التوحيد
وبايصال البشرية إلى هذا المستوى، يكون الوحي قد أكمل دوره وانتهت مهمته بوصفه خطا أولا في الفعالية الدينية، وبقي الخط الثاني ممثلا بشخص الرسول (ص) الذي كان هو الآخر يعيش لحظات حياته الأخيرة. فهل ستسمح السماء بانطفاء جذوتها الفعالة في الأرض؟ ويبقى الإنسان بلا وحي ولا نبوة ولا شهادة؟ هذا ما لا يلتئم مع فعالية التوحيد. صحيح أن مرحلة النبوات قد ختمت بالإسلام، وتوجت بالنبوة المحمدية (ص).
ولكن هل إن ختم النبوات يقتضي انهاء فعالية التوحيد على الأرض؟ أم أنه ظاهرة تعني بلوغ الدين أوج كماله وأن كمال الدين ينحل إلى كمال تفعيلي لكل عناصره ومعالمه ومنها فعالية التوحيد، وطبقا لهذا المعنى تكون فعالية التوحيد قد بلغت أقصى درجاتها في الإسلام؟
الجواب الأول اختارته مدرسة الخلفاء التي آمنت بانقضاء الوحي والنبوة والشهادة وانتهاء دور السماء في الأرض، وليس أمام الإنسان إلا كتاب الله وسنة نبيه.
والجواب الثاني اختارته مدرسة أهل البيت التي آمنت بأن النبوة هي المرحلة التأسيسية في الرسالة الإسلامية، وأن هناك مرحلة امتدادية فيها هي مرحلة الإمامة.
قد ذكرنا من قبل أن فعالية التوحيد يمكننا أن نتخذها مقياسا نكتشف به مستوى الاستقامة الذي تحظى به هذه المدرسة أو تلك من مدارس الإسلام الفكرية ومذاهبه، وهو مقياس يميل بوضوح لصالح مدرسة أهل البيت (ع) التي آمنت بأن فعالية التوحيد على الأرض ضرورة دينية خالدة، وأن هذه الفعالية يجب أن تكون في أعلى درجاتها، وهو المعنى الذي تعبر عنه أحاديث الأئمة: «لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها» والذي يتكرس بشكل مكثف بإمامة ذات خصائص غيبية واسعة.
ونؤكد الآن أن فعالية التوحيد ضرورة تغييرية إنسانية دائمة وليست مؤقتة حتى تنقطع بانقطاع الوحي، فميل الإنسان إلى الجانب المادي والحسي وقلة انجذابه نحو الجانب العقلي والروحي، ظاهرة مستمرة وليست ظاهرة مؤقتة يمكن علاجها بوسيلة مؤقتة كالوحي، صحيح أن الوحي استطاع أن يعبر بالإنسان مرحلة طفولته ويوصله إلى مرحلة رشده لدى ظهور الإسلام، ولكن مرحلة الرشد هذه لا تعني أن معقولات الإنسان قد تحولت إلى محسوسات لديه وأنه صار يرى القيم والمثل المعنوية كأنه يرى أمورا محسوسة ملموسة، بل إن مرحلة الرشد هذه تعني أن الملكات الذهنية للإنسان قد نمت وتطورت بحيث أصبح بطلان الشرك وحقانية التوحيد من جملة الأمور الواضحة التي يأنس بها الإنسان، أما معركة المعقولات والمحسوسات فظاهرة مستمرة وعنصر ثابت دائم الحضور على الساحة الإنسانية، وهي العامل الأساس الذي يجعل الإنسان بحاجة إلى توحيد فعال ينقذ شخصيته من هيمنة الحس على العقل وغلبة المادة على الروح، ويعيد بناء هذه الشخصية على أساس محورية العقل والروح والغيب بدلا عن محورية الحس والمادة والجسد.
والحقيقة المهمة التي نصل إليها هي أن الوحي لا يمثل بالنسبة للإنسان العنصر المباشر والأساس في فعالية التوحيد. إنما العنصر المباشر والأساس هو شخصية النبي التي يتحسسها ويتأثر بها ويباشرها، وبالتالي فإن غياب الوحي لا يقلل من فعالية التوحيد، وبخاصة وأن تراث الوحي ممثلا بالقرآن الكريم، سيبقى محفوظا في الأرض، فيبقى شخص النبي ومقامه الأساس الأهم في هذه الفعالية.
