مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الأحكام الحكومتية أو مبدأ تدخّل الدولة
جواد علي كسّار


من يطلّ على المشهد الإيراني يسهل عليه أن يلحظ كثرة ما تكرّره الصحف ومختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لمصطلح «الأحكام الحكومية»، أو «الأحكام الحكومتية» نسبة إلى الحكومة، أو الدولة والسلطة بمعنى أعم. ربما كانت آخر مرة - ولن تكون الأخيرة - شهد فيها هذا المصطلح تداولاً مكثفاً في الأروقة العلمية, والإعلامية ذات الصلة بالتجربة الإيرانية، قد اقترنت بما حدث في مجلس الشورى الإسلامي عندما سحبت هيئة الرئاسة في شهر جمادى الأولى عام 1421 هـ (آب عام 2000 م) مشروع قرار يقضي بإعادة النظر بقانون الصحافة، على أثر رسالة تلقاها المجلس من قائد الجمهورية الإسلامية آية الله السيد علي خامنئي عُدَّت حكماً حكومياً.
ورغم عراقة المصطلح في التجربة الإسلامية في إيران، وتخطيه الأروقة الحوزوية والفقهية المتخصصة إلى نطاق المجتمع والإعلام وقنوات الثقافة العامة, إلا أنه ما يزال مشوباً بغموض كبير، وتكتنفه أسئلة متعددة، الأمر الذي يسمح لنا أن نسجّل باطمئنان أن القاعدة العريضة في إيران, وخارجها تجهل مدلوله وما يعنيه، ولا تعرف طبيعة عمله والمساحة التي يتحرك بها.
(1) أسئلة الموضوع
الأسئلة هنا كثيرة يحمل بعضها طابعاً فقهياً, وبعضها الآخر طابعاً دستورياً، بالإضافة إلى بعض الأبعاد التاريخية, والثقافية التي لها صلة بممارسة هذا النمط من القرارات داخل تجربة الجمهورية الإسلامية.
ما هو المعنى المحدد للحكم الحكومي؟ ما هي مرتكزاته التي يستند إليها؟ من يصدره؟ ما هي آلياته؟ ما هي ملاكاته؟ ما هو موقعه في منظومة الفقه السياسي؟ ما هو موقعه في الدستور؟ هل هناك خلفية تشهد بممارسته من قبل الإمام الخميني خلال العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية؟ هل يقتصر هذا النمط من اتخاذ القرار على الفقه السياسي الشيعي, أم أن هناك ما يناظره في الفقه السياسي السني؟
هذه وغيرها أسئلة تحتاج إلى إجابات ميسّرة وواضحة، نأمل أن يسهم هذا المقال بإلقاء الضوء عليها، كما نودّ أن تأتي هذه المحاولة محمودة العواقب مقبولة من قبل القارئ، على أنّها لا تمثّل في نهاية المطاف سوى خطوة تمهيدية على هذا الطريق.
واقعة عام 1981:
في مطلع الثمانينيات نشبت أثناء حياة الإمام الخميني أزمة في حركة التقنين كان قطباها فقهاء الدستور من ناحية, وحكومة السيد مير حسين الموسوي ومجلس الشورى من جهة أخرى. فقد كانت حكومة السيد موسوي ترسل بعض اللوائح والقوانين المقترحة إلى مجلس الشورى فيوافق عليها المجلس، ثم يعود مجلس صيانة الدستور (بالتحديد الفقهاء الستة) لرفضها، بحكم تعارضها مع الأحكام الشرعية الأولية.
وظلت هذه المشكلة مستعصية على الحل، وراحت ترمي بثقلها على الحكومة, وتعيق حركتها, في وقت كان البلد يعيش تحت وطأة الحرب، فلا الحكومة تستطيع العمل بهذه القوانين التي يعدّها مجلس الدستور مخالفة للشرع، إذ من غير المعقول أن تعمل حكومة الجمهورية الإسلامية بما يعد مخالفاً للشريعة، ولا الفقهاء الستة يسمح لهم فهمهم واجتهادهم بإجازة تلك القوانين. على هذا المنوال دامت الأزمة أشهراً، وراحت تتسبب في مشكلات عملية عويصة، بالإضافة إلى إشكالية نظرية راحت تولّدها المشكلة, تفيد بوجود تعارض بين الشرع والحكم الثوري داخل التجربة، بما يفيد أن أحدهما ينافي الآخر.
لم يكن أمام رئيس مجلس الشورى الإسلامي آنئذ إلاّ أن يرفع المشكلة إلى الإمام، بالأخص وأنه كان لا يخفي انحيازه إلى وجهة نظر حكومة السيد موسوي وحقها في تشريع قوانين تدير أمور البلد ولو على أساس مبدأ الضرورة. جاء جواب الإمام الخميني مكتوباً وواضحاً وهو يخوّل مجلس الشورى الإسلامي أن يصدر ما تحتاج إليه الحكومة والبلد من قوانين تكون منوطة بملاك الضرورة ومصلحة النظام، بشرط أن لا تزيد القرارات على حد الضرورة والمصلحة التي تفرضها، وأن يكون لها أيضاً طابع مؤقت بحيث تزول بانتفاء موضوعها.
لقد كان من حق الإمام الخميني دستورياً - وهو الحاكم الشرعي والفقيه الولي - أن يصدر مثل هذه القرارات التي تقوم على أساس ضرورات المجتمع ومتطلبات النظام ومصالحه، بيد أنه اختار تفويض هذا الحق إلى مجلس الشورى الإسلامي، مشترطاً أن يتم تشخيص الموضوع من قبل أغلبية الأعضاء، وإلاّ فلا يجوز اتخاذ مثل هذه القرارات وتشريع قوانين الضرورة والمصلحة.
وهذا هو النص الذي بعثه الإمام الخميني إلى مجلس الشورى عبر رئيسه:
«أعضاء المجلس مجازون بالمصادقة على كل ما له دخل في حفظ النظام الإسلامي مما يستوجب فعله أو تركه الإخلال بالنظام، وما له ضرورة بحيث يستوجب تركه أو فعله الفساد، وما يستلزم فعله أو تركه الحرج، وذلك بعد تشخيص الموضوع من قبل أكثرية أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، مع التصريح بأن هذه (الأحكام - المقررات) مؤقتة قائمة بتحقق موضوعها، بحيث تلغو تلقائياً وتنتفي بعد ارتفاع الموضوع»[1].
هذا ما خاطب به الإمام الخميني مجلس الشورى الإسلامي خريف عام 1981 ففتح الطريق لممارسة ما يطلَق عليها بالأحكام الحكومية، وعالج مشكلة الحكومة، كما أنه وفّر أساساً نظرياً لمعالجة إشكالية التعارض بين الشرع وسلوك الحكومة الثورية.
خلاصات:
نستطيع أن نخرج بحصيلة مكثفة للموضوع حتى اللحظة من خلال النقاط التالية:
1 - إن الأحكام الحكومية هي حق يملك الحاكم الشرعي ممارسته أو تخويله، وقد خوّل الإمام ممارسته إلى مجلس الشورى بالشروط التي ذكرها النص.
2 - إن المصلحة إلى جوار الضرورة التي تفرزها هي ملاك مثل هذه الأحكام.
3 - ليست هذه الأحكام من أصل الشريعة، بل هي أحكام وقرارات مؤقتة تزول بزوال المصلحة أو الضرورة التي أملتها.
4 - يجب شرعاً العمل بهذه القوانين وإطاعتها لا لأنهاجزء من الشريعة، بل لأنها جزء من صلاحيات الحاكم الشرعي وولي الأمر، ومن ثم فهي واجبة الطاعة من باب وجوب إطاعة ولي الأمر.
5 - عالجت أطروحة الأحكام الحكومية إشكالية التعارض بين الشرع والحكم الثوري، أو بين فقهاء الدستور من جهة والحكومة ومجلس الشورى من جهة أخرى.
(2) تقسيمات الأحكام
الحُكم (بالضم) في اللغة: مصدر للفعل «حَكَمَ»، وهو القضاء في الشيء بأنه كذا أو ليس بكذا.[2] أما مفهومه في الفقه فقد اختلفت حوله التعاريف سواء بين المتقدمين أو المتأخرين.[3] لكن بعيداً عن هذه الخلافات وما تستتبعه من نقاشات، يمكن أن نرجع إلى الفقيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (استشهد: 1980) الذي قال عن الحكم الشرعي: "هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان، سواء كان متعلقاً بأفعاله أو بذاته أو بأشياء أخرى داخلة في حياته[4].
لقد ساق الشهيد الصدر هذا التعريف على أنقاض مناقشته للتعريف السائد عند القدماء من أن الحكم عبارة عن الخطاب الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين، إذ رفض هذا التعريف من زاويتين:
الأولى: أن الخطابات الشرعية كاشفة عن الحكم ومبرزة له، ومن ثم فإن الحكم هو مدلول الخطاب وليس الخطاب نفسه.
الثانية: أن الحكم الشرعي لا يتعلق بأفعال المكلفين دائماً، فما دام هدفه تنظيم حياة الإنسان، فهو يتعلق بأفعالهم وبذواته، أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم تارة أخرى.
وعندما نطلّ على الموضوع من زاوية جديدة، نلحظ أن هناك تقسيمات عديدة ذكروها للحكم، ينطلق كل واحد من اعتبار خاص، ربما كان أبرزها المحاور التالية:
1 - ينقسم الحكم إلى تكليفي ووضعي، قسِّم التكليفي إلى أقسام، وبعض أقسامه إلى أقسام، وكذلك الوضعي.[5]
2 - ينقسم الحكم إلى واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك، وظاهري أُخذ في موضوعه الشك،[6] وذلك باعتبار خصوصية المكلف كما عليه أكثر الباحثين.[7]
3 - ينقسم الحكم إلى أولي مجعول للشيء أولاً وبالذات، بلا لحاظ ما يطرأ عليه من عوارض. وثانوي يُجعل فيه للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير حكمه الأولي.[8]
4 - كما هناك تقسيم للحكم باعتبار الحاكم وخصائصه، إلى حكم أولي وثانوي وحكومتي.[9]
ما هو الحكم الحكومتى وما هو تعريفه؟ هل له منشأ في القرآن والسنة؟ ثم هل له خلفية في النموذجين النبوي والعلوي للحكم، وفي التجربة التأريخية للمسلمين في ممارسة السلطة؟
(3) مقاربات تنظيرية
كأي مسألة مستحدثة تختلف حولها الرؤى والأفكار، اختلفت التعاريف التي سيقت للحكم الحكومي. ومع ذلك رأينا أن نختار عدداً منها نبدأها بتعريف عرَض له باحث في دراسة كتبها لمركز الدراسات الإستراتيجية نشرتها مجلة «راهبرد» تُعَدّ هي الأوسع حيال الموضوع.
1 - مقاربة مركز الدراسات
جاء في هذا التعريف: «الأحكام الحكومية هي عبارة عن الأوامر، القوانين والمقررات الكلية، وقواعد تنفيذ الأحكام والقوانين الشرعية، التي تصدر من قبل القيادة الشرعية للمجتمع الإسلامي، وذلك في الدائرة التي لها صلة بالمسائل الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الاعتبار حق القيادة في إصدار هذه الأحكام، ومصلحة المجتمع التي تقضي بإصدارها».[10]
استخدم التعريف مجموعة من العناصر الأساسية، هي: الأمر، القانون، التنفيذ، القيادة الشرعية، المجتمع الإسلامي، دائرة القضايا الاجتماعية، الحق الذي تتمتع به القيادة، وأخيراً المصلحة.
ومع الأهمية الكبيرة التي يحظى بها كل عنصر من عناصر التعريف، إلا أن فيها ما يتقدم على بعضها من حيث الأهمية. وربما بدا عنصر المصلحة هو الأهم، بالأخص في الفقه الشيعي، وفي الفقه السياسي لتجربة الجمهورية الاسلامية، التي ربما أدخلت هذا العنصر إلى حيز التداول واستخدمته على نطاق واسع لم يسبق له مثيل عند الشيعة، وذلك على عكس الفقه السني الذي سجّل ازدهاراً منقطع النظير لفقه المصلحة لأسباب تأريخية ومنهجية معروفة، ربما نمرّ على بعضها لاحقاً.
2 - مقاربة الطباطبائي
هناك تعريف آخر للحكم الحكومتي يرجع إلى السيد محمد حسين الطباطبائي (ت: 1402 هـ.) صاحب تفسير «الميزان» كان قد ذكره في دراستين مفصّلتين تناولت الأولى مفهوم الولاية والقيادة، والثانية مفهوم الأحكام الثابتة والمتغيرة.
يتحدث الطباطبائي في الدراستين عن نمطين من الأحكام في الإسلام أحدهما الأحكام الثابتة، والآخر الأحكام المتغيرة التي تقع مهمة تشخيصها على الدولة متمثلة بالحاكم الشرعي وولي الأمر الذي عليه أن ينهض بهذه المسؤولية، من خلال الشورى والرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص في كل حقل، من خلال التوضيح التالي:
أ - التعريف: يكتب السيد الطباطبائي موضِّحاً هذا النمط من الأحكام: «ثمة في الدائرة الثانية، صلاحية لولي الأمر أن يتّخذ مجموعة من القرارات والأحكام المستنبطة في إطار الأحكام الإسلامية الثابتة، ويستند إليها في استيعاب المصالح المستجدة في المجتمع وامتصاص المتغيّرات الطارئة».
كما يقول أيضاً: «أما النوع الثاني المنوط بدائرة الولاية والمنبثق عن صلاحياتها، فهو الأحكام المتغيّرة التي تتبع المصالح المتبدلة في المجتمع».[11]
وفي دراسته عن الأحكام الثابتة والمتغيرة، يكتب: «إن هذه الأحكام والقوانين المتغيّرة تنتهي إلى أصل في الإسلام نطلق عليه في هذا البحث اسم «صلاحيات ولي الأمر» أو «الحاكم». هذا الأصل في الإسلام يلبّي احتياجات الانسان المتغيّرة في كل عصر وزمان، ويستجيب للتبدلات في كل منطقة ومكان ومجتمع، دون أن يطرأ أي تغيير على الأحكام الثابتة في الإسلام».[12]
ب - المجال: ما هي الدائرة التي تمتدّ إليها قرارات الدولة متمثلة بالحاكم الأعلى؟ يقول الطباطبائي صراحة بأن الحاكم: «يملك حق التصرف في محيط الحياة العامة تبعاً لما أولاه إياه الإسلام من ولاية عامة تنفذ في منطقة حكمه... فيد الحاكم مبسوطة دون قيد في اتخاذ وتنفيذ ما يراه مناسباً من القوانين التي ترتبط بتقدم الحياة الاجتماعية وتعود بالنفع على مسار التطوّر، وتنتهي إلى ما يحقق مصلحة الإسلام والمسلمين».[13]
وفي عبارات تشبه إلى حد كبير لغة الإمام الخميني، وهو يتحدث عن صلاحية الدولة متمثلة بالحاكم الأعلى، يستعرض السيد الطباطبائي عدداً وافراً من الأمثلة التي تعكس المنطقة الواسعة التي يتحرك فيها الحاكم عبر الأحكام الحكومتية، فيذكر أن من حقّه أن يتصرف في الأموال والبيوت والممتلكات لأجل شقّ الطرق والمعابر، فينقل مواقع البيوت والأسواق، كما أن بمقدوره يتدخل في أعمال الناس وطبيعة العلاقة فيما بينهم، وله أن يعلن الحرب إذا رأى هذا الموقف مناسباً في وقت معيّن فيأمر بتجهيز الجيوش وتهيئة المقدمات الضرورية للدفاع، كما له أن يعلن الصلح، إذا قدّر أنّ في ذلك صلاح المسلمين، وله أيضاً أن يتدخل بما يحقق التقدم الثقافي في العلوم الدينية، أو العلوم الحياتية ذات المساس بتطور المجتمع، فيضع برامج واسعة باتجاه إشاعة بعض العلوم والمعارف وحثّ الناس عليها، أو يقوم بمنع بعض الاختصاصات والمعارف والتركيز على أخرى، وهكذا.[14]
ج: الملاك والضوابط: يتمثل الملاك الأساسي لهذا اللون من الأحكام بـ«المصلحة»، حيث يقول نصاً: «فكل ما تملكه هذه الضوابط والقوانين والنظم من أهلية أنها وُجدت لتحقيق مصلحة ما، فبمجرد أن تنتفي المصلحة يرتفع الحكم»[15]
أما ضوابطها فأولها أن تأتي في إطار الأحكام الثابتة في الإسلام، أي في نطاق الشريعة، ثم يتمّ تشخيص المصلحة التي أملتها من خلال الشورى، وهي بهذه الصفة ستكون مرتكزة إلى أسس عقلانية. يقول الطباطبائي نصاً: «أما الأحكام والقوانين المتغيرة فتدخل في نطاق صلاحيات الحاكم، وتوضع عن طريق الشورى، وتمضى عن طريق الولاية. بشكل عام نستطيع أن نقول إنها تقوم على أسس عقلانية».[16]
د: الخصائص: من خصائص هذه الأحكام أنها مؤقته متغيّرة، وليست جزءاً من الشريعة، لكنها واجبة الطاعة لوجوب إطاعة ولي الأمر. وهذه هي عبارة الطباطبائي: «ينبعي أن ننبّه إلى أن الأحكام من الصنف الثاني [المتغيرة أو الحكومتية] واجبة التنفيذ حين تصدر من مركز الولاية، ولها من الاعتبار ما للشريعة نفسها. لكن مع فرق أنها ليست جزءاً من الشريعة السماوية الثابتة، وأنها متغيرة يخضع استمرارها وبقاؤها لطبيعة المصلحة التي أوجدتها». ويقول أيضاً: «إن هذه الأحكام التي تصدر من مركز الولاية تتبع في وجودها وزوالها المقتضيات والمصالح التي أوجدتها، من ثم ستتّسم بالتغيّر والتبدّل تبعاً للتقدم المدني وظهور المصالح والمفاسد المختلفة».
كما يقول أيضاً: «كل ما تملكه هذه الضوابط والنظم من أهلية أنها وجدت لتحقيق مصلحة ما، فبمجرد أن تنتفي المصلحة يرتفع الحكم، فيتعين حينها على وليّ الأمر السابق أو الجديد أن يرفع الحكم المنتفي ويعلن ذلك للناس، ثم يستبدله يحكم آخر يتّسق مع المصالح المستجدّة».[17]
تنطوي دراسة السيد الطباطبائي على تفاصيل أخرى، ويبدو أن المحاولة بالمرتكزات التي تقوم عليها وبالتفاصيل التي تتحلى بها هي التي أغرت جلّ الباحثين في موضوع «الأحكام الحكومتية»، لاستعادة عناصرها والتركيز عليها بوصفها الدراسة التي استطاعت أن تقدم أفضل تعريف للحكم الحكومتي.[18]
3 - مقاربة الجواهري
لم يتناول التراث الفقهي الشيعي مسألة الحكم الحكومتي أو مبدأ تدخل الدولة لأسباب صارت معروفة، يأتي في طليعتها إقصاء التشيع عن الحكم. ولذلك، فإن أغلب المعالجات لحكم الحاكم انصبت - في كتب فقهاء الشيعة - على حالات النزاع والخصومة وفضّ الدعاوى من خلال الرجوع إلى الحاكم الشرعي متمثلاً بالفقيه على اعتبار دخول القضاء في صلاحياته بالإضافة إلى الإفتاء. وربما لاحت بعض الإشارات إلى هذا المبحث في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكتاب الجهاد، وكتاب الخراج وبعض الرسائل التي دوّنت في صلاة الجمعة.
على هذا الأساس شهد هذا الاتجاه من البحث ضموراً ملحوظاً في الفقه الشيعي، بحيث لم يينع نظريات مهمة على هذا الصعيد يمكنها أن تؤلِّف خلفية ثرية للبحث المعاصر وتوفّر له مرتكزات علمية عميقة. دام هذا الواقع حتى آنت لحظة الانتصار الخميني وما قادت إليه من تحوّلات عظيمة، برزت إحدى معطياتها في ازدهار البحث الفقهي في هذا المضمار.
ولكن ومع ذلك كله، يمكن اقتناص بعض الفوائد والإشارات والرؤى في أعمال بعض الفقهاء، حيث تجاوز هذا البعض البعد القضائي الذي يرتبط بحل النزاعات والدعاوى، إلى ما هو أبعد منه. صحيح أن القضاء وما يضمّه بين دفتيه يُعدّ أحد مجالات الحكم الحكومتي، بيد أن الصحيح أيضاً، أن حكم الحاكم يمتد، ليشمل مساحات متراصة من ميادين عمل المجتمع تتخطى المجال القضائي الصرف، وذلك حينما، ننظر إلى المسألة على مستوى دولة كاملة تقوم تجربتها على أساس التشريع الإسلامي، ويقودها فقيه مبسوط اليد كما هو الحال في تجربة إيران حاضراً.
من الإشارات المهمة التي وردت في هذا المجال بحوث الفقهاء في التمييز بين الفتوى والحكم، حيث سجّلت بعض الدراسات أن الفقيه العاملي شمس الدين محمد بن مكي (ت: 786 هـ) المشهور بالشهيد الأول، كان قد فتح الباب للتنظير إلى حكم الحاكم أو الحكم الحكومتي، بما يتخطى حدود المنازعات، والخصومات، والبعد القضائي الصرف، إلى مجالات أوسع ترتبط بالوضع الاجتماعي العام، مستفيدين مما ذكره في كتابه «القواعد والفوائد» في تعريف الحكم حيث قال: «والحكم إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية، وغيرها مع تقارب المدارك فيهما، مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش» حيث أستفيد من عبارة «مصالح المعاش» العموم، ولم يقيّدوا صلاحية الحاكم وولايته في خصوص الحكم في المنازعات التي تعدّ أحد شؤون الولاية وبعداً واحداً من أبعاد الحكم الحكومتي، مستشهدين على هذا الرأي بعدد من القرائن الداخلية والخارجية.[19]
كما ذهبوا إلى أن الفقيه العاملي البارز زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي (ت: 966 هـ) المشهور بالشهيد الثاني أحد أبرز شرّاح «اللمعة الدمشقية» للشهيد الأول، قد تحرك في هذا النطاق أيضاً، حيث ذهب إلى تعميم حكم الحاكم أو الحكم الحكومتي، وعدم اقتصاره على حل الخصومات وحدها.[20]
لكن إذا كان هناك اختلاف حيال الشهيد الأول، والشهيد الثاني، أو غيرهما من الفقهاء، فيبدو أنَّ هناك ما يشبه الإجماع على أن الفقيه النجفي الذائع الصيت محمد حسن بن محمد باقر (ت: 1266 هـ.) صاحب موسوعة «جواهر الكلام» وأحد أساطين مدرسة الوحيد البهبهاني (ت: 1205 هـ.)، كان قد بذل عناية بمفهوم الحكم الحكومتي، ونظر إليه في مدى أوسع؛ يتخطى كثيراً دائرة القضاء في الخصومات، إلى ما يشمل جميع المصالح الاجتماعية من بينها الموضوعات، والأحكام الاقتصادية، والسياسية، والعبادية وكل له دخل في بسط نظام المجتمع أو الحؤول دون اضطراب حبل الأمن وشيوع الفساد. فيد الحاكم الإسلامي مبسوطة في اتخاذ ما يقدّر أنه المصلحة في جميع هذه المرافق، بما يؤمّن إدارة أمور المسلمين على ما يرام، وتنفيذ الأحكام الأولية أو الثانوية.
استند هذا الفريق من الباحثين إلى مناقشات الجواهري لبعض الفقهاء، ثم التقرير الذي ساقه للتمييز بين الفتوى والحكم، حيث انتهى في تعريف الحكم إلى قوله: «وأما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم - لا منه تعالى - لحكم شرعي، أو وضعي، أو موضوعهما في شيء مخصوص».[21]
فمع ما قد يمكن أن يرد على هذا التعريف من مناقشات; في طليعتها حصر الحكم الحكومتي في المقررات التنفيذية، إلا أن كلمة الباحثين تكاد تتّفق على تفسيره تفسيراً عاماً، يتجاوز فضّ المنازعات إلى عامة شؤون المجتمع،[22] ومن ثم، فإن صلاحية الحاكم تتخطى دائرة الأحكام القضائية التي تختص بالخصومات حيث يبادر الحاكم إلى إصدار الحكم عقب طرح الدعوى عليه، إلى الأحكام السلطانية التي يبادر فيها من موقعه كمسؤول عن المجتمع إلى إصدار ما تمليه المصلحة من قرارات يحتاج إليها النظام الاجتماعي.
من بين ما استشهدوا به على هذه التوسعة ما ذكره صاحب الجواهر نفسه من خصائص هذا الحكم وأنه لا يقبل النقض بفتوى فقيه آخر، لأنه يرتبط بالواقع الاجتماعي، ولو فتح المجال لعملية النقض باجتهادات بقية الفقهاء، لأدى ذلك إلى اختلال النظام الاجتماعي، وغياب الضوابط القانونية لإدارة الحياة. يقول الشيخ محمد حسن الجواهري في هذا المضمار: «وقد ذكر غير واحد أن من خواصه [حكم الحاكم] عدم نقض الحكم فيه بالاجتهاد، بل يجب على غيره من القضاة تنفيذه وإن خالف اجتهاده، ما لم يخالف دليلاً قطعياً».
وعلى هذا يتبين وجود خلفية ولو أوّلية للحكم الحكومتي بمعناه المعاصر في التراث الفقهي الشيعي، عرضت في مبحث القضاء. على أن عرض عنوان المسألة في كتاب القضاء لا يعني اقتصار الحكم الحكومتي على البعد القضائي وحده وقصره على فض المنازعات، بل يعود سبب ذلك إلى عدم تخصيص عنوان مستقل لها ومماشاة الفقهاء لأسلافهم في معالجة المسألة تحت هذا العنوان، كما هو حال كثير من المسائل الفقهية الأخرى.
4 - مقاربة الصدر
إذا ما أردنا أن نترك اللغة الفقهية المباشرة وننتقل في توضيح المفهوم إلى لغة التنظير الفكري، فلا أظن أن بمقدورنا أن نتجاوز الفقيه، والمفكّر السيد محمد باقر الصدر، وما يحظى به من قدرات خلاّقة في بلورة الرؤى الفقهية في أفكار وصبّها في مركبات نظرية.
في لغة التنظير الصدري تتحوّل صلاحيات الحاكم، وولي الأمر، والأحكام الحكومتية إلى: مبدأ تدخّل الدولة.
إن مبدأ تدخّل الدولة نتيجة منطقية لتحوّل الإسلام إلى الحاكمية السياسية، وبالنتيجة تحوّل الفقه من الاهتمامات الفردية إلى النطاق الاجتماعي، ومن صيغة إنشاء الأحكام الجزئية إلى صيغة النظم المذهبية التي تعكس الموقف العملي للإسلام من قضايا المجتمع والحياة.
انطلق الصدر في مشروعه التنظيري الذي بدأه قبل حوالي نصف قرن من الآن، بخطوط ثلاثة يترتب بعضها على بعض، هي:
1 - الرؤية الكونية التي يمثّل التوحيد مركزها، حيث قدّم صياغته النظرية على هذا الصعيد من خلال كتاب «فلسفتنا»، ثم لاحقاً من خلال تنظيرات أخرى.
2 - رؤية الإسلام وأفكاره عن الإنسان وحياته الاجتماعية، وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره. وهذه هي المهمة التي كان من المزمع أن ينهض بها كتاب «مجتمعنا» الذي أراد له الصدر أن يكون حلقة ثانية في مشروعة التنظيري بعد كتاب «فلسفتنا»، بيد أنه لم ير النور، وإن كانت بعض مرتكزات المحاولة، وأفكارها قد برزت في محاضراته القرآنية.
3 - ما يطلق عليها الصدر نفسه بمرحلة النظم الإسلامية للحياة التي تتصل بأفكار الإسلام الاجتماعية، وترتكز إلى صرحه العقائدي الثابت،[23] مثل النظام الاقتصادي، النظام السياسي، النظام التربوي.
على أساس هذه الرؤية، وانطلاقاً منها انبثق كتاب «اقتصادنا» الذي تحدّث فيه الصدر للمرة الأولى عن مبدأ تدخل الدولة وقدّمه كمقابل تنظيري لمصطلح الحاكم الشرعي، وولي الأمر، والحكم الحكومتي.
يرتكز مبدأ تدخّل الدولة في الحياة إلى فهم كلامي يعود إلى عناصر راسخة في القرآن والسنة، من بين هذه العناصر التمييز في مسؤولية النبي (صلّى الله عليه وآله) بين صفته كمبلّغ للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، وبين صفته كوليّ للأمر وحاكم للمسلمين وقائد للدولة[24]. ومادامت الدولة مشروعاً دائماً في الإسلام في نطاق الفهم الصدري، فإن هناك باستمرار من يشغل الموقع حال قيام الدولة، حيث «يسمح له الإسلام بمباشرة صلاحيات النبي كحاكم»[25]على ما ينص الصدر.
لقد قدّم الشهيد الصدر منظوراً متكاملاً لمبدأ تدخّل الدولة في النظام الاقتصادي انطلاقاً من التحديد الذي عرضت له أطروحة «اقتصادنا» عن مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي[26]، يمكن الإشارة لبعض عناصره كما يلي:
أ- المبدأ: يُعَدّ تدخّل الدولة من المبادئ الأساسية في التطبيق الاقتصادي، حيث يقول الصدر: «تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية يعتبر من المبادئ المهمة فى الاقتصاد الإسلامي، التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول».[27]
ب- المجال: لا يقتصر تدخّل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتدّ إلى ملء منطقة الفراغ من التشريعي، حيث تقع عليها مسؤولية وضع العناصر المتحركة وفقاً للظروف، وبتعبير الصدر: «في المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامى للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة»[28]. كما أن مسؤولية الدولة على هذا الصعيد تشمل الأفراد والمجتمع معاً.
ج- الضوابط: ينبغي للدولة أن تتدخل في الحياة الاقتصادية في نطاق الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، وبما ينسجم مع الخط العام للأحكام الثابتة، كما أن منطقة الفراغ التي تمارس بها الدولة صلاحياتها تقتصر على الفعل المباح الذي لم يرد نص على حرمته أو وجوبه، حيث يكون للدولة المنع عنه، فيصبح حراماً، أو الأمر به فيصبح واجباً.
وإن الدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، هو الدليل القرآني نفسه على وجوب إطاعة أولي الأمر، وهذا الدليل لا يسمح بأكثر من هذه المساحة.[29]
كما أن ملاك هذه الأحكام يتحدد بالظروف، والمصالح التي تقدّرها الدولة، رعاية لمصالح المسلمين.[30]
د- الأمثلة: من الأمثلة التي يسوقها الصدر في بيان حدود تدخّل الدولة في الاقتصاد هو منع الأفراد من التصرف الفردي في جميع مصادر الثروة الطبيعية الخام إلا بإذن من الدولة[31]، وكذلك حقها في فرض ضرائب ثابتة، وإيجاد قطاعات لملكية الدولة.[32]
هكذا كانت الصورة يوم كتب الشهيد الصدر «اقتصادنا» حيث لم تكن للمسلمين تجربة عملية في التطبيق، ولم تكن هناك دولة. أما بعد انتصار الإمام الخميني وتأسيسه للجمهورية الإسلامية، فقد جاءت الصورة أكثر تحديداً عبر الدراسات المختصرة التي ألّفها الشهيد الصدر في إطار مجموعة «الإسلام يقود الحياة» لتكون مرشداً عملياً لتجربة التطبيق.
على هذا الضوء دوّن السيد الصدر دراستين عن الاقتصاد تحدث فيهما عن مسؤولية الدولة وحقها في التدخل من خلال نقاط وقواعد مقنّنة، فمن حقها أن تتدخل لمكافحة الاحتكار، وتحديد الأسعار، وتحديد المشاريع الفردية التي تتصادم ومبدأ العدالة الاجتماعية، وتحديد أجور العمل، والمنع من تراكم النقد واكتنازه والتوسل بكل ما يؤدي إلى تضييق الهوة بين المنتج والمستهلك، وعدم الإخلال بالتوازن الاجتماعي.[33]
هـ- التعميم: حديث الشهيد الصدر عن مبدأ تدخّل الدولة في الاقتصاد لا يعني مطلقاً تقييد المبدأ في هذا الجانب وحده، بل جاء الحديث عنه من زاوية مناسبة العنوان للموضوع. وإلاّ فالرؤية الثلاثية التي حدّدها الصدر من أن الإسلام عقيدة، ومنهج في التربية والتفكير، ونظام للحياة تستلزم تدخّل الدولة في جميع النظم ذات العلاقة بحياة المجتمع.
ثم إن الشهيد نفسه تحدّث عن عمومية هذا المبدأ، يوم لاحت له الفرصة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حيث تحدث في اللمحة التمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية عن هذا المبدأ بالروح نفسها التي لمسناها في كتاب «اقتصادنا»، لكي تشمل هذه المرة جميع مرافق الحياة التي لا توجد بإزائها أحكام ثابتة.
ففي حالات تعدّد البدائل الاجتهادية المشروعة، وفي حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة تحريماً، أو إيجاباً تناط بالسلطة التشريعية مهمة اختيار بديل من البدائل المتعددة «على ضوء المصلحة العامة»، وكذلك لها أن تسن من القوانين «ما تراه صالحاً» في إطار منطقة الفراغ، حيث يكون «من حقّ السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة على أن لا يتعارض مع الدستور».[34]
هنا السلطة التشريعية الممضاة من المرجع الأعلى هي التي تمارس التقنين للأحكام الحكومتية، بالإضافة إلى ممارسة الفقية الولي. وعندئذ يكون السؤال: هل من حق الدولة أن تمارس مثل هذه الأحكام مباشرة؟ يبدو أن هذا الحق ينصرف إلى الفقيه الولي باعتباره الممثل الأعلى للدولة، وبتخويل منه إلى المجلس التشريعي، إلاّ إذا خوّل الفقيه الدولة حقّ إصدار مثل هذه القوانين، أو أن يرجع إليها تشخيص بعض المصالح بوصفها أحد مراجع الخبرة والاختصاص.
5 - مقاربة كرجي
لقد ساهم د. أبو القاسم كرجي (أستاذ في جامعة طهران متخصص في الفقه والأصول) بعدد من الرؤى حيال مصطلح «الحكم الحكومتي» استلفتني فيها تبديله المصطلح في إطار اقتراح لتقسيم الحكم الشرعي على نحو رباعي، وكذلك ما أدلى به من اشارات حول دائرة هذه الأحكام وكيفية استنباطها. لقد أثارت آراء الرجل عدداً من الأسئلة والمناقشات.
يقترح كرجي تقسيماً رباعياً للأحكام الشرعية على الشكل التالي:
1 - الأحكام الشخصية: وهي التي جُعلت لشخص محدد كالأحكام الخاصة بالنبي مثل وجوب التهجّد وقيام الليل.
2 - الأحكام الفردية: هي الأحكام بجميع المكلفين على السواء، كوجوب الصلاة على كل إنسان مثلاً.
3 - الأحكام الخاصة: هي الأحكام التي تتوجه ابتداءاً إلى أفراد خاصين لهم عنوان خاص، كما في أحكام البيع التي تتجه ابتداءً إلى البائع والمشتري، وأحكام النكاح التي تتجه ابتداء للزوج والزوجة، وإن كانت توجِد أحكاماً للآخرين أيضاً ولكن بالعرض.
4 - الأحكام العامة: هي الأحكام التي يكون موضوعها المجتمع، وإذا ما صار الأفراد موضوعها فإن ذلك يكون بسبب ايجاد المجتمع لها. والمجتمع هنا هو غير «المجموع» فالمجتمع هو عنوان انتزاعي.
عند هذه النقطة يسجّل كرجي أن الأحكام العامة هذه، يمكن أن يُطلَق عليها «الأحكام الحكومتية» أيضاً، وقد ضمرت في الماضي وابتعد عنها الفقهاء بحكم الابتعاد عن السلطة نفسها، والانفصال عن ممارسة الحكم وما يمليه من شواغل.[35]
إذن فالأحكام الحكومتية هي الأحكام العامة نفسها على ضوء هذا التقسيم الرباعي المقترح الذي يذهب بعض الناقدين إلى أنّه مستمدّ من التقسيمات الحقوقية الوضعية المعاصرة، وليس في ذلك ضير. فالأحكام العامة هي نفسها الضوابط والمقررات والقوانين التى تنفّذها الدول والحكومات، وهي موجودة في الإسلام، بيد أنها تحتاج إلى اكتشاف واستنباط.
على هذا الضوء يخلص الباحث إلى أن الأحكام الحكومتية هي كل ما تتصدى له الدولة كالمسائل الصحية، والثقافية، والمالية، وقضايا السلم، والحرب، وغير ذلك من القضايا العامة التي تلعب فيها الدولة دور الوكيل عن المجتمع.
يكمن أحد الفوارق الأساسية بين الأحكام العامة، وغيرها، في أن المصادر الأربعة للإستنباط متمثلة بالكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع، هي التي تتولى الكشف عن الأحكام في الأقسام الثلاثة الأولى، أما الأحكام العامة فترجع في الاستنباط إلى المصالح، والمفاسد العامة، من دون أن يعني ذلك خلوّ الكتاب والسنة منها تماماً.
فالكتاب والسنة وفّرا إطاراً يتكون من مجموعة من الضوابط العامة، والقواعد الكلية من قبيل «أن تحكموا بالعدل» من الضروري أن تكون هي المرتكز الذي تستند إليه الأحكام العامة ولا يجوز لها أن تتخطاها.
هكذا تنتهي مصادر الاستنباط في الأحكام العامة إلى الضوابط والقواعد الكلية التي حدّدها الشارع الأقدس بلحاظ مصالح المجتمع، واجتناب المفاسد.
من الذي يحدّد المصالح، أو المفاسد؟ يُرجع باحثنا هذه العملية إلى العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص؛ إذ عليهم تقع مسؤولية تشخيص الموضوع، وتحديد ما هو مصلحة ملزمة وما هو مفسدة، ثم ينهض مجلس آخر، أو لجنة، أو جهة باتخاذ القرارات اللازمة على ضوء تشخيص العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص.
في إطار عمل الدولة المعاصرة تتطلب العملية تأسيس مجلس لتشخيص المصالح يتألف من الخبراء في كل حقل له صلة بالشؤون العامة ويضمّ مختصّين من جميع الإختصاصات، كي يؤدي هذه المهمة، ثم يحيل نتائج عمله إلى الجهة التي تتخذ القرارات المناسبة.
على هذا الضوء من السهل أن نلحظ أن الأحكام العامة هذه تتبدل ثلاثة وأربعين تبعاً للظروف، وللأوضاع المستجدّة التي تملي ظهور مصالح مستجدة واختفاء مصالح قديمة، مما سيعطي للفقه سعة ومرونة هائلة من هذه الزاوية، بحيث تتحوّل موسوعة جواهر الكلام من
(43) مجلداً كما هي عليه حالياً إلى مائة مجلد مثلاً فيما لو أخذت بنظر الاعتبار الأحكام العامة، بحسب المثال الذي يسوقه د. كرجي.
بهذا الملاك لا تختص عملية استنباط هذه الأحكام بالمجتهد، والفقيه بالمعنى الدارج في الثقافة الفقهية، إلاّ إذا كان من أهل الاختصاص في حقل من الحقول العامة، فعندئذ يساهم بوضع هذه القوانين لا بوصفه فقيهاً مجتهداً، بل بصفته خبيراً ذا اختصاص في ذلك الحقل المفترض.[36]
هل معنى ذلك، أن مسار العملية في هذه الأحكام لا يحتاج في إسباغ المشروعية عليه إلى إذن وليّ الأمر سواء في مرحلة البحث الاختصاصي أو اتخاذ القرار؟ ثم هل تسقط هذه الصياغة حقّ وليّ الأمر في اتخاذ الحكم الحكومتي، وتحصرها في المجمع المقترح وحده؟ لا نعثر على إجابه واضحة لهذين السؤالين وغيرهما مما تثيره هذه الرؤية في الموضوع.
هناك مقاربات وتعاريف أخرى للحكم الحكومتي، سنغضي عنها طلباً للاختصار.
(4) الملاك والتقسيمات والفروق
أ- الملاك: أجمعت الدراسات التي تناولت الموضوع على عدّ المصلحة هي الملاك في هذا الضرب من الأحكام، وإن كان البعض توسع تنظيرياً للحديث عن مركب من ثلاثة عناصر، هي: المصلحة، ارتباط الحكم بالمجتمع، أن يصدر الحكم عن وليّ الأمر. لكن من الواضح أن هذا التقسيم لا يتخطى جوهر الفكرة متمثلة في أن المصلحة هي الملاك التأسيسي للحكم الحكومتي.[37] أما العنصران الباقيان فيخضعان إلى تكييفات تنظيرية متعددة، بالأخص العنصر الثالث.
ب- التقسيمات: عرضت بعض الدراسات لعدد من التكييفات التنظيرية لتقسيم الحكم الحكومتي تبعاً للزوايا التي ينطلق منها الدارس ويختارها في التحليل.
من هذه التقسيمات:
1 - أنه ينقسم إلى قضائي وسلطاني،[38] وقد مر معناه.
2 - تقسيمها بلحاظ الحاكم إلى: ما يختص بالنبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وما لا يختص بهم كالأحكام التي تعود إلى الفقهاء.
3 - تقسيمها بلحاظ الزمان إلى: ما يكون في زمن وجود الدولة، وزمن غيابها.
4 - تقسيمها بلحاظ الحكم إلى: ما يرتبط بتنفيذ الأحكام الثانوية، والأولية كإجراء الحدود والأمر بجمع الزكوات، وإلى: ما يرتبط بإدارة المجتمع مثل فرض الضرائب، وفرض الخدمة العسكرية، وإلى أحكام تنفيذية محضة مثل نصب المسؤولين في الدولة وعزلهم.
5 - تقسيمها بلحاظ الآثار والنتائج إلى: أحكام اقتصادية واجتماعية وسياسية وحقوقية وهكذا.[39]
6 - هناك من ذهب إلى تقسيم الأحكام الحكومتية بالقياس إلى الأحكام الأولية، لينهيها إلى ثلاثة أشكال، هي:
أ- الحكم الحكومتي المزاحم للحكم الأولي، كما في قرار الإمام الخميني تعطيل الحج بعد واقعة مذبحة مكة عام 1987 .
ب- الحكم الحكومتي الذي يراد به تطبيق الحكم الأولي وتنفيذه كما في حكم الإمام الخميني الذي اتخذه عام 1989، والقاضي بارتداد سلمان رشدي والأمر بقتله.
ج- أن يكون الحكم الحكومتي تأسيسياً يتحرك في إطار المساحة التي لم يأت بها عن الشرع موقف أوّلي حاسم، ومثاله فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على الشباب لمدة سنتين في حال السِّلم، كما هو عليه الوضع في إيران حاضراً.[40]
ج - الفروقات
1 - الأحكام الأولية والأحكام الحكومتية: يمكن إرجاع أبرز الفروق بين الأحكام الأولية والأحكام الحكومتية، إلى النقاط التالية:
أولاً: تشخيص المصالح في الأحكام الأولية بعهدة الشارع، أما في الأحكام الحكومتية فيعود إلى الحاكم أو من ينتدبه من أجهزة أو أفراد.
ثانياً: مرّ معنا أن الحكم الأولي هو تعبير عن عنصر من العناصر الثابتة في الشريعة، ومن ثم فهو دائم لا يتغيّر، عام لا يحدّه الزمان والمكان، بعكس الأحكام الحكومتية التي تعد مؤقته متغيّرة تبعاً للمصالح التي أفرزتها. وبحسب التعبير المنطقي الأحكام الأولية هي على نحو القضية الحقيقية، أما الحكومتية فهي على نحو القضية الخارجية.
ثالثاً: الحكم الأوّلي هو حكم الشارع ويؤخذ من الأدلة الشرعية دون واسطة، أما الحكومتي فهو حكم الشارع أيضاً لكن بواسطة الحاكم، أو وليّ الأمر، أو الدولة الشرعية، والإلزام فيه ووجوب إطاعته نابع من وجوب طاعة أولي الأمر والإذعان لقرارات الدولة الشرعية.
رابعاً: في الحكم الأولي المكلف مختار في أن يرجع إلى الفقيه الذي يشاء ويختار الحكم من المجتهد الذي يشاء، أما في الحكومتي فلا يجوز التخلف عن حكم الحاكم إذا حكم، ويجب اتباعه حتى على الفقهاء الآخرين، ومن ثم لا يجوز نقض حكم الحاكم بالاجتهاد، إلاّ إذا خالف دليلاً قطعياً. وفلسفة وجوب الطاعة، وعدم النقض تعود إلى فلسفة الأحكام الحكومتية نفسها التي ترتبط بالحكم، وإدارة الحياة العامة للمجتمع، فلو ارتفعت الطاعة، وجاز النقض لما تحقّق الاستقرار، ولاضطربت الأمور، وساد الهرج والمرج بحسب تعبير الأقدمين.
خامساً: إذا كان الاجتهاد المتداول في الوسط الحوزوي كافياً لاستنباط الحكم الأولي، فإن الحكومتي يحتاج إلى دراية بالواقع الحياتي للمجتمع، والمنطقة، والعالم، وإلى معرفة بالقضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ووعي بالعلاقات السائدة في البلد والمنطقة، وبالعلاقات الدولية إذا كان القرار يرتبط بها.[41]
وثمّة فروقات أخرى ذكرها بعض الدارسين من قبيل، أن دائرة الحكم الحكومتي تختص بالمجتمع، في حين يعمّ الحكم الأوّلي المجتمع وغيره، كما قالوا في ماهية الأوّلي أنه إخبار، وفي الحكومتي أنه إنشاء، هكذا إلى فروقات أخرى لا داعي لاستقصائها.
2- الأحكام الحكومتية والأحكام الثانوية: لم تعبأ الدراسات بهذا الجانب كثيراً ما خلا إشارات عابرة، لكن عثرت أخيراً على دراسة، نشرتْها مجلة «حكومت إسلامي» (الحكومة الإسلامية) التي تعنى بشؤون الفكر والفقه السياسي وتصدر عن سكرتارية مجلس خبراء القيادة في إيران، يعرض فيها لنقاط الاشتراك والافتراق بين الاثنين.
أما عناصر الإشتراك، فهي:
أولاً: إن الاثنين معنيان بالموضوعات والمصاديق.
ثانياً: إنهما يتّسمان بطابع التغيّر والتبدل.
ثالثاً: إن كليهما يقعان في دائرة العسر والحرج والاضطرار.
رابعاً: إن كليهما حاكمان على الأحكام الأولية في إطار شروط خاصة، بحيث يفضيان إلى تعطيل الحكم الأولي.
أما نقاط الافتراق، فهي:
أولاً: تتحرك الأحكام الثانوية في النطاق الفردي على الأغلب، أما الحكومتية فإنها تتحرك غالباً في الدائرة الاجتماعية.
ثانياً: تستخدم الأحكام الثانوية في حدود العسر، والحرج، والاضطرار، والعجز، والإكراه، والخوف، والمرض، والتقية، وبقية الحالات الاستثنائية التي يمرّ بها المكلّف، أما الحكومتية فتتخطى ذلك إلى ما هو أوسع مدى متمثلة بتشخيص المصلحة حتى مع عدم العسر والحرج.
ثالثاً: الأحكام الثانوية تتحرك في المساحة التي يكون فيها للتشريع حكم أولي، فتعطل ذلك الحكم مؤقتاً، أما الحكومتية فتمتدّ لتشمل حتى الدائرة التي سكت عنها التشريع.[42]
(5) المصلحة.. الدور وآلية العمل
أولاً: نقاط تمهيدية
1 - الضرورة والمصلحة: مع أن نص الإمام الخميني - المذكور مطلع هذه الدراسة - الذي أوكل فيه إلى مجلس الشورى إصدار الأحكام الحكومتية أشار إلى عنصر الضرورة والحرج كملاكين أساسيين لإصدار هذا الضرب من القوانين والقرارات، إلاّ أنه أشار أيضاً إلى عنصر المصلحة.
ثم بمرور الزمان ما لبث أن شهد عنصر المصلحة تطوّراً كبيراً في الفكر السياسي للتجربة، ثم اكتسب بمرور الزمن آلية محددة أفرزت مؤسسة خاصة بالمصلحة، قبل أن يجد هذا المفهوم سبيله إلى الدستور بعد التعديلات التي طرأت عليه عام 1989.
إن لدينا مصطلحاً آخر في الفقه هو «الأحكام الثانوية» التي تأتي في مقابل «الأحكام الأولية» ويكون الملاك فيها هو الضرورة، والتزاحم، والحرج، وغير ذلك من العناوين. وما ينبغي التأكيد عليه هو وجود فوارق بين «الأحكام الثانوية» وبين «الأحكام الحكومية» ربما عاد أبرزها إلى موقع المصلحة الذي يحتل مساحة كبيرة في الأحكام الحكومية التي يتولاها الحاكم الشرعي أو يخوّلها إلى من يمارسها وفق آلية محددة.
فالذي يتحرّى المسار الخاص الذي سلكه الإمام الخميني في حل المشكلات بين فقهاء الدستور من جهة، ومجلس الشورى الإسلامي والحكومة من جهة أخرى، يسهل عليه أن يلحظ نمو واتساع عنصر المصلحة مع الزمن، حتى لكأن في ذلك إشارة إلى أن عنوان الضرورة لا يمكن أن يوفر للدولة وحده المشروعية التي تحتاج إليها في إعمال حاكميتها وإدارة المجتمع. من هذه الزاوية تم التوجه إلى مبدأ المصلحة كي يأخذ مكانه إلى جوار عنوان الضرورة بل أحياناً حتى مع عدم الضرورة، كما مرّت الإشارة إلى ذلك تفصيلاً.
2 - تقنين المصلحة: ليس ثمَّ ما يمنع من القول: إن الفقه الشيعي- إجمالاً - لم يبن الأحكام الحكومتية على المصلحة رغم من أن فقهاء هذه المدرسة يجزمون بأن جميع الأحكام الشرعية، قد شرَّعت على أساس تحقق المصالح أو درء المفاسد الواقعية، لكن الشارع المقدس هو وحده الذي يعرف تلك المصالح والمفاسد في متعلق الأحكام الأولية، ما عدا الموارد التي يصرح بنفسه عنها ويكشف عنها بوضوح. أما ما يدركه العقل الإنساني على هذا الصعيد، فلا يصنّف كعلّة حكم وفلسفته الواقعية، وإنما يعدّ حكمة للحكم وحسب.
من جهة أخرى، أدى ضمور ممارسة فقهاء الشيعة للأحكام الحكومتية لأسباب تأريخية، إلى عدم تفتّح عنوان المصلحة وعدم ازدهاره فى فقههم. أجل، ورد المصطلح وحامت حوله إشارات في بعض العناوين والكتب الفقهية، لكن ليس بالصيغة التي انتهى إليها الآن الفقه السياسي لتجربة الجمهورية الإسلامية. فمع انطلاق هذه التجربة واصطدام النظام في حركته باتجاه التقنين بمشكلات كبيرة، استحث الباحثون والمعنيون من فقهاء وحقوقيين وحتى سياسيين عقولهم، وراحوا يدرسون المسألة من أبعادها المختلفة، الأمر الذي قاد إلى ازدهار هذه البحوث في الفقه عامة، وفي فقه الدولة والفقه السياسي خاصة، وكذلك الدراسات ذات الصلة بالدائرة الحقوقية والاجتماعية.
لقد مرّت الإشارة فيما سلف إلى أنّه ربما كانت أوّل وأهم نقطة مقنَّنة لعنوان المصلحة، هى تلك التي إشتمل جواب الإمام الخميني لمجلس الشورى عام 1981 ، ثم أخدت تتبلور في كلام قائد الثورة، وخط مسيرته، وطريقة تعامله مع قضايا فكرة تشخيص المصالح، والتوجه إلى عنوان «مصلحة النظام» بوصفه عنصراً رحباً يتجاوز في رحابته، وإمكاناته حتى الحلول التي يوفرها الإطار الذي ينتظم الأحكام الفرعية أحياناً.
ثم راحت هذه الفكرة تكتسب في كلام الإمام الخميني وسلوكه شكلاً يزداد وضوحاً يوماً بعد آخر، حتى آل المسار بسماحته أخيراً إلى أن يصدر قراره بتأسيس مجلس تشخيص مصلحة النظام.
وكان هذا المشروع بانتظار خطوة واحدة لكي يستكمل قوامه الشرعي والدستوري، ويتحوّل إلى جزء أصيل من كيان التجربة. أخيراً جاءت هذه الخطوة في التعديلات الدستورية التي طالب الإمام بإدخالها على الدستور قبل وفاته بشهرين؛ حيث اكتسب مجلس تشخيص المصلحة مشروعيته الدستورية بعد تلك التعديلات، على ضوء المادة 112 من مواد الدستور.
وإذا كان عنوان المصلحة على هذه الدرجة من الأهمية في الحكم الحكومتي، فينبغي إذن أن يحدد المراد منه، وتتضح آليات ممارسة العنوان، بالأخص وإن الأمر يرتبط في نهاية المطاف بوجود الدولة، وقضايا المجتمع، مما ينبغي أن تكون فيه الرؤية واضحة.
ثانياً: مصادر المصلحة
جوهر الفلسفة التي تقوم عليها عملية اللجوء إلى المصلحة لتسويغ الأحكام الحكومتية، تتمثل في المنهج الإسلامي من جهة، وفي طبيعة الحياة من جهة أخرى. فعن المنهج الإسلامى يلحظ أن هذا الدين ينطوي على استعداد شامل لإدارة شؤون الحياة. لكن عندما ننظر إلى الحياة الإنسانية نجدها تنطوي على احتياجات ثابتة وأخرى متغيرة، والحل الإسلامي لمواجهة المتغيرات يتمثل في إيكالها إلى منصب الولاية ومن يتبوأ موقع الحاكمية، وعلى هذا يتعين على الدولة أن تنهض بملء الفراغ الذي تركه الشارع عن عمد وقصد.
ولذلك لا مناص للدولة من التفكير بالمصلحة، وإصدار القوانين، والتشريعات على هذا الضوء. لكن السؤال الجديد الذي يترتب على هذا المنطق، هو: ما هي مصادر المصلحة وكيف يتم تشخيصها؟ لقد صيغت أجوبة عديدة لهذا السؤال، يمكن أن تنهي مصادر المصلحة، إلى ما يلي:
1 - العرف: لقد واجه هذا العنصر نقداً مفاده أن العرف يمكن أن يكون مصدراً لتشخيص المصلحة إذا ما كان كاشفاً عن نظر الشارع بنحو من الأنحاء، وإلا فلا قيمة لآراء الناس ورؤاهم دون هذا الاعتبار.
لقد لجأ البعض لحل هذا الإشكال إلى التمييز بين الحكم الحكومتي والحكم الشرعي. فالحكومة تلجأ إلى جوار إجراء ثوابت الشريعة وكلياتها، لجلب أهم موارد المصلحة بالاعتماد على علوم العصر والمعرفة البشرية ورعاية المتغيرات في الزمان والمكان.
ومن ثم، فإن ما يصدر عنها في هذا المجال يصدر على خلفيّة تلك المصلحة وبمقتضاها وتبعاً لها، لا على أساس تقرير حكم الشرع. أي الدولة هنا لا تمارس الإفتاء لكي يعترض على اعتمادها العرف، وما تصدره لا تنسبه إلى الشرع بالمعنى الذي يكون فيه مفاد الحكم الحكومتي ومحتواه شرعياً وإلهياً أو جزءاً من الشريعة الثابتة.
ومع أن مثل هذه القرارات شرعية يتحتم إطاعة الحكومة فيها، إلا أن هذه الشرعية ليست بمعنى الانتساب إلى الشريعة الثابتة التي لا تختلف ولا تتغير، بل إن شرعية هذه القرارات تأتي بمعنى أن الحاكم أو الحكومة التي تصدت لإصدار هذه القرارات هي موضع تأييد الشرع، ومادامت كذلك، فالمجتمع مدعوّ لإطاعة هذه القرارات والالتزام بها، لوجوب إطاعة أولي الأمر.
2 - سيرة العقلاء: بعيداً عن البحوث الأصولية المعمقة في معنى سيرة العقلاء، وموقعها من مصادر استنباط الحكم الشرعي، فإن هذه السيرة تدخل في مصادر المصلحة من زاوية إيكال تشخيص المصالح إلى الحكم الاسلامي. فمع الإقرار بهذا الدور للحكم لا يبقى مجال للتردد في موقع سيرة العقلاء من تشخيص المصلحة، سواء أكانت هذه السيرة بمعنى السلوك العام للمجتمع بحيث تنتهي إلى العرف، أو عادت إلى مبدأ الفهم الكلي للعقل للحسن والقبح الذاتيين.
3 - العلم والمعرفة البشرية: هناك اختلاف بين المعنيين في موقع العلم والمعرفة البشرية في تشخيص المصالح. والموقف من المسألة تتنازعه رؤية أشبه ما تكون بالفلسفية، ذلك أن العلم بحد ذاته مهمته معرفة الواقعيات، والإخبار عنها بعد كشفها، دون أن تلزم هذه العملية بحد ذاتها الإنسان بشيء معين، فمجرد اكتشاف مكونات الماء وأنه يتألف من الأوكسجين والهيدروجين لا يلزم الإنسان بشيء محدد. ومجرد معرفة أن الحديد يتمدد بالحرارة، لا يرتب أثراً حقوقياً ملزماً للمجتمع، ومن ثم لا معنى - عند هذا التيار - لاعتماد العلم كمصدر لتشخيص المصلحة، واتخاذ قرار على ضوء ذلك، لأن القرار ينتمي إلى الدائرة الحقوقية، والإلزام عنصر أساسي في الحقوق.
لكن مع ذلك يتجه التيار الذي يميل إلى أخذ العلم والمعرفة البشرية بنظر الاعتبار، إلى وجهة نظر تفيد أن العلم يكسب العقل الإنساني سعة وجودية واستعداداً أكبر للمعرفة، ومن ثم فإن له دوره في تعميق قدرات الإنسان على التشخيص والتحليل.
لذلك كله لا يمكن إنكار دور علوم العصر والمعارف الإنسانية في كل عصر، ولو على مستوى ما تدعمه من اتجاهات معينة لمصالح المجتمع.[43]
ثالثاً: مرجع المصلحة
العودة إلى تنظيرات المعاصرين مثل السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ مرتضى مطهري، والإمام الخميني، تدلِّل بوضوح أن مرجعية تشخيص المصلحة واتخاذ القرار عملية منوطة بالقيادة الشرعية. لكن لما كانت دائرة ممارسة المصلحة وإصدار القرارات على ضوئها تمتد إلى الأفق الاجتماعي بأبعاده السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والقضائية المعقدة والمتداخلة، فمن غير المنطقي أن تبقى عملية التشخيص، ومن ثم القرار الحكومي نفسه مناطة بشخص واحد.
هكذا تتجه هذه النقطة لبناء آلية مؤسسية في التشخيص وإصدار القرار. وحيث نتحدث عن تجربة الحكم في إيران، فإن الإمام الخميني قد أوكل هذه المهمة إلى مجلس الشورى الإسلامي مرة، ثم عاد ليقترح لها جهازاً متخصصاً أنشئ على عهد الإمام تحت عنوان «مجلس تشخيص المصلحة»، ثم اكتسب موقعه في الدستور أثناء التعديلات الدستورية عام 1989 ، وهو اليوم الجهة المختصة دستورياً بتشخيص المصالح العليا في البلد.
يضم المجلس حالياً (32) عضواً بينهم رؤساء السلطات الثلاث، والفقهاء الستة في مجلس الرقابة على الدستور، وعدد كبير من المسؤولين وذوي الرأي والخبرة من كافة الخطوط والاتجاهات، مما يعطي هذا المجلس تراكماً ملحوظاً في الخبرة، يقلل من احتمال الخطأ ويزيد من الصواب.
بودي قبل أن أختم هذه الفقرة أن أقدم ترجمة لنصين للإمام الخميني، يكشف الأول وعلى نحو مكثّف عن الصلاحيات التي يتمتع بها الحاكم الإسلامي في سنّ القوانين، وممارسة التشريع في إطار مقتضيات المصلحة وضروراتها، في حين يرتبط الثاني بنص الأمر الذي أصدره سماحته لتأسيس مجلس خاص لتشخيص مصلحة النظام.
يقول في النص الأول: «يستطيع الحاكم الإسلامي أن يتصرف في الموضوعات، على ضوء المصالح العامة للمسلمين، أو وفق مصالح الأفراد المنضوين في دائرة حكومته. هذه الصلاحية في التصرف لا تعد استبداداً بالرأي مطلقاً، بل المنظور فيها هو مصلحة الإسلام والمسلمين. فإذاً فكر حاكم المجتمع الإسلامي هو أيضاً كله تابع لمصالح الإسلام والمسلمين».[44]
بتأريخ 6 شباط 1987 أصدر الإمام الخميني قراره بتأسيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، وكان مما جاء فيه، قوله: «وإن كنت أعتقد أنه وبعد طيّ هذه المراحل لاحاجة لهذه المرحلة، لأن الرأي الذي ينتهي إليه المختصون هو المرجع في هذه الأمور، لكن من أجل التمسك بالحالة القصوى من الاحتياط ، عندما يبرز خلاف بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء ولا يحصل التوافق بينهما شرعاً وقانوناً، فإنه يُصار إلى تأسيس مجمع لتشخيص مصلحة النظام الإسلامي يتألف من فقهاء مجلس حماية الدستور [ستة فقهاء] المحترمين، وحضرات حجج الإسلام خامنئي، هاشمي، أردبيلي، توسلي، موسوي خوئينيها، وجناب السيد مير حسين الموسوي والوزير ذي الصلة بالموضوع.
وفي حال الضرورة يتم استدعاء خبراء آخرين، ثم يُصار بعد استنفاد ضروب المشورة اللازمة، إلى العمل برأي أكثرية الأعضاء الحاضرين... وينبغي لحضرات السادة أن ينتبهوا إلى أن مصلحة النظام هي من الأمور المهمة التي تؤدي الغفلة عنها أحياناً إلى انكسار الإسلام العزيز أحياناً... وإن مصلحة النظام والناس هي من الأمور المهمة التي ربما أدت مقاومتها وتعويقها إلى إثارة الأسئلة الآن وفي المستقبل حيال إسلام المستضعفين، ومن ثم تفضي إلى انتصار إسلام المستكبرين والمتكبرين الأمريكي الذي يحظى بدعم مليارات الدولارت، من قبل أياديه الداخلية والخارجية».[45]
(6) المنحى المقاصدي ومنعطف الثمانينيات
لا ريب أن المنحى المقاصدي يشمل جوانب التشريع كافة ولا يختص ببعد بعينه سواء أدرك العقل الإنساني هذه المقاصد أم جهلها، لكنه لا شك أوضح في البعد الذي يرتبط بالأحكام الاجتماعية سواء اكتسبت لوناً اقتصادياً أم ثقافياً أم سياسياً أم عسكرياً، أو تحركت على الصعيد الداخلي لمجتمع المسلمين أو على صعيد العلاقات الإقليميّة والدولية التي تربط هذا المجتمع ودولته مع محيطه الإقليمي والدولي.
السؤال: لماذا تخلّف الفقه الشيعي عن المنحى المقاصدي الذي برز بشكل أوضح في الفقه السني؟ يعود ذلك ببساطة إلى واقعين مترابطين، هما:
الأوّل: الحساسية التاريخية ذات البعد المعرفي: عاش فقهاء الشيعة حساسية تاريخية من المصطلح أملاها الخوف من التسيّب الفقهي والميوعة في الشريعة. ومن ثم فهذه الحالة ليست من نمط الحساسيات النفسية والمزاجية التي لا تقوم على ضابطة ولا تصدر من منشأ عقلاني معتد به، بل أملتها مناشئ عقلانية بينة في الخوف على الشرع وحماية الفقه الإسلامي من الميوعة والأمزجة الكيفية.
لقد وقفت المرجعية العلمية للتشيع متمثلة بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحذّر منذ اللحظة الأولى من الانسياق وراء هذه النزعات التي نمت في الممارسة الفقهية السنية من خلال عناوين المصلحة ومقاصد الشريعة، ثم ما صار إليه التنظير الفقهي في هذه المدرسة من تسويغ حجية المصالح المرسلة على أسس عريضة من الصعب ضبطها، مثل سيرة الصحابة ومقولة تناهي النصوص، وعدم تناهي الحوادث، وأدلة نفي الحرج ونفي الضرر وغير ذلك.
هكذا يمكن أن نعيد هذه الحساسية إلى عنصر موضوعي يتمثل برفض منهج الاستنباط الفقهي القائم على أساس المصالح المرسلة وتضخيم هذه المصالح في الممارسة الفقهية، وذلك باتخاذ موقف سلبي من الأسس والمرتكزات المعرفية لهذا المنهج الذي يحصر النصوص الشرعية بالكتاب والسنة النبوية ويسقط حجية نصوص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليلجأ في المقابل إلى سيرة الصحابة ونصوصهم[46].
فالإشكال إذاً معرفي منهجي أدى إلى خلق حساسية من هذه الممارسة، بالأخص مع التطرف الشديد الذي لجأت إليه بعض اتجاهات فقه المصلحة وفقه المقاصد في المدرسة السنية وجاء فقه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يحذر منها ويحمل على مرتكزاتها المعرفية وأصولها التي تستند إليها لاسيما مع الميل المفرط إلى الأقيسة والاستحسانات.
الثاني: الابتعاد عن الحكم: من يرجع إلى فقه المصالح المرسلة في المدرسة السنية يسهل عليه أن يلحظ - وربما بالإجماع - استثناء العبادات من هذه الدائرة إذ لا مجال للمصلحة في العبادات.
لهذا ربما كان المجال الحيوي الذي سمح بظهور فقه المصالح ونموها هو المجال الاجتماعي والسياسي. بمعنى أن متطلبات الواقع الاجتماعي للمسلمين وضرورات الكيان السياسي هي التي أملت على العقل الفقهي أن يتحرك صوب هذا النمط من التنظير الفقهي.
وإذ نعرف أن التيار السني في الحياة الإسلامية هو الزى تسنم في الأغلب قيادة الدولة وإدارة شؤون الاجتماع السياسي، فقد صار من الطبيعي أن يزدهر فقه المصالح والمنحى المقاصدي في هذه المدرسة بحكم ضرورات الواقع.
من جهة أخرى كان من الطبيعي أن يضمر هذا الاتجاه في الفقه الشيعي بحكم ابتعاد الشيعة عن موضوعه بإبعادهم عن الحكم وإقصائهم المبكر عن دائرة إدارة الاجتماع السياسي.
ربما كان الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت: 2001 م) ينبّه إلى هذه النقطة وهو يجيب عن سؤال يرتبط بضمور المنحى المقاصدي في الفقه الشيعي، حين قال: «أعتقد أن السبب في تقصير الفكر الشيعي الفقهي والأصولي عن ولوج هذا الحقل في مجالات الاستنباط، بينما كان موضع اهتمام كبير من المذاهب الأخرى بحيث يعتبر أحد أركان منهج الاستنباط في المناهج الأخرى، هو سبب تأريخي وليس فكرياً... فالفقيه الشيعي لأسباب تتعلق بالوضع السياسي انعزل عن السلطة وعن المجتمع العام وعن قضايا علاقة المجتمع والإنسان بالسلطة». على الأساس ذاته يعود ليسجّل بأن تفتح هذا المنحى هو أحد «الآثار الإيجابية التي أنتجتها محاولات تطبيق الشريعة في إيران وبعض البلاد الإسلامية العربية وغيرها».[47]
بديهي الحديث هنا عن المنحى المقاصدي لا عن منهجه، وإلاّ فإن التسليم بهذا المنحى لا يعني شيعياً التسليم بمنهجه كما أفرزته الممارسة السنية، إذ ما تزال أغلب العناصر النقدية في محلها، ولا يزال هناك مسعىً حثيث عند الشيعة لصياغة منهج يتخلص من مزالق المنهج التاريخي الموروث، كما ستأتي الإشارة.
منعطف الثمانينيات
مع الثمانينيات تغيّر مسرح العمليات بالكامل وتبدل المشهد بتمامه أو كاد. فقد أصبح الفقه الشيعي وجهاً لوجه مع قضايا الدولة والمجتمع والشؤون الثقافية والاقتصادية والعسكرية ومتطلبات السياسة الداخلية والخارجية على مستوى دولة بحجم إيران راحت تجرب حظها مع التطبيق الإسلامي على وفق فقه أهل البيت عليهم السلام.
لم تكن المهمة سهلة ولن تكون، وإذا أردنا أن نقصر النظرة على الجانب الفقهي، فما يلحظ أن التجربة واجهت صعوبات جمة بل معضلات عويصة في المساحة التي يفترض أن تكون منطقة قوتها. فالثورة ثورة علماء الدين وقد انتصرت على يد فقيه كبير من وزن الإمام الخميني، لكن مع ذلك واجه التطبيق الإسلامي أحد أبرز مشكلاته مع الفقه تحديداً، حتى أعلن الإمام الخميني الراحل بصراحة لا يشوبها لبس، أن الفقه المتداول في الحوزات ليس بمقدوره أن يستجيب لمتطالبات الواقع إلى التفقيه.
كثيرة هي الخطوات التي سعت إلى علاج أزمة التفقيه منها ما هو مؤقت كاللجوء إلى الأحكام الثانوية وتفعيلها إلى جوار الأحكام الأولية أو التوسل بصلاحيات ولي الأمر في إطار ما أطلق عليه بالأحكام الحكومية ثم اللجوء إلى تأسيس مجلس من علية الخبراء عرف بمجلس تشخيص مصلحة النظام كما سلفت الإشارة لذلك. ما يعنينا أن تأسيس هذا المجلس كان إشارة كافية إلى انتهاء عصر قطيعة الفقه الشيعي لفقه المصلحة والضرورة وجنوحه بهذا القدر وذلك صوب المنحى المقاصدي الذي شهد تنامياً لا تخطئه العين.
أما على الصعيد الثابت فقد اتجهت الجهود لإعادة النظر في أصول عملية الاستنباط ومنهجية العقل الاجتهادي. ولقد كانت دعوة الإمام الخميني الراحل إلى رعاية المكان والزمان في ممارسة الاستنباط، وأخذ مصلحة النظام والضرورات الناشئة عن هذه المصلحة بنظر الاعتبار، هي المفتاح الذي فتح باب المراجعة والدراسة والنقد على مصراعيه، مما أدى إلى أن تشهد الساحة إثر ذلك عدداً مهماً من الدراسات والندوات خرجت بحصيلة ثرية لم يعرفها الفقه الشيعي قبل هذه البرهة باستثناء إشارات طفيفة يمكن تلمسها في هذا الأثر الفقهي أو ذاك.
هل يعني توجه الفقه الشيعي إلى المصالح والمقاصد تخلّيه بالكامل عن معارضته لهذا المنحى في المدرسة السنية؟ ليس الأمر كذلك. فالإشكال المنهجي ما يزال في مكانه، كما أن الممارسة هنا تسير ببطء وحذر خشية أن تخترم الحدود المعرفية بين الذي يجوز ولا يجوز، ومن ثم فإنّ بذور فقه المصالح في هذه التجربة الجديدة لم تؤد إلى خلط منهجي. بمثال واضح: إن أخذ الممارسة التشريعية لعنوان المصلحة بنظر الاعتبار لم يعط الشرعية - مثلاً - لسيرة الصحابة أو للقياس والاستحسان كي تتحول إلى مصدر في الاستنباط، كما أنها لم ترفع اليد مثلاً عن سنة أئمة اهل البيت (عليهم السلام) كمصدر من مصادر الاستنباط، وهكذا، فما يزال هناك تمايز منهجي ومعرفي بين الأسلوبين، وما تزال الجهود تبذل لتشييد أصول ومرتكزات واضحة ومشروعة وسديدة لتوجيه الممارسة الجديدة، بما يجعلها تطويراً في المدرسة لا انقلاباً على أصولها. وإن كنا لا نعدم وجود بعض الأصوات النقدية التي هي وإن لم تبد خوفاً لهذا الجانب، إلا أنها راحت لا تخفي خشيتها من أن يدفع التوجه المتزايد لفقه المصلحة إلى عرفنة الفقه وفقدانه من ثم للطابع الديني.
بحسب متابعتي للموضوع، يبدو أن مخاوف «العرفنة» وإخراج الفقه من طابعه الديني إلى الطابع المدني الوضعي، هي أحرى بالعناية والاهتمام، من تلك التي تزعم أن توجه الفقه الشيعي صوب المصالح يعني انقلابه على أصوله وتنكره لمرتكزاته ومواقفه التاريخية العريقة من هذه الممارسة.
السبب في ذلك أن العقل الفقهي الشيعي مزوّد بما يكفيه من الحساسية المتراكمة عبر القرون، لكي يكون على حذر من الانقلاب على أصوله، ومن ثم فإن هذه الحساسية تمثل للممارسة الفقهية حصانة تعصمه من الانزلاق على الأغلب. وذلك بعكس «العرفنة» التي تتسرب إلى البنيان الفقهي رويداً رويداً، وتتسلل فيه على بطء، فتندمج في بنيانه حتى لكونها جزء منه، مما يعقد العملية كثيراً ويتطلب جهوداً عظيمة للحفاظ على الأصالة والنقاء الديني والاستجابة إلى ضرورات التجديد ومتطلبات الواقع الحاضر في الوقت ذاته.
على ضوء هذه الملاحظات والأفكار جاء ما قدّمناه في هذه الدراسة من إثارات ونقاط حيال عنوان المصلحة وموقعه في الممارسة الحكومية القانونية في نطاق التجربة الحاضرة في إيران.

[1] صحيفة نور، ج15، ص188، بالفارسية.
[2] ينظر مثلاً: تاج العروس، الزبيدي، طبعة دار الحكمة، ج 8، ص 252. كذلك: الصحاح، الجوهري، طبعة دار العلم للملايين، ج 54 ، ص 1901.
[3] ينظر في بعضها: الأصول العامة للفقه المقارن: مدخل إلى دراسة الفقه المقارن، محمد تقي الحكيم، طبعة دار الأندلس، ص 55 فما بعد.
[4] دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر، طبعة دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري، ج 1 ، ص 65 ، 66 .
[5] الأصول العامة للفقه المقارن، ص 57 - 73 .
[6] دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، ج 1 ، ص 21 فما بعد.
[7] الأصول العامة للفقه المقارن، ص 74 فما بعد، وقد أوضح أن لمصطلح الحكم في هذا التقسيم معنيين.
[8] الأصول العامة للفقه المقارن، ص 73 .
[9] ملاكات أحكام وأحكام حكومتي، مجموعة مقالات، الآثار الكاملة لمؤتمر دور الزمان والمكان في المباني الفقهية للإمام الخميني، منشورات مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ج 7 ، ص 222 ، 430 ، بالفارسية.
[10] راهبرد، فصلية تصدر عن مركز الدراسات، العدد 4 ، طهران، خريف 1994، ص 65.
[11] مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة جواد علي كسار، ط 2، مؤسسة أم القرى، ص 168 ، 170 .
[12] المصدر السابق، ص 112 .
[13] مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، ص 113 - 114 .
[14] المصدر السابق، ص 113 .
[15] مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، ص 114 .
[16] المصدر السابق ص 116 .
[17] مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، ص 168 ، 170 ، 114 .
[18] انظر: ملاكات أحكام وأحكام حكومتي، مجموعة دراسات، مصدر سابق، ص 248 ، 268 ومواضع أخرى.
[19] ينظر: المصدر السابق، دراسة علي محامد المعنونة: تبيين مفهومي للأحكام الأولية والثانوية والأحكام الحكومتية من منظور فقهاء الشيعة، ص 443 - 446 بالفارسية.
[20] المصدر السابق، ص 446 - 447 .
[21] جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام، محمد حسين النجفي، طبعة دار إحياء التراث العربي، ج 40 ، ص 100 .
[22] ينظر: ملاكات أحكام وأحكام حكومتي، مصدر سابق، ص 220 - 221 ، 267 - 373 - 374 ، 376 ، 442 ، 447 - 449 وربما مواضع أخرى فاتني تقصيها.
[23] ينظر توضيح الشهيد الصدر لهذا المشروع وخطوطه، في: اقتصادنا، طبعة مجمع الشهيد الصدر، ص 27 مقدمة الطبعة الأولى.
[24] ينظر في هذا التمييز: اقتصادنا، ص 400 - 401 .
[25] اقتصادنا، ص 402 .
[26] هناك فصل في اقتصادنا يحمل عنوان: مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي، ص 695 - 728 . لكن هناك أفكار وتطبيقات أخرى للمفهوم مبثوثة على مدّ صفحات الجزء الثاني من الكتاب تصلح موضوعاً لدراسة مستقلة في هذا الشأن.
[27] اقتصادنا، ص 721 .
[28] المصدر السابق، ص 721 .
[29] اقتصادنا، ص 726 .
[30] اقتصادنا، ص 414 .
[31] اقتصادنا، ص 510 .
[32] اقتصادنا، ص 711 .
[33] الإسلام يقود الحياة، الشهيد محمد باقر الصدر، طبعة وزارة الإرشاد في الجمهورية الإسلامية، الحلقة الثانية، ص 21 - 54 والحلقة الثالثة، ص 55 - 126 .
[34] الإسلام يقود الحياة، الحلقة الأولى، ص 10 - 12 .
[35] احكام حكومتى در تحليل دكتر أبو القاسم كرجي (الأحكام الحكومتية في رؤية الدكتور كرجي، صحيفة جمهوري إسلامي، العدد المؤرخ 10 / ج 2 / 1418 ه- ، بالفارسية.
[36] صحيفة جمهوري إسلامي، مصدر سابق. أيضاً: جايگاه عقل در استنباط أحكام اجتماعي وحكومتي (دور العقل في استنباط الأحكام الاجتماعية والحكومتية) د. ابوالقاسم كرجي، دورية «انديشه حكومت» (فكر الحكومة)، العدد 8 ، ص 47 فما بعد، بالفارسية.
[37] ينظر كمثال: ملاكات احكام واحكام حكومتي، مصدر سابق، ص 221 ، 269 ومواضع أخرى كثيرة. كذلك يلحظ ما ذكره الطباطبائي والصدر وكرجي في كتاباتهم التي أحلنا إليها آنفا.
[38] ملاكات أحكام وأحكام حكومتي، ص 377 .
[39] المصدر السابق، ص 248 - 249 .
[40] قانون گذاري در حكومت إسلامي (التقنين في الحكومة الإسلامية) ، محمد منصور نزاد، فصلية حكومت إسلامي، العدد 7 ، ربيع 1998 ، ص 106 - 107 .
[41] ينظر في هذه الفروقات: ملاكات أحكام وأحكام حكومتي، مصدر سابق، ص 249 - 251، 271 . أيضاً: حكومت إسلامي، مدر سابق، ص 108 - 109 حيث توفر الباحث على ذكر سبعة فروق.
[42] فصلية حكومت إسلامي، العدد، 7 ، ص 109 - 110 .
[43] ينظر في هذه العناصر الثلاثة: فصلية راهبرد، العدد 4 ، خريف 1994 ، ص 74 - 79 .
[44] شئون واختيارات ولي فقيه (شؤون الولي الفقيه وصلاحياته)، الإمام الخميني، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران 1986 ، ص 66 .
[45] صحيفه نور (صحيفة النور) ، الإمام الخميني، طبعة منظمة الوثائق الثقافية للثورة الإسلامية، ج 20 ، ص 176 .
[46] ينظر في مناقشة هذه العناصر: الأصول العامة للفقه المقارن، مصدر سابق، ص303 - 415 ومواضع أخرى أيضاً لاسيما عند مناقشة القياس.
[47] الاجتهاد والحياة، حوار وإعداد: محمد الحسيني، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الثانية، ص24.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية