يعد وعي مقتضيات الزمان وإدراك مستلزماته، من الشروط الاساس لمعرفة
الاسلام، وتحقيق اصلاح المجتمع الديني. فإذا ما كان البعد عن
الحوارات العلمية وجهل اسلوبها في الاجتهاد، يقود المفكر الى وادي
الاباحية الخطير، الالتقاط الباطل، والإلحاد – لا سمح الله -، فمما
لا شك فيه أن فقدان شرط وعي مقتضيات الزمان سيقود العالم الديني
والمفكر الى وادي الجمود والتحجر المضر والمدمر.
بيد أنه لو اجتمع هذان الشرطان، فسوف يشهد المجتمع الاسلامي تفتح
اجتهاد جامع ومثمر وازدهاره، بنحو يتمكن من قيادة سفينة مصير
الانسان والمجتمع الاسلامي حتى في اشد مراحل التاريخ اضطراباً
وعتمة.
وقد اتضحت اهمية هذين الشرطين، في التفكير الديني الغني الذي
تضمنته أحاديث قائد الثورة الاسلامية الملهم الامام الخميني
وكلماته، خاصة تلك التي صدرت في السنوات الاخيرة من عمره الشريف،
حيث جسَّد ذلك بقوة وثبات. ومراعاة للاختصار، ادعو الراغبين في
التعرف الى ذلك للرجوع الى «صحيفة النور» وبقية المصادر وسأكتفي
هنا بذكر نصوص للشهيد مطهري نفسه، تتناسب وبحثنا، واعتمد عليها:
«ظهرت في القرون الأخيرة – للأسف الشديد – بين أوساط الشباب ما
يصطلح على تسميتهم بطبقة المثقفين المسلمين، توجهات للتغرب وإنكار
الاصالة الشرقية والإسلامية، ومحاكاة المذاهب الغربية والتسليم لها
بشكل مطلق. ولسوء الحظ ان هذا التوجه في طريقه الى الاتساع. ولكن،
ولحسن الحظ، بدأ يشاهد بوادر صحوة ووعي اخذت تظهر في مقابل هذا
النوع من التوجهات العمياء المثبطة. وتعود جذور هذا الضياع المثبط،
الى التصور الخاطئ الذي يحمله هؤلاء في اذهانهم عما يطلق عليه
بالبعد «العقيدي» للأحكام الإسلامية. وقد ساعد سكون الاجتهاد خلال
القرون على اشاعة هذه التصورات الخاطئة. ومن هنا فان واجب
المسؤولين وهداة القوم، الوقوف وبأسرع وقت وبشكل منطقي، في وجه هذا
النوع من التوجهات غير السليمة.
ان علل هذا التيار وعوامله ليست خافية على احد. ولكن ما ينبغي
الاعتراف به هو ان الركود الفكري والجمود الذي ساد العالم الاسلامي
في القرون الاخيرة، وبالخصوص تخلّف الفقه الاسلامي عن التحرك،
وظهور الرغبة في التمسك بالماضي، والامتناع عن مواكبة روح العصر،
تعتبر من اسباب هذه الهزيمة. ان العالم الاسلامي اليوم بحاجه، اكثر
من أي وقت آخر، الى نهضة دستورية – تقنينية -، برؤية جديدة واسعة
وشاملة، نابعة من أعماق التعاليم الاسلامية، لفك قيود الاستعمار
الفكري الغربي من ايدي المسلمين وارجلهم.»(1).
كذلك «ان الجمود والتشبث بنظرة خاصة لعصرٍ ما ومرحلة تاريخية
معينة، هما من ارشد اعداء القرآن. وان اكثر ما كان يحول دون التعرف
على الطبيعة، هو ان العلماء كانوا يعتقدون ان معرفة الطبيعة هي هذه
الصورة التي تحققت في الماضي على يد أفراد من قبيل ارسطو وأفلاطون
وغيرهم. في حين ان القرآن الكريم، وكذلك الاحاديث الجامعة للرسول
الأكرم (ص)، يدعو للبحث والتأمل الذي لا ينتهي، ويحذّر من تضييق
الرؤية تحديدها. كما انه كان ايضاً ومنذ البداية محل اهتمام أئمة
الإسلام العظام، وكانوا يوصون به تلامذتهم وأتباعهم. وقد اشار
الرسول الاكرم (ص) مراراً وتكراراً في احاديثه بقوله: لا تقصروا
فهم القرآن على نظرة خاصة بعصر وزمان محدودين»(2).
وفي مكان آخر، يقول الشهيد مطهري في هذا الصدد:
«من هنا يمكننا ان نفهم جيداً، ان الاجتهاد مفهوم «نسبي» متطور
ومتكامل، يوجب في كل عصر وزمان رؤية وفهماً خاصين. وان النسبية هذه
نابغة من امرين، الاول: حيوية المصادر الاسلامية وقدرتها غير
المتناهية على الكشف والتحقيق. والثاني: التكامل الطبيعي للعلوم
الانسانية وآرائها. وهذا هو سر عظمة الخاتمية»(3).
كما انه ينبغي أن لا ننسي حسَّاسيَّة الزمان وأهمية الموقف، إذ
اننا اليوم اصحاب حكومة دينية، وأننا نسعى لقيادة المجتمع على أساس
الاسلام. وأنَّ ما ينتظر منا ليس اداره ايران بصوره سليمة فحسب، بل
البرهنة على ان نهجنا وأسلوبنا هما من افضل الاساليب واكثر المناهج
مناسبة لإدارة العالم. ففي مثل هذا الظرف الحسّاس فان موفقيتنا في
اداء هذه الرسالة المهمة منوطة بالاعتماد على المعارف والأساليب
التي ورثناها من السلف الصالح، وكذلك بإدراكنا لعصرنا وزماننا
بصورة صحيحة. وان عظمة الاستاذ الشهيد تجلّت في تجسيده لهذين
الشرطين بأبهى صورة. ومما يؤسف له فقدانه في هذا الوقت، يا لفقدانه
من خسارة مؤلمة.
وبالطبع ان المفكرين وأصحاب الرأي والمتنورين ليسوا قلّة، خاصة بين
أوساط الفضلاء الشبان الذين يواصلون طريق مطهري. ولكن كان يؤمل ان
يظهر، ذلك الذي تجلّى في نجوم معدودة كالشهيد مرتضي مطهري والشهيد
محمد باقر الصدر، بصورة تيّار متدفق في الحوزات بعد انتصار الثورة
واستقرار الحكومة الإسلامية، سيما وان الامكانيات والآفاق المناسبة
التي فتحت امام الحوزات العلمية والمفكرين قد فاقت بكثير ما كان في
السابق. وما زال هذا الأمل باقياً حتى الآن على قوته.
لقد قلت من قبل إننا نعاني أزمة فكرية، وليس في ذلك ما يدعو للقلق.
ولكن التأكيد على هذه الملاحظة ضروري وهي انه ينبغي لنا التعامل مع
هذه الازمة بوعي وحذر شديدين، ذلك ان الازمة وليدة انتصار الثورة
الاسلامية وما يعبه من مساعٍ لتشكيل نظام جديد، وان ما هو مهم جداً
وحياتي بالنسبة لنا هو ان نختار اسس نظامنا بالتدبير والرؤية
الشاملة. صحيح ان المجتمع يعتقد بالإسلام، وان الاوفياء للثورة
الاسلامية يعتبرون الاسلام قاعدة العمل، ولكن السؤال المطروح هو:
اي اسلام، وأي فهم اسلامي؟. وان السعي للإجابة المناسبة عن هذا
السؤال هو من اهم مسؤوليات المفكرين الملتزمين وهداة القوم
المتنورين.
ورغم ان الاجابة المناسبة معروفة في هذه المرحلة، إلا انها بحاجة
الى شرح وتوضيح لكي يعيها المجتمع ويكون مستعداً للدفاع عن الحقيقة
في مواجهة الاخطار التي تداهمها.
فمن الواضح، من وجهه نظر الامام والأوفياء للثورة، ان اسس نظامنا
المنشود في هذه المرحلة ينبغي ان تستلهم من الرؤية والأفكار نفسها
التي اوجدت الثورة وقادتها وحققت انتصارها. يعني من فكر الامام
الخميني وافكار عظام من امثال مطهري. الافكار التي جاهد من اجلها
عظماؤنا اليوم بدءاً بسماحه القائد وانتهاءً بالكثير من مسؤولي
البلاد المحترمين، ولاقوا بسببها العذاب والسجون، وضحوا في سبيلها،
وقاتلوا التحجر والالتقاط والاستبداد والاستكبار لدفاع عنها. ولكن
يجب ان لا نغفل، فالآخرون موجودون ايضاً، ممن يرفضون هذه الرؤية
والأفكار، على الرغم من أنه قد يتصف بعضهم بحسن النية.
فللزمان والمكان دور مصيري في المعرفة الاسلامية، التي دعا اليها
الامام ومطهري وامثالهما، والتي نرغب في ان تكن اليوم قاعدة
نظامنا. ان طريقنا هو طريق القرآن. والطريق الذي يحدده القرآن هو
اكثر كل الطرق احكاماً وثباتاً: «ان هذا القرآن يهدي للتي هي
أقوم»(4). بيد انه ينبغي ان لا نغفل عن ان الاجابة التي يقدّمها
القرآن تتناسب وطبيعة المسائل التي نعرضها على القرآن. فالإنسان
الذي يعيش هموم عصره يمتلك من المسائل ما لا تخطر اصلاً ببال
الانسان الآخر الذي يفكر العصور الأخر، فضلاً عن ان يجد الحلول
اللازمة لها. و من الطبيعي ان القول بتأثير الزمان على عقلية الفرد
وشخصيته، لا يعني ان الزمان وحده هو العامل المصيري في شخصية الفرد
وكيانه.
ان التأمل في القرآن، والتمعن في مصادر المعرفة الاسلامية، يفيدان
هذه النكتة الشريفة وهي ان للإنسان جوهراً اصيلاً لا يتحدد بحدود
الزمان والمكان، يتملك الانسان بسببه مجموعه من الأسئلة الثابتة
والاحتياجات الدائمة، وهي لا تتأثر بمرور الزمان. ومن الطبيعي ان
تكون الاجابة ثابتة ايضاً، على هذه الاسئلة والاحتياجات الدائمة
والثابتة. وهذا هو ايضاً ملاك وحدة الدين وانسجامه مع التحولات
التي تطرأ في مصير البشرية ومسيرة الحضارات.
فمن وجهة نظر الاسلام لا يعتبر الانسان موجوداً فاقداً للشكل، وان
الزمان والمكان وحدهما اللذان يشكلان شخصيته. بل يمتلك الانسان
فطرة وشأناً ثابتاً، وان الدين الحقيقي هو الذي يرسم له طريقه
الثابت والخالد، الذي يتلائم مع شأنه هذا وينسجم مع فطرته. وهذا
ايضاً احد الاسرار الباقية للدين الاسلامي الحقيقي الخالد.
بيد ان هذا الجزء الثابت هو شأن من الوجود، وأحد أبعاد شخصية
الانسان وليس كلها. اذ ان الشخصية الانسانية في أبعادها الأخرى
قابلة للتبدل، وفي حال تحول وتطور مستمرين. ذلك ان الانسان يحيا في
صلب الطبيعة والمجتمع، وهو باستمرار يواجه قضايا جديدة، فالذي يعيش
ظروف عصره يستطيع في كل وقت ان يعي هذه القضايا ويدرك الموقعية
الحقيقية والتاريخية لإنسان ذلك العصر ومجتمعاته. فلو كان هناك
انسان ما يحيط بجميع المعارف الاسلامية، وكان مطلعاً بما فيه
الكفاية على آراء جميع الاساتذة والفلاسفة والفقهاء والمفكرين
الاسلاميين، ولم تكن تشغله غير مسألة بدوية الانسان، فانَّ كل هذه
الثروة الفكرية والجمود في فهم القرآن والسنة، سوف تقتصر على
الاجابة عن هذه المسألة وهي بدوية الانسان. وبذلك لن تحل، بأي وجه،
اية معضلة من معضلات الانسان المعاصر. وبالتأكيد فان الاسلام الذي
يطرح وفقاً لهذه الرؤية وهذا التفكير، يتناسب مع زمان ومكان
منصرمين لا وجود لهما الآن. ان المدرك لمتطلبات عصره، هو وحده الذي
يثري المعارف الاسلامية ويغنيها، ويحرص على تكاملها والاستفادة
منها.
فذلك الغافل عن الانسان وما مرّ عليه طوال التاريخ …
وذلك الذي لا يعنيه ما يعاني المجتمع البشري …
وذلك الذي لا يفكر مطلقاً بحقوق الناس والمجتمع، وبضرورة الدفاع
عنهما مقابل العناصر التي تتهددهما، ويجهل احتياجات انسان عصره …
وذلك الذي لم يدرك روح عدالة الاسلام …
وذلك …
كيف يستطيع ان يجد الحلول الاسلامية لكل هذا و مئات المواضيع الاخر
المشابهة؟. كيف يتمكن الاسلام، الذي يروج له، ان يلبي حاجة
البشرية؟
ان المعارف بالإسلام، الواعي للعصر، هو الذي يتمكن من ذلك، هو الذي
يستطيع بجده ومثابرته وبالتمسك بالمصادر الاسلامية ومعارفها، ان
يوجد الاجابة المناسبة لكل ذلك. وهكذا كان الشهيد مطهري. كان
عالماً اسلامياً بارزاً، مدركاً للعصر، واعياً لآلام الانسانية.
ان هذا الذي اشرت اليه من خصوصيات الشهيد مطهري، ليس سوى لمحات
سريعة من الوجود المبارك لذلك العظيم، ولم اكن بصدد احصاء
الخصوصيات البارزة لشخصية الاستاذ الشهيد مطلقاً. لقد امسى مطهري،
بفضل هذه السمات والخصوصيات الكثيرة الاخرى، وجهاً علمياً
واجتهادياً وفكرياً دينياً لامعاً في عصرنا، واحتل مكانة ممتازة
فيه. وان الآثار العلمية التي خلّفها في مجموعها عديمة النظير.
ولعلّ من المناسب هنا ان نشير الى لمحات من جهوده الفكرية
والاصلاحية.
مطهري وعلم الكلام الجديد
ادرك الاستاذ مطهري جيداً الخطر الذي يتهدد المعتقدات الاسلامية
وكيان المسلمين في ظروف اجتماعية – تاريخية خاصة، وجنّد له كل قواه
بشجاعة مدهشة. وقد استطاع ان يبرهن في جميع المجالات، على سطحية
الافكار المهاجمة ووضاعتها، وان يثبت قوة التعاليم الاسلامية
وسموها واستحكامها. وكذلك تمكن من افشاء المؤامرات السياسية
المتنوعة التي كانت تتخذ من الفكر الاسلامي وثقافية نقاباً لها.
وكان موفقاً في ذلك الى حد كبير. والمسلَّم به هو ان الاستاذ مطهري
كان من اكثر الشخصيات الفكرية والعلمية الاسلامية اقتداراً في طرح
علم الكلام الجديد وبسطه، بشكل جامع ومدون، لاسيما ما يتعلق
بالمسائل الفكرية المهمة المطروحة في هذا العصر. وان الاهتمام الذي
ابداه الاستاذ بمسائل علم الكلام الجديد ومباحثه، وشمولية الابحاث
التي تطرق لها وعمقها وحيويتها، ليس له نظير في العالم الاسلامي
المعاصر، حيث تركت جهود الاستاذ الفكرية على الاحاطة بالفلسفات
المادية الحديثة ونقدها، والبرهنة على متانة العلوم العقلية
الالهية وقوة البحوث الاجتماعية الاسلامية، وان مقارنة حصيلة جهوده
هذه بما انجزه الآخرون في هذا المجال، توضح عمق فكر الاستاذ وثراءه
وكماله.
كذلك انطلق الشهيد مطهري، ومن خلال ادراكه السليم لعصره، وتشخيصه
الصائب للوضع الفكري والسياسي والظروف الاجتماعية التي كان يمر بها
العالم الاسلامي خاصة ايران، والتي قادت الى ظهور تيارات فكرية
التقاطية متأثرة بالأفكار الرائجة آنذاك، اضافة الى كشف احابيل
اولئك الذين سعوا لإخفاء حقيقة الالحاد وراء نقاب اسلامي، انطلق
لخوض غمار المواجهة الواعية التي عرّت كل ذلك وكشفته على حقيقته،
وهذا ما أهلّه لأن يثبت اسمه في تاريخ الفكر الاسلامي المعاصر، ليس
بمثابة فارس ميدان المواجهة مع الإلحاد فحسب، بل باعتباره بطل
ميدان مقارعه الالتقاط الباطل ايضاً. حيث أثبتت آثاره العميقة في
هذا المجال، وهن توهمات الذين يقفون وراء الالتقاط والتأويل ووضاعة
آرائهم وسذاجتها. في ذات الوقت الذي برهنت على حقانية الآراء
الإسلامية ومنطقيتها، وقدرة دين الله سبحانه على حل معضلات العصر.
يقول الشهيد مطهري في وصفه لوجه المادية المعاصر في ايران، بما فيه
الصريح والمنافق:
«لجأ الماديون مؤخراً الى اساليب مضحكة، تشير يوماً بعد آخر الى
فقر فلسفتهم ووضاعتها. ومن هذه الاساليب «الاساءة الى الشخصيات».
حيث انهم عن طريق تحريف واقع الشخصيات التي تحظى باحترام الناس،
يحاولون ان يلفقوا الانظار والاذهان الى مذهبهم و فلسفتهم»(5).
وبعد ان يشير الى نماذج من هذه الأساليب، يواصل البحث في تعريف وجه
المادية المنافق، فيقول:
«لجأت المادية في ايران خلال السنة او السنتين الاخيرتين، الى حيلة
جديدة اكثر خطورة من حيلة «الاساءة الى الشخصيات»، وهي «تحريف آيات
القرآن الكريم» وتفسير مضامين الآيات تفسيراً مادياً مع الابقاء
على المعنى الظاهري للألفاظ. وهذه حيلة جديدة اخذت تمارس في ايران
منذ ما يقارب السنتين(6). علماً ان اسلوب هذا المشروع او الحيلة
ليس بالأمر الجديد، حيث كان قد عرضه كارل ماركس قبل مئة عام، بدافع
استئصال جذور الدين من اذهان الجماهير المؤمنة»(7).
ويضيف (رض): «ان المادية في مظهرها الحديث، والتي وجدت لها موطئ
قدم في ايران منذ أقلَّ من نصف قرن، لم تكن تتوقع في البداية بأنها
ستواجه منطق الالهيين بالصورة التي واجهته فيما بعد، وكذلك هذا
الحجم من رواج الدين ونفوذه في اوساط عامة الطبقات وبالأخص
الجماهير. بل كانت تعتقد انها سوف تتمكن بكل سهولة من القضاء على
الصعيد الاجتماعي. وقد اثبت الميدان العلمي تفاهة حسابها هذا. اما
الآن وحيث عجزت عن إثبات وجودها سواء عن طريق المنطق والاستدلال،
او عن طريق ما تصطلح عليه بايجاد الوعي الطبقي بين اوساط الجماهير،
بل واتضح عملياً إن الدين هو اقوى الطاقات واكثرها نفوذاً في صفوف
الطبقات وبالخصوص الطبقة المحرومة والمظلومة، فقد اخذت تفكر في
تسخير الدين ضد الدين». وفيما بعد كانت نهاية الاستاذ ايضاً على يد
هذا الالتقاط والالحاد المقنّع حيث تم اغتياله. ألم اقل ان التأويل
والالتقاط يلجأ الى الارهاب كلما سنحت له الفرصة بذلك؟
مطهري والنزعة القومية لم تقتصر جهود الأستاذ مطهري على البحوث
النظرية الصرفة، بل نقل افكاره المقتدرة الى ميدان الحياة
الاجتماعية للإنسان المعاصر. وقد سعى، من خلال الوعي الصحيح
للاحتياجات الفكرية والاجتماعية للمجتمع خاصة الجيل الشاب المتعلم،
الى إزالة الغموض والإبهام وإيجاد الحلول للمعضلات التي كانت تهدد
سلامة المجتمع الثقافية وأصالة هويته التاريخية، واستقلاله الفكري
والسياسي. وان نشر الكتاب القيّم «الخدمات المتقابلة للإسلام
وإيران»، ومن جمله الآثار التي باستطاعتها ان توضح سعة افق معرفة
الأستاذ مطهري ووعيه الذي ليس له نظير من جهة، ومدى استيعاب المفكر
الزاهد الواعي لآلام عصره، وإدراكه لمسؤوليته الفكرية تجاه مصير
البلاد والشعب الايراني والأمة الاسلامية من جهة أخرى. وحتى ندرك
اهمية اقدام الشهيد مطهري في هذا المجال، ارى من الضروري توضيح
النقطة التالية وهي: ان «النزعة القومية» تمثل مبنى النظم الحديثة
لأوروبا والغرب، وكانت قد ظهرت في مواجهة عالمية الكنيسة وانتصرت
عليها. ولها في الغرب جذور وسابقة ومفهوم خاص بها. إلا انها،
وكبقية المفاهيم الغربية، عندما جاءت الى هذه الجهة من العالم
المستعمر عملياً وسيلة بيد القوى الاستعمارية تتمكن من خلالها،
بالكذب والخداع، من مصادرة الهوية القومية والثقافية والدينية
للمجتمعات المستعمَرة، وهذا بحد ذاته من اساليب عصر الاستعمار التي
تستحق التأمل.
وفي ايران ايضاً كان هناك متغربون ممن لا يهمهم مصير الاسلام، ولم
يكن لديهم اعتقاد صحيح به، ولم يكن لديهم ما يشدهم بايران، الا
انهم وباسم الدفاع عن ايران والايرانية، انتقضوا لمعاداة الاسلام
الذي يمثل في الواقع ماهية هويتنا الثقافية والقومية الاصيلة،
وللقضاء على اكبر المعاقل واشدها مقاومة في مواجهة سلطة الاجانب
ونفوذهم، والناهبين الدوليين. وقد امسى الكثير من هؤلاء بوعي،
وبعضهم بغير وعي، الأداة المنفذة للسياسات الاستمارية في ايران.
في مثل هذه الاجواء، احس مطهري بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، ومن
خلال نشاطاته في هذا المجال والتي منها نشر كتاب «الخدمات
المتقابلة للإسلام وايران»، كرّس جهوده في اثبات هذه الحقيقة وهي
ان الاسلامية والإيرانية ليسا فقط لم يتعارضا مع بعضهما، بل كان
لديهما ايضا خدمات متقابلة قيمة اسداها بعضهم لبعضهم الآخر. ولعل
ذكر هذه الفقرة من الكتاب، لا يخلو من فائدة: «يعلم الجميع انه في
الفترة الاخيرة بدأ افراد لا يحصون، وتحت شعار الدفاع عن القومية
الايرانية، حملة واسعة ضد الاسلام. وبذريعة معادات العرب والعربية
راحوا يسيئون للمقدسات الاسلامية. وإننا نرى اليوم آثار هذا العداء
للإسلام في ايران في الكتب والصحف والمجلات الاسبوعية وغيره، وهي
تشير إلى انها ليست بالأمر الاعتباطي والتصادفي، بل هي خطة محسوبة
مبيتة»(8).
وفي مكان آخر يتناول (رض) ذلك بقوله:
«… من الممكن اثارة الشبان البسطاء والسذّج، وتحريك مشاعرهم
القومية والعنصرية، ضد الاسلام وقطع ارتباطهم به. وهذا يعني انه
اذا لم يكن بمقدورهم احلال المشاعر الدينية الاخرى محل المشاعر
الاسلامية، فان باستطاعتهم تبديل المشاعر الاسلامية بأحاسيس معادية
للإسلام. وبذلك يتمكنون من اسداء خدمات جليلة للمستعمرين
الأوروبيين. من هنا فنحن نرى افراداً هم اساساً لا يؤمنون بالدين
والمذهب والله مطلقاً، الا انهم يدافعون في مؤلفاتهم وكتاباتهم
الفارغة الواهية، عن الزرادشتيتة وايران ما قبل الاسلام. وان هدفهم
من ذلك واضح تماماً. ونحن هنا نريد ان نخوض غمار هذا البحث بالمنطق
نفسه الذي تذرع به هؤلاء الافراد في عدائهم للاسلام، اى منطق
القومية والمشاعر الوطنية والعرقية. اجل بالمنطق نفسه. علماً ان
المشاعر القومية والى الذي تتحلى بالسمة الايجابية، وتصب في خدمة
المواطنين، هي محل اهتمام و تقدير. ولكن عندما تتخذ لنفسها سمة
سلبية وتصبح سبباً في التمييز والتفريق، وفي رؤية المحاسن والمساوئ
أو عدم رؤيتها، والتحيز بسببها، تكون غير اخلاقية وغير انسانية.
ولا يخفي ان هناك منطقاً اسمى من منطق الاحاسيس القومية والمشاعر
العرقية، ووفقاً لهذا المنطق يكون العلم والفلسفة والدين فوق مستوى
المشاعر والأحاسيس واذا كانت المشاعر القومية والكبرياء محببة في
بعض الاحيان، فهي مرفوضة في البحوث العلمية والفلسفية والدينية.
ونحن هنا لا يهمنا المنطق العقلي والإنساني المتسامي، انما نريد ان
نخوض البحث بالمنطق نفسه الذي يخدع الدجالون به شبابنا ويحرفونهم
عن الاسلام. نريد ان نخوض البحث بمنطق المشاعر والأحاسيس. نريد ان
نرى بمنطق المشاعر القومية، هل ينبغي لنا ان نعتبر الاسلام من
صلبنا، ام ان امر غريب عنا وأجنبي؟ هل ان الاسلام، بمقياس القومية،
جزء من القومية الايرانية، وينبغي للمشاعر القومية الايرانية ان
تحيط به، ام انه غير ذلك»(9).
هكذا تمسي معرفة الزمان وإدراك المعاناة سبباً في ان يقدم عالم
عظيم على توضيح الحق و فضح المؤامرة ضد الدين والأمة والثقافة
والاستقلال، وان يوفق في ذلك.
مطهري ومكانه المرأة وحقوقها
اقدم الشهيد مطهري، بفضل ادراكه الصحيح لمقتضيات العصر، وفي الوقت
الذي كانت المرأة في المجتمع الاسلامي تعاني من ازمة الهوية
والمصير المجهول، اقدم على اظهار الصورة الحقيقة للمرأة المسلمة
التي كانت تعاني من متاهات الافراط و التفريط، ودافع عن مكانتها
ومقامها الشامخ اللذين كانا في معرض هجوم رهيب من كلا الجانبين:
جانب المخدوعين بمظاهر الحضارة الغربية وثقافتها الذين كانوا في
الواقع ينفون شخصية المرأة الاصيلة ومكانتها و كمالها، ولم تكن
المرأة في صلب نظرتهم اكثر من وسيلة وليست انسانة. حيث كان الذين
يقفون وراء الشعارات الخادعة حول المرأة، يسوّغون استغلال المرأة –
مادياً ومعنوياًَ – من قبل الرجل، باسم التجدد والعصرنة، و قد ادّت
الجهود غير المقدسة لهذه العدة الى اضعاف كيان الاسرة، وإشاعة
التحلل والانحطاط في المجتمع.
والجانب الثاني: جانب السلفيين المتحجرين الذين يسدَّون باسم
الاسلام جميع الطرق امام تكامل المرأة، ويطالبون بحرمانها من جميع
حقوقها الطبيعية والإنسانية. وان هذه العدة ايضاً كانت تعتبر
المرأة ليست اكثر من «شيء» بدلاّ من «فرد». وكانت نساء المجتمع
المظلومات يعانين من ظلم مضاعف بسبب كلا الفريقين. ومما يؤسف له ان
هذه المضايقات ما تزال موجودة حتى في وقتنا الحاضر.
لقد اخذ الاستاذ مطهري، وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية، على عاتقه
مهمة التعريف بشخصية المرأة المسلمة المنشودة، والدفاع عن حقوقها و
كرامتها. ومن جملة ما قدّمه للمجتمع المتعطش للحقيقة كتاباه
القيمان: «نظام حقوق المرأة في الاسلام» و«مسألة الحجاب». ومن
المفيد ان نشير هنا الى انه ورغم مرور ما يقارب الربع قرن على نشر
هذين الكتابين، فما يزال يوجد هناك من ينكر على المرأة، باسم
الاسلام، شخصيتها وقيمتها، ويعارض تقدمها وتكاملها ومنحها حقوقها
الاجتماعية. ألم يكن هناك من كان يقول: لا يحق للمرأة ممارسة
النشاط الاجتماعي، بل وحتى التدخل فيه، والذي قوبل لحسن الحظ
باستنكار سماحه الامام الخميني وإدانته؟.
فالشهيد مطهري وقبل سنوات من انتصار الثورة الاسلامية، شخّص القضية
ونبّه الى خطورتها، وأثار الموضوع بدقه متناهية وأوضحه بشكل مدروس.
واننى على اطمئنان من ان هذا العظيم لو كان بين ظهرانينا اليوم
لكان لديه كلام جديد ومواضيع اكثر حداثة حول المرآة ودورها، ولفتح
آفاقاً وضاءة امام نظامنا الذي يجتاز مرحله التأسيس والتكامل. أليس
في هذا مدعاة للحسرة والشكوى، حيث انه ومنذ انتصار الثورة وحتى
الآن، وبعد ما تحررت الطاقات الفكرية الضخمة ووضعت الامكانيات
الواسعة تحت اختيارها، لم ينشر كتاب او كرّاس بمستوى ما كتبه
الشهيد مطهري عن المرأة وحقوقها، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية التي نعاني منها؟
مطهري والاهتمام بتربية الطفل
نظراً لأهمية تربية الاطفال في المجتمع، والأخطار الجسيمة التي
تتهدد براعم اليوم وقادة المستقبل، تواضع الشهيد مطهري ونزل من
اعلى قمم المعرفة العقلائية والفلسفية والفقهية، ليقوم بعمل المربي
والمعلّم الرءوف، حيث نشر كتاب «قصص الابرار» بلغة بسيطة مفهومة
لدى الفتيان، واهتم بتربية هذا الجيل وتوجيه شخصيته الوجهة
الصحيحة. ان كتاب «قصص الابرار» هدية الاستاذ الكبرى لمجتمعنا
الاسلامي.
مطهري والعدالة الاجتماعية
مثلت العدالة الاجتماعية الهاجس الاكبر الذي شغل ذهن هذا العالم
الرباني والفيلسوف وعالم الاجتماع والفقيه الواعي لمقتضيات عصره،
بالنسبة للإنسان والمجتمعات الانسانية. كان قد ادرك ان «العدل»
يمثل روح الاسلام، وبهذا الفهم كان ينطلق في دراسة الاسلام والقرآن
والأحاديث والروايات، ومن الطبيعي ان تقوده النتائج التي حصل عليها
في هذا المجال الى تأمين العدالة للإنسان، يقول الاستاذ في هذا
الصدد:
«ان اصل العدل من المعايير الاسلامية التي ينبغي ان نقيس بها
الاشياء. فالعدل هو من مجموع علل الاحكام، وليس من المعلولات. فهو
لا يعني: ان كل ما قاله الدين عدل، بل كل ما هو عدل يصدقه الدين.
هذا هو مقياس العدالة في فهم الدين. اذاً ينبغي البحث لنرى هل
الدين مقياس العدالة، ان العدالة هي مقياس الدين؟ فالتقديس يقتني
القول ان الدين مقياس العدالة. إلا ان الحقيقة ليست كذلك. فهو نظير
لذلك الذي يبحث في باب الحسن والقبح العقليين لدى المتكلمين، حيث
صنف على ضوئه الشيعة والمعتزلة بأنهم من العدلية. اي اعتبروا العدل
مقياس الدين، وليس الدين مقياس العدل»(10).
ومن الواضح تماماً، ان الذي لديه مثل هذا الفهم عن الاسلام، يختلف
كثيراً عن ذلك الذي يدعو الى فتح «الرسالة العملية» والتمسك بما
جاء فيها بحذافيره، ليتحقق لك الاسلام. ان المواضيع التي طرحها
الاستاذ في المجال الاقتصادي خاصة في مجال تأمين العدالة
الاقتصادية، كلّها قيمة، وان الكثير من ملاحظاته باهر. فالأستاذ لن
يتخلّي عن الشعار المحوري للإسلام، الذي هو العدل، لكون الماركسيين
الملحدين يرفعون شعار مناصرة العدالة الاجتماعية. ولن يكتم فهمه
الصحيح والمعتدل لحرية الانسان والملكية الفردية السليمة، لكون
الامبريالية الغربية تناصر مبدأ الملكية والحرية الفردية. وكثيراً
ما كانت العدالة بمعناها العام، والحرية، تحظيان بمكانه سامية جداً
وممتازة في نظر الاستاذ.
لقد خلّف الاستاذ العلامة آية الله مطهري الشهيد، العشرات من
المحاضرات والمؤلفات والبحوث والتقريرات في ميادين الفكر بمقولاته
المختلفة ومجالاته المتعددة، الفلسفية والكلامية والفقهية
والاقتصادية والاجتماعية. وهي مؤشر على عمق نظرته وسعة معرفته
وقدرته الفكرية التي يقل نظيرها. كذلك هي حصيلة للجهود الفكرية
والاجتهادية لهذا العظيم التي جاءت استجابة لتلبية حاجة العصر
وإنسان العصر. وان كل هذا أهّله لأن يكون في طليعة المفكرين
والمصلحين الدينيين طوال تاريخ الاسلام.
لقد كان مطهري قبساً مضيئاً سطع في سماء الفكر وأضاء طالع الامة
الاسلامية في قلب الفكر والظلم والجهل والالتقاط والجمود والتحجر،
بفضل الطاف الله الخاصة، وبعون فيض روح القدس، وببركة المعرفة
الثرة والفكر السامي والرؤية العميقة وإدراكه لمقتضيات الزمان،
وتقواه التي يُضرب بها المثل. وإذا ما استطاع الاعداء ان يغيبوه
مبكراً، فان نجمة حضوره الساطعة اضحت سراج مجالس طلاب الحقيقة،
وبات اسوة وقدرة لكل الذين ينشدون الحق والعدل الحرية، ويبحثون عن
حقيقة الدين في الحياة.
طابت ذكراه، وسعدت روحه، ووفقنا الله لمعرفة طريقه ومواصلته.
____________________________
(1)- المرجعية و علماء الدين، ص 68 و 69.
(2)- المصدر نفسه، ص 70.
(3)- المصدر نفسه، ص 73.
(4)- سوره الاسراء، آية 9.
(5)- الدوافع نحو المادية، الطبعة الثامنة، منشورات الحكمة، مقدمة
الطبعه السابعة، ص 15.
(6)- كتب هذا الموضوع في عام 1978.
(7)- الدوافع نحو المادية، ص 34.
(8)- الخدمات المتقابلة للإسلام وإيران. الطبعة الاولى عام 1970،
شركة انتشار.
(9)- الخدمات المتقابلة، ص 13 و 14.
(10)- دراسة مجملة لمباني الاقتصاد الاسلامي، ص 14، الطبعه الاولي،
صفر 1403 هـ، منشورات الحكمة.
المصدر: الوحدة العدد 166