ولذا كان الوحي بنفسه في اللحظات الأخيرة من سفارته الرسمية في الأرض يسعى لضمان مستقبل فعالية التوحيد بعد وفاة الرسول (ص) التي قاربت أوانها فهبط على الرسول الأعظم (ص) بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة:67]، واستجابة لهذا النداء قام الرسول (ص) بتنصيب الإمام علي (ع) خليفة له من بعده، معلنا بذلك قرب انقضاء مرحلة النبوة وظهور مرحلة الإمامة التي ستمتد على مدى قرنين ونصف يتولى فيها الإمامة اثنا عشر إماما. والإمام، في مفهوم مدرسة أهل البيت (ع)، حجة الله على الأرض، ولولاه لساخت الأرض بأهلها، وهو وارث الرسول والأمين على كتاب الله، والايمان به شرط في قبول أعمال المكلفين، ويتمتع بالالهام والكرامة من الله سبحانه، وسنته حجة كسنة رسول الله (ص)، وأعمال المؤمنين تعرض عليه كما تعرض على الرسول، وهو معصوم لا يخطأ ولا يأثم ويحظى بالنص عليه من قبل الرسول أو الإمام الذي قبله، وجميع هذه الخصائص تحكي إمامة فعالة لا نستطيع أن ندرك مداها إلا حينما نقارنها بنظرية الخلافة في مدرسة الخلفاء التي آمنت بانعقاد الخلافة بالبيعة والشورى وولاية العهد حتى وصل الأمر إلى تصحيح خلافة يزيد وأمثاله بمقاييس هزيلة لا نلمس فيها أثرا من دين ولا مسحة من نبوة، والفرق بين المدرستين هو الفرق بين الإمامة الفعالة والإمامة الخامدة التي لا تحمل من خصائص الغيب ما تقوم به نفسها، فضلا عن أن تقوم الأمة التي كلفت برعايتها وحفظها من الضلال.
إن خط الشهادة مكلف بهداية البشرية، وهذا الهدف متوقف على تعديل الموازنة بين المعقول والمحسوس، بين الروح والجسد، بين محور الغيب ومحور المادة بحيث يكون الأول في هذه الجدليات الثلاث هو الغالب والراجح. وهذا التعديل لا يتم بمجرد النصح والتوجيه وارسال الصحف وانزال الكتب، بل لابد من محور اجتماعي يأخذ على عاتقه تفعيل المبادرة السماوية على الأرض بكفاءة استثنائية، ولكي يبلغ التفعيل مداه، والكفاءة أقصاها، لابد من أن يتمتع هذا المحور بخصائص موضوعية فريدة، ويمنح مزايا سماوية استثنائية، وبمجموع هذه الخصائص والمزايا سيتمكن هذا المحور وهو خط الشهادة من معالجة الجدليات المذكورة وتحقيق التعديل المطلوب في الموازنة بين طرفي كل واحدة منها.
وهذه ضرورة مستمرة لا تختص بمرحلة النبوة، وما دام أن المرحلة التالية ليست خالية من هذه الجدليات والمعادلات غير المتوازنة فلابد من تواصل هذه الضرورة.
مرحلة الغيبة وولاية الفقيه
المرجعية امتداد للنبوة والإمامة في هذه المرحلة
وهنا نصل إلى المرفأ الأخير لدراستنا هذه، وهو مرحلة الغيبة، حيث يتكرر السؤال من جديد ولو بصياغة مختلفة شكلا، وهو: هل إن مرحلة الغيبة هي مرحلة انتفاء فعالية التوحيد أو إنها ستكون استمرارا لمرحلة الإمامة الفعالة النابعة عن نبوة فعالة وتوحيد فعال؟
شقان واختياران كل واحد منهما يمثل أطروحة سياسية قائمة، الشق الثاني يعد انتصارا للقائلين بولاية الفقيه العامة، والشق الأول يعد انتصارا للقائلين بنظرية الشورى. والفريقان متفقان على خلود الإمامة وشمولها لجميع العصور اللاحقة لعصر النبي (ص). ولما كان عمر الأئمة الاثني عشر (ع) لا يتسع لكل هذه العصور، لذا شاء الله سبحانه أن يمد في عمر الإمام الثاني عشر بنحو اعجازي لكي تكون إمامته شاملة للعصور التالية، ومن هنا نشأ عنوان الغيبة الذي يدل بنفسه على حرص الإسلام على الاحتفاظ بأجواء الإمامة الفعالة، واشباع الحس الإنساني بتواصل الاشراف السماوي على الأرض. إلا أسن المسألة المثيرة للبحث هي هل إن هذا المقدار من الفعالية يعد كافيا أو لا؟ فقد يقال بكونه كافيا، لأن الغيبة هي عصر استحضار شعوري مركز للإمامة الفعالة بكل قيمها وخصائصها واستقامتها وزخمها.
فليس هناك فراغ يحتاج إلى ملء، والملء لا يتم من قبل الإنسان بل لابد من أن يكون من الله سبحانه وتعالى، وعصر الغيبة يخلو من النص السماوي على أفراد معينين يفترض قيامهم مقام الإمام الغائب (ع) وحينئذ فلا داعي للبحث عن ولاية الفقيه. ولكننا ذكرنا سابقا أسن الفعالية ضرورة تقاس بها سلامة الفكرة، وكلما استطعنا أن نثبت فعالية أكبر نكون قد أحرزنا رصيدا أكبر للاستقامة والتأثير والنجاح على صعيد التغيير. وذكرنا أيضا أن المنبع الأساس للفعالية يتمثل في شخص النبي (ص)، وبالتالي فإن مقولة ديمومة الفعالية تقتضي ظهور من يقوم مقام النبي (ص) بعد وفاته بوصفه منبعا بديلا عنه للفعالية، وهو الإمام، وهي بنفسها تقتضي قيام من يقوم مقام الإمام في حال غيابه بوصفه منبعا بديلا عنه للفعالية. ولو كان الخط الفكري والروحي للإمامة المتواصل في عصر الغيبة يمثل فعالية كافية كان الخط الفكري والروحي للنبوة المتواصل بعد عصر الرسول (ص) يمثل فعالية كافية، ولما كانت هناك حاجة إلى شخص الإمام، إلا أسننا وجدنا أن شخص الإمام له دور موضوعي تام في تكريس فعالية التوحيد لأن الناس سيباشرون الإمام (ع) ويتحسسونه ويتعايشون معه، وهكذا الأمر في عصر الغيبة لابد من توفر شخص يكون محور الفعالية.
كتب الإمام الشهيد الصدر (ره) عن الغيبة الكبرى يقول: «وبذاك بدأت مرحلة جديدة من خط الشهادة تمثلت في المرجعية، وتميز في هذه المرحلة خط الشهادة عن خط الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أو الإمام، وذلك لأن هذا الاندماج لا يصح إسلاميا إلا في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطين معا، وحين تخلو الساحة من فرد معصوم فلا يمكن حصر الخطين في فرد واحد، فخط الشهادة يتحمل مسؤوليته المرجع على أساس أن المرجعية امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط. وهذه المسؤولية تفرض:
أولا: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة، ويرد عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والفاسقين.
ثانيا: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية الإسلامية، وتمتد مرجعيته في هذا المجال إلى تحديد الطابع الإسلامي لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الإسلامي فقط بل للعناصر المتحركة الزمنية أيضا باعتباره هو الممثل الأعلى للايديولوجية الإسلامية.
ثالثا: أن يكون مشرفا ورقيبا على الأمة، وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخل لاعادة الأمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح.
والمرجع الشهيد معين من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص، أي بالشروط العامة في كل الشهداء التي تقدم ذكرها، ومعين من قبل الأمة بالشخص إذ تقع على الأمة مسؤولية الاختيار الواعي له. ثم يقول: «وهكذا وزع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطين بين المرجع والأمة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأمة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها، ويشرف على سلامة المسيرة ويحدد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطين معا في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقا أي معصوما.
وبالامكان أن نستخلص من ذلك أن الإسلام يتجه إلى توفير جو العصمة بالقدر الممكن دائما، وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم بل مرجع شهيد، ولا أمة قد انجزت ثوريا بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية بل أمة لا تزال في أول الطريق فلابد من أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة الدور الاجتماعي الرباني بتوزيع خطي الخلافة والشهادة وفقا لما تقدم... وهكذا نعرف أن دور المرجع كشهيد على الأمة دور رباني لا يمكن التخلي عنه...».
طبيعة خط الشهادة في مرحلة الغيبة
إسن خط الشهادة هو خط الفعالية الربانية المكلفة بتهذيب المادة وسلخها عن المحورية واقرار محورية الغيب والقيم العقلية والمعنوية بوصفها أساسا للحياة الإنسانية، وهذا ما يتطلب الباس المعقولات ثياب المحسوسات، بحيث تصل المعقولات والمعنويات في تأثيرها وفعاليتها في النفس والمجتمع والتاريخ مستوى المحسوسات المادية، ومن هنا لم يكن الوحي والكتب السماوية كافية في تحقيق هذه الفعالية، وكان لابد من شخص محسوس لدى الناس تعهد السماء بمسؤولية الشهادة إليه بحيث تصبح محورية الغيب والقيم العقلية والمعنوية محورية محسوسة. وديمومة مشكلة عدم توازن المعقولات مع المحسوسات يقتضي ديمومة فعالية التوحيد، وديمومة فعالية التوحيد تقتضي استمرار ظهور القيم العقلية والغيبية والمعنوية في محورية محسوسة، فلابد من إمام يواصل بعد النبي مسيرة المحورية الغيبية المحسوسة، وفي غيبة الإمام تصبح الساحة الاجتماعية فاقدة لهذا المحور المحسوس، فلابد من ملء هذا الفراغ ومعالجة هذا النقص في الفعالية. هذا من جهة، ولكن من جهة ثانية لا تريد السماء أن يكون تدخلها المباشر بتعيين أفراد ورموز خط الشهادة ظاهرة مستمرة، فمن المفترض أن البشرية تنمو وتتقدم إلى الإمام، وأن الميل نحو الحسية حاجة تغييرية وليس منهجا ثابتا، ومن مجموع هاتين الجهتين تتحدد طبيعة خط الشهادة في مرحلة الغيبة، فهي شهادة محسوسة في فرد، غير أن هذا الفرد لم يعين تعيينا مباشرا من قبل السماء، وإنما عينت السماء شروطه وخصائصه العامة فيما تولت الأرض الإنسان تحديد الفرد المطلوب وانتخاب الشخص المناسب، في أجواء مفعمة بالإمامة الفعالة ومشبعة بقيمها وروحها، وهكذا فإن السماح للأمة بانتخاب شخص الفقيه المطلوب للقيادة والشهادة وتحديده لم يكن نقصا في فعالية التوحيد بل هو مبادرة سماوية سلكتها السماء حينما أحست رشدا في الإنسان، بحيث أصبح قادرا على انتخاب الفقيه المناسب، إضافة إلى أنه منهج ثابت في التعامل مع الإنسان. وقد رأينا من قبل كيف انقطع الوحي لما أحست السماء ببلوغ الإنسان رشدا كافيا يسمح بانقطاعه.
وهكذا فإن أطروحة ولاية الفقيه تمثل الحد الأخير الذي لا يمكن التنازل عنه من فعالية التوحيد في الأرض. فقد انتهى الوحي بانتهاء عصر النبوة، وانتهى النص بانتهاء عصر حضور الإمام، وبقي العنصر الوحيد الثابت لفعالية التوحيد في الأرض ضمانا لاستقامة المسيرة الإسلامية الخالدة، وهو الفقيه الذي تعين السماء شروطه وخصائصه، وتنتخب الأرض شخصه.
ولنلاحظ أن أطروحة ولاية الفقيه هي الأطروحة التي تجسد أعلى درجات التكامل والتفاعل بين خط الشهادة وخط الخلافة الإنسانية، بين الأرض والسماء، لأن السماء لا تحذف من فعاليتها عنصرا إلا عندما تلمس في الإنسان رشدا كافيا يجعله غنيا عن هذا العنصر، فحذفت الوحي عندما أصبح الشرك أمرا واضح البطلان بحيث تشمئز منه النفس الإنسانية، وحذفت عنصر الحضور حينما أصبح بامكان الإنسان المسلم بلوغ درجة الاجتهاد في الشريعة، وأصبح بامكان المجتمع الإسلامي التمحور حول فقيه يضمن استقامته.
وهكذا فولاية الفقيه هي أطروحة الخصائص الرشيدة الفعالة التي تستجيب لشروط الأرض والسماء معا.
________________________________
[1] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ترجمة واصدار منظمة الإعلام الإسلامي، ص26 ـ 27.
[2] نهج البلاغة، تنظيم د. صبحي الصالح.
[3] دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ص30.
[4] سورة الممتحنة، الآية: 8.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية