مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الشورى ومرجعية التقنين
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي


إذا آمنا بضرورة أن يكون الشخص الموحد موحداً أيضاً في الربوبية التشريعية، بمعنى أن حق التقنين، خاص بالله المتعال أصالة. فكيف ينسجم هذا النوع من التفكير مع حاجة المجتمعات المختلفة - من جملتها المسلمين - إلى التقنين بشكلٍ دائم؟
ففي بلدنا تم البناء على أن الدستور يقوم على قاعدة الإسلام والقرآن، ومع ذلك يوجد جهاز للتشريع يجتمع فيه ممثلو الأمّة ويسنون القانون. وقلنا إننا نحتاج إلى أشخاص إما لكي يفسروا قوانين الكتاب والسنة أو ليضعوا القوانين الجزئية والخاصة على أساس الأصول الموجودة في الكتاب والسنة. أما بدون هذين العملين فلا ترتفع حاجة المجتمع إلى القانون. وقلنا إننا لا نستطيع أن نستنبط جميع القوانين من الكتاب والسنة بشكل قطعي ويقيني، لأنه وإن كان هناك الكثير من القوانين والأحكام تستنبط بشكل قطعي من القرآن والسنة ولكن توجد بعض الأحكام لا يمكن أخذها من المنابع بشكل قاطع، وهنا عندما يظهر اختلاف الرأي بين الفقهاء، فماذا يجب العمل في هذه الموارد؟
وعندما تكون الأحكام ضرورية وقطعية لا يكون هناك حاجة للتقليد كما هو المشهور بين الفقهاء. ولكن في الأحكام الظنية, يجب على الأشخاص غير المجتهدين، أن يقلدوا المجتهد من باب رجوع الجاهل إلى العالم. وفي المسائل الفردية، لن يكون هناك مشكلة، وإن اختلف المجتهدون، واختلف تشخيص الأشخاص بالنسبة إلى الأعلم. افرضوا أنه يوجد مجتهدين عدة في الحوزات العلمية، حيث يعتبر البعض الشخص «أ» أعلم، والبعض الشخص «ب»، ومجموعة الشخص «ج»، فإذا عملت كل من هذه المجموعات الثلاث في المسائل الفردية كل وفق تشخيصه للأعلم فلا مشكلة بأن يقرأوا مثلاً التسبيحات الأربعة ثلاث مرات أو مرة واحدة، أو يقصروا الصلاة في بعض الموارد أو يتموها. أما في المسائل الإجتماعية، فعندما يكون هناك اختلاف في الفتوى و يريد كل شخص أن يعمل بحسب فتوى مجتهده، فإن أمور المجتمع تختلط ببعضها، ففي باب القضاء تتعلق الأموال بشخص بحسب فتوى مجتهد. وبشخص آخر وفقاً لفتوى المجتهد الثاني، فهنا ما العمل؟
فإذا عمل كل منهما وفقاً لفتوى مجتهده، فسيرى كل منهما أن المال له، وسيكون هذا باعثاً على إيجاد النزاع والتخاصم. وبالتالي، ولعلاج هذه المشكلة، يجب على كل الناس الذين يعيشون في ذلك المجتمع، ويريدون أن يتبعوا في المسائل الاجتماعية، القوانين الإلهية. أن يرجعوا إلى مجتهد واحد في المواقع التي لا يوجد فيها قوانين قطعية ويقينية.
وهذا النوع من الحاجة هو الذي يمكن تسميته تقنيناً. وهو تعبير صحيح، لكن الأفضل، أن نسمي هذا العمل تفسير القانون لا التقنين، لأن فتوى المجتهد في هكذا مورد هي في الواقع تفسير للآيات والروايات التي جعلت مورداً للإستدلال.
ولكن ينبغي أن يعلم، أن الحاجة إلى مفسر القانون، أو المقنن لا تنحصر في هذا المورد، بل هناك موارد أخرى، موضوعها من الأساس جديد وحديث الظهور، وهي المسائل المستحدثة التي لم تكن في الماضي مورداً للإبتلاء، حتى يصل حكمها عن الرسول والإمام، وهي اليوم مورد لحاجة المجتمع. بل تحدث موضوعات أصلاً لم تطرح سابقاً، لأن موضوعات الأحكام الإجتماعية هي غالباً أحكام اعتبارية، وهذه الإعتبارات قابلة للتغيير، فاليوم توجد أشياء لم تكن موجودة في السابق أصلاً. مثل: عقد التأمين، والسرقفلية (الخلو)، والقوانين الدولية المرتبطة بالفضاء، أو البحار.. والتي لم تطرح في السابق، ولم يسبق أن سئل عنها. فاليوم وبعدما حدثت هذه الموضوعات، يجب أن يعلم حكمها. فمن يحدد هذا الحكم؟
في النهاية، يجب أن يكون هناك مرجع، يفرع على أساس القواعد الكلية التي وصلت إليه من الكتاب والسنة، ويستنبط المسائل الجزئية من تلك الكليات.
وضع القوانين بناء على الأصول اللامتغيرة
تعلمون أن القوانين المبنية على الأصول اللامتغيرة ثابتة ولا تتغير أبداً، وكل شيء كان مورداً للحاجة، فقد بُيِّن على الأقل بصورة قواعد كلية.
ولكن هذا لا يعني، أنه تم تبيان أحكام كل الموضوعات في الآيات، أو الروايات، بشكل دقيق وكامل. ففي هذه الموارد، يجب أن يكون هناك خبراء في الدين، وفي المسائل الفقهية تحديداً، وأن يكون لديهم «حساً فقهياً»، وقد تعمقوا كثيراً في الآيات والروايات والأحكام بحيث أصبح لديهم سليقة المشروع الإسلامي؛ ليستنبطوا على أساس تلك القواعد التي وصلت إليهم من الكتاب والسنة، أحكام الموضوعات الحديثة الظهور للناس.
ويوجد موارد أخرى أيضاً، نحتاج فيها إلى مرجع يصدر الأحكام بشكل دقيق ويأمر وينهى، وعلى الناس أن يعملوا بأوامره. مثلاً في مسائل قوانين السير والقيادة، إذا كتب الفقيه في رسالته أنه من الواجب أن يقود جميع الناس بكيفية لا تؤدي إلى التصادم وإزهاق أرواح الناس؛ فمثلاً يلزم السير إلى جهة اليمين، أو إلى جهة اليسار حتى لا يقع التصادم. ولتكون الخسائر في الأرواح والأموال أقل. مع الإلتفات إلى أن الحكم الأصلي للإسلام هو حفظ أموال والناس ونفوسهم، فإذا قال الفقيه أنه لا فرق، انتخبوا أحد المسارين. ولم يعين من أي جهة يقودون. فإن كل الناس لا تجتمع مع بعضها، لتتفق من أي جهة تحرك سياراتها، فقد يريد أحدهم، أن يتحرك من جهة اليسار، والآخر من اليمين. وهكذا مما يخلق مشكلات كثيرة. في بعض الموارد هناك طريقان لتحقيق المصلحة والمفسدة، ويجب أن يعين أحدها، فإذا لم يحصل التعيين فإن تلك المفسدة تبقى في مكانها ولا تتحقق مصلحة المجتمع وهذا ما يجب أن يعينه شخص ما. لأنه لم يأت في الكتاب والسنة، أن الناس تتحرك من جهة اليمين، أو من جهة اليسار، فيجب أن يعين ذلك مرجع ما، وعلى الناس أن يطيعوه. فإذا لم يوجد أي مرجع يعين القانون، أو أنه يوجد لكن لا يُعْمَل بأوامره فإن مصلحة المجتمع لا تتحقق وتكون نفوس المسلمين وأموالهم في خطر.
وقد كان هذا مثالاً بسيطاً في خصوص العلاقات الاجتماعية المعاصرة للإنسان، ويوجد العشرات، والمئات من هذه المسائل التي يجب أن توضع خطة معينة لها، يحترمها الجميع ويعمل بها حتى تتأمن مصالح العموم
موضوع وعناوين عدّة
يوجد موارد أخرى أيضاً أشير إليها سابقاً، فأحياناً يكون للموضوع عناوين عدة مختلفة، ويكون لكل من هذه العناوين حكم. وأكثر الأحكام الإجتماعية متعلقة بالعناوين الإعتبارية، مثل الملكية، والزوجية، والرئاسة، و... وهذه العناوين ليست أمراً عينياً ثابتاً بل هي قابلة للتغيير. ويتفق أحياناً أن تجتمع عناوين عدة في مجال واحد، فمثلاً، من الممكن أن تكون الحركة التي يريد أن ينجزها إنسان، مصداقاً لعنوان حكمه الوجوب، وهي من جهة أخرى مصداق لعنوان حكمه هو التحريم كالمثال المعروف: «الدخول إلى الأرض الغصبية لنجاة غريق». وكما لو حصل حادث في الطريق فجرحت نساء وأشرفن على الموت ولا يوجد إمرأة لترفعهن فإذا لم يأت الرجل ليرفعهن ويأخذهن إلى المستشفى، فإنهن سوف يمتن، فمن جهة لا يجوز لمس بدنٍ غير المحرم، ومن جهة أخرى فإن إنقاذ حياة المسلم واجب، فماذا نفعل؟
القاعدة الكلية أنه يجب أن نرى ما هي المصلحة الأهم، لكن كيف يشخص الأهم؟
قد يكون الأهم أحياناً بشكل يفهمه كل العقلاء، ولكن في بعض الأحيان، قد يُشْكِل الأمر، ولا يعلم أن هذا الحكم هو في نظر المشرع أهم وليس ذاك؟
هنا أيضاً يجب الرجوع إلى مرجع خبير بالدين ويعلم المصالح والمفاسد. ويكون له ذوق شرعي «وحس فقهي» حتى يستنبط من البيانات المختلفة الدينية، وأحياناً بمساعدة العقل، أَيَّ العملين هو الأهم. وكذلك هناك موارد تتزاحم فيها العناوين إلى درجة لا يستطيع إلا من له خبرة ودقة في النظر، أن يستنبط بشكل صحيح فما العمل في مثل هذه الموارد؟ وهل رضى الله هو في ترك هذا العمل أو في القيام به؟
طبعاً يمكن أن تجمع وتشخص هذه العناوين وتكتب في الرسالة العملية.
إعمال الولاية: عامل حفظ الوحدة
يحدث أحياناً وقوع الإختلاف في التطبيق، حتى لو كتبت هذه العناوين في الرسائل العلمية. فالبعض يرى أن هذا هو الراجح، والبعض يرى أن ذاك هو الراجح. تظن جماعة أن المصداق هو هذا العنوان، وجماعة أخرى، أن المصداق هو ذاك العنوان. ومع بروز هذا الإختلاف، تفقد تلك المصلحة التي يجب أن ينالها كل المجتمع بالتعاون والوحدة.
فنحن هنا نحتاج إلى شيء آخر، غير الإجتهاد، والفقاهة، والإفتاء. وهو إعمال الولاية، بهذا المعنى إن الفقيه يجب أن يحكم ويأمر، أن قوموا بهذا العمل حتماً لأنه إذا لم يأمر فمن الممكن أن يكوللفقهاء الآخرين رأياً آخراً. أو يختلف الناس مع بعضهم في تشخيص المورد، مما يؤدي إلى إضعاف مصلحة المجتمع.
افرضوا أن الوطن الإسلامي - لا قدر الله - تعرض لهجوم العدو من جهتين، فمن الواضح أنه يجب الدفاع، ولا يختلف فيه شخصان، ولا يحتاج إلى التقليد أيضاً، لأنه مسألة ضرورية، لكن كيف نحارب؟! من طريق البحر، أو الجو، أو الأرض؟ بالمشاة، بالمدرعات؟ بالأسلحة الخفيفة، بالصواريخ، بالقذائف؟ كيفية الحرب؟ تكنيك وتكتيك الحرب؟ اختيار محل الحرب؟ زمان الهجوم؟ و...؟ أمور ليست محل الإتفاق دائماً، فقيادات الحرب تختلف أيضاً أحياناً في الرأي. فيجب أن يكون هناك مرجعية تعين هذه الأمور، وتصدر الأوامر بشكل قاطع، رغم وقوع الخطأ في بعض الأحيان. لأنه في هذه الموارد وإن حصل الإشتباه، فإنه أفضل من تلك التفرقة. فطرح خطة لإدارة العمليات ولو كانت خاطئة، أفضل من ألا يكون هناك إدارة عسكرية، ولا يكون قادة.
يجب أن يكون هناك مرجعية يسمع الناس كلامها ويطيعونها، وإلا فإن مصالح المجتمع الإسلامي لا تتحقق، وعندما تكون المسائل فورية ويومية، يجب أن يتم حسمها بشكل سريع، حيث إن هذا الأمر من وظائف الحاكم، القائد العام، السلطة التنفيذية، أو المؤسسات المماثلة.
ولكن أحياناً يجب أن تتخذ الخطة بشكل طويل نسبياً، ولا تكون المسألة مسألة اليوم وغداً.
افرضوا أننا نريد أن نعد برنامجاً للتنمية الإقتصادية فإنه لا يمكن التقدم بدون البرنامج، فإذا لم تكن هناك خطة مبرمجة، وعمل كل حسب رغبته، فقد برهن عقل البشر، والتجربة أيضاً، على أن هذا العمل لن يكون في صلاح الناس، ولن يطول الوقت، حتى يكون اقتصاد البلد عرضة للأزمة، ويرتبط بالنتيجة بالأنظمة الإقتصادية الخارجية، وتسحق بالنهاية عزة البلد واستقلاله الإقتصادي، فيجب التخطيط حتماً. أما ما هي حدود التخطيط؟ وأي المسائل يشمل؟ فيتم بحثه في مكان آخر.
ما نريد قوله هنا أن التخطيط الإقتصادي لازم من أجل الإدارة الصحيحة للمجتمع، فمثلاً، يجب أن نعلم كم نحتاج من الطاقة الكهربائية، في السنوات العشر القادمة؟ ما هي الحاجات الزراعية للبلد؟ وما هي المحاصيل التي يجب أن تؤمن في البلد حتى يصل نفعها إلى المجتمع؟ ما هي المحاصيل التي نستطيع أن نستوردها من الخارج؟ أي الصناعات يجب أن نقوي؟
هذه مسائل يجب أن يفكر فيها ويتخذ القرار بشأنها،وليست أموراً بنت ساعتها، فلا بد أن يجتمع المتخصصون المختلفون وأن يعدوا خطة لخمس سنوات، أو لعشر سنوات، أقل أو أكثر على اساس القواعد، والأصول الإسلامية. فهنا على الفقيه أن يراجع ويشاور الأشخاص المتخصصين في هذا الجانب من المسائل، لأنه وإن كان له كل قدر من الإحاطة العلمية لكنه ليس متخصصاً في كل المسائل.
وفي الرؤية الإسلامية، إن مجلس الشورى أو مجلس التقنين هو إطار شورى القائد، أي إن المتخصصين في كل قسم يدرسون المسائل، ويبدون رأيهم. فإذا عمل بهذه الكيفية، فإن مصلحة المجتمع تتأمن بشكل أفضل، وعلى أساس القواعد الفقهية التي يقيّمها ويمضيها الفقيه. وهذه هي فلسفة وجود مجلس الشورى، في النظام الإسلامي.
شورى التقنين
التشاور مع المتخصصين، وأصحاب الرأي في كل المجالات الفردية، والإجتماعية، هو أصل كلي ومهم قد أُكِّد كثيراً في القرآن الكريم، والروايات. وقد أقر القرآن مسألة الشورى، والمشورة، في الآيتين الشريفتين، الأولى ?وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ?([1]). والأخرى ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ?([2]). والتي هي آيات معروفة، وقد بحثت عشرات المرات، فلا تحتاج إلى التوضيح. وأصل الشورى أصل عقلائي، قد أقره الشارع المقدس في الإسلام. لكن كيف تتم هذه الشورى؟ وأي الأفراد يشتركون فيها؟ فهي مسائل لم يعط الإسلام أمراً خاصاً بالنسبة إليها، كما أنه ليس للعقل حكم قطعي صريح في هذا المورد.
المقصود من الشورى هو: أن يجتمع أصحاب الرأي ليطرحوا المواضيع ويتبادلوا الرأي حولها حتى يتضح الحق إلى أقصى درجة ممكنة. وبعد البحث والدراسات، يجب أن يتخذ القرار شخص معين، أو جمع الشورى. وإلا فتكون الشورى دون نتيجة، ولن يكون لها ثمرة. الآية القرآنية توضح هذا المطلب أنه: ?فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ?([3]).
وعلى كل حال، فإن نفس الشورى أمر عقلي، وقد أيّدها الشارع المقدس أيضاً، أما كيفيتها، فترتبط بشرائط المكان والزمان، فمثلاً قد كان يوجد في الماضي والحاضر عرف عند الفقهاء، أنه عادةً يجتمع أصحاب الرأي معاً بعنوان أصحاب الفتوى والاستفتاء، ويجلسون، ويتباحثون، ويتبادلون الآراء في موضوعات معينة، ويحضر في هذه المباحث الفقيه الأعلم نفسه، أو يوصلوا نتيجة المباحثات إليه، وبعد هذه المشاورات والمباحثات يبدي هذا الفقيه رأيه.
إذا كان الموضوع مرتبطاً أحياناً بالمسائل الإجتماعية فيدعى المتخصصون الذين لهم علاقة بالموضوع.
لنفترض أن مرجعاً في مدينة، أو بلد ما يريد أن يصدر حكماً في أمر إجتماعي، فهو يدعو مجموعة من أصحاب الرأي فيشاورهم ثم يتخذ القرار المناسب.
ومن المسلم، أن هذا الأسلوب ليس مخالفاً للعقل، أو القرآن، ولكن مع إتساع، وتعقد العلاقات الاجتماعية، تبلورت الحاجة إلى أن تحل المسائل، وتفصل بشكل أكثر تنظيماً ووضوحاً. في صدر الإسلام كان في عهدة الرسول الأكرم(ص) مثل إمامة الجماعة، والوعظ، والخطابة والقضاء وقيادة الحرب ومساعدة الفقراء و... لكن بعد الرسول(ص) ومع اتساع النفوذ الإسلامي، فقد بعث حاكم إلى كل منطقة.
وقد عُيِّن في كل ولاية قاضٍ، وعين أشخاص لتعليم القرآن، وأُوكل البريد والمشاغل الأخرى إلى أفراد عديدين، فكان أحدهم حارساً على بيت المال، والآخر محاسباً وصاحب الديوان، وهكذا بدأ تقسيم العمل، وظهرت الأعمال بصورة منظمة.
خبراء تعيين المراجع
ولكي نقلد مرجعاً ما، يكفي أن يشهد شخصان مجتهدان عادلان بأعلميته حتى نقلده. وإذا تعارضت هذه البينة مع بينة أخرى فنأخذ بالبينة الأقوى. ولكن عندما لا يكون الفقيه الأعلم محدداً بصورة واضحة وبينة، ولكن يوجد فقهاء مشخصون من أصحاب الرأي، قد اختارهم الخبراء، ثم ينتخب واحدٌ منهم، فمن المسلم أن هذا في مصلحة المجتمع.
في الماضي كان الفقهاء لا يطلعون على وضع بعضهم بسبب عدم وجود وسائل الإرتباط السريع، فقيه في هذه المدينة وفقيه آخر في تلك المدينة، لا يستطيعان لسنوات أن يتصلا ببعضهما، وأحياناً لا يكونان أصلاً مطلعين على فتاوى بعضهما.
لكن اليوم، حيث إن الرسائل والكتب الفقهية، في متناول الجميع فيستطيع الخبراء، أن يقيّموا كل الأشخاص الذين هم في مقام المرجعية، ويخبروا الناس بالشخص الذي يحصل على أكثر الآراء ، (أي هو اقتراع وانتخاب منظم، وهذا ليس على خلاف ذلك المنهج السابق لأن ذلك هو في الواقع انتخاب أيضاً ولكنه إنتخاب دون شكل).
أن يجتمع كل الخبراء الذين يعرفون كل المراجع ويعينون مرجعاً فيتضح تكليف كل الناس في هذه الصورة، ليس خلاف الإسلام.
بناءً على هذا، عندما نحتاج إلى الشورى، في المسائل المختلفة بشكل عصري، من أجل مصالح البلد فنعيّن أشخاصاً للمشورة ونوصيهم بأن يحضروا دائماً إلى المجلس وألا يسعوا وراء أعمال أخرى، فهذا ليس خلاف تلك الشورى التي كانت مرسومة في الإسلام بين العقلاء، بل إن هذا هو الشكل الأكثر تنظيماً.
وفي النهاية، فإن الفكر الإنساني قد توصّل إلى هذه النتيجة وهي أن يكون لكل بلد مجلس للشورى، والبلاد الكبيرة التي تتألف من ولايات عدة وحكومتها فدرالية، يمكن أن يكون لكل ولاية مجلس مستقل للتشريع. وفي بلدنا يعمل أيضاً بهذا النظام، وذلك على الرغم من أن هذا النموذج قد أخذناه من الغرب وليس من الإسلام. فقد اقتبس هذا الشكل في الماضي من الغربيين، وهو الآن يستمر على هذا المنوال، لأن المصلحة فعلاً أن يستمر الأسلوب.
طرح جديد لمجلس الشورى
في المستقبل - إن شاء الله - ومع النّمو التدريجي للمجتمع يمكن أن يظهر نموذج أفضل حتى أنه من الممكن أن يقتبسه الآخرون منا. فلماذا نكون دائماً تابعين للآخرين؟ فمن الممكن أن يطرح مثلاً، بأن تجري الإنتخابات بشكل طبيعي ودائم طوال السنة ويعين في كل مجال متخصص فيه.
طبعاً يستطيع أشخاص أن يعينوا المتخصصين، حيث إن لهم خبرة قلت أو كثرت. افرضوا أن ينتخب الأطباء من بينهم أطباء عدة يمتازون بالتخصص العلمي، والتقوى، والأمانة. وكذلك العسكريون، لأنهم يعلمون من هو القائد اللائق، وبهذا الترتيب يعمم هذا الأسلوب للإنتخابات بين كل الصفوف والمستويات فأسلوب الإنتخابات الآن ليس صحيحاً، لأنه ليس للأفراد غالباً معرفة كاملة أو حتى سطحية بالمرشحين، وهم يقعون غالباً تحت تأثير الإعلام. لكن إذا أجريت الإنتخابات في كل فئة، ودائرة من داخلها، فهذا أفضل ويكون لصلاح الناس. وفي هذا الشكل للإنتخابات، سيكون لدينا مجالس عدة للشورى، حيث إن كلاً يبدي رأيه في مجال تخصصه. فأي ضرورة أن يكون لنا مجلس يبدي فيه العطار والبقال رأيَه في الأمور العسكرية؟ ولماذا يجب أن يبدي كل من العامل ومهندس الطرق رأيه في أمور العطارة والبقالة، والمسائل العسكرية التي تطرح في المجلس؟ لمَ يعطي الطبيب والمهندس رأْيَهما في المسائل القضائية فأي قيمة لرأيهم بالنسبة إلى القضاء؟
نستطيع أن نقترح طرحاً للشورى، وهو أن يكون لنا ثلاثون مجلساً، كل مجلس مؤلف من عشرة أعضاء. مكان مجلس بثلاثمائة عضو. مجلس شورى للأمور العسكرية، متشكل من المتخصصين العسكريين. ومجلس آخر للأمور الإقتصادية يكون أعضاؤه من أفضل علماء الإقتصاد في البلد، وكذلك مجلس للأمور الثقافية وهكذا، فهذه المجالس تقترح الطرح الأفضل للأمر الذي هي متخصصة فيه. ولا بد من أن يوقع عليه القائد، حتى يكون له شرعية قانونية؛ لأنه عندما نقول إن القانون يجب أن ينتسب إلى الله فيجب أن يعتبر صحيحاً من الطرف المأذون من قبله (الله) أي القائد (في زماننا) بحسب ولاية الفقيه.
وبهذه الصورة حيث تهيىء مجالس الشورى الطروحات ومع الإلتفات إلى أن أعضاء الشورى هم متخصصون متدينون ومحل ثقة، فإن القائد سيوافقهم على آرائهم، لأنه هو نفسه ليس متخصصاً في كل المجالات، فهم أفضل الأشخاص الذين يستطيعون أن يبرزوا هذا الطرح. هذه الطريقة معتبرة أكثر من ناحية الدليل العقلي وهي ايضاً أكثر توافقاً مع الأصول الإسلامية.
في بداية تشكل الجمهورية الإسلامية، لم يكن هناك مجال لطرح هذه المسائل، بسبب البلاءات الداخلية والخارجية، فقد كانت كل الجهود في ذلك الزمان، مركزة على تثبيت أسس النظام، بشكل أسرع لتتاح الفرصة شيئاً فشيئاً، للتدقيق في المسائل الأخرى.
ولكن الآن، حيث استقر النظام - بحمد الله -. يمكن أن يقترح كمشروع حتى نفكر في المستقبل بتشكيل هكذا مجالس لا مجلس واحد للشورى.
مميزات هذا الطرح:
لهذا الطرح عشرة إلى خمسة عشرة ميزة أكثرها إحكاماً ما يلي:
أولاً: الأفراد الذين ينتخبون يكون لهم صلاحية أكثر لإبداء الرأي.
افرضوا أنه عندما ينتخب علماء جميع البلدان، والمدن عدداً من الفقهاء من بينهم، حتى يبدوا رأيهم بالنسبة إلى المسائل الدينية، والسياسية ليحلوا مشاكل المجتمع، فمن المؤكد أن لهم صلاحية أكثر لإبداء الرأي في المسائل الفقهية، مما لو انتخب أولئك الأشخاصُ، الكاسبَ، والعطارَ، والمزارع، والعامل. فكيف يعلم غير المتخصص أي فقيه أفضل؟! ليس لعموم الناس صلاحية انتخاب خبراء المجلس، وكذلك أيضاً انتخاب الخبراء العسكريين، والإقتصاديين.
ما هو المبرر للأشخاص الذين ليسوا من أصحاب الرأي للتدخل، أكثر من أصحاب الرأي في المجلس الذي هو المشرع والمقرر لكل البلاد؟ لأن كل المسائل التي تطرح ليس لأكثرية المجلس تخصص فيها، فالأكثرية الذين يحكم برأيهم، ويسن القانون برأيهم، هم أشخاص ليس لهم إلى حد كبير تخصص في تلك المسائل. في حين أنه لو عرض على المتخصص ربما يوافق على هذا القانون لأنه لا يرى فيه مصلحة للمجتمع بحسب تخصصه.
لكن إذا كان هناك مجالس متعددة وكان يوجد في كل مجلس متخصصون في الفرع الخاص، فالأشخاص الذين ينتخبون هم أشخاص من أصحاب الإطلاع والمعرفة.
ثانياً: في هذا النوع من الإنتخابات يصل التزوير إلى الحد الأدنى، وسوف يكون الإعلام السيء من دون أثر. لكن في الوضع الحالي يلعب الإعلام السيء، والضوضاء الكاذبة دوراً مؤثراً في انتخاب ممثل ما، فهذه الأمور تؤثر في الناس العاميين، فالقرويون، والعمال هم أشخاص ليس لهم علم واطلاعات كثيرة إجمالاً بحيث يقعون تحت تأثير الإعلام المضلل.
لكن عندما نغير هذه الطريقة، وينتخب خبراء كل فن أشخاصاً من أهل التقوى والإختصاص، وفي النتيجة يكون الإنتخاب مصوناً من هذه الآفة أيضاً. وفي النهاية فإن الرأي الذي يبدونه يكون أكثر مقبولية لأنهم يبدون رأيهم في مجال تخصصهم لا في المجالات التي لا تخصص لهم فيها.
وعلى كل حال، نحن نحتاج في المجتمع إلى مقررات، وخطة لعدة سنوات قادمة. هذه المقررات يجب أن تكون متوافقة مع القواعد الكلية للإسلام، ويجب أن يشرع هذه القوانين، الأشخاص الذين يملكون إحاطة كاملة بالمذهب، حتى لا تكون مخالفة للأحكام الإسلامية.
الضامن في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران لهذه الدراسة، والرقابة الدقيقة للقوانين هو مجلس صيانة الدستور، فيجب أن يضمن فقهاء هذا المجلس أن هذه الأحكام والقوانين ليست على خلاف القوانين الإسلامية.
توضيح حول «القوانين»
يطلق القانون العام أحياناً على القرارات الثابتة التي لا تتغير. فإذا كانت هناك أشياء قابلة للتغيير فلا يطلق عليها القانون بالإصطلاح الخاص لأنهم يعتبرون أن من خصائص القانون، الثبات، والدوام. مصداقه في الأنظمة البشرية هو (الدساتير)، فالأشخاص الذين يكتبون الدستور يعتبرون أنهم يضعون هذا القانون بشكل دائم، ولا يكون قابلاً للتغيير، والتحريف إلا إذا حصل شيء استثنائي.
ويكون القانون أحياناً، في النقطة المقابلة لهذا الإصطلاح. أي يستعمل في معنىً واسع جداً بحيث يشمل كل أمر تنفيذي، فمثلاً يقول رئيس الإدارة لمستخدمه، يجب أن تنجز اليوم العمل الفلاني. أو يرسل المدير العام إلى الإدارات أنه يجب أن تنجزوا العمل الفلاني في اليوم الفلاني.
فهذا بلاغ تعميمي وأمر مؤقت بالعمل، يطلق عليه أحياناً لفظ القرارات لأن المقررات اللازمة الإجراء هي من قبل مصدر ومرجع رسمي واحد، تجب على الغير طاعته. ولكن للقانون إصطلاحاً متوسطاً أيضاً، حيث إنه عادةً يطلق على الأوامر العملية التي ليس لها اعتبار في المجتمع لمدة طويلة، وبعبارة أخرى ليست ليوم أو يومين وليست مربوطة بالأمور الخاصة، وليست بكيفية لا تقبل التغيير والتحول، بل إن المشترعين أنفسهم وضعوها لمدة معينة، بحيث تكون قابلة للتغيير، وحتى الإلغاء. وهي القوانين التي تسن اليوم في البرلمانات.
نحن أيضاً نستعمل هذا الإصطلاح عندما نقول إننا نحتاج في الإسلام غيرَ الكتاب والسنة، إلى المقنن فمقصودنا الأشخاص الذين يجب - بالدلائل التي قلناها - أن يعينوا طريقة إدارة البلد في المجالات المختلفة، ولمدة طويلة. وطبعاً على أساس الأصول الكلية للإسلام وباذن الشخص الذي نعتبر أن إذنه هو من ولي العصر والإمام المعصوم(ع) في هذه الصورة يمكن القول إن هذا القانون إلهي.
لكن ذلك القانون الذي هو حتماً من الله والرسول هو من القوانين الكلية التي جاءت في الكتاب والسنة لها حكم الدستور من جانب ما. طبعاً كل القوانين الموجودة في الكتاب والسنة ليس لها مثل القانون الأساسي تلك الكلية والشمول. فمثلاً ورد في القرآن الآية المعروفة والطويلة (282 سورة البقرة) عن الدَّين، والآيات المرتبطة بالرضاع والطلاق والمسائل الجزائية..التي لا تتغير أيضاً. فما يأتي في متن القرآن وبشكل قطعي فهو لا يتغير.
عندما تقبل الحركات الإجتماعية ومسالك الناس عناوين متغيرة فكل عنوان له حكم خاص، قد ثبت من الله، وهو ثابت لا يقبل التغيير. لكن الأمور الخارجية التي تكون أحياناً مصداقاً لهذا العنوان وأحياناً مصداقاً لعنوان آخر يتغير، وهذا ليس تحولاً في قانون الله ولكن من الممكن أن يكون تحولاً بمعنى القرارات التي هي مورد احترام من قبل المجتمع، ولكنه في الحقيقة ليس تحولاً في قانون الله؛ لأن الله قد وضع بواسطة القانون، الحكم لموضوعه الذي هو عنوان اعتباري، فأينما وجد ذلك العنوان للمصداق فسيكون له حكمه.
لكن أحياناً يجد هذا العنوان مصداقاً في هذا الزمان وأحياناً في مكانٍ آخر. فمعنى دخالة الزمان والمكان في الإجتهاد، هو تطبيق الأصول الكلية، على الموارد التي يجب أن تتضح للناس، وأن تشخص وظيفتهم في الأزمنة والأمكنة المختلفة.
في هذه الموارد قد يتغير المصداق، لا العنوان الكلي. فالقوانين الإلهية ثابتة، ولا تتغير «حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، والقانون معتبر أيضاً فهو مطابق لحكم الله، وإلا، فسوف يكون قبول القانون ووضعه شرك. وكذلك لدينا في الإسلام قوانين متغيرة ومتحولة. أي المقررات الإجتماعية التي توضع للموراد الخاصة، حسب العناوين المختلفة التي تنطبق عليها تلك الموارد. فهذه القوانين يجب أن يشخصها المتخصصون، ويجب أن تصل إلى القائد، أي خليفة إمام الزمان(عج) لتكون معتبرة عند المسلمين.
خلاصة:
مع أن القانون في النظام الإسلامي، هو على أساس القرآن والسنة، ولكن ونظراً إلى عدم بيان كل القوانين الجزئية وخصوصاً في المسائل المستحدثة، والتي يختلف فيها الفقهاء. فيجب أن يكون هناك مرجع، حتى يوضح للناس تكليفهم في هذه الأمور.
وأكثر ما تظهر هذه الحاجة في المسائل الإجتماعية، حيث لا يمكن أن يعمل كل شخص برأي فقيه مختلف، فينبغي وضع القوانين التي هي مورد الحاجة على أساس القوانين الثابتة للإسلام. وهذا العمل هو في عهدة الخبراء في الدين الذين عندهم حس فقهي، ويعلمون أيضاً مسائل المجتمع بشكل جيد. وطبعاً يجب أن يستفاد من رأي المتخصصين، في معرفة مسائل المجتمع، والموضوعات، وأن تعرف المصالح والمفاسد. وقد يحدث أن يكون الحكم الكلي واضحاً، ولكن يقع الإختلاف في معرفة المصداق وتطبيق الحكم على الموارد، فمن اللازم في هذه الحال أن يكون هناك مرجع حتى يضع القرارات مورد الحاجة، وعلى هذا الأساس تتضح الحاجة إلى مجلس الشورى والتقنين في المجتمع الإسلامي ويعتبر إطار مشورة القائد.
والشورى أمر عقلائي، وأيضاً مورد لتأكيد الإسلام، ولكن الأفضل أن ينتخب في كل موضوع خاص، متخصصو ذلك الفرع لتكون القوانين الموضوعة أقرب إلى الواقع.
الهوامش:
([1]) سورة آل عمران/الآية 159.
([2]) سورة الشورى/ الآية 38.
([3]) سورة آل عمران/الآية 159.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية