مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الولي الفقيه ومرجعية الاختيار
الشيخ محمد شقير


إن أطروحة ولاية الفقيه، التي تثبت للفقيه نوع ولاية، قد حازت على قسط من البحث والاهتمام، وكثرت حولها الأبحاث والدراسات التي عالجت بعض الإشكاليات، وأجابت عن بعض المسائل.لكن بقيت بعض الجوانب التي لم يسلط عليها الضوء بشكلٍ كافٍ، أو لم تبلور بشكل مستقل، وكامل. ومن المسائل التي تحتاج إلى بحث خاص، ومستقل، هي مسألة كيفية وصول الفقيه إلى منصب الولاية. وما هي مبادئ مشروعية ولايته؟ وكيف تثبت له هذه المشروعية؟ وعلى حد تعبير الإمام الخميني(قدس سره) "كيف تنعقد الإمامة للفقيه"؟ وهذا ما سيقودنا إلى البحث في معنى الولاية، لتحديده والوقوف على المفهوم الذي تختزنه الكلمة؛ ليتم البحث لاحقاً حول كيفية انعقاد هذه الولاية للفقيه.
معنى الولاية
اعتنى علماء اللغة بكلمة الولاية وذكروا لها عدة معانٍ، يمكن إرجاع معظمها إلى معنى واحد. ونشير هنا إلى بعض أقوالهم: يقول الراغب في مفرداته: "الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس فيهما. ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة، والنصرة، والاعتقاد، والولاية، والنصرة. والولاية تولّي الأمر، وقيل: الوِلاية والوَلاية نحو الدِلالة والدَلالة، وحقيقته تولّي الأمر "[1].
ويقول ابن الأثير: " في أسماء الله تعالى: الوليّ هو الناصر، وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها. ومن أسمائه -عز وجلّ-: الوالي وهو مالك الأشياء جميعها، المتصرف فيها. وكأن الولاية تشعر بالتدبير، والقدرة، والفعل. وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي.. وقد تكرر ذكر المولى في الحديث. وهو اسم يقع على جماعة كثيرة: فهو الرب، والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع والبحار، وابن العمّ، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق، والمنعم عليه، وكل من ولي أمراً، أو قام به، فهو مولاه ووليّه. ."[2].
وجاء في لسان العرب: " الوليّ: ولي اليتيم الذي يلي أمره، ويقوم بكفايته. ووليّ المرأة الذي يلي عقد النكاح عليها، ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه. وفي الحديث: أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل. وفي رواية: وليها أي متولي أمرها.. قال الفراء الموالي: ورثة الرجل وبنو عمّه. قال: والولي والمولى واحد في كلام العرب..."[3].
ويظهر من هذه العبارات أن كلمة الولاية تستبطن التصرف؛ فعندما يقال إن لفلان ولاية على الشيء الفلاني، فمعناه أن له حق التصرف فيه. وأيضاً تتضمن كلمة الولاية التصدي لأمر من أمور الغير، فمعنى أن يقال : "إن لفلان ولاية على فلان"، هو أن له حق التصدي لأموره، أو لبعض أموره فيكون له حق التصرف فيها.
مفهوم ولاية الفقيه (الولاية المطلقة)
بعدما تبين أن الولاية عبارة عن التصدي لأمور الغير، أو بعض منها حيث يترتب على ذلك حق التصرف فيها، وتدبيرها. يطرح هنا هذا السؤال وهو، ما معنى ولاية الفقيه؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من بيان أمرين: الأول: من هو المولّى عليه؟ والثاني: ما هي حيثية هذه الولاية؟ أما الأول فإن هذه الولاية، هي على الأمة الإسلامية. والجواب على الثاني، أن هذه الولاية ترتبط بجميع شؤون الأمة وأمورها كأمة، على كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.. فإن للفقيه حق التصدي لأمور الأمة، والتصرف فيها -بل هو واجب عليه- بما يعود عليها بالنفع والصلاح في كافة المجالات، وبما يجلب سعادتها في الدنيا والآخرة.
ولاشك أننا نتكلم هنا عن الولاية المطلقة للفقيه وبتعبير آخر الولاية العامة. في قبال الولاية المقيدة التي تذهب إلى أن للفقيه حق التصرف في بعض المجالات فقط، كأن يكون له الولاية في القضاء والفتوى فقط، وولايته في القضاء، بمعنى نفوذ قضائه. وولايته في الفتوى بمعنى كونها حجة. فالفقيه بهذا المعنى بمثابة موظف إلهي، قد كلّف إلهياً بالسهر على مصالح الأمة، ورعايتها، وتدبيرها بما يحفظ لها تقدمها وتطورها. وهذا فرض يجب على الفقيه أن يمتثله ويتقرب به إلى الله تعالى. كما أن على الأمة من جهة ثانية، أن تمكن هذا الفقيه، وأن تمد له يد العون وكامل الإمكانيات، وأن تهيء له كل الظروف حتى يعمل ولايته؛ فتتحول إلى مؤسسة حكومية تعمل تحت مظلة الولاية لخدمة الأمة.
كيفية تعيين الولي الفقيه
بعد أن انتهينا إلى أن ولاية الفقيه(المطلقة) هي بمعنى حق الفقيه في التصرف في أمور الأمة، وتدبير شؤونها، ورعاية مصالحها بما يعود عليها بالنفع والخير؛ نصل إلى أن هذا الفقيه كيف يتعيّن وكيف نحدد أن هذا الفقيه دون سواه، هو الفقيه الذي استكمل كافة المواصفات، والشرائط؛ ليصبح من خلال ذلك ولياً وحاكماً على الأمة؟
إن الفقيه الذي تسلم إليه مقاليد الحكم، وزمام الأمر، وتصبح في يده أمور البلاد والعباد بمثابة أمانة ثقيلة ومسؤولية كبيرة، إن هذا الفقيه - مضافاً إلى شرط الفقاهة- يجب أن يتصف بمواصفات، وشرائط عديدة ودقيقة، يصبح من خلالها مؤهلاً لتولي هذا المنصب الخطير. ولا يمكن له أن يصل إلى هذا المنصب إلا إذا استجمع تلك المواصفات. وإن تحديد كون هذا الفقيه دون غيره، هو الحائز على تلك المواصفات ليس بالأمر اليسير، ولا يتيسر لأي كان أن يحدد هذا؛ إذ أن بعض المواصفات تتطلب معرفة دقيقة بشخص الفقيه، بل إن بعضاً منها يتطلب - فضلاً عن ذلك- خبرة تخصصية لا توجد إلا لدى القليل القليل من الناس. فضلاً عن أن الأخذ بأقوال أهل الخبرة يتطلب مواصفات معينة يجب أن تتوفر في أهل الخبرة أنفسهم.
ومن الواضح أن الأثر الذي يترتب على هذا التعيين أثر خطير جداً. لأن من يستلم زمام الولاية تصبح كل السلطات بيده، وكل الأمور في تصرفه؛ صحيح أن جلوسه في هذا المنصب أمانة في عنقه ومسؤولية إلهية في عهدته، جعلت من أجل خدمة الناس وخيرهم، لكن فلسفة الأمور شيء - مع أن لها أكثر من أثر مهم- ودقة الاختيار وما يترتب عليها شيء آخر.
ولا يمكن في هذا المجال، أن يترك الحبل على غاربه فتختار كل فئة، وكل جماعة فقيهاً ليكون ولي الأمة. لأن ذلك يؤدي إلى الهرج والمرج، بل لابد أن ينتهي أمر التعيين، إلى مرجعية واحدة تمتلك صلاحية التعيين، ويكون تعيينها ملزماً للجميع.
وعليه، فإن السؤال عن كيفية تحديد كون هذا الفقيه بعينه هو ولي الأمر؛ يستبطن السؤال عن المرجعية التي تمتلك صلاحية هذا التحديد وأحقية ذلك التعيين.
وهنا ينبغي التأكيد على أن الجواب على هذا السؤال، يرتبط ارتباطاً جوهرياً بنظريات المشروعية، أي النظريات التي تحدد مبدأ مشروعية الولاية، وهل هي من الله أو من الناس - وذلك في عصر عدم وجود المعصوم وجوداً ظاهرياً- لأنه عندما نقول: إن الأمر الفلاني هو مصدر مشروعية الحاكمية؛ فمعنى ذلك أن هذا المصدر هو المناط به تعيين الحاكم، أو إعطاء شرعيته؛ وهذا ما يقودنا إلى تبيين نظريتي التنصيب والانتخاب اللتين تعنيان بمبدأ المشروعية.
(ظرية التنصيب)
تذهب هذه النظرية، إلى أن مبدأ مشروعية الولاية هي من الله. فكما أن لله تعالى ولاية التكوين والتشريع فله كذلك ولاية الأمر، وهذه الولاية قد أعطاها الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلها للأئمة المعصومين (عليهم السلام) بأمر من الله تعالى، وهم جعلوها للفقهاء العدول الحائزين على شرائط الولاية. لكن هذا التعيين للولي الفقيه تعيين وصفي، أي هو تعيين له من خلال المواصفات المحددة، أي ليس تعيينا لشخص الولي الفقيه.
وهكذا يعود السؤال هنا: أنه بناءً على هذه النظرية كيف يتعين شخص الولي الفقيه، ومن هي المرجعية الصالحة لهذا التعيين، بحيث يكون تعييناً شرعياً، لا يجوز نقضه ومخالفته؟
ولا بد أن نتعرض لإحتمالات المسألة في مقام الثبوت، وأن نفصل في كل المحتملات، حتى تتضح لنا فروع تلك المسألة.
وهنا إما أن نقول: بأن التنصيب يتوجه إلى الفرد الأفضل، والنموذج الأكمل، من حيث حيازته لأعلى مرتبة من المواصفات والشرائط، أو أن نقول إن التنصيب يتوجه إلى من اتصف بهذه المواصفات، بغض النظر عن مستوى توفرها، وعليه، فاتصاف الفقيه بهذه المواصفات يثبت له شأنية الولاية، أما فعلية هذه الولاية؛ فتحتاج إلى أمرٍ آخر. ولذا سنبحث في كلا الشقين:
1) تنصيب الفرد الأفضل من الفقهاء: قد ذكرنا أن هناك مواصفات يجب أن يتحلى بها الفقيه حتى يتمكن من ممارسة الولاية. ومن هذه المواصفات العلم، والعدالة، وحسن التدبير، والإدارة والكفاءة السياسية.
ولا شك في استحالة التساوي في جميع هذه المواصفات بشكل دقيق. بل إن بعض الفقهاء يتميز في بعض الجهات، ويفوق أقرانه فيها. كأن يتميز بعضهم بوعيه السياسي، وخبرته في إدارة الدولة، وحسن تدبيره وسياسته للأمور، وما إلى ذلك. بناءً على هذا المسلك، يجب أن يتوجه التنصيب إلى الفرد الأفضل من الفقهاء، لما لذلك من أثر مهم على مستوى إعماله ولايته وممارسته لحاكميته، وما ينجم عن ذلك من خير للبلاد والعباد.
بقي أن نقول: إن هذا المسلك ممكن ثبوتاً، لكن ما هو الدليل الإثباتي عليه، وهل تفي الأدلة بإثباته، وهنا لابد من استعراض كلا الدليلين النقلي والعقلي:
أولاً: الدليل النقلي: يوجد عدة آيات وروايات، يمكن الإستدلال بها على هذا المطلب. لكن سوف نكتفي ببعضها:
(أ) قوله تعالى في قصة طالوت: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم}[4]. حيث يستفاد من الآية أن التقدم في العلم ملاك للقيادة، أي لجعل هذا أو ذاك قائداً وحاكماً.
(ب) ما في نهج البلاغة: " إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه "[5].
(ج) ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):" ما ولّت أمةٌ قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا "[6].
هذا والأدلة النقلية كثيرة بهذا المضمون، لكن نكتفي بهذا المقدار.
ثانياً: الدليل العقلي: ومؤداه، أن العقل لو خلّي ونفسه، وبمعزل عن النصوص الدينية فإنه يحكم بأن من يجب أن يكون في هذا المنصب، هو الأقدر على القيام بمسؤولياته وتحمل أعبائه، ولا شك أن الفاضل الذي امتاز بمستوى أكبر من المواصفات والشرائط، هو الأقدر على القيام بواجبات هذا المنصب. ولديه القدرة على إيصال الخير، والنفع إلى عامة الناس أكثر من غيره، مقارنة بالمفضول الذي وإن كان لديه مستوى من المواصفات، والشرائط لكنها لا تصل إلى المستوى الذي بلغه الأفضل.
وبعبارة أخرى إن لهذه المواصفات فلسفة ولتلك الشرائط غاية، وهي الإستفادة بأعلى مستوى ممكن من هذا المنصب لنفع الأمة وخير الناس، والإستفادة القصوى من هذا المنصب ترتبط بوجود أعلى مستوى من المؤهلات في شخص الولي من العلم، والعدالة- بمستواها السياسي- الكفاءة وغيرها.. وبالتالي لا يمكن الوصول إلى إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
وهنا نعود إلى السؤال السابق، وهو أنه بناءً على هذا المسلك، مسلك تنصيب الأفضل. كيف يحصل هذا التنصيب، وكيف يتعين شخص النائب عن المعصوم (عليهم السلام)، والولي الفقيه؟ ولابد من الإشارة هنا، إلى أن هذا البحث يقود إلى البحث عن المرجعية التي تمتلك أعلى مستوى من الإمكانيات، والأدوات والتي تتكفل بالبحث عن الأفضل من بين الفقهاء من ناحية حيازته للشروط، والمواصفات. وهذا البحث يتضمن تفصيلاً بين حالتين: حالة تعين الولي الفقيه بفعل نفسه، أي أن يكون لسبق تصديه مدخلية في تعيينه وحالة تعيينه، بفعل غيره؛ فلا يكون لسبق تصديه مدخلية في تعينه، فلا بد من البحث في الحالتين:
الحالة الأولى: تعيين الولي بنفسه:
حيث يدعي الفقيه، أنه الأفضل من بين الفقهاء من ناحية جمعه للشروط، والمواصفات، ويبادر إلى التصدي لهذا المنصب، ويسبق غيره في اعلان نفسه ولياً لأمر المسلمين. فهل يجب على المسلمين تصديقه، وترتيب الأثر على دعواه بمجرد اطلاقها، وسبقه غيره إلى التصدي لهذا المنصب، وعدّ الدعوى، والتصدي علة تامة لصيرورته ولياً للأمر لوجوب طاعته؟ والجواب أنه، حتى لو سلمنا بأن سبقه إلى التصدي له مدخلية في صيرورته ولياً للأمر -وهذا ما يحتاج إلى البحث- لكن، توجد هنا دعوى ترتبط بموضوع خارجي ، وهي كونه الأفضل. ويترتب على هذه الدعوى أمور مهمة، وخطيرة جداً، فلا يمكن التسليم بهذه الدعوى، بمجرد اطلاقها؛ واعتبارها مسلّمة يجب القبول بها، بل لابد من الفحص في هذه الدعوى وإثبات صحتها، فإن ظهر كونه الأفضل فهو ولي الأمر، وإلا فلا يمكن قبول ولايته بناءً على مسلك تنصيب الأفضل ومع هذا يبقى للسبق فائدة، ولو في حالة تساويه مع غيره.
الحالة الثانية: تعيين الولي بواسطة غيره:
حيث لا يكون لسبق تصدي الفقيه مدخلية في تعيينه، بل يرتبط تعيينه والكشف عن تنصيبه بوجود مرجعية تتولى هي، مهمة ذلك التعيين، والكشف. نعم، هنا لا ينتفي الحديث عن التصدي، بل يبقى بمثابة شرط، لصيرورة ولاية ذلك الفقيه فعلية. فإنه لو تم اختيار فقيه ما، على أنه الأفضل لكنه لم يتصدّ، ولم يعمل ولايته فتبقى هذه الولاية معلَّقة، بل يكشف عدم التصدي عن عدم أهليته لهذا المنصب، فيما لو كان عدم التصدي نابعاً من عدم امتلاكه لصفة الشجاعة، أو عدم استعداده للتضحية، أو عدم قدرته على تحمل تلك المسؤولية، وهذا يكشف عن كون ذلك التعيين باطلاً من أساسه. وهكذا نصل إلى الحديث عن المرجعية التي تتولى مهمة الكشف عن الأفضل في المواصفات والشرائط والمؤهلات، وهذه الأفضلية هي التي تجعله ولياً لأمر المسلمين وقائداً لهم. وقبل الخوض في الحديث عن هذه المرجعية لابد من ذكر ملاحظتين:
1- إن الحديث عن هذه المرجعية يخدم الحالتين: الأولى، والثانية (أي حالة تعيين الولي بنفسه وتعيينه بغيره). لأنه حتى لو قلنا بمدخلية سبق التصدي، فإنه يبقى جانب آخر، وهو تثبيت كون ذلك الفقيه هو الأفضل، حتى يتم تعيينه، وهذا ما يحتاج إلى وجود تلك المرجعية ،حتى تثبت كونه الأفضل.
2- إن التصدي وديمومته شرط في الحالتين، لأنه حتى لو لم نقل بمدخلية سبق التصدي، فإن التصدي يبقى شرطاً في التعيين، فإنه لو تم اختيار فقيه على أنه الأفضل، لكنه لم يقدم على التصدي فلا يتعين، وكذا لو تصدى، أو سبق إلى التصدي ثم تراجع عن تصديه.
3- مرجعية تعيين الفقيه
أما مرجعية التعيين ،فيمكن أن تكون أحد هذه الخيارات:
1- الولي السابق.
2- أهل الخبرة.
3- الأمّة.
ولا بد من مناقشة كل خيار على حدة وذكر أدلته والإشكالات التي يمكن أن ترد عليه:
1- الولي السابق: حيث يفترض وجود ولي سابق، وأن تكون ولايته ولاية شرعية قامت على أساس الموازين الشرعية، فهنا هل يمكن لهذا الولي، أن يقوم بتعيين الولي اللاحق فيكون هو الولي الشرعي من بعده؟ وما هي الأدلة التي تتكفل إثبات ذلك؟
الدليل الأول:إن اطلاق أدلة ولاية الفقيه تشمل هذا المورد. فأمره تعالى بإطاعة أولي الأمر مطلق،{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[7]. بناءً على كون أولي الأمر أعم من المعصوم (عليه السلام) وغيره، فيكون المعصوم (عليه السلام) مصداقاً لولي الأمر، ويكون الفقيه مصداقاً آخر لولي الأمر. وكذلك قوله (عليه السلام): " فإني قد جعلته عليكم حاكماً ". وقوله (عجل الله فرجه الشريف): "إنهم حجتي عليكم ". فهذه الأدلة، وغيرها غير مقيدة، وهذا الإطلاق يشمل هذا المورد، أي تعيين الولي السابق للولي اللاحق.
اشكال: إن الآية الشريفة (وغيرها) في معرض تبيين مطلوبية طاعة ولي الأمر إذا أمر فهي بمعنى أنه "إذا أمر الولي تجب طاعته" ولا يستفاد من ذلك أنه إذا أمر غيره لا تجب طاعته، ولا يستفاد منها، أن على ولي الأمر التصدي للتعيين.
جواب الإشكال: أولاً، فيما يرتبط بحصر الطاعة بولي الأمر، فإن الأدلة المذكورة تخاطب المؤمنين بوجوب طاعة ولي الأمر في دائرة حق طاعته. ومن أهم وأبرز مصاديق حق الطاعة لولي الأمر أن يطاع، فيما يرتبط بأمور المسلمين على المستوى السياسي والإجتماعي، وهذا المستوى لا يمكن أن يكون محلاً لولاية أكثر من شخص، وإلا ساد الفساد، والتنازع في المجتمع؛ وعليه نستفيد حصر الطاعة بولي الأمر.
الدليل الثاني: لقد أنيطت بالولي الفقيه أمور خطيرة، ومهمة بناءً على كونه الأفضل، والأصلح، والأعلم لتولي هذه الأمور. وتعيين الولي اللاحق لا يفوق هذه الأمور أهمية. ومن باب كونه الأعلم. والأصلح للبت في الأمور الخطيرة يجب أن يناط به، تعيين الولي اللاحق. ولا يمكن أن يقال هنا، بأن المقام مختلف. فالأمر هنا يرتبط بالكشف عمن هو الأفضل، أي يرتبط بعلاج موضوع خارجي يحتاج إلى خبرة، ومعرفة بذات الموضوع، حيث قد يكون غيره أعلم به منه.
إذ يمكن علاج هذه الإشكالية بذكر أكثر من جواب.
الأول: إن المعرفة بالمؤهلات والمواصفات التي يمتلكها الأفضل يجب أن تكون معرفة عميقة، بما يؤدي إلى إعمال أفضل للولاية، وعليه، فإن الولي الحالي بما خبر عمل الولاية أكثر، فإنه يستطيع أن يشخص المواصفات، والمؤهلات التي يحتاجها إعمال الولاية أكثر، وما هو الأهم، والأولى منها في مقام الترجيح بينها، أو في مقام الترجيح بين الفقهاء المرشحين للتعيين. وهذا جزء مهم جداً، من معرفة الموضوع، أي تحديد من هو الأفضل، لمنصب القيادة وولاية الأمر.
الثاني: إن ولي الأمر يمتلك من الأدوات والوسائل ما يسمح له بمعرفة أفضل لهذا الموضوع؛ فإنه يستطيع أن يستفيد من الإمكانيات الموجودة لديه ليحصل على معرفة دقيقة، وواسعة بالفقهاء والمرشحين لولاية الأمر، بما يمكنه من اختيار من الأفضل من بينهم، ليعلنه ولياً من بعده.
الثالث: إن عنصر الشورى لن يكون غائباً عن هذه العملية، بما يؤدي إلى إنضاج الاختيار وصوابية الرأي، بل قد تكون الشورى واجبة في بعض الأحيان إذا كانت مقدمة للوصول إلى الرأي الصواب، لكنها لا تسلب ولي الأمر صلاحياته، بل تبقى كرافد يزود ولي الأمر بإمكانية انتخاب الأفضل على قاعدة: " من تصفح وجوه الآراء عرف مواقع الأخطاء ".
الرابع: يمكن أن يقال إن الأعلمية المشروطة في ولي الأمر هي الأعلمية في النتيجة والتي تشمل الأحكام والموضوعات، وليس فقط الأحكام، لأن الأعلمية المطلوبة هنا هي الأعلمية في الأحكام الولائية، والتي تتطلب الأعلمية، في مجموع ما يحتاجه ولي الأمر، من الكبريات والصغريات.
وعليه، يمكن أن يقال: بلزوم كون ولي الأمر هو الأعلم بالموضوعات التي من شأن منصب الولاية التصدي لها، وبالتحديد تلك الموضوعات التي يترتب على تشخيصها، وتحديدها أمور خطيرة، ومهمة جداً ترتبط بمستقبل الدولة الإسلامية وقوتها واستمرارها. كمسألة تعيين القائد الأفضل للدولة الإسلامية.
الخامس: إن الكلام يجب أن ينصَّب هنا على أن صلاحية الكشف عن الصالح لولاية الأمر، بيد من تكون؟
إن ما يدعى هنا هو: أن هذا الحكم الكشفي بيد الولي السابق، ومن صلاحياته وحده، ولا يمكن لأي كان أن يتصدى لذلك، بغض النظر عن كون هذا الحكم الكشفي يحتاج إلى بعض المقدمات الخارجية، أو لا يحتاج. نعم، باعتبار أن هذا الحكم الكشفي واجب على الفقيه، وهذا الحكم قد يحتاج إلى تحصيل بعض المقدمات الخارجية، فيصبح تحصيلها واجباً عليه باعتبار كونها من مقدمات الواجب.
الدليل الثالث: إن روح نظرية التنصيب تنسجم مع مسلك تعيين الولي السابق للولي اللاحق لأننا نقول، إن تعيين المعصوم(عليه السلام) لولي الأمر كان تعيينا وصفياً؛ لأن الظروف التاريخية لم تكن تسمح بتعيين الشخص، وإلا لو كانت الظروف التاريخية المحيطة تسمح بالتعيين الشخصي، لعيّن الإمام ولي الأمر تعيينا شخصياً، ليكون ولي الأمر في منصب النيابة عن الإمام(عليه السلام)، فالأصل في التعيين أن يكون شخصياً، حيث يقوم الولي السابق بتعيين الولي اللاحق، وما الخروج عن هذه القاعدة إلا بمثابة استثناء فرضته الظروف، وينبغي أن يزول بزوالها ليتمسك بعدها بالأصل.
2- تعيين أهل الخبرة: وهنا ليس وجود ولي سابق ضرورياً، بل إن عملية كشف أهل الخبرة عن ولي الأمر تتم، سواء كان هناك ولي سابق أم لم يكن. نعم إن محل الكلام بشكل أساسي ينصُّب على الدليل الذي يمكن ذكره لهذا الإحتمال، والإشكالات التي يمكن أن ترد عليه.
أما الدليل الذي يمكن ذكره هنا فهو ما ذكر لاحقاً من أن مسألة الكشف عن ولي الأمر، هي عملية كشف عن موضوع خارجي يحتاج إلى خبرة خاصة وإلى أهل خبرة خاصين، وقد ناقشنا بالتفصيل في الصفحات السابقة هذه المسألة، وقلنا بأن اطلاق أدلة ولاية الفقيه يشمل هذا المورد، فيكون للولي السابق فقط صلاحية إصدار هذا الحكم الكشفي، وترتيب الأثر على معطياته الموضوعية، إذ إن تعيين الولي اللاحق من قبل الولي السابق ليس أهم من بقية الأمور التي تدخل ضمن صلاحيات الولي السابق، وهذه المسألة مع أن لها جنبتها الموضوعية، لكن موضوعيتها ليست منفصلة عن مساحة ولاية ولي الأمر، بل هي من أبرز الجنبات الموضوعية التي يجب أن تكون تحت ولاية ولي الأمر، إن الموضوعات الخارجية منها ما يرتبط بشكل مباشر وجوهري بإعمال الولاية، وهذه يجب أن يكون ولي الأمر عالماً بها، بل يجب كونه الأعلم بها من باب كونه "عالم بالسياسة" و "أعلمكم بعواقب الأمور" و "العالم بزمانه".. ومنها ما لا يرتبط بشكل مباشر وجوهري بإعمال الولاية، وهذه ليس من الضروري أن يكون ولي الأمر عالماً بها، فضلاً عن كونه الأعلم بها.
وفي النهاية لابد أن يكون البت في هذا الموضوع الخارجي وترتيب الأثر عليه بيد مرجعية واحدة تعد هي الأفضل والأصلح للبت في هذا الموضوع، ولا يوجد أفضل وأصلح من ولي الأمر، للبت بهذا الموضوع، وإصدار الحكم الولائي بشأنه.
نعم، لو قبلنا بصلاحية أهل الخبرة لإختيار الولي، لا يمكن الإعتراض على ذلك بأن معرفة أهل الخبرة تحتاج إلى خبرة غير متوفرة في الأمّة وهذا يؤدّي إلى عدم إمكان الوصول إلى تعيين الولي. لأن الجواب هو: إن الحصول على مجموعة من الخبراء يناط بهم أمر تعيين الولي، أمرٌ سهل وذلك لأنه لا بد من كونهم معروفين عند الأمّة من خلال ممارستهم للعمل في الشأن العام.
3- اختيار الأمة للولي: حيث تقوم الأمة بشكل مباشر بعملية الكشف عن ولي الأمر ويكون الأخذ باختيار الأمة من باب الكشف لا من باب الإنتخاب، لأن الفرض في مقامنا هذا هو، أن مناقشة احتمال تعيين الأمة لولي الأمر إنما هو على أساس نظرية التنصيب التي تحتاج إلى آلية كشف.
أما الدليل الذي يمكن أن يذكر هنا فهو "أن الأمة لا تجتمع على خطأ"، وأنها يجب أن تكون محلاً للطف الإلهي ومورداً للتسديد الرباني. وعليه، فإنها إذا أجمعت على فقيه على أساس أنه المنصوب من قبل المعصوم (عليه السلام)، فيتعين ذلك الفقيه ولياً للأمر، وأما إذا اختلفت الأمة فيؤخذ برأي أكثرها لأنه يفيد الإطمئنان او قوّة احتمال الصواب.
إن أهم ما يمكن أن يقال هنا في مقام الجواب على هذا الدليل هو: إن المرجعية التي يجب أن تتولى مهمة الكشف عن ولي الأمر، لابد وأن تكون مؤهلة للقيام بعملية الإختيار الإلهي هذه بإعتبار أن ولي الأمر، هو محل للتنصيب الإلهي، وهذا ما يتطلب وجود مواصفات، وشروط دقيقة في مرجعية التعيين نفسها، بما يسمح لهذه المرجعية أن تصل إلى اختيار الأفضل على مستوى الأعلمية، والكفاءة السياسية، والإدارية، والمواصفات الأخلاقية، والنفسانية... وهذا ما لا يتيسر لأكثرية الأمة لأنها تفتقد الإمكانيات التي تسمح لها بالقيام بعملية الإختيار المطلوبة. لأنها لا تمتلك الخبرات العلمية، والسياسية، والإدارية... حتى تستطيع أن تميز من هو الأفضل، على هذه المستويات.
وعليه يكون أساس فكرة الإعتماد على رأي الأمة غير صحيح، سواء أجمعت أو اختارت أكثرياً.
أما إجماع الأمة، فهو مستحيل عادةً. فهل حصل أن اجتمعت الأمة بكافة فئاتها وطبقاتها وأفرادها على أمر حتى يعد ذلك أساساً لتعيين ولي الأمر؟ أما موضوع التسديد الرباني واللطف الإلهي فهو غير منحصر بهذه الطريقة فضلاً عن أن لكل منها شرطه، وشروطه. أما رأي الأكثرية فيمكن أن يقال بشكل مختصر: إن عوامل كثيرة غير موضوعية -إعلامية واقتصادية وعرقية...- قد تساهم في بلورة رأي الأكثرية بما يحرفه عن اختيار الأفضل.
بقي أن نشير هنا إلى هذه الملاحظة:
قد يتوجه السؤال إلى ولاية الإمام الخميني(قدس سره) كيف حصلت، فلا بد أن يكون هناك آلية كشف مشروعة، قامت بعملية الكشف عن تنصيب الإمام الخميني. فإذا كانت صيغة أهل الخبرة هي الصيغة الأفضل لهذه العملية، فمعنى ذلك، أن عملية الكشف عن تنصيب الإمام(قدس سره) يجب أن تكون حصيلة هذه الصيغة، مع أن هذا لم يحصل في الواقع، فكيف يتم تصحيح ولاية الإمام(قدس سره)؟
الجواب على هذا السؤال يتم بالإشارة إلى أن أية صيغة تفترض للكشف عن تنصيب هذا الفقيه، أو ذاك إنما تؤخذ على نحو الطريقية لا الموضوعية، بمعنى أنها مطلوبة لترشدنا إلى الأفضل من الفقهاء، حيث تصدى لولاية الأمر وأثبت جدارته في القيادة، وكفاءته للولاية، وفرض نفسه بجهاده، ومؤهلاته بما يكشف أنه الأفضل بين الفقهاء لمنصب الولاية، فإن هذا وحده يكفي في اضفاء المشروعية على ولايته.
وعندما نذكر هنا "الأمة" إنما ذلك لنعالج حالة واقعية ونقدم مبرراتها المنطقية وإلا فإن دور الأمة مع كونه مهماً وأساسياً، يتمثل في جعل ولاية الفقيه المشروعة ولاية فعلية لا أن يعطيها المشروعية، بمعنى أن ولاية الفقيه دون تجاوب الأمة معها تبقى يداًٍ جذاء، لا تستطيع أن تفعل فعلاً في الواقع السياسي أو الإجتماعي للأمة.
مع الإعتراف بأن عملية الكشف الأولى عن الولي الفقيه الأول تبقى عملية قلقة، ومضطربة على المستوى الواقعي. لأنها تخضع لظروف موضوعية، وسياسية واجتماعية، وإن كان لها مبرراتها النظرية.
وعلى أي حال كل الكلام المتقدم، مبني على افتراض تنصيب المعصوم للأفضل من بين الفقهاء وهنا نشير الى فرضية أخرى وهي:
نصب كل الفقهاء
أي إن التنصيب قد توجه من المعصوم(عليه السلام) إلى كل الفقهاء الذين لهم أهلية ولاية الأمر، بغض النظر عن مستوى تلك الأهلية أي أن لكل فقيه من هؤلاء الفقهاء شأنية أن يكون ولياً للأمر، أما فعلية ولايته، فتحتاج إلى عامل آخر ينقل تلك الولاية من حيّز الشأنية إلى حيّز الفعلية. أي إن ولايته تصبح عندئذٍ نافذة المفعول وذات أثر عملي.
وهنا إما أن نقول بأن التنصيب يتوجه إلى كل الفقهاء الأوائل فقط، الذين يثمر توجيه التنصيب إليهم تصدي واحد منهم لولاية الأمر، أو أن نقول إن التنصيب يتوجه إلى كل الفقهاء الذين لهم أهلية الولاية، على طول عامود الزمان، فيكون التنصيب في الواقع مجموعة من التنصيبات، تتوزع أفقياً على الفقهاء الذين يمتلكون الأهلية في ظرفٍ واحد من الزمان، وعامودياً على كل الفقهاء الذين يمتلكون الأهلية في طول عامود الزمان.
ولو شبهنا المسألة بسلسلة تحتوي على مجموعة من الحلقات، حيث تمثل الحلقة مجموعة الفقهاء في ظرف زماني خاص، بينما تمثل السلسلة كل مجموعات الفقهاء على مدار الزمان، فهنا هل التنصيب يتوجه إلى الحلقة الأولى فقط، أم أنه يتوجه إلى كل حلقات السلسلة؟
وعليه سوف نبحث هنا في كلا الشقين حيث نصطلح على الشق الأول بـ"التنصيب الخاص لكل الفقهاء" وعلى الثاني بـ "التنصيب العام لكل الفقهاء"، والمراد بخصوصية التنصيب وعموميته هو تلك الخصوصية والعمومية بلحاظ الزمان أي أنه يختص بظرف زماني خاص أو يشمل كل عامود الزمان.
1- التنصيب الخاص لكل الفقهاء
وهو كما ذكرنا تنصيب المعصوم(عليه السلام) للفقهاء الذين لهم أهلية الولاية، بغض النظر عن مستوى تلك الأهلية، على أن يكون هؤلاء الفقهاء في ظرف زماني خاص.
وإذا قيل أنه كيف يعقل أن يتوجه التنصيب من المعصوم(عليه السلام) إلى مجموعة خاصة من الفقهاء في ظرف زماني خاص، مع أنه يمكن ألا يتصدى أحد منهم للولاية، فهل يتعطل والحال هذا، التنصيب من المعصوم(عليه السلام)؟
فالجواب أن هذا التنصيب الذي صدر من المعصوم(عليه السلام) يبقى سارياً في طول عامود الزمان، إلى أن يتعلق فعلياً بأحد الفقهاء المؤهلين لولاية الأمر، فيكون هذا الفقيه بمثابة النائب عن المعصوم(عليه السلام)، فهذا التنصيب إن لم يجد فعليته لدى أحد الفقهاء في الفترة الأولى فإنه يبقى ليصل إلى فقهاء الفترة الثانية، وهكذا حتى يجد ضالته لدى أحد الفقهاء. فيقف سريانه ويبقى معلقاً، طالما أنه يوجد فقيه في منصب الولاية. لكن إذا فقد الولي الفقيه فيعود ذلك التنصيب، ليؤثر أثره من جديد، ليحتل فقيه آخر منصب الولاية. وهذا التنصيب من المعصوم(عليه السلام) إذا ما تعلق بأحد الفقهاء ليكون ولياً، فإن الولي اللاحق يتعين من خلال تنصيب ذلك الفقيه الولي، واللاحق يعين الذي يليه وهكذا. وهنا يأتي نفس ما ذكر سابقاً من الإحتمالات وهي تصديه بنفسه أو تعيين غيره له، وهذا الغير، إما هو الولي السابق، أو أهل الخبرة أو الأمة.
2- التنصيب العام لكل الفقهاء:
أي إن التنصيب من المعصوم(عليه السلام) متوجه إلى كافة الفقهاء الذين لهم أهلية الولاية في طول عامود الزمان، لا في مرحلة زمنية خاصة. ويمكن القول بتعبير آخر، إن عمومية هذا التنصيب هي عمومية عامودية و أفقية معاً بلحاظ الزمان، أي يشمل الفقهاء في كل المراحل الزمنية.
وإذا طرح هنا هذا السؤال، وهو أنه كيف يتعين الولي الفقيه في منصب الولاية؟، فلا بد من التفريق بين تعيين ولي فقيه في فترة متصلة بزمان بسط يد فقيه سابق، أي يكون التعيين في زمن تكون لفقيه آخر ولايته الفعلية، أو أن يكون التعيين في زمنٍ خالٍ من ولاية فعلية، لفقيه آخر. حيث يختلفان من جهة العموم، والخصوص المطلق، وهذا ما سيتضح لاحقاً، ونحن سوف نطلق على الأولى تعبير المرحلة المتصلة وعلى الثانية تعبير المرحلة المنفصلة:
1) المرحلة المنفصلة: حيث يرتبط البحث بتعيين أول فقيه ولي في سلسلة الفقهاء الأولياء، فلا يكون قبل هذا الولي الفقيه ولي مبسوط اليد، أي له ولاية فعلية تتصل فترة ولايته بفترة تعيين ذلك الولي، نعم قد يسبقه ولي فقيه لكن فترة ولايته حسب الفرض لا تكون متصلة بمرحلة تعيين هذا الولي اللاحق لسبب أو لآخر، وإلا فإنها تدخل في الحالة الثانية (المرحلة المتصلة).
وهنا إذا أردنا أن نبحث في كيفية تعيين الولي الفقيه، فلا بد أيضاً من أن نفرق بين تعيين الولي بنفسه، وبين تعينه بغيره. وهم أهل الخبرة أو الأمة.
2) المرحلة المتصلة: والمراد بها أن تكون فترة تعيين الولي الفقيه متصلة بفترة ولاية فقيه آخر، فهنا طرق التعيين تصبح أكثر من الحالة الأولى (المرحلة المنفصلة) حيث، بالإضافة إلى احتمالي أهل الخبرة والأمة يضاف هنا، احتمال أن يقوم الولي السابق بعملية التعيين.
نظرية الإنتخاب
ترى هذه النظرية أن الولاية في الأساس هي لله تعالى، وقد أعطاها للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة(عليهم السلام) من بعده، إلا أنه في عصر الغيبة -أي غيبة الإمام الحج(عجل الله فرجه الشريف)- لم يثبت تنصيب الفقهاء من قبل الأئمة(عليهم السلام)، فلا دليل العقل، يثبت، ذلك ولا دليل النقل. وكل ما هو ثابت للفقهاء إنما هو منصبي القضاء والإفتاء فقط. ومن خلال الأخذ بعين الإعتبار ضرورة تشكيل الحكومة، والمواصفات التي يجب أن تتوفر في الحاكم الإسلامي، عندها لا يبقى إلا طريق انتخاب الفقيه الحائز على الشروط، والمواصفات من قبل الأمة، ولا يجوز للأمة أن تنتخب غير الفقيه الحائز على المواصفات المطلوبة، ولا يكون انتخاب غير الفقيه انتخاباً صحيحاً. وعليه، إذا كان هناك فقيه واحد حائز على الشروط المعتبرة فيجب على الأمة اختياره والقبول بولايته، أما مع تعدد الفقهاء المؤهلين فيجب على الأمة أن تختار واحداً منهم.
وهنا تنبثق المشروعية من الأمة -بخلاف نظرية التنصيب، حيث تستمد من تعيين الإمام(عليه السلام)- فتكون الحكومة بمثابة عقد شرعي بين الأمة والحاكم المنتخب قد أمضاه الشارع.
وبناءً على هذه النظرية لا طريق لانتخاب الحاكم إلا من خلال الأمة، وهذا الانتخاب قد يتم بشكل مباشر، وقد يتم بشكل غير مباشر من خلال انتخاب مجلس للخبراء وهو يقوم بانتخاب الحاكم، وهذه الطريقة -أي من خلال مجلس الخبراء - هي الطريقة الأضمن لسلامة الانتخابات أي لتعطي نتيجة أفضل تطابق الضوابط الشرعية. أما فيما يرتبط بكيفية الانتخابات، والتفاصيل المرتبطة بها، فهي من المسائل العقلائية التي يترك تحديدها لطبيعة الظروف الموضوعية. ولابد من الإشارة إلى أن الإنتخاب هنا بما أنه عقد لازم فيمكن أن تشترط ضمنه الشروط وتكون هذه الشروط لازمة التطبيق.
والحاكم- بناءً على هذه النظرية، لا يمكن عزله إلا إذا فقد ولو شرطاً من الشروط المعتبرة أو تخلف عن القيام بواجباته ومسؤولياته.
خاتمة:
بعد أن طرحنا السؤال عن كيفية تعيين الفقيه في منصب الولاية وأشرنا كمقدمة للجواب على هذا السؤال إلى معنى الولاية وإلى مفهوم ولاية الفقيه المطلقة؛ أردنا أن نجيب على هذا السؤال بناءً على نظريتي التنصيب، والانتخاب، وفي نظرية التنصيب، ذكرنا التقسيمات المحتملة للتنصيب، والكيفية التي تترتب بناءً على تلك التقسيمات.
وقد نكون دخلنا في بعض تلك التقسيمات إلى ما يمكن أن يعد تأييداً لبعض تلك المحتملات، لكن ما نريد التأكيد عليه هو، أنه أردنا بشكل رئيسي تبيين التقسيمات المحتملة للتنصيب، وكيفية تعيين الولي الفقيه بناءً على تلك المحتملات؛ أما تثبيت بعض تلك المحتملات فيرجع إلى نوع الدليل الذي يقوم عليه أساس فكرة ولاية الفقيه والأدلة التي يمكن أن تساق لتأييد بعض المحتملات دون غيرها.
وقد تعرضنا أخيراً لنظرية الانتخاب والطريق الوحيد الذي يترتب عليها فيما يرتبط بكيفية تعيين الولي الفقيه، وأشرنا بشكل عابر إلى بعض التفاصيل.
__________________
[1] سورة ص 570.
[2] النهاية – مج5، ص 227.
[3] مجمع 15، ص 407.
[4] سورة البقرة، 247.
[5] شرح محمد عبده.
[6] كتاب سليم بن قيس، ص 118.
[7] سورة النساء، 59.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية