مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الخطوط العامة للحكم الولائـي
علي الموسوي


من الممكن عنونة هذه المقالة بعناوين متعددة تحكي عن مقصود واحد بنحو ما فمضافا إلى عنوان (أدلة التشريع العليا)، يأتي عنوان آخر هو (المؤشرات الإسلامية العامة أو العناصر الثابتة في التشريع) ويضاف إليه عنوان آخر هو المقاصد العامة للشريعة، ونستطيع نحن تسمية البحث بعنوان آخر هو (الخطوط التشريعية العامة للأحكام الولائية).
مما لا يخفى أن الأساس في انفتاح البحث عن مبادئ التشريع وأدلته هو الإجابة عن الإشكالية المثارة حول مسالة أهلية الدين وتمكنه من حل جميع مشكلات الحياة لاسيما مع التطور الحياتي الذي يعيشه الإنسان وقد طرح لأجل ذلك مجموعة من الصيغ لحل تلك الإشكالية وأهمها ما قام به الشهيد الصدر من تقسيم الأحكام في الإسلام إلى عناصر ثابتة وأخرى مرنة والأولى هي الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة والثانية هي الأحكام التي تستمد ـ على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف ـ من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة[1]. على أن الشهيد الصدر تعرض لهذه المسالة عند قيامه بوظيفة إعطاء صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي.
وأما الشيخ محمد مهدي شمس الدين فقد جعل الأحكام على قسمين أحكام تشريعية وأحكام تدبيرية وهي الأحكام التنظيمية الإدارية والتي لا تتضمن أحكاماً شرعية إلهية ويرى الشيخ شمس الدين أن هناك خلطاً بين النبي كمبلغ للأحكام الشرعية وبين النبي الحاكم ورئيس الدولة وقائد للمجتمع ورب للأسرة وكإنسان يتفاعل مع محيطه وحياته ومع معاشريه من الناس[2] وبعد أن يخرج دائرة العبادات وبشكل مطلق عن دائرة الأحكام التدبيرية لان العبادات لا مجال فيها لأي تصرف حيث كانت توقيفية من جميع الجهات سواء الأجزاء والعدد والشرائط والمواقيت ينطلق ليجعل الأحكام التدبيرية خاضعة لأدلة التشريع العليا فيرى أن عملية الاستنباط في مجال الأحكام التدبيرية ـ الفراغ التشريعي ـ تخضع لمعايير أخرى بالإضافة إلى الأسس والأصول العامة للاجتهاد والاستنباط وهذه المعايير تستفاد من أدلة التشريع العليا بنحو القضايا الكلية في المسائل المالية والاقتصادية والعلائقية داخل المجتمع الإسلامي وبين المجتمع المسلم ودولته والمجتمعات والدول الأخرى والتنظيمية والأمنية[3] والمراد منها التعليلات التي هي ليست أحكاماً شرعية إلهية وليست هي المنشأ لأحكام شرعية إلهية بل هي أسس لأحكام شرعية تدبيرية.
أغراض الشارع
استخدم الفقهاء مصطلح غرض الشارع في موارد متعددة وان كانت قليلة إن لم تكن نادرة فمثلا في بحث الوكالة ذكروا انه يصح التوكيل في كل ما لم يعلم تعلق غرض الشارع فيه بقيام المكلف فيه بالمباشرة قال في المختصر: (ما تصح فيه الوكالة وهو كل فعل لا يتعلق غرض الشارع فيه بمباشر معين، كالبيع، والنكاح)[4] ولم يذكر الفقهاء رغم اتساع البحث الأصولي مسألة ضوابط معرفة غرض الشارع في بعض الموارد ولكن ههنا نص لدى بعض الفقهاء المعاصرين يرجع مسألة تحديد غرض الشارع إلى العرف فإنه بعد أن يقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين الأول منهما يرتبط بالأحكام التي تتناول علاقة الإنسان بربه أي العبادات والتي لا يعرفها إلا الاوحدي يقول: (والقسم الثاني: الأحكام المشروعة لنظم أمور الدنيا، وسياسة المدن، وإدارة المجتمع، وروابط الأفراد بعضها مع بعض في الأموال وغيرها، ففي مثل هذه الأحكام بملاحظة الأحكام وموضوعاتها والمناسبة بينهما، يفهم العرف في الجملة غرض الشارع، وما يحققه وما يرتبط به، ويكون لهذا الفهم دخل في استظهار مراده من كلامه من العموم والخصوص وغيرهما، وتكون هذه المناسبات التي يفهمها العرف من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على ما أراده المتكلم من كلامه فإذا قرر الشارع الذي أخذ بيد المرأة المسكينة، وأنقذها من دركات السقوط والشقاء، أن للنساء نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون كما قرر ذلك للرجال، بمناسبات كثيرة من عناية بحفظ حقوق النساء وكرامتهن الإنسانية والمنع عن إستضعافهن، يفهم أن عموم هذا الحكم الحافظ لشؤون المرأة وتثبيت حقوقها في المجتمع لا يقبل التخصيص بحرمان المرأة عن حقها واستقلال المرء بإرث جميع ما بقي لكونه من الكر على ما فر. فكما لا يقبل التخصيص قوله تعالى: {عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} وقوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} وغيرها من القواعد الشرعية القرآنية، لا تقبل هذه القاعدة المحكمة، الحاكمة بإرث المرأة من الميت إذا كانت مع المرء في طبقة واحدة، أيضا التخصيص. وهذه أمور لابد للفقيه ملاحظتها عند النظر في أدلة الأحكام[5].
وعليه ففي دائرة معينة من الأحكام لا بد وان يكون غرض الشارع حاكما على الأدلة، وعلى الفقيه عند استنباطه للحكم الشرعي ملاحظة غرض الشارع وإدخاله كعنصر في فهم النص.
حقيقة أدلة التشريع العليا
تنطلق الحاجة إلى ملاحظة أدلة التشريع العليا والبحث فيها من إشكالية تناهي النصوص وعدم تناهي الوقائع فإننا لو أردنا أن نوجد لكل واقعة نصاً فإننا سوف نواجه قصوراً واضحاً في النص ولكن تلك طريقة خاطئة لان النص يأتي ليضع مبادئ تشريعية كلية لتنطبق عليها الوقائع اللامتناهية، ومما لا بد من الالتفات إليه أن المنطلقات التي هي الأساس في البحث عن أدلة التشريع العليا متعددة، فبعض الباحثين انطلق في البحث من جهة الحاجة إلى التجديد في الفقه الإسلامي وحل المشكلات المعاصرة والمسائل المستحدثة، والشهيد الصدر مثلاً انطلق في البحث لأجل بيان صورة لاقتصاد المجتمع الإسلامي تتناسب مع متطلبات العصر والتطور في الأنظمة الاقتصادية وحل المشكلات الناشئة من هذه الأنظمة بعد أن أصبح النظام الاقتصادي من أهم الأركان الفكرية لأي دولة، وأما الشيخ شمس الدين فانطلق في البحث عند حديثة عن ضرورة التجديد في الفكر الإسلامي والفقه الحياتي وعند قراءته لطريقة الاجتهاد التقليدية، والسيد محمد حسين الطباطبائي عالج المشكلة منطلقا من الإجابة عن إشكالية تناسب الشريعة وكفاية قوانينها لمتطلبات العصر، ونحن من الممكن لنا الدخول في البحث من جهة ملاحظة أن الولي الفقيه لا بد وأن تكون لأحكامه الولائية منطلقات وأسس تستند إلى الشريعة الإسلامية ولا تكون عبثية أو منطلقة من أسس هي محل إشكال وجدل لا بد وان ينطلق الفقيه في أحكامه الولائية من هذه المبادئ التشريعة التي لا يسمح الشارع بتجاوزها بل لا بد من رعايتها مهما اختلف الزمان والمكان، وعلى هذا يظهر أن للبحث جهات متعددة ومداخل متنوعة.
والشهيد الصدر وإن كان بحثه بداعي تقديم صورة للاقتصاد الإسلامي ولكنه جعل ما اصطلح عليه بالعناصر المتحركة تحت يد ولي الأمر وجعل العناصر الثابتة هي الأساس الذي ينبغي على ولي الأمر ملاحظتها عند تحركه في دائرة العناصر المتحركة فهو يرى لولي الأمر صلاحية تحديد العناصر المتحركة فالعناصر الثابتة هي أسس الأحكام الولائية الصادرة عن الحاكم.
والولاية بحسب تعريف السيد محمد حسين الطباطبائي هي (الموقف الذي يتصدى بموجبه الشخص أو المركز لإدارة شؤون الآخرين وتسيير حياتهم وتوجيهها)[6]. ولا يفترق السيد الطباطبائي كثيراً عن الصيغة التي يطرحها الشهيد الصدر فهو أيضاً يتحدث عن العناصر الثابتة والعناصر المتغيرة ويجعل الأحكام والقوانين المتغيرة خاضعة لأمرين يشكلان أساساً ويقوما بمهمة ضبط حركتها وهما الحق والمصلحة الواقعية للمسلمين، وأما الأحكام الثابتة فيصطلح عليها الطباطبائي باسم (الشريعة) ويعرفها بأنها عبارة عن عناصر ثابتة شخصها الإسلام وهي تتجاوز التقلبات وتبقى رغم التحولات المدنية المتغيرة[7]. وتسمية السيد الطباطبائي لها باسم الشريعة مقابل الأحكام المتغيرة التي يرى الطباطبائي وخلافاً لسائر الباحثين أنها ليست أحكاماً في حقيقتها ولا تكون جزءاً من الشريعة السماوية الثابتة ولكنها واجبة التنفيذ عندما تصدر عن مركز الولاية.
فهي إذن تقع تحت دائرة صلاحية ولي الأمر ـ الحاكم الشرعي الإسلامي ـ ليتخذ سلسلة من القرارات والأحكام الثابتة ويعتمد على هذه الأحكام الثابتة في استيعاب المصالح المتجددة في المجتمع وامتصاص المتغيرات الطارئة.
ونتيجة هذا المدخل انه من المتفق عليه أنه توجد في الشريعة الإسلامية مجموعة من الأحكام والتشريعات التي تشكل عناصر ثابتة أساسية وتكون مبادئ لأحكام أخرى، هذه المجموعة من الأحكام لم تبحث بحثاً مستقلاً من قبل مع تعرض الباحثين لها عرضاً عند حديثهم في العناوين المتقدمة ونحن نحاول وضع قراءة أولية لهذه المجموعة من الأحكام وتكون قابلة لمزيد من البحث والتفصيل.
الأول: مبدأ انتشار المال
قال تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} الحشر 7.
تعتبر الآية من الآيات الكريمة التي تتحدث بوضوح عن هدف من أهداف التشريع الإسلامي فهي تعلل مجموع الأحكام الإلهية الواردة في توزيع الفيء بأنها لأجل أن لا يكون المال في طبقة خاصة من المجتمع الإسلامي دون سائر الطبقات، فقسمة الخمس تحكي عن ضريبة مفروضة على الأغنياء لسد حاجة الفقراء فالإسلام يقف موقفاً حازماً للحد من تداول المال لدى طائفة خاصة من الناس.
وهكذا الحال في سائر الواجبات المالية فنحن بملاحظة النصوص الواردة في الزكاة يظهر لنا وبوضوح كون الحكمة في فرض الزكاة هي حفظ التوازن المالي والمنع من الطبقية الاجتماعية فروايات الزكاة تدل على أن الزكاة لم تفرض لسد جاحة الفقير فقط بل لأجل توفير مستوى من المعيشة يلحق الفقير بالمستوى المعيشي العام فلا بد للحاكم الشرعي من السعي إلى تحقيقه[8].
ففي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) : ((وذلك أن الله عزوجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم))[9].
وفي رواية أخرى عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ((أن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم)) [10].
ويتحدث الشهيد الصدر عن هذه النقطة فيقول: ((جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : ((أن على الوالي في حال عدم كفاية الزكاة أن يمون الفقراء من عنده بقدر سعته حتى يستغنوا، وكلمة من عنده تدل على أن المسؤولية في هذا الأمر متجهة نحو ولي الأمر بكل إمكاناته لا نحو قلم خاص من بيت المال فهناك إذن هدف ثابت يجب على ولي الأمر تحقيقه أو السعي في هذا السبيل بما أوتي من إمكانات وهو توفير حد ادني يحقق الغنى في مستوى المعيشة لكل أفراد المجتمع الإسلامي[11]. فيترقى الأمر إلى كون المطلوب الشرعي ليس هو مجرد رفع الفقر بمعنى رفع الحاجة بل المطلوب الشرعي هو تحقيق الغنى فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر ويحاول السيد الشهيد استكشاف طبيعة الحد وذلك عبر الاستفادة من حديث ((أبي بصير)):
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل من أصحابنا له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثيرة أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال: يا أبا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: كم يفضل؟ قلت: لا أدري، قال: إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة، قلت: فعليه في ماله زكاة تلزمه؟ قال: بلى، قلت: كيف يصنع؟ قال: يوسع بها على عياله في طعامهم [وشرابهم] وكسوتهم وإن بقي منها شئ يناوله غيرهم وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس)).
فالهدف هو الحاق الفقير بالناس لا مجرد رفع الحاجة فالمفاسد الاجتماعية لا نتشأ من الحاجة الفعلية التي تقتصر على ضرورات الحياة بل أن بعضها قد تنشأ من الطبقية التي قد يعيشها المجتمع هذه الطبقية تجعل صاحب المستوى الأدنى يفكر جديا في الوصول إلى الطبقة الأعلى وان يعيش كما تعيش هي وكما قد يتوسل للوصول إلى ذلك بالطرق المشروعة قد يلجأ إلى استخدام بعض الوسائل غير المشروعة، والشريعة كما فرضت على ولي الأمر العمل على إزالة الطبقية الاجتماعية في المجتمع المسلم دعت أصحاب الطبقات العليا إلى التخلي عن بعض الصفات التي توجب هذه الطبقية كالمنع من الإسراف والتبذير والبذخ والتكبر ودعتهم أيضاً إلى التحلي بالصفات التي لا تجعل هذه الطبقية ملحوظة كالدعوة إلى التواضع والإنفاق المستحب والاهتمام بالطبقة الأدنى.
وفي مجال آخر من الزكاة أعطى الشارع الصلاحية لولي الأمر في طريقة توزيع الأعيان الزكوية على المستحقين فله أن يقسمها على السهام التي فرضها الله عز وجل وله أن يعطيها لقسم واحد ففي رواية عن الصادق (عليه السلام) قال: ((الإمام يرى رأيه بقدر ما أراه الله فإن رأى أن يقسم الزكاة على السهام التي سماها الله قسمها وان أعطى أهل صنف واحد رآهم أحوج لذلك في الوقت أعطاهم))[12]. فإعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر يهدف إلى أمرين سد حاجة صنف الفقراء الذي لا يكفي مال الزكاة المختص بهم في سد حاجتهم لكثرتهم وقلة غيرهم من الأصناف أو لغير ذلك من الأسباب وتساوي الأصناف في مسالة العطاء لما في التفاضل في العطاء من المفاسد التي توجب إنشاء طبقية في المجتمع الإسلامي وهذا يشهد له ملاحظة التاريخ الإسلامي والمفاسد التي تترتب على التفاضل في العطاء.
الثاني: الأمر بالعدل والإحسان
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} النحل: 90.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} المائدة: 8.
وفي الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أو فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} النساء: 135.
العدل والإحسان من الركائز الأساسية لصلاح المجتمع الإنساني وقد ركز الإسلام في مجموع أحكامه على تحقيق العدالة الفردية والاجتماعية ولنلحظ مجموعة من الأحكام الشرعية التي تدلل أن العدل والإحسان هما من الأهداف الإسلامية للتشريع يقول الشيخ المفيد
إن الإسلام بني على توحيد الله في ذاته وصفاته وتوحيده في عنايته وعبادته، وهل هذا إلا الفطرة، وأسس شرعه على العدل والإحسان والفضيلة والمحبة، وكلها أحكام الفطرة والعدل من المدركات العقلية المستقلة التي يوافقها حكم الشارع بمقتضى قاعدة أن ما حكم به العقل حكم به الشرع وحسن العدل لا يتغير بتغير الزمان والمكان والظاهر من الآية أن الحديث فيها إنما هو عن العدل الاجتماعي بمعنى أن يعامل كل أفراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه وهذا أمر يكلف المجتمع إقامته وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبيره.
ويرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن آية الأمر بالعدل والإحسان تعتبر مصدر تشريع لا ينحصر بباب من الأبواب وإنما يشمل، ما عدا العبادات، كل أنشطة البشر وكلما التبس علينا أمر نرى بحسب فهمنا وسليقتنا النقية والسليمة ما هو مقتضى العدل والإحسان فيه[13].
الثالث: مبدأ الأخوة الإسلامية
تلاحظ مسالة الأخوة الإسلامية كأساس من أسس التشريع الإسلامي وكهدف من أهدافه وهكذا يجب على الفقيه في فتاواه أن يلاحظ هذا المبدأ عند إصداره فتواه الفقهية وعليه فإذا اعتبر الفقيه مبدأ الأخوة الإسلامية خاصاً بطائفة خاصة من الطوائف الإسلامية فستتغير الفتوى لديه تبعاً لذلك ونلاحظ مثالاً على ذلك مسألة عدالة الشاهد فإن من لا يرى ولا يلاحظ مبدأ الأخوة الإسلامية سينظر إلى من يكون تابعاً لمذهب مختلف معه على إنه مخدوش العدالة وإن كان عادلاً في مذهبه وأما مع ملاحظة مبدأ الأخوة الإسلامية فسوف تختلف النتيجة، ومن هذا القبيل الإفتاء بجواز العدوان على أتباع المذاهب الأخرى وجواز شتمهم فإن هذه الفتاوى تتناقض تناقضاً أساسياً مع المبدأ التشريعي الفوقي الأعلى والحاكم الذي لا يجوز غض النظر عنه في مجال الاجتهاد والاستنباط في الحقل السياسي والاجتماعي[14] وهذا المبدأ لاحظه الشيخ محمد مهدي شمس الدين عند حديثه عن مسالة تجديد الاجتهاد، كما يرى الشهيد الصدر أن مسالة الأخوة هي من القيم الاجتماعية التي أكد الإسلام على الاهتمام بها وأنه لا بد من استيحاء صيغ تشريعية متطورة ومتحركة وفقاً للمستجدات والمتغيرات تكفل تحقيق تلك القيم وفقاً لصلاحيات الحاكم الشرعي[15].
الرابع: مبدأ وحدة الأمة الإسلامية
قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
تشكل وحدة الأمة الإسلامية مبدأ أساسياً في الإسلام ويكفي لذلك ملاحظة التضحيات التي قام بها أئمة أهل البيت في سبيل ذلك فجلوس أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في بيته طيلة مدة غصب الخلافة إنما كان لأجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية.
وهنا يمكن ملاحظة الفتوى الصادرة عن الإمام الخامنئي بجواز الصلاة خلف أهل السنة ويعلق ذلك على ما إذا كان الأمر لأجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية، بل ويجوز الصلاة خلفهم حتى ولو لم يحرز المكلف دخول الوقت بالنسبة لمثل صلاة المغرب فيما إذا كانت مراعاة الوحدة الإسلامية تقتضي ذلك[16].
الخامس: إقامة الدولة الإسلامية وحفظها
يرى الإمام الخميني أن إقامة الدولة الإسلامية من الأحكام الأولية للإسلام بل ويراها مقدمة على جميع الأحكام الأولية حتى العبادات كالحج يقول: (إن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج...).
فإقامة الحكومة الإسلامية تعني حفظ النظام الاجتماعي العام وهو من أهم الفرائض الإلهية وينظر السيد محمد حسين الطباطبائي إلى مسألة الولاية على أنها حكم فطري ثابت غير قابل للتغيير ويستدل من جهة بأنه فطري وكل أحكام الإسلام فطرية لأن القرآن الكريم يصرح بأن أحكام الإسلام تقوم على الفطرة وعليه تصبح مسألة أصل الولاية من المسائل الدينية الثابتة التي لا تقبل التغيير لكونها جزءاً من الشريعة نفسها.
ومن جهة أخرى يستدل الطباطبائي بسيرة النبي بين المسلمين وتأكيده على مسالة الولاية والحكم وعدم إهماله لها.
ويقول في تتمة كلامه: (أن مسألة الولاية هي من ثوابت الشريعة الإسلامية ومما يدخل في العناصر التشريعية الدينية التي يجب أن تبقى حية في المجتمع الإسلامي إلى الأبد)[17].
السادس: حفظ مصالح المسلمين
لقد صدرت مجموعة من الأحكام عن الأئمة (عليهم السلام) تهدف إلى حفظ مصالح المسلمين العامة ومثاله نهي النبي عن ذبح لحوم الحمر الأهلية فقد ورد عن على بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن لحوم الحمر الأهلية، أتؤكل؟ فقال: نهى عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما نهى عنها، لأنهم كانوا يعملون عليها، فكره أن يفنوها[18].
ومن هذه الموارد الإذن الصادر من الأئمة لأصحابهم بتولي الولايات في الدولة الظالمة والوظائف في الحكومات غير الشرعية لأن الكثير من المصالح التي ترتبط بالشيعة ما كانت لتتم إلاّ عبر تولي بعض أفراد الشيعة لهذه المناصب مع شدة النهي الوارد عن تولي مناصب الظالمين والمعونة لهم بأي نحو من الأنحاء.
ومن الممكن لنا عد النهي الصادر من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الماء هو من قبيل هذه الموارد ففي رواية سماعة عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن النطاف والأربِعاء، قال: والأربِعاء: أن يسنى مسناة فيحمل الماء فيسقى به الأرض ثم يستغني عنه، قال: فلا تبعه، ولكن أعره جارك، والنطاف: أن يكون له الشرب فيستغني عنه[19], ويتحدث الشهيد الصدر معلقاً على هذا الحديث فيقول: (وهذا النهي نهي تحريم مارسه الرسول الأعظم بوصفه ولي الأمر نظراً إلى أن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية وإلى توفير المواد اللازمة للإنتاج توفيراً عاماً وعدم احتكارها فألزمت الدولة على هذا الأساس الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين)[20].
وبمراجعة نص آخر للعلامة الطباطبائي نجده يتحدث عن مسألة ملاحظة المصلحة العامة للمسلمين ويجعلها عنصراً ثابتاً يقول: (أن المصلحة الواقعية للإسلام والمسلمين تشكل مؤشراً يضبط حركة القوانين المتغيرة)[21].
ومسألة القيام بمصالح المسلمين هي وظيفة الحاكم الإسلامي ولذا ورد في الرواية لأجل بيان حكمة الخمس قوله (عليه السلام): ((وإنما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم لان الله قد ألزمه بما ألزم النبي (صلى الله عليه وآله) من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم وحملهم في الحج والجهاد)) [22].
بل وتعطي الروايات دائرة الصلاحية للإمام الحاكم للقيام بمصالح المسلمين عملاً ودفع كل ما فيه مفسدة لهم ففي رواية عن علي (عليه السلام) : ((يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء والجهال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء))[23].
السابع : رفع العسر والحرج الاجتماعيين
ذكر الفقهاء أنه ثمة أحكام تكون حاكمة على الأحكام الأولية ورافعة لها واصطلحوا على تسمية ذلك باسم الأحكام الثانوية وذكروا أن الأحكام الثانوية تختص بصورة العسر والحرج الشخصيين دون النوعيين ؛ وأما في صورة وجود عسر وحرج أو ضرر نوعي فلا مورد للأحكام الثانوية بل هنا يأتي دور الأحكام الولائية لتصدر حكماً يكون حاكماً على دليل العنوان الأولي ومثاله الفقهي مسألة التحليل الصادر من الأئمة (عليه السلام) للشيعة بالنسبة للخمس فإنه ورد في نصوص التحليل المتواترة أن ذلك لأجل رفع العسر والحرج عن الشيعة ففي رواية قال الإمام (عليه السلام): ((ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم)) [24]. بل ذكر في الجواهر أن أدلة العسر والحرج لا تقبل التخصيص لظهور أدلتها بأنه ليس في الدين ما فيه حرج [25]. بل أتفق الفقهاء على حكومة أدلة نفي العسر والحرج على جميع أدلة الأحكام الأولية.
الثامن: الشريعة السهلة السمحاء
ورد في العديد من النصوص أن النبي جاء بالشريعة السهلة السمحاء [26]. كما ذكر الفقهاء أن الذي يدل على التخفيف في أحكام الشريعة الخاتمة قوله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}البقرة: 286.
فدلت الآية على أن الثقل الذي كان قد حمل على الأمم السابقة لم يحمل على هذه الأمة ويعلل السيد الطباطبائي التخفيف على الأمة بكون الإنسان خلق ضعيفاً كما نص عليه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإنسان ضَعِيفاً} النساء: 28.
ويبرر اختصاص التخفيف بهذه الأمة دون سائر الأمم بكون مقتضى التخفيف موجود في سائر الأمم ولكن الموانع لم ترتفع فلم يرد التخفيف إليهم وورد إلى هذه الأمة [27].
وقد استعمل الفقهاء هذا المبدأ في بعض استدلالاتهم فذكر صاحب الحدائق عند تعرضه للروايات الواردة بالتفريق بين الزوجين إذا زنا أحدهما بعد العقد وقبل الدخول ذكر أن الأقرب حمل هذه الروايات محمل التقية لان ما اشتملت عليه من هذه الأحكام المغلظة لا يوافق مقتضى قواعد الشريعة السمحة السهلة المبنية على التخفيف سيما مع مقابلتها بما هو أكثر منها وأصح سنداً من الأخبار المشار إليها[28].
ووصف الشيخ الصدوق في مقدمة الفقيه الشريعة بالسمحة السهلة [29].
وقد تمسك الفقهاء في العديد من أبحاثهم بكون الشريعة سهلة سمحاء لنفي العسر والحرج في مجموعة من الأحكام الشرعية وكذلك يرى الشهيد الأول أن العسر والحرج لا ينسبان الشريعة السمحة السهلة[30].
التاسع: تساوي الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات
قال الله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} آل عمران: 195.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: 13.
يجعل السيد الطباطبائي أن هاتين الآيتين تتحدثان عن قاعدة عامة في التشريع الإسلامي ووفق هذه القاعدة ينظر الإسلام إلى المرأة على أنها كالرجل على السواء في كونها جزءاً كاملاً في المجتمع الإنساني.
العاشر: الإسلام وسنة الاجتماع
بنى الإسلام مجموع أحكامه على سنة الاجتماع فمن الأحكام الشرعية ما يتضمن الاجتماع بشكل مباشر كوجوب الجهاد ومثله الصلاة والصيام والحج ومنها ما يتضمنه بشكل غير مباشر وهي ما تدخل في دائرة غير إلزامية كصلاة الجماعة ونحوها من الاجتماع في تشييع المؤمن وغيره من الأحكام.
والإسلام يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه في معارفه الأساسية من قوانين الأعمال العبادية والمعاملية والسياسية[31].

[1] الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص 43، نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر.
[2] الاجتهاد والحياة حوار على الورق، محمد الحسيني ص 17.
[3] مجلة المنهاج، العدد 3 ص 16.
[4] (المختصر النافع للمحقق الحلي ص 154).
[5] (مجموعة الرسائل ـ الشيخ لطف الله الصافي ج 1 ص 148).
[6] مقالات تأسيسية، السيد محمد حسين الطباطبائي ص 158.
[7] م.ن ص170.
[8] الإسلام يقود الحياة ص 48.
[9] وسائل الشيعة ج 9 باب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح3.
[10] ائل الشيعة ج 9 باب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح 2.
[11] الإسلام يقود الحياة ص 54.
[12] دعائم الإسلام ص 266ج 1.
[13] الاجتهاد والحياة ص 23.
[14] قضايا إسلامية معاصرة العدد 9و10 ص 17.
[15] الإسلام يقود الحياة ص 49.
[16] أجوبة الاستفتاءات ص 180ج 1.
[17] مقالات تأسيسية ص 180.
[18] وسائل الشيعة باب 4 من أبواب الأطعمة المحرمة ح1 ح24 ص118.
[19] وسائل الشيعة باب 24 من أبواب عقد البيع ج 17 ص 373.
[20] الإسلام يقود الحياة ص 52.
[21] مقالات تأسيسية ص 172.
[22] بحار الأنوار ج 96 ص 198.
(23) وسائل الشيعة ج 18 ص 221.
[24] وسائل الشيعة باب 4 من أبواب الأنفال ح 6 ج 9 ص 545.
[25] الجواهر ص 103ج5.
[26] الكافي ج 5 ص 494.
[27] الميزان ج4ص 282.
[28] الحدائق الناضرة ج 23 ص 498.
[29] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 5.
[30] الذكرى ص 32.
[31] الميزان في تفسير القران، الطباطبائي ص 127 ج 4.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية