تستمر جدليات العلاقة التفاعلية بين الدين وتطورات الواقع العلمي
والمعرفي في فرض نفسها كسؤال إشكالي يتلمس حركةً من الدورة الفكرية
الباحثة عن موارد الالتباس أو التكامل في هذه العلامة؛ فمن ثنائيات
الدين والفلسفة، إلى الدين والتصوف، إلى الدين والوافد، إلى الدين
والعلم...إلخ...
تبرز ثنائية الدين والمنهج لتُعَبِّر عن موجة من أنماط وصنوف
التفكير، ومسببات التأثير ضمن نمطية معينة لما يصح عليه تسمية
تفسير أو تأويل النص الديني. من هنا استدعى الأمر في هذه المعالجة
كإشكالية العلاقة بين النص الديني والمنهج القيام بخطوات تمهيدية
لمنشأ الاتجاهات والتفاعلات الواقعة والحاصلة عند الباحث في الإطار
الديني بتحفّز منهجي ما.
ونبدأ بتحديد تلك الممهدات والاتجاهات بالشكل التالي:
1 ـ العقل والفلسفة:
هل أن العقل بمرتكزاته الأولية رهنٌ للفلسفة؛ بحيث إننا لا نتمكن
من الحديث عن نتاج عقلي إلاّ ونكون حكماً ـ نتحدث عن نتاج فلسفي؟
أم أنَّ الصورة هي أن الفلسفة ومباحثها بالضرورة هي مبحثٌ عقلي؟
وبالتالي فالعقل هو المحيط الذي تقبع فيه الفلسفة، دون العكس، بل
إن العمل المنهجي إنما يبدأ خط مسيره من: أوليات عقلية ثابتة ومن
ملاقاة لمجهول هو مشكلٌ يحتاج إلى حل.
ومن دهشة تثير في النفس الرغبة في المعرفة.
ومن سؤال مركزي أو أكثر يبحث عن العلل (المصدرة والغاية)
لعل جملة الأسئلة هذه والعوامل مع طريقة الفهم على أساس التحليل
البحثي ـ البرهاني، بالغالب هي الطريقة والنهج الذي يسمى
بالفلسفة... وقد يحصل أن البعض ينطلق من جملة هذه المنطلقات، وبطرق
مختلفة من الفهم أو إدخال عوامل مختلفة عما ذكرته فيُشكِِّل بذلك
مذهباً أو نمطاً فلسفياً خاصاً حتى وصل الأمر بالبعض لاعتبار أن
الفلسفة هي "ممارسة السؤال، حاملاً عبارة "ممارسة السؤال" على معنى
"الخروج من سؤال إلى سؤال" ومحتجاً في ذلك بأن الجواب في الفلسفة
يفنى، بينما السؤال فيها يبقى[1] وهذا يعني فيما يعنيه:
أولاً: أن السؤال هو روح الفلسفة والتفلسف؛ (الوجود الذاتي) وأن كل
مضمون يطرح بوصفه جواباً هو عرضٌ تتغير صوره ومحمولاته.
ثانياً: بما أن السؤال؛ كما في اللغة؛ هو الطلب، والطلب هو الشرط
الضروري لحصول المعرفة، فتكون الفلسفة بانبنائها على السؤال، قائمة
مقام الشرط الذي تحصل به المعرفة... وهذا ما سيفتح للمشتغل بالعلم
والمعرفة باب ممارسة التفلسف.
ثالثاً: أن طبيعة السؤال تقوم على قابلية استثنائية لإيجاد تداعٍ
لأسئلة مماثلة أو ضدية[2].
وهكذا فإن الميدان سيبقى مفتوحاً إلى حدود لا حصر لها، ولعلها قد
تصل إلى تعدد وتنوع يتساوق مع تعدد وتنوع الأفهام... وهذا ما دعا
اليوم إلى فتح الباب واسعاً أمام محايثات ما بين العلوم والفلسفة؛
بحيث إنك لن تقبض على معنىً محدد للفلسفة. بل كل ما يمكن الوصول
إليه:
1 ـ أنها "ممارسة للتفلسف" وذلك بالتحفز النقدي لمواجهة أي
إشكالية...
2 ـ إنها تمثِّل ـ بالغالب ـ وجهة نظر معرفية ـ فلسفية تجاه "رؤية
العالم أو الوجود".
3 ـ تتشكل كل نظرية فلسفية من قبليات، لاتنتمي إلى القضايا
المنطقية... بل هي قبلية تعتمد على الخبرة؛ إذ يلزم التزام الحجة
الفلسفية بمنطق صوري محكم، وقد يكفي في الغالب تقديم الحجة مدعَّمة
بمقدمات مقنعة.
4 ـ انبناء النظرية الفلسفية على نسق من التصورات والأحكام
المترابطة ببعضها الآخر بشكل محكم، وقد توضع لمثل هذا الترابط
خصائص هي: البساطة، الوضوح، الشمول، كشرط لاعتبارها نظرية فلسفية
تستحق العناية.
لكن مثل هذه الموارد من التوافق بين الفلاسفة لم يُخرِج الفلسفة عن
كونها حالةً إنسانية تغلب عليها القناعة الشخصية، مع كل ما تختزنه
من دعاوىً شمولية، وطاقات على طرح الكليات وجمع ما تبعثر أو تكثّر.
وهذه الميزة ـ القناعة الشخصية ـ هي ما أوصلت للقول "بالحق
المفتوح" لإنتاج أنماط فلسفية؛ أو فلسفات متنوعة... كما وأنَّه هو
الذي دعا إلى القيام بخطوتين:
الخطوة الأولى: السعي لبحث حدود ونطاق انتشار المبحث الفلسفي...
وهو أمرٌ مر بمراحل متفاوتة من التوسعة والتضييق على حدود نطاق
البحث الفلسفي.
ولعله اليوم يتحدد بالمجالات التالية:
أ ـ الميتافيزيقا أو الأنطولوجيا الفلسفية.
ب ـ المعرفة، ومدى إمكان قيام معرفة موضوعية، وبحث ملاكات الخطأ
والصواب، وموضوع القبليات والأحكام واليقين والاحتمال.
ج ـ فلسفة العلوم أي ما يُعنى "بمبحثين رئيسيين: مبحث المناهج أو
الميثودولوجيا، ومبحث المشكلات الناشئة عن تطور تلك العلوم ما لا
يدخل في نطاق التخصص نفسه. ويتناول مبحث المناهج المناهج العامّة
أو الخاصة، ويضم علم المناهج العامة دراسة للقواعد العامة في أي
بحث كقواعد الاستنباط والاستقراء، وهما جزء مما يتناوله علم
المنطق. أما المناهج الخاصة، فهي دراسة لمنهج البحث في كلٍ من تلك
العلوم؛ إذ يختلف منهج علم ما باختلاف موضوعه... وكذلك تختلف
المشكلات الفلسفية الناشئة من تلك العلوم باختلاف العلم موضوع
البحث"[3].
ولا يخفى أنّه ونتيجة مثل هذا التقسيم، ومراعاة الدور الفعَّال
الذي أخذه علم المناهج في إطار المبحث الفلسفي، وبسبب طبيعة
التأثير والفعالية المتبادلة بين الإشكالات التي تولدها العلوم،
والمناهج التي تعمل على بحثها ونقدها وتحليلها كما وتركيب
معطياتها. تولَّدت فلسفات مثل فلسفة اللغة، وفلسفة الدين، وفلسفة
الفقه، إلخ... وهذا سيفتح الباب واسعاً للدخول إلى مبحث طبيعة
العلاقة بين النص الديني سواءً في إطاره العام "الدين ككل"، أو في
إطاره التفريعي "الشريعة" أو "الفقه".
الخطوة الثانية: الانطلاق من أسئلة وإشكاليات وفرضيات أعم من
الفلسفة؛ وعدَّها مما يصحُّ إطلاق اسم "علم الفلسفة" عليه... من
هذه الأسئلة: إلى أيِّ حدٍ يمكن اعتبار الاختلاف بين الفلاسفة
ومذاهبهم أمراً حيوياً؟
وهل يمكن للفلسفة أن تكون علماً؛ أي هل للفلسفة موضوعات محددة،
ومنهج محدد، ونتائج مثمرة يتناولها الفيلسوف عن سابقة يصححها، أو
يعدلها أو يطورها؟[4].
ومن الاقتراحات الإشكالية... اعتبار كل منهج أو طريقة بحثية تتحرك
في معالجتها على أساس التحليل: وهو إجراء يعتمد "تحليل فروض أو
تصورات أو مواقف معينة، إما لدحضها، أو لتوضيحها، أو لانتقاء
عناصرها المقبولة، ونبذ عناصرها الأخرى التي لا تقف أمام
النقد".[5]
التركيب: وهو خطوة تأتي بعد التحليل، من أجل: "ترتيب ما وصل إليه
من عناصر ترتيباً جديداً، أو يصنفها تصنيفاً جديداً، أو اكتشاف
علاقات جديدة بين تلك العناصر، أو هذه كلها جميعاً"[6].
كما وتتحرك المعالجة خاصة عند التركيب على أسس فرضية فلسفية يعمل
على تفاعلها مع العناصر التي يشتغل عليها ويضعها كنقطة مركزية في
مواجهة المشكلات والطروحات. يبقى أن نشير إلى أن هناك اتفاقاً شبه
مطبق بين الفلاسفة، خاصةً منهم المشتغلين والمولين للمنهج أهميته
الاستثنائية... مفاده أنه إذا كان للمنهج سبقٌ "منطقيٌ" على
النظرية، إلا أنه ـ في الفلسفة ـ لاحقٌ "زمنياً" للنظرية أو المذهب
الفلسفي.
ولاشك في أن مثل هذه التحديدات في الوقت الذي تسمح لنا فيه تلمس
المحددات الخاصة بالفلسفة والمنهج الفلسفي... فإنها تشعرنا
بالضرورة اللازمة لاكتشاف طبيعة العلاقة بين المنهج في تلوينه
وسماته الفلسفية، والنص الديني في رؤيته ومذهبه النظري.
وتتأكد هذه الضرورة مع الالتفات إلى الإشارات العديدة التي يمكن أن
نجدها في طيات مباحث، أو حتى تصريحات علماء الدين في الإسلام...
سواء منها في إطار علم الكلام أو الأخلاق أو الفقه..., ذلك بَعدّ
هذه العلوم من سنخ العقل النظري تارةً أو العقل العلمي أخرى... ومن
الإشارة إلى طريقة الحجج القرآنية أو الروائية وصياغتها
واستهدافاتها... فهي أمور تضعنا أمام اعتبار أن ربَّ الحكماء حدّث
الناس بالحكمة، وبيَّن وجهة الدين في نظرته للوجود والعالم
والإنسان والحياة، إلاّ أن هذا ليس بالأمر الذي يعفينا من التأمل
في العلاقة بين الفلسفة والمنهج والنص الديني؛ لأن الصورة ليست
خالية من جملة من التعقيدات والتشابكات المفاهيمية والأحكام القيمة
في تحديد أفق العلاقة بين هذه الأمور...
2ـ المنهج:
إن الكلام عن المنهج وعلاقته بالعقل والفلسفة يدفعنا للحديث عن
مستويات المعالجة التي يقوم بها المنهج والتي منها:
أولاً: المستوى المتعلِّق بالآليات وأساليب وتقنيات البحث العلمي؛
إذ "المنهج العلمي هو أسلوبٌ فني، يُتَّبع في تقصي الحقائق
وتبيانها، ويحتوي على عناصر التشويق، التي تُحفِّز القراء على
البحث وتُمكِّنهم من التعرف على أسراره، ولهذا لم تكن المناهج
قوالب ثابتة تستوجب التقيد بها، كما يعتقد البعض، بل هي أساليب
تختلف بالضرورة من موضوع إلى آخر، ومن باحث إلى آخر، وحسب الظرف
الزماني والمكاني والفلسفة التي دفعت الباحث إلى اختيار الموضوع
والبحث فيه"[7].
وعليه فإن المنهج في هذا المنظور يتشكل من:
أ ـ الأسلوب الفني التشويقي.
ب ـ الأسلوب الذي يخولنا التعرف إلى الحقائق.
ج ـ الأسلوب المراعي لمتطلبات الظروف الزمانية والمكانية.
د ـ وأخيراً هو الأسلوب الخاضع لفلسفة ورؤية خاصة بالباحث.
ثانياً: المنهج هو منطق التفكير، وهنا يكون التركيز على القواعد
المعتمدة في منطلقات البحث، وضوابطه التي ينبغي أن تحكم سيره
وخطواته؛ لذا عُدَّ المنطق الأرسطي منهجاً، كما عُدَّ المنطق
التجريبي منهجاً أيضاً.
ومن هذه المناهج المنطقية:
أ ـ المنهج الاستدلالي: "وهو منهج يبدأ من قضايا مبدئية مسلم بها
إلى قضايا أخرى تتنج عنها بالضرورة دون الالتجاء إلى التجربة. ويتم
هذا بواسطة القول، أو بواسطة الحساب"[8].
ب ـ المنهج التجريبي: "وهو منهج يُبدأ فيه من جزئيات أو مبادئ غير
يقينية إلى قضايا عامة وبالاستعانة بالملاحظة والتجربة لضمان صحة
الاستنتاج"[9] وهو ما يصح إطلاق المنهج الاستقرائي عليه.
ج ـ المنهج الجدلي: وهو يذهب إلى "القول بأن الأشياء تنطوي على
جوانب أو مظاهر متناقضة، وبأن التواترات أو الصراعات هي القوة
الدافعة التي تحدث التغيير"[10].
هنا علينا الإشارة أنه وعلى ضوء الطبعتين المذكورتين للمنهج نشأ
علم خاص "الميثودولوجيا" أُطلِق عليه "علم المناهج" وهو يبحث في
جملة العمليات العقلية، والخطوات العملية، للكشف عن الحقيقة
والبرهنة عليها.
وبالتالي فطالما "أن العلوم تتمايز بموضوعاتها، فهي تختلف كذلك
بمناهجها؛ ولذلك لا يمكن الحديث عن منهاج عام للعلوم... إذ لكل علم
منهاجه الخاص، تفرضه طبيعة موضوعه..." بل إن المنهج قد يستكشف بعد
القيام بالبحث العلمي عبر ملاحقة الخطوات الفكرية والعملية ثم
القيام بوصفها وتحليلها وتصنيفها، ومناقشتها ونقدها، كل ذلك من
"أجل صياغتها صياغة نظرية منطقية قد تفيد العالم في بحثه، وتجعله
أكثر وعياً لطبيعة عمله"[11].
ثالثاً: إعطاء المنهج نفس معنى "المعرفية" بل اعتباره مضارعاً
للإبستمولوجيا؛ إذ "إن الضابط المنهجي يعني القانون الفلسفي أوى
لمبادئ الفلسفية الناظمة بتحديد واضح للأفكار، فالمنهجية تقنين
للفكر..." لكنها معرفة المعرفة؛ إذ شرط اعتبار المعرفة منهجية، هو
تمتعها بطبيعة تقنينية؛ إذ "دون هذا التقنين يتحول الفكر إلى
تأملات وخطرات انتقائية قد تكون عبقرية ومشرقة جداً... لكنها لا
تكون منهجية، فمنهجية الأفكار أو تقنينها بالمنهج تماثل، حالة
توليد القوانين من الطبيعة"
وبالنتيجة يقرر أصحاب هذا النحو من فهم التعاطي مع المنهج أن:
"المنهجية التي نعنيها هي خروج العقل من حالة التوليد الذاتي
للمفاهيم إلى اكتشاف النسق المرجعي الذي يحاكم هذه المفاهيم نفسها
ويؤطر لإنتاجها؛ بحيث يحكم التطبيقات في مختلف الحقول الأخرى،
فالمنهج هو خلاصة قوانين تحولت إلى نظريات تحولت بدورها إلى إطار
مرجعي، وليس مجرد صياغة موضوعية للتفكير"[12].
فهذا المستوى من فهم المنهج يقوم على اعتباره:
أ ـ قانوناً فلسفياً ناظماً.
ب ـ وهو منطقٌ تقنينيٌ للفكر.
ج ـ وهو جملة من القوانين المولِّدة للمفاهيم.
د ـ بل إنه تجاوز توليد المفاهيم نحو اكتشاف النسق المعياري
لمحاكمتها (وهي طبيعة منطقية).
هـ ـ يمثل المنهج إمكانية تؤهل الباحث تطبيق المفاهيم والقواعد
والأنساق على الحقول المختلفة (وهذا يعني إمكانية قيام منهج معرفي
واحد لجميع أو لغالبية الحقول المعرفية والعلمية).
و ـ أخيراً إن قوانين المنهج تمثل الإطار المرجعي ـ المعرفي،
ولعلنا إذا أردنا التعاطي مع هذه المستويات الثلاث من فهم المنهج
فنحن تارةً أمام تقنية بحثية ـ تعبيرية... وأخرى أمام تعدد في
ضوابط القراءة محكومة بخلفية الباحث من جهة (الفلسفة التي يستند
إليها) ومحكومة بالحقل الذي يعالجه من جهة أخرى (الموضوع) وبذلك
تتعدد المناهج بتعدد الخلفيات والموضوعات.
أما على المستوى الثالث فسنكون أمام رؤية شمولية تحكم مساري المنهج
الأول والثاني، وتشكل الوجهة الفلسفية والمرجعية المعرفية التي
نعتمد عليها وننطلق منها.
ولعل بحثنا في العلاقة بين المنهج والنص وإمكانية قيام منهج فلسفي
لقراءة النص الديني. سيتناوب في معالجته بين الفهم الثاني والفهم
الثالث للمنهج، إذ منهما يُشتمُ أيضاً أخذ معنى العقل، أو التعقل،
أو البنى العقلية في مضمار الفهم الثالث للمنهج.
وهنا نجيء إلى النص، أو النص الديني... فلقد تعاطت المدارس
التحليلية والمنهجية المعاصرة مع كل أثر مكتوب أو مقول أو حفريٍّ
أيضاً على أنه نص... بل إن بعضها توسع بالمعنى ليشمل ما معطىً أو
مرسال يتصل بنا.
والنص من حيث المعنى المعاصر يختلف عما هو عليه من استخدام في
القديم؛ إذ الاستعمالات القديمة في كتب البلاغة والنقد لم تكن تلجأ
إليه، باعتباره مفهوماً جامعاً، وكانت تسمي كل تجلٍ نصي بحسب
انتمائه إلى جنس أو نوع معيّن، فتنسبه إليهما، وهكذا ارتهن تقسيم
النص إلى:
أ ـ معاينة القدماء للتجلي الكلامي.
ب ـ طبيعة فهمهم له.
ج ـ طريقة تعاملهم معه.
فلم يكونوا يهتمون بالكل المتصل بالقصيدة مثلاً أو حتى بالنص
القرآني؛ إذ لا يقرؤونه كنص جامع من الدفة إلى الدفة.
إلا أن الدراسات المعاصرة، للنص فضلاً عن كونها تعاملت معه ككل
جامع، فإنها وعلى يد البنيوية جاءت "لتضع حداً فاصلاً بين مرحلتين
في فهم النص وتحديد دلالته وأفق تحليله وإنجازه... فقد وضعت
البنيوية تصوراً جديداً للنص؛ لأنها انطلقت من تحديد التصور
التقليدي الذي كان سائداً، ومن خلال تحديدها لما يتشكل منه، قدمت
تصوراً مغايراً ومختلفاً، ويبدو لنا ذلك بوضوح من خلال ما يلي:
أ ـ إذا كان النص في النظرية التقليدية محدداً؛ بمعنى أنه مكتمل،
ومُنْتَهٍ... فمع البنيوية صار مفتوحاً على احتمالاتٍ دلالية، حتى
الكاتب قد لا يكون ملتفتاً لها.
ب ـ انطلقت النظرية التقليدية من اعتبار أن النص يحمل دلالةً
محددةً...وقد عملت على رصد المصدر الذي ينطوي فيه المعنى، كما
وينكشف من خلاله.
بينما قامت الفكرة المعاصرة على اعتبار الحق بتحديد وتقديم دلالات
وقراءات متعددة... إذ كل نص يحمل أفقاً واسعاً من الدلالات، وكل
قراءة تكشف عن دلالة مختلفة، وهذا ما سمح باعتبار القراءة إعادة
إنتاج النص.
ج ـ اعتبرت النظرية التقليدية أن الكاتب هو صاحب السلطة العليا على
النص؛ وأن القارئ إنما يتحدد دوره بمعرفة الدلالة الكاملة في وعي
أو لاوعي الكاتب... وذلك باعتبار أن المعنى المقصود للكاتب هو
الغاية المرجوة؛ وما على القارئ إلا ضبط المعنى من خلال نفس
المؤلف، أو العصر الذي ينتمي إليه عمد التصور البنيوي إلى طرح
نظرية التناص والتي تذهب إلى أن كل نص هو وليد تفاعل وتناص مع نصوص
مختلفة شفاهية ومكتوبة، بل هو تفاعل مع أنظمة علامات غير لسانية
أيضاً، وأن النص وهو يتفاعل معها يضمنها نظامه اللساني بواسطة
عملية "التلفيظ".
وبذلك "صار النص لانهائياً، ومتعدداً من زوايا مختلفة: دلالية
وقرائية وعلاماتية. وبسبب هذا التعدد لا يمكن لأي قراءة أن
تستنفده؛ لأنه مفتوح أبداً". وهذا ما سمح بتشكيل آراء ونظريات
متنوعة بشكلٍ كبير، وغير منضبط أحياناً...[13].
وبذلك، فإنَّ مما لا يخفى المقدار الذي يحمله هذا المنهج المعاصر
من مغايرة واختلاف مع الموضوع ـ النص القرآني ـ الخاص؛ إذ إن
المناخات التي ولَّدت حركة هذه النظرية؛ وطبيعة قراءاتها للنص...
تنطلق أولاً وبالأساس من اعتبار النص المبحوث عنه، وليد تفاعل
وتناص ثقافي وبيئي بشري.
إذ محورية الإنسان، واعتباره ابن بيئته والثقافة التي ينتمي إليها
أو التي تحيط به، هو الذي سمح لهذه النظرية أن تأخذ مداها
الحيوي... وهي إنما تكرست بالأصل في قراءات النصوص الأدبية؛ ومنها
تجاوزت لتمارس قراءتها ونقدها لنصوص فكرية، وبعد ذلك لنصوص دينية،
وكانت مشروعية تعاطيها مع النصوص الدينية تقوم على اعتبارها نصوصاً
اختلط فيها البشري بالإلهي، وهنا كونت الزاوية التي أمكنتها من
توظيف بيئة نصية دينية تتكيف مع مشروع القراءة الجديدة.
ومع وقوع العديد من العقبات اضطرت هذه النظرية لإيجاد مناخات أكثر
قابلية، وتكيَّفاً، ومشروعيةً، لبناء علاقة بين النص ـ الديني،
وحرفة القراءة البنيوية؛ أن تمارس نقداً تحليلياً ـ تأويليا؛ للفصل
بين ما هو بشري في النص، وما هو إلهي فيه. كما وتبحث عن دائرة
المقدس من غير المقدس؛ كمرحلة أولى؛ في الحقل الديني.
فشكلت معطياتها على الأساس التالي:
أولاً: التفريق بين النص الديني، والتراث الديني؛ واعتبار أن الأول
إن كان مصدره الإله (الوحي أو الإلهام)، فإن الثاني مصدره
الإنسان(العقل أو الثقافة).
وبذلك تمَّ الحديث عن مستويين من المعرفة الدينية... المستوى الأول
نصوصي وهو الدين؛ والمستوى الثاني تفسيري وهو "نظام فهم المنظومة
الدينية".
والذي يمكن نقاشه هو الثاني، حتى ولو شكَّل الثاني الهامش الأكثر
فعَّالية من الأصل.
ثانياً: إعادة صياغة مفهوم المقدس والمدنس على أساس ما هو غيبي،
وما هو زمني؛ وطالما أن الإنسان ـ حتى في دائرة الدين ـ إنما
يتعاطى مع كل ما يتمثَّل بالحيِّز الزمني، فإن كل منتوج ولو ديني،
هو منتوج غير مُقدَّس ولا حرمة لأبعاده ومعانيه المفتوحة على كل
عاصفة تأويلية.
ثالثاً: إحياء الفهم النسبي وربطه بالمقدس؛ على أساس الصلة؛ فما هو
مقدسٌ عندي قد لا يكون مقدّساً عندك، وبالتالي فالمقدس وإن كان
حقيقة مطلقة إلا أنها غير محددة؛ بل هي مجرد نزوع يتولد أو يتأكد
أو يتطور من خلال التجربة الدينية؛ وغالباً ما تكون التجربة
الدينية فرديةً... وما كان فردياً فإنما يعني صاحبه، ولا يجب
انطباقه على غيره بالضرورة.
وبهذه الخلفية فتحت الاتجاهات المعاصرة طريقها نحو نظرية
"الهرمنيوطيقا" لتمارس من خلالها قراءتها للدين. إلى أن تشكلت
كنظرية فلسفية حاكمة على كل نص تحت سلطة "الحق في التأويل". لكن
وعلى كل حال، فلو سلمنا بإمكانية التوافق بين طروحات هذه النظرية
ومناخات دينية لا تعتبر النص موحىً بالمعنى الدقيق للكلمة؛ إذ عنصر
الإلهام والعبقرية الإنسانية حاضرة ـ بحسبهم ـ في النص الديني.
إلا أن ذلك غير وارد إطلاقاً في ما يخص النص القرآني، الذي يعتبره
المسلمون كلاماً إلهياً قطعيّ الصدور عن الله وكل حرف فيه هو كلام
الله المحفوظ من الله ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[14] والذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه.
بل إن فكرة المقدس (الغيب) الذي يقابله المدنس (الدنيوي) لا
نتلمسها في الفرز التأسيسي المنهجي والمعرفي والديني عند المسلمين.
فالدين هو دين الآخرة والدنيا، والدنيا هي مزرعة الآخرة؛ بل هي
منطلق صراط الآخرة المستقيم؛ ودنيا الدنس هي التي يشكلها الإنسان
بنزواته ومعاصيه وانحرافه عن السنن الكونية، ومقتضيات الضمير
الإنساني. أما بذاتها، فهي خلق الله وكل صادر عن الله سبحانه محترم
وكريم.
فالإشكالية هنا تختلف بنيوياً عن كل ما تبتني عليه الإشكالية هناك؛
لذا ما يصح هناك قد لا يصح هنا على الإطلاق.
إلا أن هذا لا يعني أن النظريات التأويلية للنص باطلة، بل هو يعني:
الانطلاق من كون هذه النظريات نظام فهم تأويليٍّ، فعلينا أن نتعامل
معها من منطلق البنى والطبيعة الخاصة بالنص الإسلامي.
بل أقول هنا بالدين الإسلامي؛ الذي هو نصٌ موحى؛ وعقلٌ فطري مجبولٌ
على معرفة الله؛ ووجدان عقلائي منتج لإمضاءات عرفية واجتماعية؛
وأخلاقيات تكوِّن شخصية الإنسان (الفرد والجماعة والتاريخ) كما
تكوِّن شخصية المؤسسة والسلطة (الأمة والإمامة والدولة)، والتراث
وإن كان غير النص، إلا أنه أمرٌ محترمٌ مقدَّس يقبل النقد والمساس.
والتفاعل العام هنا يقضي في ما يقضي تحديد الخطوات المنهجية
التالية:
أولاً: القيام بفرز منهجي لجغرافية "القول" في النص وكيفية امتداده
على مستوى طبقات وتعرجات بنية التفاعل الديني.
ثانياً: القيام بفرز منهجي لجغرافيا "المفهوم" في النص؛ وبنفس
المستويات والتعرجات السالفة.
ثالثاً: تثبيت منطقة "المحكم" النصي، والعقلي ـ الفطري ـ من
"المتشابه" النصي، والعقلي ـ المكتسب.
رابعاً: توسيع دائرة متن الواقع بحركيته "الغيب والشهادة" على
مستوى العلم والمعرفة والتطور.
خامساً: حسم ما يتعلق بالفرز بين المعرفة والدلالة الانتشارية في
أفقها الزمني ومصاديقها المتشكلة بحقيقتها عبر أفق الزمن.
سادساً: إعادة ضخ روح الاجتهاد الفكري في بنية الأصول المعتمدة
للاجتهاد الفقهي.
سابعاً: سبك نظام تأويلي يعتمد التعليل المنهجي والتناص الداخلي
لمنظومة "الطهارة" الإسلامية، وتقديم بُعد الإسلام ـ الرسالة (أعني
به: ما يجمع الشريعة والطريقة والحقيقة)، وهو أمرٌ لا يمكن أن
يتيسر إلا ببناء نظامٍ فهمٍ فلسفي يتولد من رحم الدين (العقل+ النص
+ الوجدان).
ملاحظات وقراءات في المنهج
إننا إذ لا نعيب أي اقتراح منهجي في قراءة النص، إذا انطلق من حدود
الآليات أو روح القوننة؛ إذ إن مثل هذا النحو من المنهج يمثل طريقة
أو أسلوباً يستهدف طبيعة الصياغة التقنية وكيفية الاستفادة منها في
التعرف إلى المضمون وتقديمه؛ أو هو يستهدف الكيفية التي نبني عليها
القواعد، وهما أمران يمثلان الشرط الموضوعي لأي منهج ـ خاصة المنهج
الفلسفي ـ إذ كل وجهة فلسفية معرفية تقتضي مثل هذا التحليل والفرض
والتركيب.
فأيُّ نص أنت لا تحتاج معه مثلاً إلى:
أ ـ توضيح المصطلحات والمفردات المفتاحية ومداليلها.
ب ـ فرز الوحدات والبني النصية؛ الصغيرة والأوسع.
ج ـ إثارة الأسئلة الممكنة على النص، وتوقع الإجابات منه.
د ـ توسيع دائرة البحث عن أبعاد النص من مناخات معرفية متعددة
ومتلائمة.
هـ ـ التعرف إلى المميزات والسمات الخاصة بالنص.
و ـ ممارسة نقد يتلمس مواضع الضعف والقوة، في مجمل بنية النص
وأفكاره ومراميه.
ز ـ استكشاف قواعد الوعي التي يطرحها النص.
إلى ما هنالك من نقاط تساعد على التعرف إلى أسسه وقوانينه وقواعده
الخاصة أو المتبناة.
إن عملاً منهجياً من هذا المستوى هو أشبه بالبحث عن آليات لحركة
أشياء تشكل موارد اتفاق في الحاجة الإنسانية وعلى أوسع دائرة
ممكنة.
لكن الكلام إنما يرتبط بالمنهج الذي يمثل مذهباً معرفياً أو
فلسفياً معيناً. وهو النوع الثالث من الأشكال المنهجية التي
عرضناها في بداية البحث، فعلى سبيل المثال طُرِحَ المنهج التاريخي
كواحدٍ من أهم الصيغ لقراءة الفكر الديني.
واختلط الأمر عند الكثيرين بين معنى التاريخ ودراية سننه وبين
التاريخانية كاتجاه معرفي ـ فلسفي.
فصحيحٌ أن الزمن هو موضوع المنهج التاريخي، إلا أن وظيفة مثل هذا
المنهج قد تكون سلوك الطريق الذي يختاره الباحث في تجميع معلوماته،
وبياناته العلمية في دراسة الموضوع، والذي يسلكه في التحليل،
والتفسير، وتبيان الحقائق، وهو الطريق الذي يربط بين الحاضر
والماضي والمتوقع، إنه المنهج الاستقصائي في الدراسات العلمية،
والاجتماعية، والإنسانية؛ أي أنه لم يقتصر على الدراسات التاريخية
كعلم التاريخ فقط، بل أهميته تسع دراسة كل العلوم.
فمثل هذا التعريف دعا إلى التمييز بين ثلاثة مستويات من المعالجة
التاريخية.
ـ التاريخ كسيرة زمنية تتحدث عن الأحداث.
ـ التاريخ كسنة تستخرج من خلالها العبر وقواعد الأحداث وتشكلات
بنية الوعي رابطاً إياها بالحاضر وتوقعات المستقبل.
ـ التاريخ كفلسفة ونظرة للوجود؛ إذ كل من تعرف ولو بمقدار إلى
فلسفة هيجل سيكتشف حجم التداخل العضوي والوظيفي بين التاريخ، ومنطق
الجدل، والعقل المطلق، هذا الثلاثي الذي يتماهى ليشكل أبعاد
الفلسفة الهيجلية. ولقد عمل أصحاب هذا المنهج "التاريخي".
على بلورة جملة من المعطيات منها:
أ ـ أدوات المنهج: من الملاحظة والمشاهدة والمقابلة والاستبيان.
ب ـ خطوات المنهج: من تحديد موضوع البحث، إلى تحديد الأهداف،
واستطلاع الدراسات السابقة، وتحديد الفروض وصياغتها، وجمع
المعلومات والبيانات، وتحليل المعلومات وتفسيرها، واستخلاص النتائج
وعرضها، وكتابة التقرير.
ج ـ صيغ المنهج: صيغة الحدث في الزمن، وفيه يتتبع الباحث التسلسل
الزمني بظروفه ومتغيراته، ليحدد الشروط وعوامل التوليد للحدث
وعوامل وإمكانيات تكراره، وقد يكون التسلسل من الماضي للحاضر أو
العكس.
د ـ صيغة دراسة الموضوع: وفيها ينظر لموضوع محدد في سياقات حركته
وتطوره، باعتماد التحليل المنطقي والعلمي في تفسير الظواهر،
وانتهاج النقد البناء لمناقشة الشكوك.
ومن هنا، أخذ المنهج التاريخي يفتح الطريق لنشوء النزعة
التاريخانية، أو نزعة المنهج التاريخاني، الذي يفيد أننا لا نستطيع
الحكم على الأفكار أو الحوادث أو المفاهيم والمعتقدات والأديان
ونظم الجماعات، إلا بنسبتها للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه؛ إذ
النظر إليها من ناحيتها الذاتية يوقعنا في التباسات اختزالية
مقيتة... بينما نسبتها للوسط التاريخي ستضعها في إطار المعالجة
والرؤية الموضوعية لخصائصها وتركيبها ومظهرها. لذا فلا مناص من
ضرورة النسبة الحتمية للتاريخ؛ إذ سر كل شيء وروحه هو التاريخ، وسر
الروح إنما يعرض نفسه في التاريخ حسب المسيحية؛ وعلى التاريخ في
العلم والفن والدين والفلسفة والقانون ـ حسب هيغل ـ.
من هنا، فإن المنهج التاريخاني يقوم على وعي الجماعة أولاً؛ وعلى
منطقة اللاوعي بدرجة أساسية.
ولعل تشكل هذا المنهج إنما جاء كرد فعل على التفسير اللاهوتي أثناء
حركة عصر التنوير، وكواحد من أنماط النقد على سلطة التفسير الديني.
وهذا ما أوجب قيام "الفلسفة الوضعية" بطرح اتجاه يقوم على وحدة
البنى والقواعد المنهجية للتاريخ وللعلوم الطبيعية، الأمر الذي دعا
اتجاهاً آخر (المثالية) لضرورة الفصل بين المنهجين، واعتبار
التاريخ البشري مقاطع من الفواصل والفصول والتحقيبات المختلفة
بروحها وإرادتها وعقلها؛ وإن قراءة أي حقبة تقتضي التعرف إلى
السائد فيها من عقلية وإرادة ومكونات نفسية، ثم اعتبرت أن التاريخ
يتشكل من مقولات تقوم على التغير والتنوع والديمومة. من هنا، فلا
بد للمؤرخ أن يتمتع فضلاً عن (الحدس)؛ بقدرة اندماج ذاتي مع
الأحداث والظواهر التاريخية.
وهكذا تشكلت أو يمكن أن تتشكل جملةٌ من الأسئلة والضوابط والنتائج
على ضوء هذا المنهج؛ وفي سياق طرحه كمشروع سيادي في قراءة الفكر
الديني، منها:
1 ـ ما معايير صدق رواية تاريخية يرويها الراوي، أو تتحدث عنها
وثيقة؟ وكيف نحكم على صدق أي دعوى تاريخية؟ وما هو معيار الصدق
والكذب في القضية التاريخية؟
2 ـ إذا كان التاريخ صاحب الحكم الفصل على المعتقدات والأديان ففي
ما يخص الدين، لابد من أن نسأل عن كيفية حله لمشكلة نشأة الدين،
ومن أين نستطيع البدء بتأريخ حركة الأديان؟ ومن أين ننطلق ببحث
النشأة، هل من الماضي أم من الحاضر؟ وما هو معيار أيٍّ من
التقديرين؟
3 ـ ما هي حدود الدين؟ (أثناء القيام بدراسته تاريخانياً) وهل يمكن
لنا فهمه خارج حدود بقية المعارف والعلوم والفنون والبيئة
الجغرافية وغيرها...؟
4 ـ هل هناك صيغة خاصة لتطور الدين؟ وبالتالي فهل الأديان تنحل في
صيغتها (الجوهرية) إلى دين واحد؟ أم أن لكل دين كيانه المستقل؟
إنَّ هذه الأسئلة والتحديدات والتحديات وضعت الباحثين أمام خيارات
ومواقف. فمن الاقتصار على اعتماد ماله علاقة بأخذ دور تقني يمارس
فيه التصحيح للوثيقة ومتابعة المصدر والترتيب إلى المقترح لصيغة
الاندماج الجواني للباحث مع الظاهرة التاريخية كمسعىً لفهم منطقها
(الهرمنيوطيقا) ثم تقديم البراهين والصيغ الخاصة بها.
إلى المصرِّين على تقطيع الحقبات ودراستها ودراسة الظاهرة الدينية
أو أي ظاهرة خارج إطار الروح والشكل الذي تقدم نفسها على ضوئه.
وأخيراً الاتجاه "التاريخاني البحت" الذي اقترح مرحلتين لدراسة
الظاهرة الدينية، أولها مرحلة تفسير الظاهرة وثانيها مرحلة
"تضمينها" أي إيجاد تفاعل بين الدارس والمدروس، بين الباحث
والظاهرة؛ إذ لا يمكن الفصل بين طريقة الفهم والتطور التاريخي.
وقد حمَّل النقاد مثل هذا الطرح في مكوِّناته وتوقعاته المستقبلية
روحاً تنبؤية استشرافيةً تطلع من أفق المسيحية التي تعتبر بحسب
نظرية التجسد والتدبير الخلاصي أن الله دخل التاريخ، جسداً، وهو
يُدبِّر كل مفاصل حركته ليُطوِّعها نحو الزمن الممتلئ. وهذا البعد
مرآة النقاد في كل تأويل يستشرف سيادة قادمة تتجسد بثقافة ما، أو
بطل، أو عصر نهائي.
مع الالتفات إلى أن أصحاب الاتجاه التاريخي في تأسيساته الأولى قد
اسقطوا بعد الإله والتأله وحطوا رحالهم عند الأرضي والوضعي.
وأياً كان الأمر، فإن عرض مثل هذا المنهج على وجهة دينية ـ معرفية
هي الإسلام سيثير جملة من الإشكاليات؛ إذ كيف يمكننا أن نوفق بين
الطبيعة البشرية المتأثرة بكل حيثيات النسبية وبين الطبيعة
الإطلاقية التي يحملها المعتقد الديني؟
كيف يمكننا أن نقرأ حدثاً انبثاقياً يعتقد أهله أنه قد أُنزل دفعةً
واحدة من حيث حقيقته، وروح سره، في الوقت الذي تنزل بالتدرج وفي
مناسبات متعددة، من خلال منهجية تقوم على اعتبار الزمن مسارات
محكومة بروابط وتكاملات متلاحقة عبر آنات الزمن وتقطعات المحتوى؟
بل كيف يمكننا أن نفهم حركة المضامين الاعتقادية والغيبية
والباطنية، عبر نظام تتلاحق ظواهره العيانية ـ التاريخية؟
كيف يمكن مع وجود المدى الواسع من الفواصل والحواجز الزمنية
المؤسسة لفواصل معرفية وحواجز معرفية أن تكون هي السبب في فهم
الماضي بالحاضر أو العكس؟
أخيراً هل يمكن أن نتوفر، مع الالتزام بقواعد دراسة سير التاريخ
وممارسة النقد التاريخي وكشف السنن، على منظومة منهجية تاريخية؛
تختلف عن السائد من الطروحات؛ وتشكل ما يتناسب مع انبثاقية
المعرفة؟
أم أننا مضطرون ولدواعٍ منهجية ـ جاهزة، أن نقوم بليِّ عنق النص
الديني، وتطويع المضمون والمعنى بما يتناسب مع حركة المنهج
وإحداثياته؟ حتى ولو اضطرنا هذا الأمر نزع العمق الإلهي والطابع
الانبثاقي للنص، وتحويلنا إلى "أيديولوجيين منهاجيين".
إن حدة الموضوع وخطورته، كان واحداً من الأسباب التي دعت الباحثين
إلى التنكرُّ لأحادية المنهج التاريخاني ومذهبه الفلسفي الذي يسوقه
وينساق معه.
ليقوموا بدمج منهجي ـ تكاملي بينه وبين المنهج الظواهري. الذي يقضي
بتطوير دور "الحدوس الحسية" لتكون "حدوساً قبلية" في قراءة
الظاهرة، ويمكننا الوصول إلى تلك الحدوس بتأمل الذات لموضوعات
أفعالها العقلية، منعزلة عن المؤثرات الجانبية؛ ومن ثم نصل إلى
الشعور في نقائه أو إلى الأفعال العقلية، ومحتواها القبلي، وذلك
وصولاً لماهية وحقيقة الظاهر بخصائصها الأساسية ـ الضرورية.
إذ ما يتقدم لنا أول ما نلتقي الظاهرة (الدين مثلاً) هو واقعة
محفوفة بجملة من الأمور المباشرة التي تختفي ماهيتها وحقيقتها
حيِّزَ إدراكنا لتكون "معطى" نقوم بسبر أغواره بعيداً عن كل ما
يحفُّه من أعراض وشوائب وتداخلات لنحصل عليه صافياً كما هو وبمعزل
عن تأثيرات الزمان والمكان وغيرهما.
فإذا كان التاريخ عاملاً لكشف الأعراض والمؤثرات والسياقات
المختلفة والمتخالفة، المتداخلة في الحقيقة الواحدة وفي بنائها
وتشكلاتها الثقافية، فإن الظاهراتية تعمل على إضاءة منطقة الذات
والماهية المستبطنة والمخفية، لتكون هي القبلية ـ الضرورة؛ وماهية
الحقيقة والذات بخصائصها، وقد شكلت هذه الثنائية بين الذات والعرض.
والظاهر والباطن بتقاطعاتها المنهجية والمعرفية، سبيلاً لنشر أفقٍ
معرفيٍّ تعامل مع النص، ضمن نفس السياقات.
وقد شكَّل اشتغال "هوسرل" على "التعبير والمعنى" مفتاحاً هاماً في
هذا المجال، إذ اعتبر أن "التعبيرات اللغوية في دلالتها على حقائق
لا نؤلفها وإنما هي معطيات، وإن لها موضوعيتها؛ بحيث تؤلف هذه
الحقائق عالماً مستقلاً يسميه هوسرل عالم المعاني. كل دلالة
المعاني أن لدينا حقائق صادقة دائماً لها ضرورتها الملحة التي لا
نملك إلا قبولها؛ إذ كل علامة هي علامة على شيء ما، ويرتبط تصور
العلامة بترابط الأفكار؛ إذ تدل علامة ما على شيء معين؛ لأنها
ترتبط بالشعور بشيء ما، ثم إن أفعالنا هي ما يعطي التعبير اللغوي
معنى، وكل فعل موجه إلى موضوع بالضرورة، والأفعال العقلية التي
تعطي للتعبير معنىً نوعان: أفعال موجهة نحو معان meaning
intentional acts؛ أي أن المعاني هي موضوع تلك الأفعال، وأفعال
محتواها تحقيق المعنى meaning fulfilling acts؛ أي إشارة التعبير
إلى أشياء خارجية...
التعبيرات اللغوية ذاتية وموضوعية، ونسمي التعبير موضوعياً، إذا
ارتبط به معناه بمجرد رؤيته أو سماعه، دون اعتبار لقائله أو كاتبه
أو ظروف قوله وكتابته، ثم علينا التمييز بين تعبيرات الحياة
اليومية؛ إذ هي تعبيرات غامضة مثل، كلمات: شجرة، غابة، حيوان، أما
التعبيرات العلمية، فهي دقيقة وتتمثل في المبادئ والنظريات العلمية
والمنطقية والرياضية، إنها واقعة مستقلة عن التفكير فيها بل مستقلة
عن الحكم ذاته.
وننتقل الآن إلى العنصر الثاني في خبرة الفعل العقلي (غير معنى
التعبير) وهو إشارة التعبير إلى شيء في الخارج فهناك تعبيرات
مختلفة المعنى لكنها تشير إلى شيء واحد. وهناك تعبيرات تشير إلى
أشياء مختلفة لكن معناها واحد.
هذه المعاني الموضوعية ـ محتوى أفعال المعنى ـ لا نجردها من صنعنا،
وإنما هي موضوعات عامة نكتشفها مستقلة عن حالاتنا النفسية وأفعالنا
العقلية، وهي موضوعات لها واقعيتها"[15].
إن مثل هذا التحليل فتح المجال واسعاً أمام:
أ ـ التعاطي مع النص كما يُقدِّم نفسه؛ إذ الواقع قبلناه أم لم
نقبله، وأدركناه أم لم ندركه، هو قائم به.
ب ـ السعي لضرورة التماهي مع وقائع النص للتعرف إليها.
ج ـ إخراج النص من دائرة العرف الاجتماعي أو السياقات التاريخية
المولدة للمعاني، والمباشرة في التواصل معه.
د ـ النخبوية في استبطان الحقيقة والخروج عن المألوف، بل اعتباره
الضباب الذي بانقشاعه تتجلى الحقيقة القائمة بنفس المعنى أو
بإشاراته.
وهذا ما يشكل مقدِّمات للإيمان بعلاقة الفلسفة ومنهجها مع النص،
ولتطوير فعاليات المعالجة بل والذهاب بها نحو تخصصية في قراءة النص
وفهمه (هي الهرمنيوطيقا)، وهو ما سيفسح المجال لتفاعل بين هذه
المستويات من القراءة، ومناهج التفسير ومنهجيات علم أصول الفقه
وغيره كمرتكزات ومحددات لقراءةٍ ومذهب ومنهج ذا رؤية أنظومية
فلسفية للتعامل والتناص والتماهي مع النص الإسلامي بحسبه ومن
منطلقه.
إلا أن هذه الحركة المنهجية نحو النص مازالت تحتاج إلى اختبارات
جدّية لينظر الباحث المسلم أو الباحث في الحقل الإسلامي إلى مدى
فعاليتها عبر اختبارها، وعرض تفاعلها على موارد منهجية ـ طاب
للكثيرين تسميتها بالمنهجيات الموروثة ـ وظني أن من المبكِّر أن
نبدأ بمرحلة الحكم على تلك المنهجيات قبل إجراء اختبارات فعلية
لها.
بل وقبل القيام ببعض الخطوات منها:
أ ـ دراية واعية لمكونات هذه المناهج بعد تفكيكها وإجراء تركيبات
منهجية بين أنساقها للتعرف إلى طبيعة نتائجها ومؤثراتها.
ب ـ عرضها على الموروث بحيادية موضوعية، تتعمد رفض النزوع
الإسقاطي، كما تتعمد الثقة بفعاليات المناهج
الموروثة ـ ولو في تجربتها التاريخية ـ ولعل علم الأصول يمثل
واحداً من أهم تلك الموروثات الفعالة التي مازالت تستدعي النظر
إليها بشيء من الثقة، والاطمئنان، ورغبة التطوير.
ج ـ المرونة في إدخال مهام ووظائف ومقاصد جديدة عبر استكشاف المدى
الحيوي لتلك المناهج عبر تفاعلها من خلال وحدة العقل وأواصر الثقة
بينه وبين الوحي.
د ـ البدء بممارسة جملة من التجارب المنهجية والنظرية على أرضية
النص، سعياً نحو فهم رؤيته (التي تشكل في كثير من قضاياها
ومسلماتها البعد المعرفي) تجاه حركة تلك المناهج ومقاصدها
وفعالياتها...
ولعل علم أصول الفقه يمثِّل اليوم واحداً من أهم، بل هو أهم منطقة
وسطية قابلة لمثل هذا الإجراء المنهجي ـ الاختباري للعلاقة بين
المنهج والنص، وصولاً نحو تحقيق مقصد معرفي ومنهجي هو: بناء نظام
منهاجي للاجتهاد الإسلامي (بكلياته الممثلة لفلسفة دين نابع من
حاضنة الإسلام)، و(برؤيته الناظمة لسلوكيات الناظم الاجتماعي)
و(بحدود الكثير من موارده الفقهية التشريعية).
[1] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي، الدار
البيضاء، ص 11.
[2] راجع، ن.م.
[3] راجع محمود زيدان، مناهج البحث الفلسفي، الهيئة المصرية
العامة، ص 21 ـ 23.
[4] المصدر نفسه ص 124.
[5] المصدر نفسه ص 124.
[6] المصدر نفسه ص 124.
[7] د. عقيل حسين عقيل، فلسفة مناهج البحث العلمي، مكتبة مدبولي،
1999م، ص 50.
[8] عبد الرحمن بدوي: مناهج البحث العلمي، ص 18.
[9] المصدر نفسه ص 18.
[10] موسوعة المورد.
[11] راجع الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، مركز دراسات الوحدة
العربية، ط3، 1994، ص 23.
[12] راجع منهجية القرآن المعرفية، دار الهادي، ص 34 ـ 35.
[13] للتوسع راجع: مجلة عالم الفكر، العدد الثاني، عام 2003، من
النص إلى النص المترابط، ص 77.
[14] سورة الحجر: الآية 9.
[15] مناهج البحث الفلسفي، 75 ـ 78.