مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

بحث في ولاية الفقيه
الشيخ قاسم الطائي


بسم الله الرحمن الرحيم
وسيكون الحديث عبر الإطار العام دون الدخول في تفاصيل الولاية ومناقشة أدلتها فإن ذلك شأن البحث الفقهي، والحديث الآن عن الجانب الاجتماعي والسياسي للولاية بشكل مختصر لأجل إعطاء فكرة واضحة عن الولاية الغرض منها تركيز مفهومها في الأذهان العامة لكونها حاجة حياتية تمليها الظروف الحالية على الصعيدين الديني والاجتماعي، بعد أن عمل السيد الشهيد (قدس سره) بهذا المبدأ وطبق بعض أحكامه على الصعيد الميداني لأجل تربية الأمة على الطاعة والالتفاف حول العلماء والفقهاء وقد طبقه في صلاة الجمعة العبادية والتي أتت أُوكلها على الصعيدين الديني والأخلاقي بل والسياسي حيث أنتجت شجاعة لدى العراقيين واخترقت حاجز الخوف الذي تسبب النظام الطاغوتي في وضعه وتجذيره في النفوس عبر وسائله القمعية و ممارساته الوحشية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً وكذا طبقها في زيارة الحسين (عليه السلام) الأربعينية لتدريب الأمة على الالتزام والطاعة عبر ممارسات عملية ذات مشقة ما لرفع الروح الحماسية ورفد القدرة على التحدي والصمود وإبداء التضحية وبفضل الله كانت نتائجه واضحة للعيان شاخصة على الساحة العراقية لا ينكرها إلا المكابر أو من به مس من الجنون.
ولم يكن مفهوم الولاية آنذاك بدرجة من الوضوح والبيان وإنما كان يكتنفه بعض الغموض الذي جعله يواجه جملة من الاعتراضات والاستفسارات والتحديات، يوم كانت الذهنية العامة فارغة من أي مدلول أو معرفة عن المبدأ – أي الولاية العامة للفقيه –فقد أُدعيِِ أن إنجازه مشروط بالعصمة وأنه مختص بالمعصموم (عليه السلام)، وأنه مشروط ببسط اليد أي القدرة على -التنفيذ والإنجاز –ولم يكن الفقيه كذلك، أو إن أصل المفهوم غير ثابت للفقيه لأنّ جملة من الفقهاء المشهوريين لا يقولون بالولاية العامة للفقيه، مما ألقى أجواءً من التعتيم والطعن عليه ـ كبروياً- على أصله ـ أو صغروياً ـ أي على من يدعي الولاية –كالسيد الشهيد الأُستاذ (قدس سره الشريف).
وكانت لأجواء التقية بالغ الأثر في هذه الاعتراضات، و ما يؤديه القول بالولاية العامة من إرباك الواقع الحوزوي والاجتماعي وربما إرباك واقع بعض الدول المجاورة التي تبنت مبدأ ولاية الفقيه كنظرية للحكم فيها. كما هو معروف لديكم والآن و قد زالت التقية وأخذ المفهوم ُيفعل بشكل واضح في الحياة الشيعية وطريقة ممارسة الفقيه لمهامه الاجتماعية واستعمال نفوذه وممثليته لقيادة الأمة في زمن الغيبة الكبرى التي نعيشها الآن ولم تكن الساحة خالية من الفقهاء ممن يقولون بها أو ممن لا يقولون بها مما يحدث جواً من الإرباك في رجوع العامة والمقلدين بين الالتزام بأحكام الولاية، وبين الالتزام بفتاوى مقلده كما هو المشاهد الآن.
ومن هذا المنظار كانت الحاجة إلى فتح الحديث عن ولاية الفقيه تمثل ضرورة حياتية وحاجة فقهية ثقافية، ورفد الوعي العام للأمة بالمفاهيم الإسلامية التي لم تأخذ حقها من البحث الفقهي والاستدلال عليها وتركيزها في الأذهان العامة والإشارة إليها والإرشاد عليها لتأخذ طريقها في النفوس تحفيزاً عليها ومحاولة الاقتناع بها وتطبيقها من قبل الفقهاء ولو بشكل جزئي إن لم يمكن تطبيقها بشكل كلي وتام كي يمكن دفع كثير من المظالم والمفاسد والتي لا يمكن دفعها إلا بأعمال الولاية حينما لا تكون الفتوى ممكنة في موردها أو لم تكن بمستوى إلزام الأمة بمضمونها إلا للمقلدين وليسوا كلهم على درجة من الضبط والانقياد للفتوى خصوصاً إذا تضمنت بعض التعب والجهد والتضحية بشيء قليل من الوقت أو المال، وأوضح مثال هو صلاة الجمعة حيث فتوى المشهور على الوجوب التخييري بينها وبين الظهر، فهل التزم به المقلدون أو أنهم التزموا على طول الخط بفردية صلاة الظهر في يوم الجمعة ولم يعطوا لفردية صلاة الجمعة حقها من الامتثال حيث ارتكز في النفوس و اعتادت عليه بأن الظهر من يوم الجمعة هو الواجب لا غير ، وإما لو كان امتثال الجمعة بالولاية أو بالحكم الولائي بغض النظر عن الفتوى كان الالتزام بها متعيناً وناجزاً وهذا ما لا حظناه أيام إقامتها حينما أرسى قواعدها الشهيد السعيد محمد الصدر(قدس سره).
ومن حقنا أن نتساءل عن سبب انحسار البحث الفقهي عن الولاية العامة للفقيه حيث لم يتعرض له إلا قلة من الفقهاء على طول الخط الشيعي الممتد منذ زمن الغيبة الكبرى وإلى الآن، والأسباب هي:-
1- الشعور بعدم الحاجة إلى البحث فيها لعدم إمكان التطبيق لها في الحياة العملية خصوصاً وأن المعصومين (عليه السلام) قد أُبعدوا عن الممارسة السياسية وهُمش دورهم في الحياة الاجتماعية ومن تسلم منصب الخلافة قد منع من تولية العلويين مناصب في الدولة أو إعطائهم أية مسؤولية حقيقية في الحكم، مع فرض الرقابة المشددة على الشيعة والأئمة ومطاردتهم والبطش بهم لا لشيءِ إلا لأنهم كانوا يمثلون خط أهل البيت (عليه السلام) في المنهج والسلوك والعقيدة، فكان من الطبيعي أن ينكفئ العمل السياسي ويتضاءل تدريجياً،إلى أن وصل إلى حد النكوص في عهد الغيبة الكبرى مما انعكس بشكل سلبي على مسألة تعاطي الولاية نظرياُ مع القضايا السياسية الأخرى فضلاً على العمل على تسلم مقاليد الأمور، فهذا أمر لم يخطر ببال أحد[1].
ومنها :- تأثير الغيبة الكبرى على النفسية العامة للشيعة رغم أن الغيبة الصغرى قد خففت من وطأتها وقد كانت انعكاسات هذا التأثير قد تبلورت بمفاهيم عدة منها، تصور عدم إمكانية الانتصار بدون المعصوم (عليه السلام) ثم بُرر من الناحية الفكرية والعقائدية، فأصبحت التقية مبدأ سياسياً ومنهجاً للسكوت لا يزاغ عنه و صارت كل ثورة وتعامل مع السياسة قبل الظهور في زمن الغيبة الكبرى – يُعد عملاً غير صحيح وربما غير مشروع وانحرافي ومحكوم عليه بالفشل مقدماً، يدعمه ما ورد ((كل راية قبل ظهور الإمام راية ضلال …..)) بالمضمون وكانت السلطة آنذاك تشجع وتغذي هذا الاتجاه لأغراض واضحة ومفضوحة تتمثل في إقصاء الشيعة عن ساحة الفعل التاريخي والحدث السياسي والاجتماعي. والتي كان من مصلحتها ظهور مثل هذا الآراء والتوجهات في حركة التشيع لإبعاده نهائياً من الحياة حتى تكرس الخوف من السلاطين وأنتج نمطاً من الحياة الشيعية جعلها في نهاية المطاف مستسلمة لأقدار السلاطين ومقتضيات القدر[2].
ومنها :الممارسات السلطوية في التخريب والتزييف المتعمد للفكر الإسلامي وقد سخرت وجندت له العديد من فقهاء السلاطين ومن الشعراء المتزلّفين والمبتدعين وكانت تسير جنباً إلى جنب مع سياسة البطش والقمع لكل معارض مهما كانت معارضته ضئيلة.وقد أنتجت هذه السياسة تراثاً ضخماً من الفقه المسمى (بالسلطاني) قد امتد إلى وقتنا الحاضر حتى تمثل بهيئة نظريات ومناهج عمل تبرر السلطة وسلوكها وتحرم الخروج عليها، ويرافقها سحب الشرعية عن كل معارضة باعتبارها خروجاً عن صف المسلمين ووحدتهم وخالية عن الشرعية والمبرر القانوني وتوصف بالبغي وأُخرى بالارتداد والانحراف.
ونتائج هذه الأسباب بروز مدرسة فقهية- كلامية – خارج الإطار الشيعي، متحالفة مع أنظمة الحكم الظالمة أخذت على مسؤوليتها أكبر عملية تخريب فكري (فقهي كلامي) في تاريخ المسلمين، وقد زاد في زخم تأثيراتها و انتشارها خلو الساحة من المعادل المعارض – الشيعي على صعيد المسألة الفقهية من الأصعدة السياسية والاجتماعية مما أثر على المدرسة الشيعية في تعاملها مع المسألة السياسية وإفقارها من هذا الجانب إلى حد الإفلاس.
إلا أن ثلة من الفقهاء قد تعرضوا لمسألة الولاية عبر بحوثهم الفقهية في مبحث الولاية من المعاملات كان أول من وسع من أبحاثها المحقق النراقي المعاصر للشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي تعرض لها هو الآخر ضمن مبحث الولاية وبشكل مختصر حتى آن الأوان لفتح بابها المغلق وإثارة مسألتها على أوسع نطاق فكان مبدعها السيد الخميني(قدس سره) وفارس أبحاثها السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) وبطل ميدانها السيد الشهيد الصدر(قدس سره). والآن حالها متروك للأيام تعطي فيها قولها وقيمتها من خلال متابعة عملها من الناحيتين الدينية والسياسية والاجتماعية. حيث تتمثل الأولى ببعض الحكام والتشريعات المسماة بالولائية أوضحها تطبيقاً إقامة صلاة الجمعة، وإن كان إقامتها بالفتوى أمراً ممكناً وتتمثل الأخرى بمحاولة إقامة حكومة إسلامية وفق نظرية ولاية الفقيه كما هو معمول به في إيران.
الحاجة إلى الحكم
إن الحاجة إلى الحكم ضرورة حياتية ملحة تقوم على أساس سلطة عليا وظيفتها إدارة شؤون البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية والموازنة بين الحاجات الفردية والاجتماعية التي تقع في تزاحم مستمر يحتاج إلى ضبطه والحيلولة دون وقوع النزاع و التصادم بين المتزاحمين وتحقيق التناسق بين الاحتياجات الاجتماعية المتفاوتة وأساليب ذلك وتوجيه القوى الفاعلة في المجتمع الوجهة الصحيح التي توفر الخدمة العامة للجميع وعليها إرساء قواعد العدل في المجتمع ومكافحة الظلم والتجاوز على الآخرين، وحماية البلد وصيانة ثرواته الاقتصادية والمحافظة على منجزاته الحضارية وتعجيل عجلة التقدم فيه نحو امتلاك أسباب الرقي والتقدم مع المحافظة على هوية المجتمع الإسلامي وتاريخه وإرثه الحضاري وتنمية عوامل التقوى والالتزام بالأحكام الشرعية والارتقاء بالأمة نحو تكريس الإسلام في سلوكها وحياتها.
فالحاجة إلى السلطة التي تحمل على أعبائها كل هذه المهام ومهام أُخرى كتوحيد الآراء في القضايا العامة التي تتطلب موقفًا موحداً يمتلك صفة القاطعية والواقعية والقدرة على الإنجاز والتنفيذ، وهو ما يعبر عنه بلغة الفقه - بسط اليد – حاجة ماسة لا يرتاب فيها.
ولكن من الذي يخول هذه السلطة حق الطاعة لكي تنفذ بها أعمالها الموكلة إليها وتبرر عملها في منع الكثير من السلبيات التي تقوم بها الجماعات والأفراد والتي لولاها لما امتنعوا عنها لأن مخالفة السلطة مع حق الطاعة لها يعتبر مخالفة قانونية يُستحق عليها العقاب، ومعصية شرعية من الوجهة الدينية يؤاخذ عليها القانون أو الشرع، ويجبر صاحبها على السلوك الحسن.
ولا يمكن تصور قيام حكومة بأعمالها إلا إذا توفر لها الأساس الذي تستمد منه سلطتها وولايتها على الناس، والشيء الآخر الذي ينبغي توفره لقيامها بمهامها هو أن تكون سلطتها ومنهجها على وفق المصالح الاجتماعية العامة للناس، وهذا ما يؤيده الوجدان المذكور في أعماق الناس والذي يربط بين واقع الذات الإنسانية والواقع الخارجي ويهتدي من خلال الربط إلى ضرورة توفر العاملين المتقدمين من مشروعية الولاية والسلطة للحكومة، ومن كونها تعمل وفق المصالح العامة،إذن وجود قوة مركزية لكل هذه الفعاليات وحفظ الروابط الاجتماعية للبلد ورفض التبعات الخارجية للمجتمع المسلم يتوقفان على وجود هذه القوة حتى تقود المجتمع في جميع الأنشطة والفعاليات وتنقاد لها كل القوى الداخلية وتلتزم بأوامرها وتنتهي بنواهيها وتسير بالمجتمع في مجالات الفكر والسلوك وهذه القوة ما عبر عنها القانون (بالولاية) مستمدة من ولاية الله الحقيقية على خلقه قال تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون} (المائدة 55) وله الحاكمية المطلقة وله الأمر والنهي.
ولكنه منزه عن مباشرة خلقه فلا بد من تفويض الحاكمية والولاية إلى الإنسان ليقوم بالمجتمع البشري إلى ما فيه خيره وصلاحه ودفع مفاسده ومساوئه.
ولا يكفي مجرد وجود التشريع الإلهي والرسالة السماوية في دفع الاختلافات الاجتماعية ودفع المفاسد الحاصلة من التدافع والتزاحم من دون قيادة تأخذ على عاتقها تطبيق القانون الإلهي وإرساء قواعده في المجتمع فكراً وسلوكاً.
وقد بينت الآية السالفة الذكر شروط هذا الولي وهي:
1. الإيمان الخالص لله ……… الذين آمنوا
2. إقامة الصلاة بتمام إقامتها لا قيامها كيفما اتفق أي استيفاء ما بها من شروط وقيود والديمومة عليها مع التوجه العالي ويسعى إلى إحيائها في المجتمع حتى يتحول إلى مجتمع مقيم للصلاة.
3. إيتاء الزكاة بتوزيعها على مستحقيها بصورة عادلة مما يخلق جواً من التكافل الاجتماعي ويقلل أو يمنع من الفوارق الاجتماعية ويؤتونها حال كونهم راكعين، والمراد من الزكاة مطلق الإنفاق في سبيل الله لأنّ المورد الذي نزلت فيه الآية لم يكن يشمله الزكاة[3] وعندما يكون شأنهم الإنفاق لم يكونوا ليتحملوا الفقر والحاجة تنتشر في المجتمع فهم يتألمون لآلم الفقر ويكافحون من أجل محاربته والقضاء عليه، لأن لازم الإنفاق متابعة مواضع الفقر وإنهائها.
وأوضح مصداق للآية المباركة هو أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد العدالة الإنسانية )) هذه الولاية لعلي (عليه السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ) إنما وليكم الله ورسوله …… ( على ما ابتدأت به الآية وهكذا استمرت الولاية بالنص للمعصومين (عليه السلام)وقد قاموا بدورهم أفضل قيام وقادوا المجتمع الإسلامي على ما وسعت لهم ظروف قيادته وبالشكل الذي ينسجم مع متطلبات العصر.وقد استطاع الأئمة (عليه السلام) رغم قساوة الجهاز السلطوي وسعيه المستمر لتحجيم دور الأئمة وعزلهم عن قواعدهم الشعبية واستخدامه العنف والتصفية الجسدية وسيلة للقضاء عليهم وعلى مواليهم كل ذلك لم يعجزهم على المحافظة على الأصالة الإسلامية في المواقف ولم تنفصل الأئمة عن الأمة ولم تتمكن من إلغاء دورهم المتنوع حسب تنوع الظروف في الاحتفاظ بأصالة الموقف وتوجيه الأمة على السير على خط الرسول الكريم (e ) ولم يكن لهذه المدرسة أن تستمر في خطها الأصيل بعد زمن الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله فرجه) عام 329 ﻫ لولا الإعداد المسبق الذي مارسه الأئمة(عليه السلام) في تقديم الكوادر العلمية الكفوءة والتي أخذت على عاتقها واضطلعت بمسؤولية قيادة الأمة وملء الفراغ الذي سببه غياب المعصوم(عليه السلام) عن ساحة الحياة الاجتماعية ، وكان إيكال الأمر إلى العلماء بعد إن ثبت المعصوم (عليه السلام) معالم الخط الذي تسير عليه الأمة الإسلامية عامة والشيعية خاصة، وبه صارت المرجعية الشيعية على قمة الهرم كوجود شرعي قيادي يتمتع بتأييد وطاعة الأمة بشكل لا نجد له نظيراًً عند غير الشيعة من المسلمين.
((إن قوة الرابطة بين المراجع والأمة قد وفرت للكيان الشيعي قوة ودعم مثالية، ساهمت في إنجاح القرار المرجعي وتحويله إلى مواقف ثابتة على الأرض يتصف بالصمود والإصرار والتحدي على المواجهة لأنه يتقوّم من خلال العلاقة الوثيقة بين الأمة والمرجع وهي علاقة لا يمكن للشيعي أن يتمرد عليها – وفق عقيدته –أو يخرج عنها أو يتخلف عن مقرراتها الدينية))[4].
وهذا الدعم الجماهيري وأداء الطاعة للقرار المرجعي هو الذي مكن المرجعية من اتخاذ قرارات تاريخية أزاء الأحداث التي شهدتها الساحة الإسلامية في المدى الطويل كما أنه مثل طموحاً جماهيرياً لأفراد الأمة التي تحسن الظن بمراجعها وتنظر إلى مواقفهم بعين الإجلال والإكبار والطاعة و الامتثال فكانت المرجعية تمثل قيمة حضارية وسياسية عظمى يحسب لها ألف حساب من قبل أعداء الأمة وما حصل في العهد القريب إلا أوضح شاهد إثبات تاريخي على ما أقول.
مصدر التشريع وإعطاء حق الطاعة
لابد للولي من حق الطاعة ليتمكن من الفصل في الأمور وتسري قراراته على الجميع، ويُحـــقق الغرض المنشود من الحكومة
ومنبع هذا الحق أحد أمور ثلاثة
الأول:- القوة والغلبة
الثاني:- الأمة بكل أفرادها
الثالث:- الله تبارك وتعالى
وإما المشخص لأي من هذه المناشيء هو الحق ، فليس هو إلا الوجدان فما وافق عليه الوجدان كان هو مصدر الحق وإلا فلا ومن الواضح أنه يرفض مبدأ القوة كمصدر لحق الطاعة و امتلاك قيادة المجتمع و مهما ساقت الدكتاتورية من حجج فإنها لا تستطيع أن تقنع الوجدان بمشروعيتها.
أما المبدأ الثاني فيقال أن الناس قد منحوا بأنفسهم أشخاصاً معينين أو شخصاً معيناً حق إدارة شؤون البلد ويقوم هؤلاء الأشخاص على الأساسين السابقين (حق الطاعة والمصلحة).
وهنا تقرر الأمة مصيرها بعيدا عن الله وبشكل مستقل عنه تعالى،وفق مبدأ (الديمقراطية) الغربية والتي تعني إعطاء حق تقرير المصير للناس أنفسهم فهم يقررون وضع وسن القوانين ويعينون المنفذين لها سواءً أكان ذلك بشكل مباشر أو بالانتخاب أو بالتلفيق بين الأمرين وأصحاب هذا المبدأ يقولون أن الديمقراطية في الواقع ليست حكماً لأحد على آخر وإنما تعني حكم الناس أنفسهم بأنفسهم فلا إعمال سلطنةٍ أو نفوذ حتى ينفتح المجال للتساؤل عن حق الولاية، فالناس سواسية لا مولى ولا مولى عليه ، ويكون أساس استمداد الجهاز الحاكم لولايته على أساس عقد اجتماعي قام به الناس جميعاً واتفقوا من خلاله على قوانين وتشريعات كما اتفقوا على اختيار المنفذين لتلك القوانين ولاشك أن الوجدان يلزم احترام العقد والوفاء به ولكن هناك عقبات كثيرة أمام هذا الوجدان منها:
1-عدم نزاهة الانتخاب وإمكانية شراء الأصوات.
2-عدم شمول العقد إلا للأكثرية وتبقى الأقلية بلا عقد يلزمها الوفاء به.
3- جهل الأكثرية بما يصلحها وبما يضرها.
4-عقبة مصالح النواب الذاتية، وهكذا فإن أمام هذا الطريق عقبات عديدة أهمها جهل أكثرية الأمة بالواقع الذاتي للإنسان والواقع الطبيعي للعالم الذي يتعامل معه والروابط بين العالمين، وجهله بالمشكلات الاجتماعية الأساسية وبالتالي جهله بالحلول الصحيحة لها وكيفية إشباع الحاجيات الإنسانية وفق منطق الحق والعدل.
مضافاً إلى أن المجتمع المنحط والمتدني – بغض النظر عن العوامل الأخرى لا يفرز إلا القيادات المتناسبة مع وسطه وكيف يمكنها أن تنهض بواقع المجتمع وتقوده للتخلص من سلبياته ونواقصه.
وأما ضمان المصلحة العامة فقد يقال أن الحكومة بالمنظور الديمقراطي إذا كانت تعبيراً عن حكم الناس لأنفسهم فمن الواضح أن تعمل لتحقيق المصالح الاجتماعية لأن الناس لا يريدون غير ذلك وليس الحاكم مغايراً للمحكوم كي يفترض تقديمه لمصالحه الخاصة على مصالح المحكوم[5] إلا أن هذا التبرير لضمان المصلحة العامة صرف وهم لا يصمد أمام مغريات الحكم وحب الجاه اللذين يدفعان الإنسان لتقديم مصالحه الشخصية على المصالح العامة ولو ضمن العدم فإن ذلك لأفراد قليلين لا يمثلون كل الجهاز الحاكم، ومع قلتهم لا يضمنون سلامة الحكم واستقامته من أجل المصلحة العامة.
وأما المبدأ الثالث، الأساس والمنشأ للولاية هو الله تعالى لأنه الخالق والمنعم الحقيقي للكون والناس ولا ريب في موافقة الوجدان بل تأكيده لهذا الشكل وهو ما تقرره الآية الكريمة {إن الحكم إلا لله} الأنعام 57 وإذا كانت مستمدة من صاحبها الحقيقي والواقعي كانت هي الضمان الوحيد لتحقيق مصالح الأمة في الحياة الدنيا على أساس التشريع والرسالة الإلهية،كما أنه الضمان الوحيد لتحقيق رضا الله تعالى وسعــادة الدار الآخرة. وإذا كان هو صاحب السيادة والحاكمية فهو صاحب الحق في تعيين من يرتضيه حاكماً وولياً له على خلقه.
الشورى وأدلتها
يتفق جميع المسلمين أن الولاية قد أُعطيت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ((الأحزاب 35)) والاختلاف حصل بعد رحيل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ الولاية بعده لمن سلمت وهنا طريقان:-
طريق العامة من إخواننا السنة. إن حق الولاية الإلهي قد أُعطي للأمة عبر (نظام الشورى) الذي يؤدي إلى خصوص اختيار الولي الذي يؤدي واجباته ضمن إطار الشريعة الإسلامية ولكنهم اختلفوا في أساليب تنفيذ هذا النظام وأدلته إلى حد كبير بعد إن لم تأتِ الأدلة على شيء يعطي حق الولاية للذي وقعت عليه أراء المشيرين، أي إن الشورى لا تنتهي إلى الولاية، كما إن دليلها مجمل من ناحية تنفيذ هذه الشورى.
وأمام نظام الشورى عدة عقبات منها:
إن ما جاء أو كان دليلاً عليها لا يؤدي إلى ولاية الفقيه ويثبت له حق الطاعة على الأمة وإنما يؤدي إلى تشاور المسلمين فيما بينهم واستعراض آرائهم للوصول إلى أفضل الحلول وإلى الاقتراب من الحق بل وإصابته، ما خاب من استشار، وإمّا أن أدلة الشورى تؤدي إلى الولاية فهي قاصرة عن هذا المعنى إذ أن أدلتها لا تتضمن أي مضمون إلزامي بالنتيجة.
ومنها:- أن أدلة الشورى في القرآن والسنة لا تكون واردة في مقام تشريع هذا النظام وهو يتناول أهم الجوانب الاجتماعية.
ومنها:-الإجمال و الإبهام في هذا النظام لا يمكن تفسيره بالمرونة للفرق الواضح بين الإجمال والمرونة لأن الأخيرة تتصور فيما إذا كانت الخطوط العريضة واضحة في النظام وفتحت مجالات للظروف والتغيرات أما لو كانت الخطوط العريضة معدومة تقريباَ فهذا ما يحول المرونة إلى إبهام والنظام الإسلامي منزه عنها[6].
وأهم أدلة الشورى هي :
1- الآيات الشريفة وأهمّها آيتان بل ثلاثة:-
الأولى - {وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى 39)
الثانية - {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران 159)
الثالثة - {و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران 104)
وأوضح مصاديق المعروف هو العدل
2- الأحاديث النبوية الشريفة وهي كثيرة منه
1- ((وما ندم من استشار وما خاب من استخار))
2- ((المستشار مؤتمن فإذا أُستشير فليشر بما هو صانع لنفسه.))
3- لما نزلت {فشاورهم في الأمر} قال رسول الله (صلى الله عليه واله)
((أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأُمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً))
3- سيرة النبي وأصحابه –حيث ذكرت بعض الروايات روي عن أبي هريرة، ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله هذه مجمل أدلة الشورى وهو واضحة المناقشة بما لا حاجة في هذا الوقت إلى الدخول في تفاصيلها غايتها إن الشورى بمعنى (الاستضاءة والاستفادة) من أراء الغير لا بمعنى أن الأكثرية لها الولاية على المجتمع بل من دون ولاية، وإعطاء المشورة من قبل الآخرين للاستنارة بآرائهم والاستفادة منها وهذا المعنى لا يشمل المعصوم (عليه السلام) أو لإشراك الناس بالرأي تطييباً لقلوبهم وتحميلاً لهم المسؤولية وجعلهم ينشدون إلى ما أشركوا فيه ويتحركون لتحقيقه بشكل أفضل،وهو خلق اجتماعي لتدريب الأمة عليه بعد المعصوم (عليه السلام) وهذا المعنى هو المراد من الآية أما بمعنى الولاية فغير ممكن إذ لا يمكن أن تمنح الشورى الرسول حق الولاية وهو) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم( وإذا لم تشمل الآية مورد نزولها فكيف تشمل غيره وهو زمن بعد المعصوم (عليه السلام).على إن ما حصل من حوادث تاريخية للشورى لم تكن بمعنى رأي الأكثرية كما هو حاصل للخليفة الأول والثاني بل والثالث كما هو معروف ومدون في كتب التاريخ.
الفرق بين الشورى والديمقراطية
وهو بغض النظر عن ما قلتُه من عدم منح الشورى حقّ الولاية لمن وقع عليه الاختيار.
1. إن القوانين الأساسية للدولة في الإسلام لا تقوم بكل جوانبها على أساس التصويت والانتخاب كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية الغربية، بل هي في إطار الشريعة ومقرراتها باعتبارها رسالة الله تعالى للبشرية كلها.
2- إن أساس الحكم المعين (بالشورى) هو من قبل الله تعالى كما استند القائل به إلى النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة وسيرة الصحابة والتابعين وأساس الحكم هو الناس أنفسهم في النظام الديمقراطي الغربي المعتمد على -رأي الأكثرية – والقائل بولاية الفقيه يعتبر الشورى لها دور كبير كخلق اجتماعي يستهدي به الولي الفقيه ويستعين به للوصول إلى أفضل الحلول المطروحة لسد منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي والنهوض بحل المشكلات.
مبدأ ولاية الفقيه
وهو الطريق الثاني للشيعة الامامية بعد أن كان طريق الشورى هو طريق أبناء العامة والشيعة تقول بقيام الدليل والنص من المعصوم على تسلم الفقهاء العدول الولاية في زمن غيبة الإمام (عليه السلام) ومع وجود النص فلا مجال لانتخاب ولي الأمر ولا مورد للخيرة فيه إلا أن يقال أن للأمة على الأقل حق المشاركة على مستوى التشخيص لهذا الولي أو ذاك فيما لو تعدد من تنطبق عليه شروط الولاية العامة من الفقهاء كما لو قيل بعدم إمكان تشخيص الأعلم أو عدم القول بشرط الأعلمية ويبقى السؤال عن فوارق الانتخاب عن الديمقراطية والتي يمكن إجمالها بما يلي:
1. إن رأي الأغلبية يكون كاشفاً لا معيناً كما هو الحال في الديمقراطية فيكون هذا الرأي مسؤولاً ومكلفاً من قبل الله للفحص والبحث عن تشخيص الولي وإذا لم تشخصه رجع الأمر إلى سقوط التكليف عن الولي لعدم القدرة التي هي شرط في التكليف.
2. أن الناخبين للنظام الديمقراطي يكون لهم مجال إعطاء رغبتهم وإرادتهم لمن ينتخبونه لأنهم أصحاب الولاية يعطونها من يشاؤون وأما الناخبون في الولاية فلا يكون لهم ذلك لأنهم ليسوا أصحاب ولاية ليعطوها بل ينطلقون من خلال تكليفهم الشرعي في الفحص والتحري.
3. أن الانتخاب لو قيل به يعني مشاركة الأمة في تشخيص الولي حدوثاً وبقاءً أي أنه مسؤول عن حدوث التشخيص للولي وإبقاءه لا حدوثه فقط كي لا يمكن الرجوع عنه إلا بعد انتهاء المدة الانتخابية كما هو الحال في الديمقراطية الذي يكون للانتخاب حق الحدوث فقط أي إذا أنتخب أصبح حاكماً ليس لهم حق الرجوع في انتخابه إلا بعد إتمام مدة رئاسته فهو يؤثر في الحدوث فقط.
4. إن الانتخاب باعتباره معتمداً على حق الطاعة لله وأداء التكليف وإبراء الذمة يستبطن لا محالة درجة من الإنشاد والارتباط المعمق بين القائد والمقود وهذا لا يتوفر في الأنظمة الديمقراطية.
والأدلة المذكورة مطلقة لا تجزأ ولاية الفقيه بحيث تجعلها في بعض الموارد دون بعض والإسلام قد منح الفقيه وظائف ثلاثة:-
المرجعية في الفتوى والمرجعية في القضاء
المقدار الذي يثبت به الولاية من خلال النصوص وهو يحقق نيابة المجتهد العامة عن المعصوم (عليه السلام) في مختلف الشؤون الاجتماعية، والآية المباركة قد أمرت بطاعة أُولي الأمر وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم( النساء 59)
وهي ما يستفاد منها لزوم الطاعة للولي الفقيه، الجامع للشرائط،وأُولو الأمر أعم من المعصوم الذي له الولاية الأصلية ومن دونه من النواب من له ولاية بالنيابة عنهم.
ومن الروايات التوقيع المبارك للمهدي (عجل الله فرجه) ((وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ))[7].
والمراد من الرواة هم الفقهاء المعبرون عن خط المعصوم وقيادته، حيث أمر بالرجوع إليهم فيما يستجد من حوادث تحتاج لبيان الشارع منها.
وهناك روايات مستفيضة منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((اللهم أرحم خلفائي قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي )).
وقوله(عليه السلام) العلماء ورثة الأنبياء ))
((والفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا))
ومن نافلة القول أن ولاية الفقيه عند السنة الذاهبين إلى نظام الشورى في الحكم ولكنها شورى منتجة للولاية وأن الأمة لا تفقد حقها في اختيار حاكمها وإنما تمارس حقها في الشورى في مختلف الظروف[8] ولكنهم يشترطون الفقه في الحاكم كما هو القول القوي عند العامة.
فالانتخاب عن طريق الشورى لا يحصل لكل أحد بل لخصوص الفقيه فنتج عندهم ولاية الفقيه والتي تفترق عن ولاية الفقيه عندنا بأنها ثابتة بغض النظر عن انتخاب الناس له. بخلاف العامة ذلك لأن ثبوتها بالنص عن المعصوم (عليه السلام) نعم الانتخاب قد يفيد في قطع اشتراك عدة فقهاء ثبتت لهم الولاية بالنص بعد توفر شروطها فيهم- في الولاية- وجعلها لفقيه واحد تبايعه الأمة أو ترتضيه وليا عليها فيتقدم على الآخرين أما بالبيعة وأما بإرادة الناس له أن يكون ولياً عليهم.
والنصوص الواردة في شأن الولاية المتقدمة قد جعلته ولياً ومدبراً لشؤون المسلمين وقائداً عليهم إن الشريعة الإسلامية قد وجهت الأمة إلى الفقهاء وأوكلت إليهم إعطاء المواقف في الشؤون الاجتماعية والسياسية طبقاً للمصلحة التي يراها الفقهاء في ضمن الضوابط الشرعية المقررة والأمة مكلفة بطاعة الولي الفقيه طبقاً لتكليفها الشرعي إن إعطاء المواقف الشرعية في القضايا بيد الولي يعني الإرجاع إليه في:
1-تحديد المواقف الصحيحة إزاء الأحداث والقضايا الاجتماعية والسياسية،و ذلك لأنّ القرار فيهما ليس من الصحيح أن يترك بغير رعاية أو يكون بيد الناس فيؤدي إلى الوقوع في الفوضى فلابد من أن يكون القرار بيد الولي. كما قال (عليه السلام) وأما الحوادث الواقعة ……
2- تقديم المصلحة الاجتماعية على الشخصية عندما يتعارضان ولو تركت تتعارض لعمت الفوضى واضطرب المجتمع كتحديد الأسعار مثلاً.
3- حسم الخلافات والموافق المتباينة في المجتمع وخصوصاً المواقف التي لها مساس بأمن المجتمع والدولة كالموقف من السلم والحرب. ولا يجوز للمكلفين مخالفة أوامر الولاية فيما لو قررت الحرب مثلاً أو السلم.
لماذا جعلت الولاية للفقيه دون غيره
فبالإمكان أن تنتخب الأمة غير الفقيه العارف بشؤون الناس الاجتماعية والقادر على حلها وتربية الأمة وتوجيهها الوجه الصحيح الذي يحقق أمنها واستقرارها وينشر العدل والرفاهية بين أبناءها، وهو يرجع إلى الفقيه فيما يتطلب الأمر موقف الشارع، وهكذا يكون ولياً واجب الطاعة ونافذ الأمر.
ولكن التوقيع المبارك عن الحجة (عجل الله فرجه) قد أرجع الأمة إلى (رواة حديثنا) وهم الفقهاء العارفون بحلال الله وحرامه، والحوادث حكمها مما يحتاج إلى استنباط وفهم الروايات وهو وظيفة الفقهاء لا غيرهم وإن بعض الأحكام الشرعية مما تسمى بالمتغير وبما تتعلق بشؤون الإدارة والتنظيم وسن بعض التشريعات المتعلقة ببعض أهداف أرادتها الشريعة المقدسة على الفقيه أن يسعى لتحقيقها، ومعرفة هذه الأهداف غير متيسر لكل أحد إلا من له القدرة على النظر إلى الــروايات والاستظهار منها ما يستهدفه الشارع ، وربما تقع في أحكام متفرقة لباب فقهي واحد تحتاج لملاحظة القاسم المشترك بينها ليكون هو المؤشر لملء منطقة
الفراغ وهذا لا يتيسر لكل أحد سوى الفقيه العارف والفقيه بحكم ارتباطه بالله وشريعته سوف يعمل على تكريس الأحكام الشرعية في الواقع العملي للمجتمع ومن الواضح أنها غير مختصة بصعيد الدنيا بل تشمله والآخرة وقد تتعداهما إلى ((رضوان الله أكبر)) وغير الفقيه لا تتعدى قيادته وولايته على الناس صعيد الدنيا وهو ليس هدفا ً للشارع.
إذن غير الفقيه ليس له حق الولاية التي جعلتها الشريعة للفقيه،فشرطت فيمن له حق الولاية وكالة أو نيابة عن المعصوم أن يكون فقيهاً وبعض العامة من السنة يشترطون كون الحاكم فقيهاً كما تقدم.
المباني المتعارفة في ولاية الفقيه
ذكر بعض المعاصرين مباني أربعة للولاية هي:-
الأول- إنكار الولاية – وعدم ثبوتها للفقيه بما هو فقيه، و لا فرق بينه وبين غيره ولو اختارت الأمة غيره لتعين لو آمنا بالانتخاب.
الثاني- القول بها ولكن في حدود منطقة الفراغ لأنّ ملأها يحتاج لمتخصص في فهم الأخبار والأدلة واستنباط الأحكام منها لملء هذه المنطقة على أن لا تخالف هذه الأحكام الأساسية الأصلية في الإسلام – والمعروف أن للإسلام في مرحلة التشريع ومرحلة سن القوانين نوعين من النظم هما:
الأولية :- وهي القوانين الثابتة لا تختلف من زمان إلى زمان كما ورد في الأثر عن أبي عبد الله (عليه السلام) حلال محمد حلال أبدأً إلى يوم القيامة وحرامه حراماً أبدأً إلى يوم القيامة -)[9].
الثانوية:- وهي متغيرة بحسب متطلبات الزمان والمكان، تسن لملء منطقة الفراغ التي تركها الشارع ليملأها الولي الفقيه وهذه الأحكام تكون ضمن إطار الأحكام الأولية متأطّرة بإطارها.
وهذا المبنى يكون فيه الفقيه ولياً في دائرة ملء الفراغ ولولا وجوده وإشرافه لاحتملنا تجاوز غيره من المشرعين للنظم والقوانين الأساسية الأولية وهم جاهلون بها أو بكيفيه الاستفادة منها أو لعجزهم عن الاستنباط بالشكل الصحيح.
المبنى الثالث :- إن الولاية لا تختص بمنطقة الفراغ إلا أنها ليست ثابتة للفقهاء ابتداءً ,إنما تثبت لهم بالانتخاب والبيعة ومعنى ذلك أنه يجب على الأمة أن تبايع وتنتخب فقيهًا منهم من المستعدين للتصدي ولا يجوز لها انتخاب غير الفقيه، وهذا ما قاله بعض العامة كما تقدم، والفقيه قبل الانتخاب وقبول الأمة له لا يكون واجب الطاعة ونافذ الأمر.
المبنى الرابع:- ما يتبناه السيد الخميني (قدس سره) وهو أن الفقيه قد أُعطي الولاية العامة من المعصوم (عليه السلام) ووكالة عنه فولايته وإن لم تكن ذاتية إلا أنها لم تحصل له عن طريق البيعة وانتخاب الأمة له بل عن طريق نص المعصوم بايعه الناس على ذلك أم لم يبايعوه وإنما تكون فائدة البيعة له مؤكدةً لولايته وملزمةً للمبايع على الطاعة عملياً بعد إن كان ملزماً بحسب النص.
هل تشمل الولاية الفقهاء أو تختص بما دونهم
تقدم من النص (فأرجعوا إلى رواة حديثنا) أن كل من هو موثوق به من الفقهاء هو ولي عام، وأن النص قد جعل الولاية لكل موثوق به من الفقهاء فهم أولياء في عرضٍ واحد لا ولاية لأحدهم على الآخر، والولي ولي على الناس ماعدا الفقهاء حتى من لم يقل بولاية الفقيه والفقيه الولي ليس له ولاية على الآخر وهذا المعنى صحيح إذا أخذ بنظر الاعتبار أن الولاية على الغير لقصور في المولى عليه أو لوجود ضعف كولاية الأب على الابن أو ولاية الفقيه على اليتيم وهكذا، وحيث لا فرق بين هذه الولايات وولاية الفقيه بمعناها إذ الفقيه المولى عليه ليس قاصراً ولا ضعيفاً في فهم الروايات والأحاديث الصادرة عن أهل البيت (عليه السلام) وليس هو غير متمكن من الاستنباط ليحتاج في الرجوع إلى غيره، بل هو القادر، وعندئذٍ لا ولاية لغيره عليه.
إلى أن إشكاله أن عدم الولاية على الفقيه الذي يعني عدم وجوب الطاعة للولي عليه قد يؤدي إلى التزاحم في الرأي وإلى المفسدة الاجتماعية لاستلزامه انحلال تماسك المجتمع في مثل هذه الحالة ويمكن دفعه بأن يقال أن عدم وجوب الطاعة عليه لا يلازم جواز مخالفة الفقيه للولي فيحرم عليه مخالفة الولي وإن كان لايجب عليه طاعته إذا أدت المخالفة إلى المحذور المتقدم يمكن تصور القصور في الفقيه إذا اعتبرنا الأعلمية شرطاً في الولي والتي تعني الوصول إلى أقرب نقطة من الواقع وتشخيص المصلحة والمفسدة وحينئذٍ يكون غير الأعلم بالنسبة إليه قاصراً فيجب على الفقيه طاعة الولي لثبوت ولايته عليه كما هي ثابتةٌ على غيره،إن هذا التقريب يواجه مشكلة تشخيص الأعلم بين الفقهاء القائلين بالولاية والذين ثبتت لهم بمقتضى التوقيع المبارك والقول بأنها ثابتة لأحدهم دون الآخر ترجيح بلا مرجح وهنا قد يقال أنه لو تصدى أحد الأولياء لمباشرة أعمال الولاية فيكتفى به دون غيره وإن كان المستعدون للتصدي متعددين وله وجه وإذا تصدى الجميع فالمقترح هو ما سماه بعض المعاصرين (شورى القيادة) حيث تتم الأمور وفق رأي الأكثرية وهناك من يقول من انتخب من الفقهاء يصبح ولياً حتى على غيره من الفقهاء فيكون الفقيه الآخر مولى عليه ولكن له حق الولاية في حدود ما لا يتعارض مع ولاية من انتخبته الأمة وعليه أن يسكت في دائرة ذلك الفقيه المنتخب ولا يعمل ولايته ضمنها بل حتى لو اعتقد أنه الأكفأ فلا يحق له إعمال ولايته وفق هذا الاعتقاد لأن مثل هذا التصدي يؤول إلى فساد الأمور ولا يكون صلاحاً ومن يقوم بمثل هذا العمل تسقط عدالته وهي أول شرط من شروط الولاية ومع سقوطها يسقط ما للولي من حق الولاية والسبب في ذلك أن الانتخاب وإن كان كاشفاً عن الولاية لا منتجاً لها كما تقوله العامة إلا أنه يجعل دائرة الفقيه المنتخب أوسع من دائرة ولاية النص ويبقى على هذا الوجه أن يبرهن كيف يصير الولي بالنص مولىً عليه وهو أمرٌ غير ممكن. نعم إطاعة أوامر ولي الأمر المنتخب متجه للحيلولة دون الوقوع في إفساد الأمور والسقوط عن العدالة.
تجمع عدة فقهاء مشمولين للولاية
لو أنتج الانتخاب اختيار فقيهين بنسبة متساوية أو ثلاثة فهل يكونون كلهم أولياء أمور أم كيف يحل إشكال التعدد المفضي إلى الفساد وإرباك الواقع الاجتماعي للمجتمع.
وللإجابة عدة أمور:
1.أن يشترط شرط الأعلمية فيمن انتخب من الفقهاء فيصار إلى كون الأعلم هو الولي العام وغيره لا وباقي التفاصيل تقدمت من كونهم مولىً عليهم أم لا. وهنا يقال نعم لأن غير الأعلم يعتبر قاصراً بالنسبة للأعلم.
2. أن يُختار المستعد للتصدي وقد تصدى فعلاٍ لإعمال الولاية والباقي مع استعدادهم لم يتصدوا لها فيكون هو الولي العام لكن لا يكون عليهم ولياً وليس لهم مقاطعته في دائرة أعماله.
3. أن الموجب للفساد و الانحلال هو تعدد الآراء فلو اتحد الرأي الذي يعبر عن رأي الأكثرية من الأولياء كان خيراً ويصار حينئذٍ لما سماه بعض المعاصرين (شورى القيادة).
________________
[1] مقدمة المرجعية والقيادة………………..ص21
[2] السيد الحائري (دام ظله).
[3] الإمامة والولاية في الإسلام – الآصفي..
[4] دور علماء الشيعة –ص10.
[5] المرجعية والقيادة –(33) السيد الحائري.
[6] حول الدستور الإسلامي في موارده العامة –ص72 التسخيري.
[7] الوسائل ج9 – صفات القاضي ب11.
[8] النظام السياسي في الإسلام ص87 بنقل التسخيري في الدستور في مواده العامة.
[9] الكافي ج1 ص58.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية