مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

وظائف الحاكم ومسؤولياته في الفكر الإسلامي
محمد علي رستميان


المقدمة:
تتناول المقالة التي بين يديك عزيزي القارئ وظائف الحاكم ومسؤولياته في ضوء نظرة الإمام علي(عليه السلام).
وقد اشتمل‏البحث على عنوانين رئيسين «الوظيفة‏» و«المسؤولية‏»، وعلى الرغم من عمق الرابطة الوثيقة بينهما إلا أنهما يختلفان ‏معنى ‏ومصداقا.
أما الوظيفة، فهي من حيث المعنى تمثل العمل الذي يلتزم الفرد بتركه أو الإتيان به. فالإمام علي( يرى أن الأحكام‏ الشرعية من وظائف العباد: (واخرجوا الى اللّه بما افترض عليكم من حقه، وبين لكم من وظائفه)[1].
وأما المسؤولية فهي الالتزام الكامن في الوظيفة، وهي تعني التعهد وتحمل تبعات العمل الذي ترك أو أتى به. ومن حيث‏المصداق فان دائرة المسؤولية اعم من الوظيفة. فوظيفة الفرد إنما تقتصر على إطار عمله، فهو مكلف أن يقوم بالعمل الذي ‏اسند إليه بأحسن وجه. إلا أن هناك بعض الأفراد يتحملون مسؤولية أعمال الغير دون أن يكون لهم علم بها، كالمسؤولية ‏التي ينهض بها ويتحملها رب الأسرة بالنسبة لأعمال أفراد أسرته، وعليه فحيثما كانت الوظيفة حلت المسؤولية. ولكن قد تترتب علينا أحيانا مسؤولية إزاء عمل، في حين ليس لدينا أية وظيفة حياله. فاغلب المسؤوليات تنشا من خلال المناصب‏التي يتمتع بها الأفراد في المجتمع، أو التصدي لبعض المهمات مما يحتم أن يتحملوا عب مسؤولية أعمال الآخرين.
وهنا يرد سؤال آخر بشان العلاقة التي تحكم الوظيفة والمسؤولية وهو: هل الشخص مسؤول فقط أمام الفرد أو المؤسسة التي تحدد له وظيفته، أم يمكن فصل الترابط بين الأمرين؟ إذا ما طرحنا هذا السؤال بشان الحاكم فإننا نرى ضرورة معرفة من الذي يحدد له وظائفه؟ وإزاء من تكمن مسؤوليته؟ وسنرى حين تسليط الضوء على هاتين المسالتين، ونعرض لمقارنتهما، أن الحاكم مسؤول أمام من يحدد له وظيفته، أو أنه ‏مسؤول أمام الآخرين أيضا! سيدور البحث في المقالة التي بين أيدينا حول محورين، المحور الأول بخصوص وظيفة الحاكم، والذي سنستهله ‏بالإجابة في ضوء النظرة العلوية عن السؤال المطروح بشان وماهية الفرد أو المؤسسة التي تحدد للحاكم وظائفه، وما ينبغي له فعله أو تركه. فإذا ما اتضحت تلك المسالة، عمدنا لتصنيف وظائف الحاكم الى الوظائف الفردية والاجتماعية، ثم ‏نتناول بالبحث والتحقيق حدود عمله في كل منهما.
أما المحور الثاني فيكون البحث فيه بخصوص مسؤوليات الحاكم، ونقصد بها الأمور التي لا تتعلق بوظائفه المكلف بها، إلا أنه مسؤول بالنسبة للأعمال التي يقوم بها الآخرون.
وسنبدأ أيضا بمعرفة وتحديد الفرد أو المؤسسة التي يكون مسؤولاً أمامها، ثم نتطرق لاحقا للحالات التي ليس للحاكم‏ فيها من وظيفة، بينما له مسؤولية تجاهها.
الحاكم، الوظيفة، منشأ تحديد الوظيفة تعد الرابطة القائمة بين الحاكم والأمة، أحد أهم العلاقات والروابط الاجتماعية التي تتطلب كسائر العلاقات تعيين ‏حدودها وأطرها، ليتسنى من خلال رعايتها والعمل بها طبعا على أساس القوانين والمقررات بسط العدل والقسط في‏المجتمع. ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن إصلاح هذه العلاقة يؤدي الى تقوية الحق ومنعته في المجتمع، الى جانب ترسيخ جذور الدين وإشاعة العدل والقسط فيقول: (فإذا أدت الرعية الى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت ‏مناهج ‏الدين، واعتدلت معالم العدل)[2].
وموضوع هذا البحث هو حقوق الأمة على الحاكم، أو وظائف الحاكم بالنسبة للمجتمع والأمة والتي تمثل أحد طرفي ‏هذه العلاقة، وكما ذكرنا آنفا، فإن هناك سؤالين مطروحين بشان وظائف الحاكم، وهما:
1-من الذي يحدد وظائف الحاكم ؟
2- ما وظيفة الحاكم تجاه الأمة؟ وسنستعين بالكلمات الخالدة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الإجابة عن هذين السؤالين.
الدين منشأ تعيين وظيفة الحاكم: لقد أشار الإمام علي (عليه السلام) مجملا في الحديث السابق الى العلاقات الاجتماعية المتعددة السائدة بين الناس، والى القوانين ‏والمقررات التي تعين حدودها وأطرها على أنها تمثل حق اللّه، حيث وردت كأحكام وتكاليف شرعية بهدف إصلاح ‏العلاقات الاجتماعية: (ثم جعل سبحانه‏ من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في ‏وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض)[3].
فهو يرى أن الحقوق الاجتماعية لأفراد الأمة بعضهم على البعض الآخر ناشئة من حق اللّه، أي أن هذه الحقوق إنما هي ‏حقوق إلهية كسائر حقوق اللّه كالعبادات، كما أن هذه الحقوق إنما هي تكاليف وفرائض شرعية كسائر التكاليف الشرعية ‏الإلزامية التي أمر بها الشارع المقدس.
ثم يتناول (علاقة الحاكم بالأمة ليعتبرها من أهم الواجبات تجاه حقوق الأمة فيقول: (وأعظم ما افترض سبحانه من‏ تلك الحقوق، حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لإلفتهم، وعزاً لدينهم)[4].
فقد أكد بادئ ذي بدء في موضعين هذا الأمر، وهو أن الحق بين الحاكم والأمة واجب من الواجبات الإلهية، أي إذا كانت هناك وظيفة للحاكم تجاه الأمة، فإن اللّه هو الذي فرض عليه تلك الوظيفة. فقد أبان في المرحلة الأولى حق وحقوق ‏كل من الحاكم والأمة، على أنها تمثل أهم الحقوق الاجتماعية التي أوجبها اللّه، ثم أكدها في المرحلة اللاحقة كواجبات ‏إلهية.
وخلاصة ما يفيده هذا الكلام هو أنه إذا كان هناك من حق للأمة على الحاكم، وكان مكلفا ببعض الأعمال تجاه الأمة، فإن هذا التكليف إنما فرضه اللّه عليه، أي أن اللّه أراد من الحاكم أن يرد على طاعتهم له بالنظر في أمورهم وإحقاق ‏حقوقهم، لا أن وظائف الحاكم قضية تعاقدية بينه وبين الأمة، وأنها قلدته الحكومة ضمن عقد واشترطت عليه كيفية ‏ممارسة وظائفه.
ثم يتعرض لهذه المسالة من زاوية أخرى، وهي أنه إذا سلمنا بأن الأمة هي التي تفوض زمام الأمور للحاكم، وتعين له ‏وظيفته، فستكون الغلبة والهيمنة لها، فتشرط عليه ما تشاء، ليمارس مهامه في إدارة الأمور العامة للبلاد وفق رغباتها ومطالباتها.
وهذا ما يرفضه الإمام علي (عليه السلام) جملة وتفصيلا، دون أن يهمل ذكر الفساد والانحراف الذي يترتب على ذلك فيقول:
(وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى)[5].
فغلبة الرعية للحاكم، أو إجحاف الحاكم لحقوق الرعية، إنما يؤدي للقضاء على نظام المجتمع وسيادة الظلم والجور، وتعني غلبة الرعية للحاكم ائتماره بأوامرها، وتعيين وظيفته من قبلها، وهذا ما يختزن أساليب الظلم والاضطهاد الذي ‏سرعان ما يمارسه الحاكم بحق المجتمع. ولعل ما أجاب به الإمام على(عليه السلام) على ابن عباس حين اقترح عليه أمرا، إنما يمثل‏ مصداقا لهذا المعنى، حيث رد عليه: ( لك أن تشير علي وارى، فان عصيتك فاطعني)[6].
انه يرحب بكل اقتراح واستشارة، غير أنه لا يرتضي غلبة الأمة على الحاكم من جراء النظريات والاقتراحات التي تفرض ‏عليه.
وقد تجسدت هذه النظرة في أحاديثه التي ساقها للأمة حين حذرها من تحكيم الأهواء والآراء الشخصية فيما تمارسه ‏من أعمال، على أن ‏الأوامر الإلهية هي التي تصرح بوظائفها ووظائف الحاكم الإسلامي: (انه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه)[7].
ثم طالب مالك الأشتر حين ولاه مصر في عهده الذي عهده إليه أن يقوم بوظائفه في ضوء القرآن وسنة النبي (ص)، والرجوع إليهما في كل صغيرة وكبيرة: (واردد الى اللّه ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال ‏اللّه تعالى لقوم أحب إرشادهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)[8] فالرد الى اللّه الأخذ بمحكم كتابه والرد الى الرسول، الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة)[9].
إن الإمام علي (عليه السلام) جعل القرآن مرجعا للحاكم في جميع الأمور وشؤون الحكومة، ولذلك حين احتج عليه البعض بعد قضية التحكيم على أنه رجع الى الناس كمرجع لتشخيص أمور الحكومة، أجابهم بأنه لم يحكم سوى القرآن، قائلا : (إنا لم ‏نحكم الرجال، وإنما حكمنا القرآن ... فإذا حكم ‏بالصدق في كتاب اللّه، فنحن أحق الناس ‏به، وإن حكم بسنة رسول اللّه (فنحن أولاهم به)[10].
سيرته العملية هي الأخرى تفيد أن الحاكم مكلف بالعمل على أساس أحكام الكتاب والسنة النبوية فقط. وقد استعرض نهجه في إدارة دفة شؤون الحكم على أساس العنصرين الأساسيين للدين الإسلامي أي الكتاب والسنة حين ‏تسلم زمام الأمور وبويع بالخلافة، بعدما عتب عليه طلحة والزبير عدم مشورتهما والاستعانة بهما في تسيير الأمور، فقال:( فلما أفضت الى نظرت الى كتاب اللّه، وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به، فاتبعته، وما استسن النبي (ص) فاقتديته، فلم احتج ‏في ذلك الى رأيكما ولا رأي غيركما)[11].
إنه يرى (عليه السلام) أن وظيفة الحاكم لا تقتصر على إجراء الأحكام الإلهية فحسب، بل يرى أنه يتوجب على الحاكم أن يعمل ‏ببعض الأمور التي لم يرد فيها حكم من الشارع، طبق ما لو صدر حكمه بشأنها.
ومصداق هذا المعنى يمكن أن نلمسه فيما حصل في عهد عمر بن الخطاب حين كثرت حلي الكعبة، فاقترح عليه قوم ‏قائلين:
لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهم عمر بذلك، وسأل عنه ‏أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: (إن هذا القرآن أنزل‏ على النبي (ص)، والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في‏ الفرائض، والفي فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، والصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها.
وكان ‏حلي ‏الكعبة فيها يومئذ، فتركه اللّه على حاله، ولم ‏يتركه نسيانا، ولم يخف عليه مكاناً، فأقره حيث ‏أقره اللّه ورسوله فقال له‏ عمر: لولاك ‏لافتضحنا. وترك الحلي بحاله[12].
والجدير بالذكر أن جعل القرآن الكريم وسنة النبي (ص) محورا، يتطلب دراسة ومطالعة أعمق، وذلك للوقوف على ‏حدود وثغور هذه القضية.
ونخلص مما سبق الى أن وظائف الحاكم واقعة ضمن دائرة الأحكام الإلهية، وامتثال التكاليف الدينية. وكذلك حقوق الأمة ‏التي كلف الحاكم برعايتها وتحقيقها الى جانب أهم حق للحاكم على الأمة، جميعها واقعة في الدائرة المذكورة، أي أن ‏الحاكم‏ إذا عامل الأمة في ضوء الأسس والأحكام الشرعية، ساعيا لإجراء الأحكام الدينية وتطبيقها، فان حقه الإلهي يكمن في ‏طاعته من قبل الأمة، وهذا حق ثابت له. وإلا فلا يلزم إطاعته فيما إذا خرج من ذلك النهج والإطار. ولذلك بعث الإمام علي (عليه السلام) بكتاب لأهل مصر حيث ولى عليهم مالك الأشتر فأمرهم بطاعته، ثم قيد تلك الطاعة بأعماله الموافقة للحق، فقال فيه:(فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق)[13].
إن وظيفة الحاكم تتلخص في إجراء أحكام اللّه التي تتكفل بسعادة المجتمع الإسلامي، وإصلاح العلاقات السائدة بين ‏المسلمين، وعزة دينهم ودنياهم. وسنتناول بالتفصيل وظائف الحاكم التي أشار إليها الإمام علي (عليه السلام) في كلماته وخطبه بهذا الشأن.
وظائف الحاكم :
يمكن تقسيم هذه الوظائف الى قسمين:
1-الوظائف الفردية
2- الوظائف الاجتماعية
ويقصد بالوظائف الفردية ما يمارسه من أعمال تجاه نفسه وذاته، أما الاجتماعية فهي الأعمال التي يقوم بها وتخص الأمة ‏والمجتمع. وسنتعرض لكل واحدة منهما بالتفصيل.
وظائف الحاكم الفردية
إن المنصب الخطير للحكومة يتطلب بعض الخصائص والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم. في حين تكون ضرورة هذه الخصائص والصفات أقل بالنسبة للأفراد الذين يتمتعون ببعض المناصب الاجتماعية الأقل شأنا. والذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أننا لا نريد أن نخوض في مواصفات الحاكم وخصائصه، بل إن ما نروم إليه التعرض للأمور التي ينبغي أن يتوفر عليها الحاكم طيلة مدة حكومته. وسنبحث هنا في ثلاث وظائف بهذا المجال وهي: إصلاح النفس، الأخلاق، والإلمام بالعلوم.
1- إصلاح النفس:
يعتمد فلاح الإنسان وسعادته على إصلاح نفسه وتهذيبها، وقد ورد الحث على ذلك من قبل القرآن الكريم والنبي (ص) وأهل بيته (عليهم السلام)، وبالطبع فإن هذا الأمر يبدو أعظم خطورة بالنسبة للحاكم الإسلامي. فما انفك الإمام (عليه السلام) يوصي عماله وأمراءه وولاته بتقوى اللّه وتهذيب أنفسهم، الى جانب تذكيرهم برباطة الجأش، وكبح جماح النفس من طغيانها وغلبتها. وسنتعرض هنا لبعض وصاياه وأوامره لعماله والتي تهدف لإصلاح النفس وردعها عن الهوى والشهوات:
ا- ضبط النفس عند الوساوس وإصلاحها بذكر الموت:
لقد أوصى أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في غير موطن من عهده الذي عهده لمالك الأشتر بالحذر من أهواء النفس وكسر جماحها قائلا: (هذا ما أمر به عبد اللّه علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر... أمره بتقوى اللّه... وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات[14]، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم اللّه... فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فان الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت)[15].
وهذا ما أكده ( لأمراء الجيش أيضا. فقد قال لشريح بن هاني، حين جعله على مقدمة الجيش الذي سار به لقتال معاوية: (اتق اللّه في كل صباح مساء، وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال... فكن لنفسك مانعا رادعا، ولنزوتك عند الحفيظة واقماً قامعا[16])[17] .
وقال في كتاب آخر بعثه لصاحب جند حلوان يذكره فيه بأن إتباع هوى النفس يميل بالحاكم عن أداء وظائفه وبسط العدل والقسط بين الرعية: (أما بعد فان الوالي إذا اختلف هواه، منعه ذلك كثيرا من العدل)[18].
ثم يوصي بالإكثار من ذكر الموت، واصفا ذلك بالدواء الشافي لردع النفس عن شهواتها ثم إصلاحها وتهذيبها: (ولن تحكم ذلك من نفسك، حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك)
ب- الابتعاد عن حب الرئاسة:
يعد حب التسلط والرئاسة من الأهواء النفسانية، الأمر الذي يشكل خطرا جديا على الحاكم، ولذلك وردت تحذيراته لولاته من هذا المرض العضال. فقد حذر مالك الأشتر من هذه الخصلة المقيتة، كيلا يعتقد بأن الأخذ بزمام الأمور، وتولي منصب الحكومة، إنما يعني الرئاسة، وإصدار الأوامر دون تريث وتفكر،مع نسيان العفو والصفح والرأفة: (فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي ترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه... لا تسرعن الى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فان ذلك ادغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير)[19].
ثم يذكره بأن العظمة والجبروت من الصفات الذاتية المختصة باللّه، ومن نازعه في ذلك وأرادها لنفسه أذله اللّه، فقال: (إياك ومساماة اللّه في عظمته، والتشبه به في جبروته، فان اللّه يذل كل جبار، ويهين كل مختال)[20].
ثم يصف العلاج الناجع لمرض حب الرئاسة الذي يهدد بخطره كل حاكم والعلاج إنما يكمن في أمرين، الأول: استحضار مقام اللّه وعظمته التي تتضاءل أمامها سائر المقامات والقدرات في كل حال: (وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر الى عظم ملك اللّه فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك[21]، ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك)[22].
أما الأمر الثاني فيكمن في النظرة العميقة الصحيحة للمقام والمنصب، الذي كان يصفه بأنه أمانة ومسؤولية خطيرة في عنق الحاكم، وليس موقعا يدر المعاش والأرباح، فنراه في وصيته الى الأشعث بن قيس عامله على أذربيجان يقول: (إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة)[23].
إنه تمحيص وامتحان للحاكم من قبل اللّه سبحانه وتعالى: (وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم)[24] .
ج_ الانقطاع للّه تعالى:
إن الانقطاع للّه والتبتل إليه في العبادة يعد إحدى الوظائف الفردية المطلوبة التي يجب أن تدرج في جدول أعمال ووظائف الحاكم، وان كان المطلوب منه معالجة شؤون الأمة والنظر في أمورها، وان جميع أفعاله وأعماله إنما تعتبر عبادة إذا ما قام بها بنية التقرب الى اللّه تعالى، غير أن أفضل أوقاته هي تلك التي يتفرغ فيها لعبادة اللّه والانقطاع إليه: (ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها... واجعل لنفسك فيما بينك وبين اللّه أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وان كانت كلها للّه إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية) [25].
وما يتوجب على الأفراد في عبادتهم وفي مقدمتهم الحاكم الإخلاص للّه تعالى. لذا ينبغي ألا تختلف علانية الحاكم عن سريرته، لكي يبلغ درجة الإخلاص. فقد أمر عماله على الخراج والصدقات قائلا: (وآمره ألا يعمل بشي من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف الى غيره فيما أسر، ومن لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته، فقد أدى الأمانة واخلص العبادة) [26] . والذي نستفيده من كلمات الإمام (عليه السلام) أن العبودية هي أمانة إلهية في عنق الإنسان، ولا تؤدى هذه الأمانة إلا من خلال الإخلاص في العبادة. وعلى الحاكم أن يؤدي أمانته الإلهية بانقطاعه الخالص للّه تعالى وتبتله الذي لا يشوبه مثقال ذرة من رياء أو سمعة، فإذا ما كان كذلك كان موفقا في أدائه لأمانته الأخرى التي تتمثل في زعامة وقيادة الأمة وهداية العباد.
وإلا فان عجز عن أداء أمانته الإلهية الأولى فهو عن أداء أمانات الأمة أعجز.
د- الكفاف في الدنيا كان يمثل منتهى التشدد والصرامة في هذا المجال. فقد بلغه بأن واليه على البصرة عثمان بن حنيف قد دعي لمأدبة أحد الأشراف، فبعث له بكتاب يدعوه فيه لتقوى اللّه ويحذره من عذاب نار جهنم، ثم يأمره بالتزود من الدنيا على قدر الكفاف: (فاتق اللّه يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك ليكون من النار خلاصك) [27]. وقد أكد الإمام (عليه السلام) هذه القضية مرارا وتكرارا مع سائر الولاة. فقد بلغه بأن شريح القاضي كان قد اشترى دارا بثمانين دينارا، وكتب لها كتابا واشهد عليها شهودا، فاستدعاه فقال له: (أما انك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة ، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق. والنسخة هذه : هذا ما اشترى عبد ذليل، من ميت قد أزعج للرحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور ، من جانب الفانين، وخطة الهالكين. ويجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي الى دواعي الآفات، والحد الثاني ينتهي الى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي الى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهي الى الشيطان المغوي...) [28].
إن هذا الأسلوب الذي اتبعه الإمام (عليه السلام) تجاه زعماء المجتمع الإسلامي إنما يفيد وجوب مراعاة الحاكم لضعف طبقات المجتمع، وألا يعيش الحالة المرفهة وان كانت من الطرق المشروعة ، وأن ينتهي عن مجالسة الأغنياء التي تؤدي لاعتزال الناس والابتعاد عن الطبقات المحرومة.
فقد وصف نفسه قائلا: (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) [29]. وقال في موضع آخر: (إن اللّه تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره[30]) [31].
2- الأخلاق الإسلامية:
التحلي بالأخلاق الإسلامية في التعامل مع الأمة هي الوظيفة الفردية الأخرى التي عدها الإمام علي (عليه السلام) ضمن وظائف الحاكم. وقد ورد التأكيد والحث عليها في اغلب كتبه ( لعمال البلاد وولاتها. ونتناول هنا بعض وصاياه للولاة في المحاور التالية:
ا- الرحمة والرأفة:
إن الرحمة والرأفة تمثل قمة الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم، ويمارسها بأسمى صورها تجاه الأمة. عليه أن يعامل الأمة بالمحبة والعطف والرحمة، وهذا ما أمر به أمير المؤمنين واليه على مصر فقال: (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم... ) [32] .
وخاطب محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر قائلاً: (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك) [33].
ويطالب ولاته بالعفو والصفح، بحيث لا يبقى هنالك من مجال للعقوبة: (يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد الخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه ) [34].
بالطبع لا يمكن نفي العقوبة بشكل كلي فيما يتعلق بتنفيذ القوانين وإدارة المجتمع والدولة، إلا أن لها مواضعها المحددة، والإمام (عليه السلام) يحذر الحاكم من التبجح بها حين إجرائها، أو الندم على العفو حين يصدره: (ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة) [35] .
ب- الاحتكاك بأوساط الأمة والبشر بوجه الناس:
الوظيفة الأخرى التي تعتبر عنصرا حيويا آخر من عناصر الخلق الإسلامي، ويرى الإمام علي (عليه السلام) وجوب ممارستها من قبل الحاكم، تكمن في احتكاكه عن قرب بالأمة واستقبال الناس بوجه سمح بشر.
وهذا ما طالب به محمد بن أبي بكر قائلا: (فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة) [36].
وكذلك عماله على الصدقات: (... وأمره ألا يجبههم[37] ولا يعضههم، ولا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم، فإنهم الإخوان في الدين، والأعوان على استخراج الحقوق) [38] .
لا شك أن البشر وطلاقة الوجه يمكن أن تكون من العوامل المهمة التي تساهم في إعادة حالة التوازن الى الحاكم الذي قد يتسلل إليه بعض الشعور بالغرور والتكبر اثر تسلمه لزمام الأمور، من جانب آخر يجب على الحاكم أن يراقب سلوكه في تعامله مع الأمة ومقارنة ذلك مع مرحلة ما قبل تسلمه للسلطة: (فان حقا على الوالي ألا يغيره على رعيته فضل ناله، ولا طول خص به، وان يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوا من عباده، وعطفا على إخوانه) [39].
ج- ستر عيوب الناس:
إن طبيعة الموقع الاجتماعي الذي يتميز به الحاكم، إضافة الى الوسائل والإمكانات التي يتمتع بها، تجعله على علم واطلاع بأوضاع وأحوال وعيوب الناس المخفية عن الآخرين. الأمر الذي يفرض عليه ممارسة وظيفة خطيرة تكمن في عدم خرق ستار أسرار الناس، بل يجب عليه أن يستفرغ ما بوسعه لستر تلك الأسرار والعيوب، والحيلولة دون إعلانها وظهورها. ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن وظيفة الحاكم تقتصر على إصلاح الظاهر من الأمور وأن يفوض ما خفي منها للّه: (فان في الناس عيوبا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، واللّه يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك) [40] .
ومن هنا تتضح وظيفة الحاكم إزاء النمامين الذين يقتفون آثار عيوب الناس. حيث لا ينبغي له الاندفاع وراءهم والذهاب الى تصديقهم، بل يجب عليه اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لردعهم وإبعادهم عنه.
أخيرا فان إدارة شؤون الأمة تتطلب إحاطة الحاكم والمامه بأغلب الأمور التي تجعله يقود المسيرة بكفاءة وحزم، ولذلك يرى الإمام علي (عليه السلام) قضية متابعة ومواصلة العلم والتعلم، بهدف إصلاح شؤون البلاد، تمثل إحدى وظائف الحاكم، الأمر الذي كان يؤكده على ولاته: (أكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك) [41] .
ولذلك يوصي الحاكم باقتفاء آثار وأساليب الحكومات الصالحة الماضية، والاستفادة منها في الحكومة: (والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة) [42] .
الوظائف الاجتماعية للحاكم
أهم وظيفة ينهض بأعبائها الحاكم تتمثل في إدارة شؤون الحكومة. ويمكن خلاصة وظائفه في هذا المقام بتصنيفها الى ثلاثة مستويات
الأعمال المتعلقة بالأمة والتي تشمل أفراد المجتمع
والأعمال المتعلقة بأعضاء الحكومة مثل نصب وتعيين الولاة والعمال الذين يديرون شؤون الولايات والأمصار
وأخيرا الأعمال المرتبطة بالناس كافة أي الأعمال التي ينبغي أن تمارس بحق المجتمع ككل.
1- الحاكم والأمة:
للناس جملة من الحقوق على الحاكم يجب عليه تحقيقها وبسطها بينهم. ويمكن إيجاز هذه الحقوق فيما يلي:
ا- العدل:
يرى الإمام (عليه السلام) أن قرة عين الولاة إنما تكمن في إقامة العدالة في المجتمع: (وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد) [43] .
ويعتقد (عليه السلام) أن بسط العدالة في البلاد ينبغي أن يشمل ثلاثة أمور: الشخصية، والاقتصادية، والاجتماعية.
الأمور الشخصية:
يكمن الأمر الذي حظي بالأولوية في مجال العدالة عند الإمام علي (عليه السلام) في رعاية المساواة بين الناس في الأمور الشخصية، من خلال السياسة الفردية للحاكم في هذا المجال. فقد كان يوصي عماله بالمساواة بين الأفراد حتى يصل الى مستوى النظرة والتحية والسلام، حيث يرى أن من شأن هذه المساواة أن تقضي على الظلم في أكثر المجالات، ثم يذكر بأن عدم رعاية المساواة في هذا الخصوص تؤدي لطمع الأقوياء وجشعهم من جانب، ويأس الضعفاء من إجراء العدالة من جانب آخر: (وآس بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك) [44] .
الأمور الاجتماعية:
يتمتع كافة المسلمين في المجتمع الإسلامي بذات الحقوق، وليس هنالك من حق إضافي ينشا من جراء القرب أو البعد عن الحاكم، أو السبق في الإسلام، وما شاكل ذلك. وتبرز أهمية هذه المسالة من صعوبة وتعقيد المشاكل التي تواجه الحاكم بهذا الخصوص. وقد ابتلي الإمام علي (عليه السلام) حين تسلم زمام أمور خلافة المسلمين بمشاكل من هذا القبيل، حيث كانت الظروف الاجتماعية مناسبة لنمو مثل تلك الامتيازات التي لا تنسجم وروح العدالة الإسلامية بفعل السياسة التي أفرزتها مرحلة ما قبل نهوض الإمام (عليه السلام) بأمر الخلافة، فقد كانت اغلب فئات المجتمع حتى كبار صحابة رسول اللّه (ص) تطمع ببعض الامتيازات والحقوق الخاصة، وقد ثارت حفيظتهم وعز عليهم رفض الإمام بصورة قاطعة لتلك الظاهرة المرضية.
فما كان من أكثرهم إلا أن هبوا لمعارضته والابتعاد عن مساندته، ثم الالتحاق بركب معاوية، إلا أنه بقي مصرا على سياسته القائمة على أساس العدل والقسط. وقد وصف في رسالته الى سهل بن حنيف عامله على المدينة دوافع أولئك الذين انفرجوا عنه ولحقوا بمعاوية قائلا: (فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون الى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم... فإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها ومهطعون إليها، وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا الى الاثرة، فبعدا لهم وسحقا) [45] .
إن مساواة الأفراد في الحقوق الاجتماعية لا تعني وحدة التعامل مع الأفراد كيفما كان سلوكهم سواء كان حسنا أم قبيحا في المجتمع، بل المقصود هو أن وحدة أوضاع الأفراد تتطلب وحدة الحقوق ومساواتها، ولذلك كان يوصي ولاته بعدم المساواة في التعامل بين الفرد الصالح والطالح :
(ولا يكونن المحسن والمسي عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه) [46]. فالمساواة في التعامل مع المحسن والمسي تدعو الأول للزهد في الإحسان والثاني للإيغال في الإساءة. وعليه فلا بد من معاملة كل حسب أفعاله وتصرفاته، فلا بد من التمييز بين المحسن الذي يسعى جادا للقيام بأعمال الإحسان والبر، والمسي الذي يشيع الإساءة والرذيلة في صفوف المجتمع. وهنا نقول: إن الأساس في التعامل هو أعمال الفرد وأفعاله، لا نفس الفرد ومنصبه وموقعه الاجتماعي، ثم الثناء على المحسن وتوبيخ المسي على مقدار عمله وإساءته: (ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ الى غيره لا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ الى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما) [47].
الأمور الاقتصادية:
تشكل الشؤون الاقتصادية أحد المحاور المهمة للعدالة التي يمارسها الحاكم. وإن أدنى تمييز وظلم وإجحاف في هذا المجال، إنما يفرز تضييعا وهضما لسائر الحقوق الاجتماعية، وقد أكد الإمام علي (عليه السلام) هذا الجانب من العدالة، إضافة لاستعراضه الوسائل العملية الناجعة التي من شانها أن تيسر أمر إجراء العدالة في هذا الجانب، ومن ذلك:
الإشراف على سير أعمال التجار وذوي الصناعات والحرف كان من بين الأمور التي أكدها الإمام (عليه السلام) ضمن وظائف الحاكم في عهده الذي عهده لمالك الأشتر (رحمه اللّه) حين ولاه مصر، هي العناية الخاصة التي ينبغي أن يوليها للأفراد الذين ينهمكون في توفير أسباب الرفاه والرخاء الاقتصادي للمجتمع (التجار وأصحاب الصناعات والحرف)، ومعالجة مشاكلهم، والنظر في أمورهم. غير أنه لا بد أن يحيط بأخبارهم ومتابعة شؤونهم، ليتسنى له الإشراف على نشاطاتهم الاقتصادية بالرغم من كونهم يمثلون شريحة مسالمة في المجتمع، وليسوا من أهل البلابل والقلاقل والاضطرابات وذلك لاحتمال أن يكون البعض منهم حاملا لبعض الخصال السيئة، من قبيل: البخل، وضيق الرؤية، وما الى ذلك من الأمور التي تشكل خطرا جديا على سلامة وامن المجتمع. الى جانب تهديدهم للعدالة الاقتصادية من خلال اعتبارهم يمتلكون زمام المبادرة، وإمكانية التأثير سلبيا على الأوضاع الاقتصادية القائمة من خلال احتكار الثروات والإمكانات الاقتصادية مثلا وجعلها متداولة بين فئة معينة من فئات المجتمع فيقول: (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك آن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة)[48].
تقديم المصالح العامة
يتضح مما مر معنا سابقا، أن الإمام علي (عليه السلام) يرى وظيفة الحكومة في القطاع الاقتصادي تتمثل بمراعاة أوضاع الأمة بأسرها، ولا تقتصر على طائفة معينة.
مما يوجب على الحاكم سن القوانين والمقررات، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان الحقوق العامة والأخذ على يد مخالفي القانون فيما إذا طالت عامة الأمة بعض الأضرار والخسائر.
ولذلك كان يوصي مالك الأشتر واليه على مصر بالعمل الجاد الذي يجلب رضى العامة، وإن استبطن سخط الخاصة، وذلك لأن هذا المعنى أقرب للعدالة وأبعد عن الظلم والجور: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة) [49].
ويطالب الحاكم في موضع آخر بالحيلولة دون تدخل خاصته وبطانته من الذين يتصفون بالأنانية وعدم مراعاة الإنصاف في المجالات الاقتصادية، ولا يهمهم سوى ضمان مصالحهم الشخصية في الشؤون الاقتصادية للبلاد. وكذلك اجتثاث جذور الظلم المتأصلة فيهم من خلال إغلاق كافة السبل التي تمهد لتحقيق أطماعهم وجشعهم: (ثم أن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال) [50].
إغاثة الفقراء
يؤكد الإمام (عليه السلام) على الحاكم أن يولي اهتماما فائقا لفقراء المجتمع، بهدف إجراء العدالة الاجتماعية في مجالها الاقتصادي. في حين يقود عدم الاكتراث لهذا الأمر وعدم الاهتمام بالفقراء وإيجاد السبل التي تكفل رفع حالة الفقر عنهم بالتدريج، الى شيوع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تفشي الجريمة في المجتمع. ولذلك يوصي الولاة باستخدام أفراد يضطلعون بهذه الوظيفة، ليمدوه بالتقارير والمعلومات المفصلة التي تستعرض أوضاع الفقراء والمعوزين بغية تلبية حاجاتهم والقضاء على فقرهم.
مما لا شك فيه أن هذه الطبقة إنما استحقت هذه العناية الخاصة بفعل ضعفها وعدم قدرتها على المطالبة بحقوقها، وعليه فالحاكم مكلف بالنظر في أمرهم وإحقاق حقوقهم، والحذر من أي غفلة وإهمال بهذا الشأن: (ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى... فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم) [51].
ب: التساهل والرفق:
المحور الآخر من محاور وظيفة الحاكم تجاه الأمة الرفق بالناس حين التعامل معهم، عليه ألا يكلف الأمة فوق طاقتها بما يرهقها ويثقل كاهلها، وإن أدنى ما يترتب على الرفق بالأمة كسب ودها وثقتها. الأمر الذي يجعل الحاكم يشعر بالدعم والإسناد الذي يتطلبه في مواقع الحاجة: (واعلم أنه ليس شي بادعى الى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المئونات وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم) [52].
وقال (عليه السلام) بشان الضرائب وضرورة التخفيف من عبئها على الأمة: (فان شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب... خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شي خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك... فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به) [53].
إن الرفق والتخفيف عن الأعباء لا يختص بالأمور المادية فقط، بل يشمل حتى الأمور العبادية ومراعاة أحوال الناس، وهذا ما أكده وطالب به ولاته حيث قال: (وإذا قمت في صلاتك للناس، فلا تكونن منفرا، ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سالت رسول اللّه حين وجهني الى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما) [54].
ج- المباشرة بالنظر في أمور الناس ومعالجة مشاكلهم:
يرى إن إحدى وظائف الحاكم تتمظهر في سماعه مباشرة لشكاوى الناس والنظر فيها بدون واسطة: (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع) [55].
د_ تعليم الناس وإيقافهم على الحقائق:
الوظيفة الأخرى التي يمارسها الحاكم إنما تتمثل في تعليم الأمة وجعلها ملمة بأغلب الأمور، وهناك أسلوبان يمكن من خلالهما تحقيق هذا الأمر. احدهما: الأسلوب التعليمي الذي يمكن ملاحظته من خلال تأكيدات الإمام (عليه السلام) لولاته بالاهتمام بهذا الموضوع. فقد جاء في تأكيده لوالي مكة: (أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام اللّه ، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك الى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها) [56].
الأسلوب الثاني: ويتجسد هذا الأسلوب بإيقاف واطلاع الأمة على الحقائق. فقد تسود المجتمع بعض حالات سوء الظن تجاه الحاكم أو الحكومة، الأمر الذي يتطلب منه ممارسة وظيفته في كشف النقاب عن الأمور الغامضة التي تساور أذهان الناس.
فقد أوصى مالكا بهذا الشأن قائلا: (وإن ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك و اعدل عنك ظنونهم باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك)[57] . وقد كان هذا الأسلوب مشهودا في سيرة الإمام علي (عليه السلام)، بحيث لم تطرأ أدنى شبهة لأي من الأفراد، إلا وانبرى لإزالتها والقضاء عليها من خلال التعرض لها بكلماته أو كتبه ورسائله التي كان يبعثها.
2- الحاكم والولاة:
بنظر الإمام (عليه السلام) إن وظيفة الحاكم تجاه ولاته تكمن في ثلاثة أمور: النصب والاختيار، تفقد أحوالهم، والإشراف على سير أعمالهم.
لقد اعتمد الإمام علي (عليه السلام) بعض الملاكات في مسالة نصب الولاة واختيارهم، الى جانب تميزهم واتصافهم ببعض المواصفات التي تؤهلهم لذلك، ونلمس ذلك بوضوح في عهده الذي عهده لمالك الأشتر حين قلده ولاية مصر. فكان مما أمره به في هذا الشأن: (إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الآثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه: أولئك اخف عليك مئونة ، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، واقل لغيرك الفا، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره اللّه لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الإطراء تحد ث الزهو وتدني من العزة) [58]. من جانب آخر فان على الحاكم أن يتفقد أحوال ولاته، ويتابع أوضاعهم ويحل مشاكلهم، بحيث يشعرون بالعزة والسمو على الصعيد المعنوي، والغنى وعدم الفاقة على الصعيد المادي، كيلا يتطاولوا على أموال الآخرين وممتلكاتهم: (ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك) [59].
أما الوظيفة المهمة الثالثة للحاكم فهي إشرافه الدائم على سير أعمال الولاة، ولا بد له هنا من الاستفادة من العيون الأمنية للوقوف على حالات الخيانة أو الظلم، ومن ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها: (ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم) [60] وقد كان الإمام (عليه السلام) يمارس هذه الوظيفة حيال ولاته وعماله، وقد استفاض نهج البلاغة بالكتب والرسائل التوبيخية التي كان يبعث بها إليهم حين تبدر منهم أية خيانة بالنسبة لأموال الأمة أو ما شاكل ذلك.
ومن ذلك كتابه الذي بعثه الى زياد بن أبيه: (واني اقسم باللّه قسما صادقا، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا...)[61]، وكذلك ما جاء في كتابه الى بعض عماله: ... (وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم... ) [62].
وفي كتاب آخر: (بلغني... إنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك...،) [63] وشواهد أخرى عديدة. الحاكم والمجتمع الإسلامي:
البعد الآخر من أبعاد الوظائف الاجتماعية للحاكم، هو ما يرتبط بكل المجتمع الإسلامي. ويمكن تقسيمها الى قسمين:
ا- الأحكام الشرعية التي سنها الشارع بهدف إصلاح المجتمع من قبيل: الجهاد، وإقامة الحدود، وما افترض في الأموال، كالخمس والزكاة والفيء.
ب- الشؤون ذات الصلة بأوضاع المجتمع الإسلامي. وقد أشار الإمام (عليه السلام) في أحد كتبه لهذين القسمين قائلا: (ألا وإن لكم عندي... ولا اطوي دونكم أمرا إلا في حكم) [64] .
ولا نروم بحث الأحكام الشرعية التي يتوجب على الحاكم أن يجريها في المجتمع، وسنكتفي بالإشارة الى بعض الوظائف الأخرى للحاكم ومنها العلم والإلمام بشؤون المجتمع:
يجب أن يكون الحاكم محيطا بشؤون المجتمع وأموره وأوضاعه. ويرى الإمام (عليه السلام) أن أحد آثار الاحتجاب والبعد عن الناس يبرز بشكل ظواهر سلبية منها التباس الحق بالباطل، وتعظيم صغائر الأمور، والاستهانة بعظيمها، الأمر الذي يجعل الحاكم بعيدا عن امتلاك الصورة الواقعية لأوضاع المجتمع: (فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل) [65] .
إعمار البلاد:
إعمار البلاد هو الوظيفة الأخرى التي ينهض بها الحاكم. وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) في عهده الذي عهده لمالك الى هذه الوظائف، حيث منحها الأولوية قبل جباية الضرائب والخراج، على أن جباية الخراج قد تؤدي لخراب البلاد وهلاك العباد ما لم ترافقها عملية إعمار وبناء. الأمر الذي يؤدي في خاتمة المطاف الى زوال الدول والحكومات: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا) [66].
النظام:
الوظيفة الاجتماعية الأخرى التي يمارسها الحاكم تكمن في رعايته للنظام في أعماله وسلوكه. ويرى الإمام (عليه السلام) أن نظم سير أعمال الحاكم يتجسد في أمرين:
1- انجاز الأعمال اليومية في مواعيدها، وعدم تأجيل عمل اليوم الى الغد، وذلك لأن لكل يوم عمله المختص به:(وامض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه) [67] .
2- عدم مباشرة الأعمال قبل حينها، وعدم تأخيرها عن وقتها:
(وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التسقط فيها عند إمكانها) [68].
مسؤوليات الحاكم :
لقد ذكرنا في بداية البحث أن المسؤولية تختلف عن الوظيفة معنى ومصداقا، رغم العلاقة الوثيقة التي تحكمهما، ثم قلنا بأن المسؤولية أوسع وأعم دائرة من الوظيفة، وقد خلصنا حينها الى أن الدين هو المرجع الذي يعين للحاكم وظائفه المختلفة..
وما نريد التعرض إليه هنا، هو هل الحاكم مسؤول أمام غير اللّه سبحانه وتعالى؟ لابد من الالتفات هنا الى أن البحث يقتصر على الحاكم العام للمجتمع الإسلامي، وإلا فليس هناك من شك في مسؤولية الجهاز الحكومي وأعضاء الحكومة أو النظام الذين يمارسون بعض صلاحيات ومسؤوليات زعماء المجتمع الإسلامي أمام الحاكم العام للدولة الإسلامية. وسنشير في خاتمة المطاف الى بعض الحالات التي ليست للحاكم فيها من وظيفة إلا أنه مسؤول عنها.
الحاكم مسؤول أمام اللّه والأمة:
خلافا لوظيفة الحاكم التي اقتصر تعيينها له من جانب الدين، فإنه مسؤول أمام الأمة أيضا. فللأمة الحق في سؤال الحاكم والاستفسار منه عن أعماله. فقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) لمالك في عهده الذي عهده إليه بأن الناس ينظرون من أموره في الحكومة مثل الذي كان ينظر فيه من أمور الولاة قبله. ويقولون فيه من انتقادات واعتراضات كالتي كان يقولها بشأن أولئك الولاة. ثم يذكره بأن صالح العباد هم المعيار في هذا الخصوص: (وإنما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على السن عباده) [69].
والذي يدل عليه كلام الإمام (عليه السلام) أن للأمة حق إبداء الرأي بالنسبة لشؤون الحكومة. وإن هذه الآراء ووجهات النظر هي المعيار لمعرفة كون الحكومة صالحة أم طالحة.
وقد ناشد أهل الكوفة عند مسيره من المدينة الى البصرة الالتحاق به في معركة الجمل، ثم يطرح عليهم هذا الفرض في أنه لو خرج ظالما أو مظلوما ، باغيا أو مبغيا عليه فليلتحقوا به، فإذا كان مظلوما أعانوه ونصروه وإذا كان ظالما منعوه واخذوا على يده: (وإني أذكر اللّه من بلغه كتابي هذا لما نفر الي، فإن كنت محسنا أعانني، وإن كنت مسيئا استعتبني)[70] .
ثم يعرض في خطبة لبيان حق كل من الفرد من الأمة والحاكم: (أما بعد، فقد جعل اللّه سبحانه لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لأي جري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له) [71].
وأخرى خاطب بها أمراء جيشه، قيد فيها طاعة الحاكم بما اوجب اللّه عليه من حقوق للأمة، وبخلافه فانه يفقد حق الطاعة. وقد ذكرنا آنفا وظيفة الحاكم في التصدي للشبهات وسوء الظن الذي يساور أذهان الناس، ولذلك اختتم الإمام عهده لمالك بأن يعينه اللّه ومالك لقبول اللّه والأمة عذره في بعض الأعمال: (وأنا اسأل اللّه بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه والى خلقه) [72].
والذي نخلص إليه مما سبق أن للأمة حقوق على الحاكم، فلها أن تطالب بحقوقها، فإن لم تظفر بها سقطت طاعتها للحاكم.
ولها أيضا أن تبدي وجهات نظرها بشان محاسن الحكومة ومساوئها. وعلى الحاكم أن يعد الحجة والعذر المقبول والمبرر لأعماله عند اللّه والناس، فهو مسؤول أمام اللّه وأمام الأمة التي لها سؤاله والاستفسار منه.
مسؤولية الحاكم تجاه أعمال ولاته:
المسؤولية بالنسبة لإعمال الولاة والعمال، تمثل إحدى مسؤوليات الحاكم، والتي ترتبط بوظيفته بصورة غير مباشرة، وأن لم يكن مطلعا على جميع أعمالهم. إن الحاكم وإن تولى مسؤولية نصب وعزل ولاته وعماله، غير أن أعمالهم التي يمارسونها تقتصر وظيفتها عليهم، وليس لها من صلة بالحاكم، مع ذلك فهو مسؤول عن تلك الأعمال. ولذلك ورد في عهده لمالك بشأن اختيار عماله ومن يستعين بهم: (ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك باجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ... ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك...)[73]، فالحاكم مسؤول عن كل خطأ ونقص يشوب أعمال من يأتمرون بأوامره، وإن لم يكن له علم بأعمالهم: (ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته) [74].
مسؤولية الحاكم حيال عجز الولاة عن بعض الأعمال:
الحالة الأخرى التي يكون الحاكم مسؤولا فيها، وجود بعض الأعمال التي تستعصي على ممن دونه من بطانته وعماله، وإن كانت هذه الأعمال ليست من وظائفه. وفي ضوء تلك الحالة فانه يتوجب عليه التدخل مباشرة للقيام بتلك الأعمال ويكون مسؤولا عنها وعن انجازها. وهذا ما أمر به على مالك الأشتر: (ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك) [75].
_____________________
[1] نهج البلاغة: ج2، ص92.
[2] نهج البلاغة: ج2، ص199.
[3] نهج البلاغة: ج2، ص198.
[4] المصدر السابق.
[5] نهج البلاغة: ج2، ص199.
[6] نهج البلاغة: ج4، ص76.
[7] نهج البلاغة: ج1، ص202.
[8] النساء/59.
[9] نهج البلاغة: ج3، ص94.
[10] نهج البلاغة: ج2، ص5.
[11] نهج البلاغة: ج2، ص184.
[12] نهج البلاغة: ج4، ص65.
[13] نهج البلاغة: ج3، ص63.
[14] ويزعها أي يكفّها عن مطامعها إذا جمحت عليه فلم تنقد لقائد العقل الصحيح والشرع الصريح.
[15] نهج البلاغة: ج3، ص81ـ 82.
[16] وقمه فهو واقم أي قهره، وقمعه: ردّه وكسره.
[17] نهج البلاغة: ج3، ص113.
[18] نهج البلاغة: ج3، ص115.
[19] نهج البلاغة: ج3، ص84.
[20] نهج البلاغة: ج3، ص85.
[21] الطماح: النشوز والجماح؛ ويطامن أي يخفض منه.
[22] نهج البلاغة: ج3، ص84ـ 85.
[23] نهج البلاغة: ج3، ص6.
[24] نهج البلاغة: ج3، ص6.
[25] نهج البلاغة: ج3، ص102 ـ 103.
[26] نهج البلاغة: ج3، ص26.
[27] نهج البلاغة: ج3، ص75.
[28] نهج البلاغة: ج3، ص4.
[29] نهج البلاغة: ج3، ص72.
[30] أي يهيج به ألم الفقر فيهلكه.
[31] نهج البلاغة: ج3، ص72.
[32] نهج البلاغة: ج3، ص84.
[33] نهج البلاغة: ج3، ص27.
[34] نهج البلاغة: ج3، ص84.
[35] نهج البلاغة: ج3، ص84.
[36] نهج البلاغة: ج3، ص27.
[37] جبهه كمنعه: ضرب جبهته، وعضه فلانا كفرح بهته؛ نهى عن المخاشنة والتقريع.
[38] نهج البلاغة: ج3، ص26.
[39] نهج البلاغة: ج3، ص79.
[40] نهج البلاغة: ج3، ص86.
[41] نهج البلاغة: ج3، ص89.
[42] نهج البلاغة: ج3، ص11.
[43] نهج البلاغة: ج3، ص92.
[44] نهج البلاغة: ج3، ص27.
[45] نهج البلاغة: ج3، ص130 - 131.
[46] نهج البلاغة: ج3، ص88.
[47] نهج البلاغة: ج3، ص93.
[48] نهج البلاغة: ج3، ص100.
[49] نهج البلاغة: ج3، ص86.
[50] نهج البلاغة: ج3، ص104.
[51] نهج البلاغة: ج3، ص88.
[52] نهج البلاغة: ج3، ص 88 ـ 89.
[53] نهج البلاغة: ج3، ص96 ـ 97.
[54] نهج البلاغة: ج3، ص103.
[55] نهج البلاغة: ج3، ص102.
[56] نهج البلاغة: ج3، ص128.
[57] نهج البلاغة: ج3، ص105.
[58] نهج البلاغة: ج3، ص87 ـ 88.
[59] نهج البلاغة: ج3، ص95 ـ 96.
[60] نهج البلاغة: ج3، ص96.
[61] نهج البلاغة: ج3، ص19.
[62] نهج البلاغة: ج3، ص65 ـ 66.
[63] نهج البلاغة: ج3، ص68.
[64] نهج البلاغة: ج3، ص79.
[65] نهج البلاغة: ج3، ص103 ـ 104.
[66] نهج البلاغة: ج3، ص 96.
[67] نهج البلاغة: ج3، ص103.
[68] نهج البلاغة: ج3، ص109.
[69] نهج البلاغة: ج3، ص83.
[70] نهج البلاغة: ج3، ص114.
[71] نهج البلاغة: ج3، ص198.
[72] نهج البلاغة: ج3، ص110.
[73] نهج البلاغة: ج3، ص98.
[74] نهج البلاغة: ج3، ص99.
[75] نهج البلاغة: ج3، ص102.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية