مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

القيادة الإسلامية
عادل رؤوف


قيادة الإمام
كل ثوابت الخطاب الخميني تقرّر حقيقة أساسية، هي حقيقة القوة التي يتمتع بها هذا الخطاب، القوة في التأسيس والمصطلح الثوري والشعار الثوري والبناء النظري، والقوة الشمولية والتحريك والمبادرة الثورية والوضوح والتحديد وبلورة المفاهيم الثورية، قوة تكاد تصل إلى الوقع السحري، قوة تحوّلت إلى سلسلة من النتائج والنجاحات والإنجازات التي عجزت الحركة الإسلامية بكل تياراتها وتمظهراتها عن الوصول إليها.
هذه القوة كانت واضحة في شموليتها.
السؤال هو: من أين أتت هذه القوة؟ وكيف انفرزت بشكلها المذكور؟
هذا هو السؤال الذي كررناه أكثر من مرة، ولاشك أنه سؤال غير عادي في أهمّيته (واللاعادية) فيه تنبع من كون الإمام الخميني كان واحداً من رموز إسلامية عديدة، وكان محوراً مرجعياً من محاور مرجعية لم تستطع إنجاز ما أنجزه الإمام، فالمعيار هنا هو أكبر من النجاح والفشل، وأكبر من بعض الملكات الذاتية، فهذه الملكات لا تكفي لوحدها لأن تفرز هذا الإنجاز الهائل في حياة الإسلام التاريخية على يد الإمام، كما أنّ المعيار أكبر أيضاً من فَهْم الإسلام بالشكل العام، فهذا الفهم لا يكفي هو الآخر لوحده لأن يسجّل ذلك الإنجاز، وتبقى العرفانية والإحاطة الموسعة بالعلوم الفلسفية والعلوم الأخرى وموقعها في الخطاب الثوري.
يمكن أن تجمع الملكات الذاتية إلى جانب الفَهْم الصحيح للإسلام بعمقه العرفاني والفلسفي لتشكّل امتيازاً ملحوظاً للإمام الخميني, فتعطي ذلك الخطاب نبضاً عرفانياً يمتزج مع النص القرآني, ليفرز طريقة حياة أو نظام حركة ومنهج عمل غير عادي يفرغ شحنات العرفانية ويجسد النفس القرآني، ويكشف الإمكانية الإسلامية ويطرح القدرة الأبدية للفقه الإسلامي بالتسريب إذا اقتضى الأمر، وبالصدمة في أكثر الأحيان، وعبر العناد الشرعي والإصرار الذي يوسم بأنه خارج إطار القدرة العادية.
خذ هذا الإصرار في النص الخميني التالي: (بأي تصريح وبأية موافقة سمح لكم بانتهاك حرمة مجالس العزاء في يوم وفاة الإمام الصادق فاستبحتم دماء الناس والطلبة، وارتكبتم تلك الجرائم العظيمة، لقد هيّأت نفسي وجسدي وصدري لاستقبال رماحكم وسهامكم، سوف لن أرضخ لكم أو أتنازل أو أتقهقر أمام جبروتكم واضطهادكم بإذن الله تعالى.
سوف لن أسكت عن أي عمل مخالف للإسلام ولمصلحة البلاد يصدر عنكم، وما دام القلم بيدي فسوف اسطّر الفتاوى والبيانات والمنشورات لمحاربتكم مدى الدهر، عيون المسلمين اليوم تذرف دموعها، وتسكب عبراتها لما هي عليه بلادنا, وتهمل هي الأخرى من شدّة الجور على ديننا)[1].
لقد قال الإمام الخميني هذا النص قبل حوالي 26 عاماً وهي الأعوام التي تشكّل الفترة الحيوية لخطاب الإمام الثوري.
وقبل أن نسترسل، لابدّ من إعادة السؤال عن مصدر قوة مثل هذا الخطاب، فالنص المذكور كنموذج للخطاب الثوري يختزن كل الخصائص المذكورة, إلا أنه يعبّر قبل كل شيء عن ثابتة حيوية في طيّات هذا الخطاب, هي التي تطبعه على الدوام في ديمومة الوقع واستمرارية الأثر والتأثير وتخلق فيه جدلية الإيجاد والتكامل، وتغذيه بصعود الصيرورة.. وهذه الثابتة، هي ثابتة الحضور مع الحدث والملاحقة والمواكبة والمتابعة لشؤون الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي صغرت أو كبرت، لا بل لشؤون العالم بأسره من حيث ما يتخذه من سياسات وخطط دائمة إزاء المسلمين، فهذه الملاحقة والمواكبة لا تأتي أهميتها من كسر قيود معادلة فصل الدين عن السياسة وما تركته من آثار خطيرة داخل الحالة الإسلامية فحسب، ولا من عملية تراكم الموقف الإسلامي إزاء القضايا والأحداث اليومية بما يعطي الإسلام وحيويته الفقهية في إدارة شؤون الحياة، ومن ثم إبراز اللون الفقهي المعاصر لقرن من القرون غصّ بالاكتشافات العلمية والنظريات الفكرية والشذوذ الفلسفي.
إنما تأتي أهميته أيضاً عبر عملية المواكبة والملاحقة بحد ذاتها، كتجسيد للشمولية الإسلامية الصحيحة، وكمنهج لا بديل عنه؛ لكي ينتقل الإسلام إلى حيّز التنفيذ والتطبيق، ولكي يخرج الإسلام من قمقم الهزيمة الشكلية التي ألصقت به, بدل أن تلصق بالأسباب المسؤولة عن هذه الهزيمة. هذا المنهج شكّل بلا شك خروجاً على بعض المألوف القيادي الإسلامي، أو خروجاً على بعض المألوف المرجعي.
بالتأكيد إنّ جزءاً من عالم القيادة والمرجعية الإسلامية في فترة من الفترات سار ولأسباب ذاتية وخارجية قاهرة وفق طريقة أدّت إلى لون من ألوان القطيعة في مواكبة ومتابعة شؤون الأمة الإسلامية والى ما ينزل بهذه المتابعة إلى المستجدّات العصرية والى التفصيل الحدثي اليومي الذي يشكّل أرضية القراءة المفترضة للواقع الإسلامي، والى كم وكيف التحدّيات المتوالية بشكل عنيف، في حين مارس الإمام الخميني دوره القيادي ليؤسّس من خلال هذه الممارسة منهجاً جديداً يواكب لون التحدّي، وطفرات المسيرة الإنسانية فكراً وعلماً، ويسجل حضوراً متواصلاً في ساحة الحدث الإسلامي، وقام هذا المنهج القيادي الخميني على مجموعة من الركائز والمنطلقات التكاملية ذات الصفة التبادلية في حركة المشروع الإسلامي، ومن ثم ليثبت كل ذلك في نسيج الخطاب الثوري التكويني. وليؤدّي الإمام الراحل بهذا العمل إلى:
1ـ رفد الفقه الإسلامي بحيوية التفعيل المتواصل وإحضار هذا الفقه من خلال تراكم يومي للمواقف الإسلامية بشكل دائم.
2ـ ممارسة الكشف المكثّف للواقع الإسلامي بأبعاده المأساوية وأبعاده الداخلية والخارجية.
3ـ بلورة المنهج القيادي الذي يجب أن لا يقع بأية قطيعة في ملاحقة الشؤون الإسلامية.
4ـ وكل ذلك أدّى إلى إثراء الخطاب الإسلامي عبر تنوع حركته ونقله إلى حالة من حالات التعامل المفتوح مع كل قضايا وشؤون الأمة اللامتناهية.
5ـ ومن خلال منهج المواكبة هذا ارتفع الإمام الخميني بمسؤولية القيادة العملية إلى ملاحقة الصحيفة، والكتاب، والحدث السياسي، ومشاكل الأجيال، وحاجات الشباب، والمراكز العلمية، والنظام السياسي، والحركة السياسية العالمية برمّتها.
من هنا نقول: إنّ الإمام لم يكن رصاصة انطلقت من القرن السابع الميلادي إلى قلب القرن العشرين ـ كما يصفه الكاتب المصري محمد حسنين هيكل[2]ـ إنما الإمام الخميني هو سر الإسلام الذي تجسّد في القرن العشرين, ويبقى متواصلاً في القرن الحادي والعشرين.
وقبل أن نسترسل في وصف الإمام، لابدّ من عودة إلى منهج المواكبة، فهو منهج تأسّس على رؤية للإمام حول موضوعة القيادة الإسلامية، مواصفاتها وشروطها ومسؤوليتها، ومشاكلها التاريخية، وآليات التداخل بينها وبين الآخر.
الآخر المستهدف للإسلام فكراً وقيادةً ونظاماً، فهذا الآخر مثلما دخل على خط فكرة فصل الدين عن السياسة وفكرة الوحدة الإسلامية، من خلال الأفكار التجزيئية التي صدرها إلى العامل الإسلامي، لم يهمل موضوع القيادة الإسلامية، وانتخاب أساليب وطرق التعامل معها.
منهجية الحضور والإحضار
إنّ منهجية الحضور والإحضار تأسّست على رؤية خمينية لدور القيادة الإسلامية ومواصفاتها وظروفها، فالإمام مثلما التقط مفردات الخطة الدولية إزاء العالم الإسلامي، فهو التقط أيضاً دور هذه الخطة حيال القيادة من جهة, والواقع القيادي الإسلامي بما انتهى إليه من جهة أخرى، ومن ثم حاول أن ينهض بهذه القيادة إلى مستوى المسؤولية بأساليب متعددة من جهة ثالثة.
إنّ أزمة عدم الحضور المرجعي في إدارة شؤون الأمة كانت تمثل هاجساً خطيراً للإمام الخميني في المسألة القيادية، لذا فهو في نفس الوقت الذي عالج فيه هذه الأزمة من خلال منهجية الحضور فإنه وتكميلاً لهذه المنهجية عالجها على أربعة خطوط عامة هي:
1ـ إنّ الإمام ومن خلال خطابه الثوري كان يثير هذه الأزمة بأساليب وطرق متعددة مباشرة وغير مباشرة.
2ـ وكان الإمام ومن خلال الخطاب الثوري أيضاً يسلّط الأضواء دون انقطاع على الدور الخارجي إزاء القيادة الإسلامية.
3ـ وبغية موازنة مسألة ضرورة الحضور المرجعي في قضايا الأمة كان الإمام يستنهض البعد الثوري بلا هوادة في التاريخ المرجعي.
4ـ وكان الإمام يربط ربطاً جدلياً بين الفقه والفقيه، وبينهما وبين مسألة الحضور المذكورة.
على صعيد النقطة الأولى لابدّ أن نقف على بعض نصوص الإمام لكي نتعرّف على الأساليب التي مارسها لإثارتها.
يقول الإمام الخميني:
(أيها الشعب المسلم كيف نواجه هذه المصائب؟ علماء الدين كيف سيواجهون هذه الابتلاءات؟ إلى من أبث شكواي؟ كل مَنْ في العالم خُيّل له أنّ الشعب الإيراني هو الذليل والحقير، وهو الذي بِيَده الحكم متناسين عدم وجود أية علاقة بين الدولة وبرلمانها)[3].
ويبدو واضحاً من خلال هذا النص البُعد الإستنهاضي في كلام الإمام لعلماء الدين، ومسؤوليتهم التي يجب أن يمارسوها، وحضور بعضهم الذي لم يحصل بالدرجة التي يطمح إليها الإمام في تلك المرحلة الحرجة.
وفي نفس التاريخ، ونفس الخطاب يواصل الإمام الخميني كلامه قائلاً: (على الطلبة والمعممين مناشدة كبارهم من المراجع والمجتهدين لتحريضهم على الخروج من هذا السكوت والصمت)[4].
ويتّضح من خلال هذا النص عمق الصرخة الاستنهاضية التحريضية المخبوءة خلف كلماته المباشرة لضرورة المرجعي العلمائي في تفصيلات الحركة السياسة العامة، وإذا ما أردنا أن نذهب في التحليل الواقعي، فسنكتشف في المعنى المخبوء أيضاً بُعداً احتجاجياً مؤلماً على هذا الصمت والسكوت، أي: انعدام الحضور المرجعي المطلوب.
و(عند دراسة الحركات الإسلامية في القرن العشرين نواجه، ومع الأسف، بأن هنالك نقصاً يكمن في قيادة رجال الدين، وهو أنهم يقودون الثورات حتى إسقاط الحكم وانتصار الثورة، ولكنهم بعد ذلك يتركون كل شيء، ويذهبون نحو أعمالهم ويتركون النتائج للآخرين، أو للأعداء أحياناً، فثورة العشرين في العراق ضد البريطانيين انتصرت بقيادة رجال الدين الشيعة، ولكنهم لم يستثمروها، ونرى العراق اليوم ماذا حل به، وثورة الدستور في إيران كانت بقيادتهم وانتصرت ولكنهم تركوها، وبعد فترة وجيزة صعد إلى الحكم دكتاتور خشن ولم يبق من الدستور إلا اسمه, بحيث تداعى لبعض الناس بأن الحكم الملكي أساساً أفضل من الحكومة الدستورية، وفي ثورة التنباك أيضاً نرى رجال الدين بعد إلغاء معاهدة(راجي) تصوّروا أنّ مسؤوليتهم قد انتهت في حين كان بإمكانهم أيضاً أن يستفيدوا من استعداد الشعب لإقامة حكم إسلامي واقعي)[5].
وقبل ذلك الخطاب يقول الإمام: (إن الخميني سوف لن يجلس على مائدة التفاوض حتى وإن عرض لحبل المشنقة، إنني لست من أولئك المعممين ورجال الدين الذين لا يعرفون من الإسلام سوى الجلوس والتسبيح والتهليل، إنني لست كالبابا كي أخرج في الأسبوع يوماً لأداء الطقوس الدينية وأركن باقي الأيام إلى أموري الخاصة وزعامتي العامة) [6].
ولعلّ هذا النص ينطوي على وضوح أكبر لمنهجية تعامل الإمام مع مسألة الحضور المرجعي، والتحريض عليه تارة عبر حضوره الشخصي، وتارة عبر رفض الغياب اللامبرر لبعض الوجود العلمائي في حياة الأمة السياسية، وتارة ثالثة عبر تحريض طلاب العلوم الدينية لحث المرجعية وإنهاضها للإنخراط في المسيرة الحركية للإسلام.
أما على صعيد النقطة الثانية المرتبطة بالدور الاستهدافي الخارجي لمسألة القيادة والمرجعية والعلماء، فإن الإمام الخميني كان يلاحق هذه المسألة عبر خطابه الثوري بما يؤدي إلى معالجة أزمة الحضور، وكان يسلّط الضوء على الأساليب الاستعمارية في النيل من المرجعية أو حصر دورها في الأمور الفقهية العبادية وإبعادها عن دورها السياسي والاجتماعي، يقول الإمام الخميني: (لقد نشرت صحيفة (إطلاعات) مقالاً تحت عنوان(الاتحاد المقدس)، يتّهم المرجعية بأنها توصّلت إلى اتفاق مع ثورة الشاه والشعب، فأي ثورة هذه وأي شعب هذا؟ إنّ هذه الثورة ليست لها أية علاقة مع المرجعية والشعب، أيها الطلبة الأعزاء بلّغوا كل من لم يصل له صوتي بأن المرجعية معارضة ومخالفة لهذه الثورة)[7].
إنّ هذا النص الخميني بقدر ما ينطوي على شكل من أشكال الإحضار للدور المرجعي الموجود فعلاً والغائب عن مسرح الأحداث، فإنه في الوقت ذاته يكشف مستوى من مستويات أسلوب الخصم في توظيف ورقة المرجعية في خدمة رسمية الشاه الحاكمة آنذاك: لا بغية تعزيز هذا الموقف الرسمي فقط وإنما استهدافاً لوحدة الموقف المرجعي ومحاولة لاختراقه.
وفي نص آخر للإمام جاء ما يلي: (لقد وقع في يدي كتاب مدرسي لمادة التاريخ، فيه يلوّثون أفكار أبنائنا وشبابنا بأساطيره وافتراءاته وتزويراته، وقد رأيت عبارة في إحدى زواياه تقول: (والآن أصبح واضحاً بأن في قطع جذور نفوذ مراجع الدين يتمّ الرفاه وتأتي السعادة والحياة السعيدة للأمة)، إنهم أدركوا جيداً، أنه بوجود الزعامة الدينية سوف لن تكون الأمة أسيرة لبريطانيا يوماً ولا لأميركا في أي يوم)[8].
يقول الإمام أيضاً في هذا الصدد: (عندما يئس الاستكبار من القضاء على مطلق الروحانية والحوزات اختار العمل على محورين، أحدهما التخويف والترهيب، والثاني الخدعة والاختراق.
وعندما وجد في هذا القرن أنّ حربة الترهيب لا تجدي اعتمد تقوية محور الاختراق، وكان أول تحركاتها إملاء شعار فصل الدين عن السياسة، وللأسف فإن هذه الحربة تركت آثارها إلى أبعد الحدود في الحوزات وأوساط الروحانيين بحيث وصل الأمر إلى أنّ التدخّل في السياسة أصبح دون شأن الفقيه، وأصبح الدخول في معركة السياسيين يؤدي إلى تهمة الارتباط بالأجانب)[9].
إنّ هذا النص والنصوص التي سبقته تكشف عن ملاحقة الإمام لأساليب الاستعمار في مواجهة المرجعية والقيادة الإسلامية، ومن ثم محاولة الحؤول دون حضورها في خضمّ الواقع السياسي.
فهذا الأسلوب يتعدد بمجموعة من الصيغ التي يكشف عنها الخطاب الثوري للإمام وبالشكل التالي:
1ـ تزوير التاريخ الإسلامي، وموقع القيادة الإسلامية، والمرجعية الإسلامية فيه بغية الإساءة لهما، ومن ثم نشأة الأجيال نشأة منحرفة معادية للقيادة الدينية.
2ـ يحاول الاستعمار وقد نجح في ذلك نجاحاً محدوداً وعبر لعبة فصل الدين عن السياسة إبعاد رجل الدين عن الأمور السياسية.
3ـ يمارس أسلوب الترهيب والتخويف والضغط من أجل شل القيادات الفاعلة في الأمة والحيلولة دون حضورها الدائم في ساحة الأحداث.
4ـ ويمارس الاستعمار مباشرة وعبر أعوانه والأنظمة التابعة شراء بعض الأسماء (العلمائية) بالأموال ووفق سياسة الترغيب لترويج مفاهيمه الثقافية في إطار مسألة القيادة.
5ـ يمارس الاستعمار سياسة الاختراق أو سياسة المخادعة أو إلصاق التهم بالعمالة لإسقاط القيادات الإسلامية المخلصة في محاولة للإطاحة بدورها الريادي، الاستنهاضي للأمة.
وعبر كل هذه الأساليب وغيرها فإن الهدف المشترك هو إبقاء الأمة الإسلامية دون قيادة واعية تقودها في مسيرتها الحركية، وفيما يشخّص الإمام بحسّه الديني والسياسي ذلك، فإنه يبلوره في خطابه السياسي وفق منهجية إحضار القيادة الإسلامية في شؤون الأمة.
لقد عمل الإمام الخميني بمنهجية الحضور والإحضار المرجعي العلمائي في مسيرة الأمة الإسلامية والمسيرة الإنسانية بهمومها وجزئيات حركة حياتها.
ولقد تجسّدت هذه المنهجية في ما مضى على مستويين، أو خطّين، هما: خط الإثارة المكثّفة لهذه الأزمة بأساليب متعددة، وخط الدور الاستعماري الخارجي للحؤول دون الحضور القيادي الإسلامي في حركة الحياة العامة للأمة الإسلامية، وسنحاول الآن أن نواكب خطاب الإمام الخميني الثوري لقراءة الخط الثالث، الخط المتمثل بإستنهاض البُعد الثوري والبُعد السياسي في حركة المرجعية والعلماء التاريخية، لتدعيم منهجية الإحضار والحضور التي عمل عليها، كحل استراتيجي لهذه الأمة في الحياة الإسلامية، وهي بلا شك أزمة مركزية، كانت مسؤولة إلى جانب أزمات وأسباب أخرى عن ضياع العالم الإسلامي ووقوعه تحت هيمنة النفوذ الأجنبي، وانقسامه إلى دول وخرائط متناقضة.
ونحن هنا عندما نقرأ هذا الاستنهاض الخميني لتاريخ المرجعية الثوري عبر نص الخطاب الثوري، فإننا لا نعمل بمنهجية الفرز والتجميع لنصوص الإمام بشكلها الكمّي الذي يستوعب كل نصوص خطاب الإمام، فتحت أي خط أو نقطة، من هذه الخطوط والنقاط بالإمكان أن ندرج عشرات أو مئات النصوص لتدعيم رؤية الإمام ومنهجه، إلا أننا عادة ما نكتفي بعيّنات نصّية تستوفي المعنى البحثي.
يقول الإمام في هذا الإطار عن الانتفاضات الثورية التي قادها علماء الدين الإسلامي: (ثارت مدينة مشهد، فقام علماء الدين قياماً واحداً، ولكن قبض عليهم جميعاً، حتى المرحوم السيد نجل آية الله الخراساني الذي كان يحظى بقدرة وهيمنة وفاعلية لدى الشعب، إضافة إلى اعتقال كثير منهم ونقلهم إلى طهران، اختطفوا هذا العالم الجليل من الشارع وأودعوه السجن وقضوا على جميع تحرّكاته ونشاطه، فالقضاء على شخص كهذا بقدرته وجهاده أمر لا يمكن وصفه بمسألة خلافية بين رضا خان وهذا العالم المبجّل، إنما هي مسألة وجود رجل علم ووجود خطر يجب أن يزول)[10].
ويواصل الإمام الخميني كلامه قائلاً: (في تلك الانتفاضة التي قام بها علماء خراسان، ألقي القبض على المرحوم آغازاده والسيد يونس وغيرهما من العلماء وزوجوا بهم في سجون طهران، وأنا نفسي شهدت المرحوم آغازاده، رأيته جالساً في جانب من السجن بدون زيّه وعمامته ولم يسلم من الرقابة أيضاً).
ويضيف الإمام الخميني في كتابه(كشف الأسرار): (لقد أدرك الأوروبيون أنّ استعمار البلاد الإسلامية ونهب ثرواتها لا يمكن أن يتحقق بهدوء وصمت وطمأنينة، ذلك لأنهم وعوا العلاقة المتينة بين الشعب وبين طبقة العلماء والفقهاء، وعرفوا مدى تمسّكهم بمبادئهم تجاه أداء وظائفهم الدينية واستسلامهم لمفكّريهم من الفقهاء، وإذاً فهذه العلاقة ترجع بأجمعها إلى عنصر واحد وهو العلماء والحوزة اللذين لا يمكن للجماهير التخلّي عنهما، لقد اصطدموا لأول وهلة بالعلماء في مسألة اتفاقية التنباك وأحبط المرحوم الميرزا الشيرازي خططهم وقلّم أظافرهم).
وفي خطاب شهير للإمام جاء: (يقول أحد المؤرّخين الأميركيين كان هنالك شيخ يتّكئ على عصا في البرلمان(السيد حسن المدرس) انتفض من مكانه وارتقى المنصة وقال: الآن وقد عزم على تدميرنا وتحطيمنا فما هو الداعي والموجب أن نوّقع على هذا بأصابعنا؟ أمهلونا ليدمّرونا ونحن شرفاء أعزاء، حيث على أثره تجرّأ الباقون على المعارضة وفي الوقت نفسه أحجمت روسيا عن المسألة بالمرّة)[11].
وفي نص آخر للإمام يقول: (إنّ الأعداء يعلمون مدى تأييد الأمة للحوزات العلمية ويعلمون أنه يصعب عليهم القضاء على هذه الحوزات ما دام هذا التأييد قائماً، ولكن عندما يفقد أفراد الحوزات وطلابها المبادئ الأخلاقية، ويصبح شغلهم الشاغل تحطيم بعضهم الآخر، ويصبحون جماعات متنافرة، ومتناثرة لا يتورّعون عن الأعمال اللاأخلاقية فإن الأمة بشكل طبيعي وتلقائي ستسوء نظرتها إلى الجامعات العلمية الدينية ثم تسحب دعمها وتأييدها لها وهكذا يفتح الطريق واسعاً أمام الأعداء لتسديد ضرباتهم إلى هذه الجماعات، يجب أن تعلموا أنّ الدول لا تخاف من علماء الدين، ومن المراجع، وما خوفهم هذا بالحقيقة إلا من الأمة، فهم يعلمون أنّ قوة المرجعية تكمن في تأييد الأمة لها والثقة بها)[12].
ومن خلال هذه النصوص وعشرات غيرها يتّضح بلا شك الهمّ الخميني في إحضار التاريخ الثوري في خطابه الثوري، بوقائعه مرّة وبرموزه وأسمائه مرّة أخرى، وتبدو مهمة الإحضار واستدعاء هذا الجانب الثوري من التاريخ السياسي الإسلامي المعاصر واضحة وتتمثل في قلع المفهوم الاستعماري، بفصل الدين عن السياسة من ذهنية شريحة علمائية ومرجعية يفترض لها أن تكون قائدة للأمة في مسيرتها السياسية المرعبة، كما تتمثل هذه المهمة بإزاحة حالات الخوف التي تبعث في بعض الأحيان على التمسّك بفكرة الفصل تلك، أو تهذيب مفهوم التقية الذي تحكمه ظروف سياسية معيّنة، فلاحظ الإمام كيف يوجّه اهتمامه نحو المهمة الأولى... مهمة مقاومة الخوف من السلطة من خلال هذا النص من خطابه الثوري: (حذار من القلق والهلع وتحاشوا الاضطراب واخلعوا رداء الخوف من أنفسكم، إنكم أتباع أئمة وعظماء تحمّلوا شتى المصائب والآلام في سبيل الله. وعند ذكركم مصائبهم وآلامهم سوف تخف عليكم جميع المصائب والصعاب، أئمتنا تحمّلوا مصائب عظمى كمصيبة العاشر من محرم وليلته رغبة في إقامة دين الله).
ويواصل الإمام هذا النص قائلاً: (ترى مم تخافون؟ ومن أي شيء تقلقون؟ إنه عار على أي مسلم يدّعي التفاني والولاء لأهل البيت والأئمة أن يتنازل عن مطالبه ويتقهقر أمام حوادث ومصائب كهذه).
وفيما يرتبط بهمة الإمام في إثارة مسألة التقية وحدودها, يقول في النص نفسه: (وإنني أسترعي انتباه أخوتي الفضلاء إلى خطر اضمحلال الدين وأصوله في البلاد، إنّ القرآن والدين في خطر، ومع هذا فإن التقية لا مكان لها اليوم، وإظهار الحقائق أمرٌ واجب اليوم مهما كانت النتائج)[13].
وفي سياق آلية الإحضار للتاريخ القيادي الثوري في الخطاب، لا ينسى الإمام في المقابل أن يركّز بلا هوادة على أداة خطيرة من أدوات شل هذا الإحضار، والتغييب المتعمد لدور العالِم القيادي عن مسرح السياسة الإسلامية، وهذه الأداة تتمثل في المتحجّرين والمتظاهرين بالقدسية سواء كان تحجّرهم وتظاهرهم بالقدسية نابعاً من أسباب مرضية ذاتية ونفاق داخلي أو من أسباب العمالة والارتباط بالأجنبي الذي يعمل على تكريس منطق التغييب العلمائي القيادي عن الساحة، ويلاحظ الإمام الخميني وهو يتحدث عن دور هؤلاء وخطرهم، فإنه يطلق قلبه ولسانه في صرخة مليئة بالألم والمرارة عبر كلمات خطابه، ولعل هذه المرارة هي تعبير خارج عن حدود الوعي الذهني لخطر هؤلاء ودور (القدسية) المنافقة في عرقلة وشلّ الحضور السياسي الشخصي للإمام الخميني في الحياة الإسلامية.
وصرخة الخطر التي يطلقها الإمام هنا، هي صرخة ذات بُعدين: البُعد النظري، والبعد العملي التجريبي في تشخيص هذا الخطر، وبالتالي فهي أيضاً دعوة مرتفعة الصوت للوقوف بوجه هؤلاء الذين يحاولون دون منهجية الإحضار العلمائي في شؤون الأمة.
إنّ نصوص الإمام في هذا الصدد كثيرة، إلا أننا سنقف على هذا النص المطوّل لسماحته. يقول الإمام في خطابٍ له:
(عدد من المتظاهرين بالقداسة الأرذال كانوا يرون كل شيء حراماً.
ولم يكن أحد يجرؤ على التصدّي لهم، إنّ الغصص التي تجرعها أبوكم الشيخ من هذا النوع المتحجّر لم يتجرّع مثلها أبداً من غيرهم. عندما انتشر مفهوم فصل الدين عن السياسة وأصبحت الثقافة في منطق الأغبياء تعني الغرق في الأحكام الفردية والعبادية، أصبح الفقيه بشكل تلقائي عاجزاً عن كسر هذا الحصار ليتدخّل في السياسة والحكومة وأصبحت حماقة الروحاني في معاشرة الناس فضيلة.
يزعم البعض أنّ الروحانيين يستحقّون الاحترام عندما يقطر وجودهم حماقة وإلا فلن يكون أحدهم سياسياً وروحانياً وعالماً بالأمور وذكياً( ويعرف من أين يؤكل الكتف) وقد كان هذا رائجاً في الحوزات. فكل من سلك طريقاً ملتوياً هو الأكثر تديّناً. كان تعلّم اللغة الأجنبية كفراً.
وكانت الفلسفة والعرفان شركاً في المدرسة الفيضية فلقد شرب ابني الصغير المرحوم مصطفى من إبريق فطهّروه من بعده لأنني كنت أدرّس الفلسفة).
(نشر منطق أنّ (الشاه ظل الله) و( لا يمكن مواجهة الدبابة والمدفع باللحم والجلد) و( نحن لسنا مكلفّين بالجهاد) و( من يتحمّل مسؤولية دماء القتلى)! والأشد فتكاً من ذلك كله الشعار المضلّل(الحكم قبل ظهور الإمام المهدي باطل) والآن إن قلّت الإشكالات فإن مشاكل كبرى غيرها لا تطاق، ولم يكن بالإمكان أن تواجه بالنصيحة والجهاد السلبي والتبليغ. كان الحل الوحيد هو الإيثار والدم وقد هيّأ الله أسباب ذلك، وقف العلماء وطلاب العلوم الدينية يستقبلون بصدورهم كل سهم مسموم يرمى به نحو الإسلام.
وتقدّموا إلى مسلخ العشق. وقد وقع أول وأهم الفصول الدموية للجهاد في عاشوراء الخامس عشر من خرداد.
وفي خرداد عام 1342هـ ش(1963م) لم تكن المواجهة مع رصاصة بندقية ورشاش الشاه ولو كان ذلك فحسب لكان سهلاً.
بل بالإضافة إلى ذلك كانت داخل الجبهة الداخلية رصاصة الاحتيال والنسك الكاذب والتحجّر، رصاصة جراحات اللسان والنفاق والازدواجية التي كانت تحرق الكبد والروح وتمزّقها أكثر بآلاف المرّات من البارود والكبريت. في ذلك الزمان لم يكن يمر يوم من دون وقوع حادثة وكانت الأدوات السرية والمعلنة لأميركا والشاه تنشر التهم والشائعات.. حتى أنهم كانوا يلصقون تهمة ترك الصلاة والشيوعي والجاسوس الإنجليزي بالأشخاص الذين كانوا يقودون الصراع)[14].
القدسية المزيفة
إنّ الخط الرابع في هذه المنهجية التي اعتمدها الإمام، هو الخط المتمحور حول المتحجّرين والمتظاهرين بالقدسية المزيّفة والتقوى، حيث شكّل هذا الخط طابوراً خامساً في مسيرة الإسلام التاريخية منذ البعثة المحمدية الشريفة وحتى عصر النهضة الخمينية، وغالباً ما كان النفاق الديني هو السمة المشتركة لهم في كل مراحل التاريخ الإسلامي فخصّهم الله في كتابه الحكيم بآيات بيّنات في سورة المنافقين, ولم يسلم الإمام علي(عليه أفضل الصلاة والسلام) من مكرهم ونفاقهم, ولم تسلم المسيرة الإسلامية من مكائدهم وذاتياتهم المزيّفة، فكانوا أزلاماً للسلطة الظالمة، حيث لا يحول دون اندماجهم بها حائل، وكانوا أدوات عميلة غير مكشوفة على أكثر الأوقات والأزمان حيث يحققون بهذا الدور معنى الطابور الخامس، لا بأيديهم، ولكن دائماً بكلامهم، إذ أنّ مهمّتهم دائماً هي الكلام (وإن يقولوا تسمع لقولهم) ولأنهم أصحاب ملكات فيه، يؤكد القرآن الكريم تمكّنهم منها... وهكذا كان دورهم في عصر النهضة الخمينية، حيث يصفهم الإمام في خطابه الثوري بالقول: (كانت داخل الجبهة الداخلية رصاصة الاحتيال والنسك الكاذب والتحجّر، رصاصة جراحات اللسان والنفاق والازدواجية التي كانت تحرق الكبد والروح وتمزّقها أكثر بآلاف المرات من البارود والكبريت).
أما وظيفة هذا اللسان فيصفها الإمام قائلاً: (في ذلك الزمان لم يكن يمرّ يوم من دون وقوع حادثة، وكانت الأدوات السرية والمعلنة لأميركا والشاه تنشر التهم والشائعات، حتى إنهم كانوا يلصقون تهمة تارك الصلاة والشيوعي والجاسوس الإنجليزي بالأشخاص الذين كانوا يقودون الصراع)[15].
إنّ خطورة هذه الفئة المتظاهرة بالقدسية تأتي من وراء التظاهر بالدين، وارتداء زيّه وممارسة النفاق والشذوذ تحت غطائه، ولاشك في أنّ وقع هذا الدور هو أكثر ألماً للقلوب بآلاف المرّات من البارود والكبريت، وهو كذلك أكثر عرقلة وتدميراً للمسيرة الإسلامية وحركة المشروع الإسلامي بآلاف المرّات من دور القوى الكبرى وأدواتها المكشوفة. فلكي تنهض بهذه الفئة إلى مستوى الكشف والإيضاح والتوضيح تحتاج إلى آليات غير طبيعية, هذا إذا لم يستحل الكشف في أكثر الأحيان لكي يتحوّل إلى عنوان شرعي لمواجهتهم.
من هنا تبرز خطورة هذا الطابور المتلفع بلباس التقوى والرافع راية القداسة والمتستر بالزهد, بغية أن يمارس نفاقه السياسي والاجتماعي في دور تكميلي لأدوار العدو الخارجي وليشلّ الجبهة الإسلامية من الداخل، ويسقط القيادة الإسلامية في محنة الصراع الداخلي بدلاً من أن يعطيها فرصة إدارة الصراع على الجبهة الخارجية.. وهكذا تبدو الجبهة الداخلية مهددة دائماً في ظل هؤلاء المنافقين فهم دائماً:
1ـ مصدر الإشاعة والتهمة واختلاق الحوادث المفتعلة والمنظّرون الشرعيون للإسلام الأميركي والدولي المعادي.
2ـ وهم دائماً، وبإسم الدين ولباسه وتقواه، لا يتخلّفون عن الحضور الواجب في المعترك السياسي الإسلامي فحسب، بل إنهم يسعون بلا هوادة لعرقلة هذا الحضور عبر استهداف القيادات الإسلامية الحضارية لأداء دورها الرسالي والثوري.
3ـ وهم دائماً يملكون القدرة الكلامية لـ(تبديل أسلوب تزييف القداسة وبيع الدين) على حد كلام الإمام الخميني.
4ـ وخطورتهم تأتي، لا من دور تاريخي مضى وإنما هو حاضر في التاريخ، وفي الوقت الحالي وفي المستقبل،إذ (ما تزال الحوزات حتى الآن مختلطة المنهجين. ويجب الحذر حتى لا ينفذ منطق فصل الدين عن السياسة من مطاوي فكر أهل الجمود إلى الطلاب الشباب).
5ـ وخطورة هؤلاء تأتي أيضاً من صعوبة التصدّي لهم, فَهْم (يرون كل شيء حراماً ولم يكن أحد يجرؤ على التصدّي لهم) كما يقول الإمام: لأن قسماً كبيراً من الناس لا تملك ثقافة الكشف عن هؤلاء...
إنّ الإمام الخميني هو الوحيد الذي تصدّى لهم بالحجم الذي يتناسب مع حجم الخطورة التي يمثلونها في حركة الحالة الإسلامية. لقد تصدّى لهم الإمام من خلال خطابه الثوري على عدد من المستويات:
1ـ لم يستسلم الإمام لمنهجهم النفاقي والتسقيطي والانزوائي والمروّج لمقولة فصل الدين عن السياسة في الوقت الذي كان فيه العديد من العلماء قد تركوا الساحة وخضعوا لإبتزازاتهم وتهديداتهم.
فكل(من لم يكن معتقداً مئة بالمئة بالجهاد اضطرّ إلى الانسحاب من ساحة الصراع تحت الضغوط وأنواع التهديد من قِبَل المقدسين المزيّفين).
2ـ كما أنّ الإمام تصدّى لهؤلاء على مستوى كشف ارتباطهم بالدوائر الكبرى وأنظمتها العميلة.
3ـ وكان الإمام الخميني شجاعاً عندما أوجد من خلال خطابه الثوري، وتركيزه على هؤلاء وخطورة دورهم، ظاهرة الحذر من آرائهم في الأوساط الشابّة، مقابل ظاهرتهم ودورها الداخلي الهّدام.
4ـ لقد كشفهم الإمام الخميني على مستوى الممارسة، من خلال كشف أساليبهم في التشويش والتسقيط والدعاية.
5ـ لقد مارس الإمام الخميني هذا الكشف على مستوى التداخل الحساس الذي شكّل الأرضية التي تعتاش عليها هذه الفئة المتظاهرة بالقدسية، وهذا التداخل قد تمثّل بالاحتياط العلمائي والمرجعي التاريخي في قواعد التحريم إزاء الاكتشافات ومظاهر التقنية العلمية الحديثة فبغية مقاومة النفوذ الأجنبي في المركز والمدارس والمؤسسات والمجتمع الإسلامي بشكل عام، احتاط العلماء والمراجع إزاء هذه الاكتشافات والمظاهر إلى حد تحريم البعض منها في فترة من الفترات كتحريم الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح، لأن هذه الأدوات المكتشفة حديثاً آنذاك، كانت قد استخدمت لترويج الفساد والرذيلة وتهديم البناء الأخلاقي الاجتماعي.
لقد استغلّت فئة العلماء المتظاهرين بالقدسية هذا التحريم المرجعي والعلمائي القائم على الحرص في صيانة الأمة وقطع أيدي ونفوذ الدول الكبرى، والذي قد يفقد الدقّة بشكلها الحاسم، استغلّ هؤلاء ذلك ليطلقوا فتاوى تحريم تسييس الدين على أرضية هذا التحريم، وانطلاقاً من هذا التداخل الحساس بين دور التحريم الحريص، وفتاوى التحريم المنافقة على أساسه، كانت هنالك حاجة وضرورة قصوى للفرز تحول دون تستّر المتظاهرين بالقدسية تحت عباءة المرجعية المخلصة، ولم يكن من أحد قادراً على خوض معادلة الفرز هذه لحساسيتها، سوى الإمام الخميني بصبر وإصرار وتأنّ فوضع النقاط على الحروف في خطابه الثوري لهذا الفرز.
وفي هذا الصدد يتحدث المرحوم السيد (أحمد) نجل الإمام:
(لذا فإن جيل الشبّان الذين التحقوا ولا يزالون يلتحقون فوجاً بعد آخر للسير على طريق الثورة والإمام وطلبة العلوم الدينية الشبّان الذين انخرطوا في سلك الحوزات العلمية والذين سيتبعونهم، وجميع أولئك الذين ستتوجّه إليهم مسؤولية مواصلة مسيرة الثورة بشكل مباشر إذا لم يطلعوا على الماضي، ولم يتمكنوا من التفريق بين الاتجاهات الفكرية والمتحجّرة والمؤطّرة بالإبهة والقدسية الزائفة، وبين العرفان والزهد والتعبّد الحقيقي، فإن خطر الارتداد التدريجي والانحراف عن أصول الثورة ومبادئها في خضمّ الحوادث المستقبلية والمحيط الضبابي الذي يحتمل أن يسيطر فيه أصحاب المناهج الفكرية التي هزمها الإمام وهزمتها الثورة إلى إيجاده خصوصاً في حالة غياب الإمام سيظل قائماً محتملاً بشكل جدّي)[16].
يقول الإمام أيضاً: (ومعارضة الروحانيين لبعض مظاهر التمدّن في السابق كان سببها الوحيد الخوف من نفوذ الأجانب. لكن الإحساس بخطر انتشار الثقافة الأجنبية وخصوصاً الثقافة المبتذلة هو السبب في تعامل العلماء بحذر مع الاختراعات والظواهر الجديدة لشدّة ما رأى العلماء الصادقون من أكلة العالم من كذب وخداع لم يعد بإمكانهم الاطمئنان إلى أي شيء وصارت عندهم الأدوات كالإذاعة والتلفزيون مقدمة لدخول الاستعمار، لذلك كانوا يحكمون أحياناً بمنع استعمالها.
ألم تكن الإذاعة في بلاد مثل إيران وسيلة للتبشير بثقافة الغرب؟ ألم يستفد النظام السابق من الإذاعة والتلفزيون لممارسة العقائد الدينية وإسقاطها والتنكّر للآداب والعادات الوطنية؟ وعلى كل حال فإن خصوصيات كبيرة كالقناعة والشجاعة والصبر والزهد وطلب العلم والتحرر وأهم من ذلك كله الإحساس بالمسؤولية تجاه الناس أحيت الروحانية وحفظتها وحببتها إلى الناس)[17].
الفقاهة فقهاً وفقيهاً
نقف على خط آخر من خطوط منهجية الحضور والإحضار للقيادة الإسلامية في حياة الأمة، وهو الخط المرتبط بالفقاهة فقهاً وفقيهاً (وولاية)، إذ مثلما حاول الإمام أن يمارس هذه المنهجية من خلال أساليب الإحراج والتحريض والتذكير بالمسؤولية الشرعية، ومن خلال استدعاء التاريخ المرجعي الثوري، وعبر مواجهة فئة المتظاهرين بالقدسية، وعبر كشف السياسة الدولية العدوة إزاء القيادة الإسلامية، فهو مارسها من خلال موضوع الفقاهة فقهاً وفقيهاً، وجدليتها من جهة وارتباط كل ذلك بأطروحات الحكومة الإسلامية، وولاية الفقيه، والتعدد الاجتهادي في ظل هذه الولاية من جهة أخرى. وبادئ ذي بدء لابدّ أن نقف على فَهْم الإمام الخميني، ومن خلال خطابه الثوري أيضاً للفقه الإسلامي، إذ إنه لا يرى حدود ودور هذا الفقيه منتهياً بحدود المعاني العبادية، أو التشريعات الفردية البحتة، أو مقتصراً في دائرة المنهج الحوزوي القديم قبل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، فالإمام ولسبعين عاماً قبل وبعد هذه الثورة التي تحوّلت إلى دولة، كان يخوض معركة الفقه الإسلامي، لاستنهاض البعد السياسي من كل النصوص الإسلامية، ولم يقف الإمام في حدود دوره هذا عند استنطاق الفقه الإسلامي سياسياً إنما هو كان يستنطق النص القرآني، والحديث النبوي، وحديث الإمام المعصوم.
وخارج حدود الاستنباط الاجتهادي، كان الإمام يتجاوز ذلك أيضاً ليقرأ ويبلور البعد السياسي للإسلام عبر الفرائض الإسلامية، كصلاة الجمعة، والجماعة، وفريضة الحج، ومسيرة البراءة من المشركين، ومعظم المناسبات الإسلامية المتعارفة تاريخياً ليشكّل وليرسم ويؤسس من خلال هذا الجهد المُركّز منظومة المفاهيم السياسية الثورية للإسلام التي تمثل فلسفته الحقيقية، والتي تواكب الحاجات العصرية للبشرية، وتعطيه دوره كدولة وكيان.
من هنا نقول: ما هو دور الفقه الإسلامي من وجهة نظر الإمام الخميني، وكما يكرّسها خطابه الثوري؟
إنّ هذا الفقه هو المحرك الأساسي لعجلة تلك المنظومة المفاهيمية الثورية السياسية التي بلورها الإمام الخميني للإسلام، إذ من خلال هذه المنظومة، أعاد الإمام الإسلام إلى مسرح الحياة العالمية، وبفضل الإمام ودوره تجاوزت الحركة الإسلامية العالمية كل الخطط والمؤامرات والأدوات لتسجّل انتصارها الأول، بعد إبعاد قهري للمضمون الإسلامي السياسي لمئات السنين، وبعد رحيل طال أمده للكيان الإسلامي الذي ودّع الحياة السياسية، بإنهيار الدولة العثمانية.
على أية حال، لكي نعرف على وجه الدقّة ما هو دور الفقه الإسلامي، لنعد ثانية إلى خطاب الإمام الثوري، فهو يقول:
(أما فيما يتعلق بطرق الدراسة والتحقيق فإني أعتقد بالفقه القديم والاجتهاد بالأسلوب الجواهري(نسبة إلى الشيخ محمد حسن مؤلف كتاب جواهر الكلام). ولا أرى ترك ذلك صحيحاً. الاجتهاد بتلك الطريقة صحيح إلا أن هذا لا يعني أن فقه الإسلام ليس متجدداً.
الزمان والمكان عنصران فاعلان في الاجتهاد. المسالة التي كان لها قديماً حكم نفس هذه المسألة من ظاهرها يمكن أن يكون لها حكم جديد بحسب الروابط التي تتحكم بالسياسة والاجتماع والاقتصاد لنظام ما. بمعنى أن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تجعل الموضوع الأول الذي هو من حيث الظاهر لا يختلف عن الموضوع القديم موضوعاً جديداً وهو يستدعي تلقائياً حكماً جديداً)[18].
هذا النص للإمام يوضّح دور الفقه الديناميكي المتحرك باتجاه رصد المعضلة، أو التطور الإنساني، أو أية ظاهرة مستجدة في الحياة، وبمعنى آخر الفقه المستنفر لأي طارئ يحصل في مكان ما أو زمان ما على ضوء المصلحة الإسلامية العليا.
وهذه هي الفلسفة الربّانية للفكر الإسلامي، حيث إنّ هذا الفكر ينشطر إلى: ثابت ومتحرك، وحركة الفقه الإسلامي تقع داخل هذا الجزء المتحرك، داخل منطقة الفراغ التي يجب أن يملأها الفقيه مع حركة الزمن كما يبحث ذلك السيد الشهيد محمد باقر الصدر[19].
ومرة أخرى نقول: ما هو دور الفقه على ضوء خطاب الإمام؟
يقول الإمام: (الحكومة من وجهة نظر المجتهد الحقيقي هي الفلسفة العملية لجميع الفقه في جميع زوايا حياة البشرية.
الحكومة تبلور البعد العملي للفقه في التعامل مع جميع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية.
الفقه هو النظرية الواقعية والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد.
الهدف الأساسي هو أنه كيف نريد نحن أن نطبّق مبادئ الفقه السامية في عمل الفرد والمجتمع ونستطيع أن نحصل على إجابة على المعضلات.
وكل خوف الاستكبار من هذه المسألة. أي: أن يجد الفقه والاجتهاد بُعده العيني أو العملي وتوجد في المسلمين قدرة المواجهة).
وإذاً الفقه هو الركيزة الأساسية الفكرية التي تنظّم حركة المجتمع وتدير شؤونه. والطروحات الفقهية للإمام تتلخّص كما يقول أحد الكتّاب المعاصرين برفض(العلمانية، وعدم جواز فصل الدين عن السياسة والتأكيد على أنّ الإسلام منهج الحياة للعالم الإسلامي).
ويضيف هذا الكاتب قائلاً: (ثم هناك مسألة الاجتهاد في الدين وفتح باب الاجتهاد الإسلامي، وهي مسألة تتطارحها منذ زمن بعيد المذاهب الإسلامية المختلفة، وهنا يلاحظ أن الإمام الخميني يستفيد من هذا الباب ليصدر فتاوى تحل فجأة مشاكل كثيرة تواجه المسلمين ولا يجدون مخرجاً لها. وقد صار الاجتهاد المفتوح واحداً من العوامل التي تحرك الحالة الإسلامية وتمد الحركة الإسلامية بالحيوية والفاعلية في مواجهتها لقضايا العصر)[20].
إنّ الحديث عن الفقه الإسلامي والاجتهاد يجر بالضرورة إلى مسألة مهمة وحيوية في حياة الأمة، ألا وهي مسألة التعدد الاجتهادي في ظل الدولة الإسلامية وفي ظل ولاية الفقيه، ولكن وقبل الخوض في هذا التعدد الاجتهادي لابدّ من الوقوف أولاً على مواصفات المجتهد، وفلسفة الاجتهاد، وفلسفة الاجتهاد كما يراها الإمام، فالإمام مثلما استنهض البعد السياسي للفقه، فإنه شخّص وحدّد معنى كلمة الاجتهاد ودور المجتهد.
(فالاجتهاد في الاصطلاح الحوزوي وحده لا يكفي، وإذا كان هناك شخص أعلم في علوم الحوزة، ولكن لا يستطيع تشخيص المصلحة العامة، أو لا يستطيع تشخيص الأفراد في الصالح والطالح، والمفيد من غير المفيد، وبشكل عام، فإنه فاقد التشخيص في المجالات السياسية والاجتماعية، وفاقد القدرة في اتخاذ القرار، إنّ هذا الشخص لا يعتبر مجتهداً في المسائل الحكومية والاجتماعية ولا يستطيع أن يمسك زمام أمور المجتمع بيده).
كما يقول الإمام الخميني في ردّه على رسالة استشارية رفعها له الشيخ الأنصاري[21].
ويقول الإمام الخميني بهذا الصدد: (وما لم يكن للروحانية حضورها الفعّال في جميع المسائل والمشكلات فلن نستطيع أن ندرك أنّ الاجتهاد المتعارف عليه لا يكفي لإدارة المجتمع، يجب أن تدرك الحوزات والروحانية دائماً بعض تفكير المجتمع واحتياجاته وأن تستبق الأحداث دائماً وتستعد لردّة الفعل المناسبة.
إنّ من المحتمل جداً أن تتغيّر في السنوات القادمة أساليب إدارة أمور الناس المتعارفة الآن، وتصبح المجتمعات البشرية بحاجة في حلّ مشاكلها إلى مسائل الإسلام الجديدة، يجب أن يبحث علماء الإسلام الأجلاّء عن حل لذلك منذ الآن)[22].
من خلال هذا النص يتّضح كيف أنّ الإمام الخميني لا يكتفي بكل ما قام به على مستوى إبراز معنى الفقه السياسي ودوره، ولا بتحديد شكل الفقيه المطلوب اجتماعياً، بل إنه يمارس تحريضاً للفقيه على أفق المستقبل.
وما يستجد من تطوّرات يجب على الفقيه رصد بواكيرها وبداياتها منذ الآن. يجب على الفقيه أن يبادر لقراءة التطور اللاحق، قبل أن يفاجئه هذا التطور ليقف الفقه أمامه عاجزاً أو متخلّفاً.
إنّ ذهنية الإمام تمارس هنا ما يمكن أن يسمّى بذروة الاستنفار والاحتياط لتجاوز جمود الفقه والفقيه الذي كان سائداً في بدايات النهضة الخمينية وقبلها.
ولاية الفقيه
لقد وقفنا في ما مضى على آراء الإمام حول الفقه الإسلامي والفقيه الإسلامي، وهذا الفقيه المرشّح لقيادة المجتمع ووفق الشروط التي حددها الإمام، له الولاية في الإشراف وبالتأكيد ليس الإشراف الشكلي، إنما الإشراف الموجّه لعمل الحكومة الإسلامية، ويوضّح الإمام الخميني دور الولي الفقيه من خلال خطابه الثوري بالقول: (حينما نقول ولاية الفقيه لا نقصد أن يكون الفقيه رئيساً أو وزيراً أو قائداً عسكرياً، إنما نقصد بذلك إشرافه التام والنافذ على القوى التشريعية والتنفيذية تحت إطار الدين الإسلامي)[23].
تقوم نظرية الإمام الخميني في الحكم في أطروحة (ولاية الفقيه) بناءً على النصوص الإسلامية في الأساس حول (أولي الأمر) والآية الكريمة بهذا الصدد تقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)، وهذه هي ولاية النص على أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب(عليه أفضل الصلاة والسلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلما نصّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه على الولاية من خلال أحاديثه العديدة وأهمها قوله في يوم الغدير: (من كنت مولاه فعلي مولاه.. الخ) ووفق هذه النظرية تمتد الولاية إلى الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
أما الولاية في عصر غيبة الإمام المعصوم، فهي ما يطلق عليه (ولاية الفقيه)، وهي الامتداد الطبيعي ـ كما يراه الرأي الفقهي الذي يقول به ـ لولاية الإمام المعصوم حيث (تنتقل الولاية والحكومة من المعصوم إلى الفقيه وبذلك فهو نائبه المحدد بالصفات والذي يمارس الولاية بمقتضى النص بعد المعصوم)[24].
ويفسّر الإمام الخميني آية(أولو الأمر) بالقول: (إنّ الله أمر بهذا بناء كيان دولة إسلامية، ولما كان الأمر شاملاً لكافة الأمة الإسلامية بأن تطيع تلك الحكومات المعبّر عنها بـ(أولي الأمر) فلابد من وجود حكومة واحدة لا غير، ويرى الإمام أنّ (أولي الأمر) في الأمة لا يمكن أن يكونوا (أشخاصاً جهلة ومهرّبين وجباة أموال)[25].
وتوضيحاً، فإن الهدف الأساسي ـ من وجهة نظر الإمام ـ هو إيجاد حكومة إسلامية حقيقية، إذ يقول: (نحن لا نرى حكومة بإسم فقيه، إنما نطالب بحكومة تتماشى مع قوانين الله تعالى ودستوره الحكيم الذي هو رحمة للعالمين، وهذا لا يتحقق إلا بوجود العلماء وأهل الدين)[26].
ولأن مسألة ولاية الفقيه هي مسألة خلافية بين من يراها مطلقة أو محدودة ضمن دوائر معيّنة ومتعددة، ولأن هنالك من يفهم الولاية على أساس(الولاية الحسبية) أو على أساس(الولاية المطلقة)، فلقد تحوّلت ولاية الفقيه إلى محور من المحاور التي تحرّك عليها أعداء الإسلام، لإثارة الغبار بوجه التجربة الإسلامية الخمينية ووضع العراقيل والمشاكل أمامها، انطلاقاً من حساسيتها، ولقد أثير فيما أثير حول هذه المسألة التعدد الاجتهادي، فماذا لو أفرز هذا التعدد أراءً فقهية تعارض آراء(الولي الفقيه) في ظل الدولة الإسلامية؟.
إلا أنّ الإمام الخميني بحيويته الثورية، ووعيه السياسي، وانطلاقاً من حرصه الدائم على عدم ترك المسيرة الإسلامية أسيرة لأجواء من القلق السياسي والفكري، أثرى هذا الجانب تنظيراً وبحثاً وتشخيصاً.
يقول الإمام ردّاً على الرسالة التي رفعها إليه الشيخ الأنصاري: (إنّ كتب فقهاء الإسلام العظام مملوءة باختلاف وجهات النظر، وكل منهم له رأي في المجالات العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعبادية، ففي بعض المسائل هنالك إجماع للفقهاء، وحتى في المسائل التي فيها إجماع هنالك قول أو أقوال تخالف الإجماع، وفي الماضي فإن هذه الاختلافات كُتبت باللغة العربية مما جعل إطلاع أكثر الناس عليها قليلاً، والذي يعلم بها فإنه لا يتابع إلا المسائل التي تهمّه.
والآن هل نستطيع أن نتصوّر بأن هؤلاء الفقهاء عندما اختلفت وجهات نظرهم، كانوا يعملون خلافاً لما يريد الله سبحانه وتعالى، وخلافاً للدين الإسلامي وللحق؟ الجواب كلا؛ واليوم والحمد لله، فإن كلام الفقهاء وأصحاب النظر يبثّ في الراديو والتلفزيون، أو يكتب في الصحف؛ لأن الناس يحتاجون إليه في حياتهم العملية).
ويواصل الإمام الخميني كلامه قائلاً: (لذا ففي الحكومة الإسلامية يجب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً؛ لأن طبيعة الثورة تقتضي أن تطرح وجهات النظر الفقهية في مختلف المجالات. ولا يحق لأحد الحيلولة دون ذلك، ولكن بشرط أن يكون الطرح بصورة صحيحة على الأمور في نطاق الحكومة والمجتمع من أجل بناء مجتمع إسلامي يمكنه أن يخطط لمصلحة المسلمين ويدعو إلى الوحدة والاتحاد)[27].
ومن خلال هذه النصوص يرسم الإمام الخميني صورة متوازنة لآليات العلاقة بين الفقه والاجتهاد والدولة الإسلامية وولاية الفقيه، فهذه الولاية ليس كما صوّرها وأرادها أعداء الثورة والتجربة الإسلامية الوليدة، قامعة لحركة الفكر والاجتهاد، بل إنّ طبيعة الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية والثورة الإسلامية قائمة في فلسفتها وما تنطوي عليه من مستجدّات حياة متطورة على الاجتهاد المفتوح، أو التعدد الاجتهادي المناقش بشكل دائم لهذه المستجدات، ومن هنا تتحوّل ولاية الفقيه ضامنة لحيوية الفقيه والاجتهاد. ولكن بالشروط التي تحول دائماً وفق آراء الإمام دون تعثّر الوحدة الإسلامية، واستقرار الحكومة والمجتمع.
وإذاً المسألة لا تكمن هنا في ما كان الرأي الاجتهادي معارضاً أو مؤيداً للولي الفقيه، وإنما تكمن في وعي الحاجة الإسلامية من خلال الدراسة والبحث والتحقيق والاستنباط الحر إلى الرأي الفقهي الراشد الذي يحقق المصلحة الإسلامية وعلى أساس نوايا تسديد حركة الحكومة الإسلامية.
فقد يتعارض الرأي الاجتهادي مع القرار الرسمي للدولة وهذا شيء طبيعي في فلسفة الاجتهاد كما يقرره الإمام الخميني، إلا أن نوايا توجيه هذا التعارض يجب أن لا تعمل خلافاً للمصلحة العامة. يقول السيد (محمد حسين فضل الله) في هذا الإطار: (ويطرح بعض آخر رأياً آخر فيؤكد أن هناك مسألتين تختلفان في طبيعتهما كما تختلفان في نشأتهما، فهناك الاجتهاد الذي يخالف القرار الرسمي للدولة، فيكون معارضاً لولي الأمر، ويتحول بالتالي إلى حركة في اتجاه المعارضة الحركية التي تثير الغبار في وجه القرار الشرعي، مما يؤدي إلى لون من ألوان التمرد الذي يقود إلى حالة الاهتزاز السياسي.. وهناك الاجتهاد الذي يتبناه فريق آخر من الأمة فيما يراد منه الوصول إلى نتيجة حاسمة في اكتشاف المصلحة الأهم والأقوى في القضايا المطروحة في ساحة البحث، ليستهدي بها الولي الفقيه في اتخاذ قراراته،أو للتعرف على ما هو الخطأ والصواب فيما اتخذ من القرارات ليؤكدها في حالة اكتشاف الصواب، أو لتغييرها في حالة اكتشاف الخطأ، فليس في الأمر أي تمرد أو عصيان، بل كل ما في الأمر أن هناك حركة في اتجاه تحقيق الرشد الفكري أو السياسي للقيادة الإسلامية، في إصدار القرار أو في التصويت عليه، فيما يرجع الأمر إليه في طبيعة القرار)[28].
من هنا يتضح أن الإمام الخميني يسعى إلى نزع فتيل العامل الشخصي، والذاتية الفقهية التي قد تبرز في بعض الحالات لتمارس التخريب الفكري والسياسي، وإذا ما نزع هذا الفتيل فإنه لا يوجد حائل في أن تتحول الدولة الإسلامية إلى ساحة لإثراء التنوع الفكري، وازدهار الفقه، لا بل أن الدولة هي بحاجة إلى هذا الرشد والترشيد في المسيرة الحكومية والثورية.
على أية حال، إن تجذير مفهوم ولاية الفقيه نظرياً، وتطبيقه عملياً، من خلال نصوص دستور الدولة عليه، وإيجاد المؤسسة المسؤولة عن تعيين القيادة الإسلامية، سواء كانت القيادة فردية أو جماعية وذلك على يد الإمام الخميني، يعد تكميلاً وتتويجاً لبناء الهرم السياسي الثوري للإسلام، وامتداداً للتأسيس الذي مارسه الإمام في معظم مفردات الحياة الإسلامية، كما أن هذا الهرم وهذا التأسيس صانهما الإمام، من خلال رعايته المتواصلة لتجذير المسألة القيادية وإنضاجها، وتحديد ملامحها وشروطها وصفاتها، كما أنه عمل جهد المستطاع على تحديد آفاق الاختلاف وأشكاله الإيجابية والسلبية، والمشروع واللامشروع من هذا الاختلاف سواء كان سياسياً أو اجتهادياً.
وأخيراً يقول الإمام: (وإذا أراد الأخوة من الجناحين المحافظة على نظام الجمهورية الإسلامية فيجب عليهم تجاوز ظاهرة الانتقاد الهدّام، وضرورة الانتقاد البنّاء؛ لأن ذلك هو الذي يطوّر المجتمع ويبنيه، وعلى الجميع أن لا يتصوّروا أنفسهم معصومين عن الخطأ)[29].
منهجية تأهيل القيادة
اقترن إسم الثورة الإسلامية في إيران باسم الإمام الخميني بدايةً ومساراً وأحداثاً وولادةً وتأسيساً, ولقد أخذت هذه الثورة صورتها وشخصيتها من شخصية الإمام الخميني كصانع وبانٍ لمؤسساتها وراسم لسياستها وموجّه لخطها السياسي.
وقد كان الإمام كقائد ثورة ومن خلال سلوكياته الثورية يحرص حرصاً كبيراً على إعداد القيادات الثورية داخل الجمهورية الإسلامية ومنحهم ما يكفي من الثقة؛ لكي يملأ بهم مواقع البلاد السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وهذا المنهج هو ما يوازي بالضبط طموح شخص كالإمام الخميني، فهو كان يسعى ليس فقط إلى تحرير إيران من نير الديكتاتورية، إنما هو يسعى إلى تحرير الإنسانية بكاملها من قيود الاستغلال والسياسات القاهرة لها، وكان يسعى إلى تأسيس قلعة فكرية وثقافية تؤسّس للإسلام كصمود فكري مركزي بعيد عن كل احتمالات الآنية، وبعيد عن الارتباط الكلّي بشخص، بحيث إنه إذا ما رحل هذا الشخص تكون الثورة قد رحلت معه، أو على أقل تقدير فقد حرفت عن مبادئها وخطّها السياسي، وإدراكاً واستشراقاً من الإمام لأمراض الثورات ومخاطرها التي قد تحوّلها إلى حدث محدود وآني في أرشيف التاريخ الثوري للإنسانية فإنه قد بذل جهوداً جبارة من أجل إزاحة هذه المخاطر المحتملة عن طريق الثورة الإسلامية في إيران، وذلك عبر ما يلي:
1ـ حرص الإمام على زجّ أكبر قدر ممكن من الكادر الثوري في مواقع الدولة المهمة الحساسة لتتحوّل هذه المواقع وما تفرضه من مسؤوليات إلى محك وصانع لا ينضب للقيادات الإسلامية ذات الوعي الإسلامي، والتاريخ الإسلامي الناصع.. واتّبع سياسة رعاية هذه الكوادر بصورة غير مباشرة حيث إنه كان لا يتدخّل في معظم الممارسات القيادية والإدارية، وترك فرصة تأهيل القيادات وإثبات وجودها بالكفاءة الذاتية من جانب، والموقعية العاطفية في الإحساس العام لدى الجمهور الناجمة من هذه الكفاءة من جانب آخر، ولهذا لاحظنا أنّ الشارع الإيراني كان ذا دور واضح وفعّال خلال سنوات الثورة في إعطاء أو سحب المشروعية القيادية من أي قائد تبوّأ مواقع مهمة في الدولة، ولقد ساهم هذا الشارع في الإطاحة ببعض القيادات التي انحرفت عن المسار الثوري.
وعلى أية حال، يمكن أن نتلمسّ الفعل الإستباقي المقصود للإمام في تأهيل الكادر القيادي من خلال النص التالي: (اذهبوا وابحثوا عن الأشخاص الذين يمكنهم أن يأتوا هنا ويتحدثوا وبادروا إلى دعوتهم للمجيء إلى الجامعة لا تظلوا جالسين بانتظار أن أعيّن أنا أحداً، وطبعاً فإنني أعتبر السيد(علي الخامنئي) صالحاً للقيام بهذا العمل، ولكن لا تبقوا جالسين بانتظار أن أبادر لدعوة هؤلاء الأشخاص)[30].
وبلحاظ تاريخ هذا الكلام الذي قيل أوائل العام 1979م، أي: في الشهور الأولى ما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، يتّضح ألهَمّ الأساسي الذي تتشكّل عليه موضوعة تأهيل القيادات الثورية في ذهنية الإمام الحيوية.
2ـ اتبّع الإمام الخميني سياسة تكتيل القوى الثورية التي تشكّل امتداداً لحضور الجمهور في أطر ومؤسسات، وحتى وزارات جديدة في الدولة، بغية أن تتحوّل إلى ضمانة كبرى في تشخيص خط الثورة السياسي بشكل دائم من جهة، ومن ثم تحقيق جدلية العلاقة بين الجمهور وأي قائد من جهة ثانية. ولعلّ نظرة سريعة إلى معظم أحاديث الإمام حتى المختزلة منها تكرّس سياسة التكتيل هذه بشكل واضح. يقول الإمام: (إنّ الشعب الإيراني والجيش والحرس ومتطوعي التعبئة وبقية القوات النظامية وغير النظامية كلهم يدافعون من أجل الإسلام والبلد الإسلامي..)[31].
جهاز التعبئة والحرس الثوري الذي تحوّل إلى وزارة, والتشكيلات الأخرى النظامية وغير النظامية هي عبارة عن أطر لضخّ الحضور المكثّف في مجال واحد من مجالات الدولة وهو مجال الدفاع.
والذي يلاحظ هيكل النظام الإسلامي في إيران يكاد لا يعثر على مجال من المجالات لم يشمل بأسلوب الضخ(الخميني) هذا لإرادة الجمهور في معظم مؤسسات الدولة، فضلاً عن المؤسسات التي قامت وأسست على ضوء المعنى التطوّعي الشعبي، بدءاً بمؤسسة جهاد البناء(التي تحولتّ هي الأخرى إلى وزارة) وانتهاءً(بمؤسسة الشهيد).
3ـ سعى الإمام إلى تحديد هيكل الدولة دستورياً، كنص دستوري ومؤسسات دستورية على أنقاض الشكل القديم للدولة، وبما يحول دون انتهاء إيران مستقبلاً إلى أي شكل من أشكال الدولة الملكية، أو صيغة النظام العسكري، أو أية صيغة أخرى.
كما أنّ الإمام أعطى هذا التأسيس طابع القداسة، وتكرّست هذه القداسة في الوعي الثوري الجمعي للأمة ومن ثم تحوّلت إلى ثابت في السلوكية الفردية والسلوكية الاجتماعية، كوعي كلي يقوم على حق المساهمة في الحفاظ على هيكل الدولة مع تحريض واضح يمارسه الإمام للشعب الإيراني المسلم بغية دفعه إلى نوع من أنواع المراقبة الدائمة لكل مفاصل هذا البناء الدستوري وضمانة استقامته.
يقول الإمام: (على هذا الأساس فإن عدم تدخّل الشعب، من المراجع والعلماء الكبار إلى التجار والكسبة والفلاح والعامل والموظف، حيث إنهم جميعاً مسؤولون عن مصير البلد والإسلام سواء في هذا الجيل أم الأجيال القادمة. إنّ عدم تدخّلهم وتسامحهم خصوصاً في بعض الظروف قد يكون ذنباً هو أكبر الكبائر)[32].
4ـ على الرغم مما يتميّز به المرحوم السيد أحمد نجل الإمام الخميني من مواهب قيادية وكفاءات علمية، إلا أنه تلقّى تحريضاً وتشجيعاً واضحاً على أن يكون دوره مراقباً لمسيرة الثورة كأي مواطن، وأن يتفرّغ لإكمال دراسته العلمية، وفي ذلك إشارة واضحة لرغبة الإمام في ابتعاد المرحوم السيد أحمد عن المعادلة السياسية الداخلية بعنوانها المنصبي، كخطوة استباقية من الإمام لأية محاولة استغلال خارجية وتحريك الموضوع باتجاه دلالات منصبية ( وراثية ) مفتعلة.
(لذا فيا ولدي العزيز الذي أدعو لك أن يطمئن الله قلبك بذكره، استمع إلى نصيحة ووصية أبيك المتحيّر المندهش، وهي أن لا تطرق الأبواب من أجل الوصول إلى مقام أو شهرة)[33]. هذا مقطع من كلام الإمام إلى نجله الفاضل المرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد (أحمد الخميني).
هذه هي أهم الخطوات التي خطاها الإمام في هذا الطريق استباقاً منه لتخليص الثورة من المخاطر المحتملة لغياب قائدها ومؤسسها، ومع كل ذلك لم يكن أحد قادراً قبل سنوات على تصوّر الثورة من دون الإمام الخميني؛ نظراً لعمق الاقتران والتلازم بينه وبين الثورة أولاً، والخطورة المهمة التغييرية المناطة بهذه الثورة ثانياً، ولحجم التحدّيات الخارجية التي تواجهها ثالثاً، إذ إنّ هذه الأسباب الثلاثة وغيرها ترتبط بشخص الإمام كنموذج إسلامي ثوري افتقدته الساحة الإسلامية لقرون عديدة كانت كافية لتصوّر مخاطر غياب الإمام عن مسرح الأحداث العالمية وكافية لإلقاء الضوء على مرحلة الانتقال التي مرّت بها الجمهورية الإسلامية، وكافية أيضاً لتقويم مسار هذه الجمهورية خلال السنوات الماضية بمنظار الشخص الذي تبوّأ الموقع الأعلى الذي كان يشغله الإمام، وهو ولي أمر المسلمين(آية الله السيد علي الخامنئي).
إذاً، نحن أمام مرحلة جديدة، وأمام مقطع زمني لم يكتب عنه بعد عن حياة الثورة الإسلامية بشخصية القائد الأعلى لها، إذ إنّ مرحلة الإمام الخميني كانت قد قرئت بشكل مقبول، إضافة إلى أنها مرحلة اتّسمت أحداثها وزمنها، بلون المواجهة العسكرية مع النظام الحاكم في العراق الذي اعتدى على الثورة لحظة ولادتها مدعوماً من قوى الاستكبار العالمي، ولقد أعطت هذه المواجهة للخطاب الثوري للإمام بعض الخصوصيات التي تأخذها بنظر الاعتبار كحادث عدواني غير عادي تعرّضت له الثورة، ولم يمض على انتهاء هذه الحرب وقت طويل، حتى رحل الإمام الخميني إلى الملكوت الأعلى، بحيث يتحوّل هذا الوقت إلى وقت تأسيس كافة لحركة الثورة والتجربة الثورية في حضور الإمام، وخارج زمن الحرب العراقية الإيرانية.
إنّ الفترة التي عاشها الإمام الخميني بعد توقّف الحرب العراقية الإيرانية كانت قصيرة جداً، ومن هنا قد تأخذ فترة السيد الخامنئي صفة المرحلة ذات المواصفات أو التحديات أو طبيعة الحركة الخاصة التي لم تقرأ حتى الآن على ضوء كفاءة الرجل الذي احتلّ الموقع الأول في الجمهورية الإسلامية، وقراءة هذه المرحلة عملية شاقّة وكبيرة وتحتاج إلى جهود جبارة، وبالتالي لا يمكن قراءتها بهذه السطور وهي قبل كل شيء تحتاج إلى قراءة خاصة بقائد هذه المرحلة، وهو آية الله الخامنئي، قبل وبعد الثورة الإسلامية في إيران وقبل وبعد مرحلتين، وقراءته هنا لا تعني التعريف به، فالسيد الخامنئي رجل من رجال الثورة الأساسيين، وباسل من بواسلها الذي أعطى كل حياته من أجل الثورة، وهو رمز من رموزها، وحتى في مرحلة الإمام الخميني كان الرجل الثاني في الثورة عملياً أكثر منه نظرياً, ونظراً لطبيعة المواقع القيادية التي شغلها.
إذاً، التعريف بشخصية السيد الخامنئي لا يتحرك من خلال عناوينه الواضحة في سياق الثورة، وإنما من خلال كفاءاته التي لم تظهر قبل مرحلته من جهة، ومن خلال خصوصيته القيادية من جهة ثانية، وعبر إضافاته وطبيعة خطابه الثوري بلحاظ خصوصية التجربة أولاً، والكفاءات اللامكشوفة التي رشّحته إلى ملء الفراغ ثانياً، وقدرة الاستيعاب الكبيرة التي عكسها السيد الخامئني لأبعاد شخصية الإمام ودوره ثالثاً، حيث إنّ نظرة إجمالية لمسيرة السيد الخامنئي أيام الثورة والأيام التي سبقت انتصارها تكرّس هذا المعنى سلوكياً ونظرياً.
وإذا كانت هنالك من خصوصية رعاية في منظومة علاقات الإمام الخميني مع تلاميذه وروّاد مدرسته الثورية والقادة السائرين على نهجه، فلقد كانت هذه الخصوصية تبرز واضحة في موقف الإمام الخميني في الثورة وعلى عمق استيعابه لمنهج مؤسسها، واستيعابه المبكّر لجدلية الثورة ـ القائد، وإلى الصفة التلازمية الترابطية بين الثورة والإمام الراحل، وربما أنّ السيد الخامنئي انفرد في الولوج في أعماق هذه الجدلية من خلال عدد كبير من النصوص والخطابات العاكسة لها، فهو القائل في وصف هذه الجدلية وإبراز ذلك التلازم والترابط ما يلي: (ولقد أثمرت الشخصية العظيمة لهذا القائد العظيم، إحدى أكثر ظواهر التاريخ إثارة للعجب والدهشة، ألا وهي الثورة الإسلامية وإقامة صرح الاستقلال والحرية في بلد ظل محروماً منهما توّاقاً إليهما قروناً عديدة، وبهذا الشكل فإن الثورة الإسلامية والإمام الخميني كائنان مرتبطان ببعضهما البعض، لا يقبلان الانفصال والانفصام عن بعضهما بعضاً، وإنّ تحليل شخصيته الفريدة وذات الأبعاد الكثيرة والتدبّر في شخصية هذا الشخص الاستثنائي في هذا الزمن بمعزل عن معرفة الثورة أمر مستحيل أيضاً، إنه هو الذي أشعل فتيل الثورة الإسلامية وأوصل شجرتها إلى مرحلة إعطاء الثمار ورفعته الثورة الإسلامية إلى أسمى القيم التي لا يمثلّها إلاّ الإنسان الأسطوري وجعلت منه وجهاً خالداً ولم يتيسّر ذلك إلا بتوفيق الله والتحام تام بين الأمة ولإمام يكاد يشبه الأسطورة.
إنه أعطى الفطرة الإلهية، ذلك النبع الطاهر الزلال.
إنه باني الثورة وقائدها ومعلّمها وأبوها، تلك الثورة التي كانت أعظم أحداث هذا القرن، وإنّ الثورة الإسلامية غير معروفة في أي مكان من العالم إلاّ وهي مقترنة بإسم (الخميني)، لأنه كان أول من صاغ حروفها وأبدع صنعها وهو الذي قاد سفينتها في تلك اللحظات العصيبة والمهمة، وجعلها تعبر المضائق الخطيرة وتجتاز المنعطفات الرهيبة، وخلق من الثورة الإسلامية التي قام بها شعب إيران نموذجاً يحتذى به وأسوة يقتدى بها في العالم كله)[34].
هذا النص إذا كان يدلل على شيء، فهو يدلل على عمق استيعاب آية الله الخامنئي للترابط بين الثورة والإمام, ولعلّ هذا العمق الاستيعابي كان واحداً من العوامل المهمة المرتبطة بشخصية السيد الخامئني التي أوصلته إلى الموقع الأول في الدولة، ووسط كم هائل من القيادات الثورية، وفي مرحلة انتقالية خطيرة أو وسط موجات عداء متتالية من القوى الكبرى. فبالإضافة إلى اندكاكه بمنهج الإمام واستيعابه له، تكاملت شخصية السيد الخامنئي، لا من خلال تحدّيات التجربة الثورية التي خاضها، ولا عبر المحك المباشر الذي وجد نفسه فيه كمبلور للخطاب الثوري بعد شخص الإمام، ولا من خلال حساسية المواقع الفكرية والثقافية والدفاعية التي شغلها أيام الثورة فحسب، وإنما أيضاً من خلال تجربة سياسية ودبلوماسية هائلة تبلورت عبر ثماني سنوات من رئاسة الدولة، كانت مشحونة بمعاني التحدّي والمواجهة السياسية والدبلوماسية أكثر من معاني المواجهة العسكرية في تلك المرحلة، ولا شك أنّ هذه الفترة الرئاسية نقلت كفاءات آية الله الخامنئي إلى المسرح الدولي المفتوح بأشكال العلاقات الدولية، وأساليب المواجهة العالمية، ودهاليز وفنون الدبلوماسية الخارجية التي تشكّل مجتمعة حقلاً جديداً آنذاك لقادة الثورة.
هذا الموقع الرئاسي الحساس بما أضافه من خبرات وممارسات وفَهْم متراكم لآليات القوى الكبرى السياسية والدبلوماسية تكامل مع المواقع الأخرى التي سبقت أو تزامنت مع الموقع الرئاسي، كالموقع الثقافي عبر اللجان الثقافية الكبرى التي ترأسها، وانخرط فيها، والمواقع الدفاعية الراعية لأمن البلاد في فترة غير عادية، ومجمل اللجان التي تنتمي إلى مواقع ومجالات أخرى، كل هذه المواقع والتجارب التي مورست بداخلها كانت قد صاغت وحددت ملامح شخصية آية الله السيد علي الخامنئي، وبلورت بالتالي القناعة الكلية لقيادات الثورة أن ترشّحه لهذا التكليف الخطير، ولاسيّما أنه قبل كل تلك المخاضات الثورية، ومناصبها الرسمية، هو عالم ديني ومفكر إسلامي وكفاءة علمائية يشار لها بالبنان في الأوساط العلمية.
وكل هذه المقوّمات القيادية كانت ترتكز على مقوّم أخلاقي إسلامي كبير يكرّس نكران الذات القيادية ويدفع بتواضعها إلى القول: (بعد رحيل الإمام الخميني وفي اليوم الأول الذي تمّ بحث موضوع القيادة في اجتماع مجلس الخبراء حيث كنت عضواً فيه، طرحوا اسمي وتدارسوا من سينتخبون ثم اتفقوا على انتخابي أنا العبد الضعيف لمثل هذا المنصب الخطير، ولكنني أعترض على ذلك، وكان اعتراضي جدّياً ولم يكن مجاملة، الله وحده كان يعلم ما كان يجول بقلبي في تلك اللحظات، ثم تقدّمت أمام المجلس وقلت: أيها السادة الكرام، اصبروا واعذروني من هذه المهمة، ثم حدّثتهم مطالباً عدم انتخابي لهذا المنصب وكان حديثي مشفوعاً بالأدلة، ومهما أصررت على ذلك لم يقبلوا، وكلما جئت بالدلائل والأسباب، فإن السادة المجتهدين الفضلاء أجابوا على الأدلة والأسباب والعلل، وكنت حازماً في عدم قبول المنصب، ولكن في النهاية وجدت أنه لا مناص من ذلك)[35].
إنّ مجلس الخبراء كان يدرك بأنّ السيد الخامنئي كان القادر الأكثر تجسيداً على إعطاء القضية الإسلامية أفقها العالمي، بحكم كفاءاته في استيعاب واقع الساحة الإسلامية ونوعية ونمط أفكاره التي تتسم بقدر كبير من المواكبة الخارجية والمعاصرة.
نقول: إذا كانت من ضرورة لهذه الإثارات الآن حول السيد الخامنئي، فهذه الضرورة تتمثل بطبيعة مرحلته القيادية، ومن استكمال خصوصية هذه المرحلة، بما يجسّد حالة الاطمئنان لمسار الثورة الإسلامية في إيران ومستقبلها، ومن خروج الثورة سالمة مصانة من مخاطر المنعطف الذي أحدثه رحيل الإمام الخميني، ومن الحاجة المُلحّة التي تفرضها الظروف الراهنة لشخصية السيد الخامنئي، ومن ثم الصراع الآني ومفرداته وعناوينه، فهذا الصراع أفرز في مرحلة السيد الخامنئي موضوعات جديدة مفتعلة من القوى الكبرى، ولا شك أنّ هذا الإفراز يُخبّئ وراءه ما يُخبّئ من نوايا عدوانية إزاء الجمهورية الإسلامية في إيران، فالعقلية السياسية للغرب لا تطرح موضوعات كالسلاح النووي، ومقولة ترويج الأصولية الإسلامية، وموضوعات أخرى اقتصادية وثقافية لا حدّ لها دون أهداف بعيدة، ونوايا مُبيّتة، وعداء مؤجّل ـ إذا صحّ التعبير ـ إزاء الثورة الإسلامية في إيران، وإذا كانت لهذه المواضيع مهام مرحلية وآنية، فهذا لا يعني أنها مجردة من البعد المستقبلي، وبما يبقي ملفّاتها متحركة على خط الصراع لسنوات، وكل ذلك لا ينفصل بأي شكل من الأشكال عن موضوعية السيد الخامنئي كقائد أعلى في الدولة الإسلامية، إذ إنّ الهدف النهائي الذي يسعى إليه الغرب في مواجهة هذه الدولة هو الإطاحة بخطّها السياسي، وحرفها عن مسيرتها الثورية، وإنهاء نهج الاستقلال السياسي الذي خطّته، وإعادتها إلى العجلة الغربية وإلى منطق التبعية السياسية والثقافية والفكرية، وهذه الأهداف التي عجزت الحرب المباشرة عن تحقيقها، يسعى الغرب إلى تحقيقها من خلال دوامة من الضغط الاقتصادي والنفسي والإعلامي الذي يمارس بلا انقطاع ضد الجمهورية الإسلامية، ومن خلال أساليب أخرى إعلامية لا تقل مكراً عن غيرها حيال كوادرها وقادتها.
ولما كان الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وصل إلى طريق مسدود في التأثير المباشر على قيادات الثورة، واستنفد رجاله الذين كان في مرحلة من مراحل الثورة الأولى يستطيع التأثير عليهم، بعد المخاضات الثورية التي أفرزت القيادات الحقيقية، لجأ إلى أسلوب آخر في التعاطي مع القيادة الثورية في إيران وابتكر سياسة التفريق بين هذه القيادات، وزوّد وسائله الإعلامية بمصطلحات خاصة لترديد وتنفيذ هذه السياسة كمصطلح الصقور والحمائم، ومصطلح المنفتحين والمتشددين، وما إلى ذلك من مصطلحات تحاول دقّ إسفين خلافي نفسي بين هذه القيادات، ولقد عزز الغرب بزعامة أميركا هذه السياسات بسلوكيات سياسية يحاول أن يوحي من خلالها، بأنه إنما يرسم منظومة علاقاته الإستراتيجية مع إيران المستقبل على ضوء ما أوجده من تصنيفات مذكورة، ويبدو أنّ آلية السياسة الغربية هذه تقوم على هدفية النيل من الدولة الإسلامية من رأس الهرم، ومن قمّة الهيكل الحكومي والقيادي، فالإطاحة بالرأس حسب تصوّره ستسهل الإطاحة بالهرم أو الهيكل بكامله، ومن خلال هذه الخلفية يمكن فَهْم السياسة الإعلامية الغربية إزاء مسألة القيادة في إيران، بعد رحيل الإمام فهي سياسة قامت وما زالت تقوم على أساس طمس أي دور أو نشاط لقائد الثورة، وتوجيه حركة الإعلام الغربي على أساس تغييب وجوده من الساحة، وإذا ما حصلت إثارات محدودة حول القائد الأعلى للدولة، فهي بالتأكيد إثارات ذات إيقاع سلبي يكمل الغرض الغربي من التغييب، ويصبّ في مجرى الهدف الأساسي المتمثل باستهداف رأس الهرم القيادي.
وبالإضافة إلى الأسباب التي تدفع بالغرب إلى هذه السياسة المتمثلة بإيجاد شيء داخل الكيان القيادي للدولة الإسلامية والحرب النفسية وانعكاساته المرجوّة غربياً داخل الشارع الإيراني فإن هناك أسباباً أخرى يرتبط جزء منها بشخصية السيد الخامنئي نفسه ويرتبط الجزء الآخر منها بالثورة الإسلامية بشكل عام.
فعلى الصعيد الأول، فإن الغرب الذي راقب الثورة وقاومها من إرهاصاتها الأولى، حتى الولادة، ومن ثم المسيرة الثورية، وحتى اليوم أدرك كغيره أنّ شخصية آية الله الخامنئي تشكّل حاجة إجماع الداخل الإيراني فيما يرتبط بمؤهّلاتها لتسلم المركز الأول في الدولة، وإنّ وجود مثل هذه الشخصية لا يروق للغرب بأي شكل من الأشكال، هذا أولاً، وثانياً فإن ما يهمّ الغرب من تغييب هكذا شخصية، هي التجربة التي عكستها علاقة الإمام الخميني مع الأمة الإسلامية والشعب الإيراني بالذات، فلقد اتّسمت هذه التجربة بتأثير سحري غريب، ينعكس بالعادة كألوان غربية من التعبئة الثورية، ولقد عانى الغرب كثيراً من هذه العلاقة ذات الوقع السحري، وهو يسعى إلى إبعادها بأي شكل من الأشكال.
ولَمّا( كان آية الله السيد الخامنئي) ابن الثورة الأكثر التصاقاً بالجمهور الإيراني والأكثر موقعية في مشاعر الناس، فلم يبق أمام وسائل الإعلام الغربية سوى أن تحاول الحد من تأثير موقعية السيد الخامنئي في ضمائر الناس وقلوبهم عبر سياسة التغييب الإعلامية تلك.
وبالتأكيد فإن السيد الخامنئي كان واحداً من أكثر رجالات الثورة الذين استهدفهم الإعلام الغربي والصهيوني قبل أن يصل إلى الموقع الأول في الدولة، وقبل أن يملأ الفراغ الذي أوجده رحيل الإمام، فالإمام كان قد أشار في أكثر من مناسبة إلى هذا الاستهداف التشويهي الإعلامي الغربي لقادة الثورة ورموزها وبالأخص السيد الخامنئي.
كما أنه خاطبه في يوم ما قائلاً: (إنني وحيث كنت أعرف سماحتكم منذ سنوات ما قبل انتصار الثورة الإسلامية ولديّ علاقة وثيقة بكم، وما زالت تلك العلاقة موجودة ولله الحمد، واعتبر سماحتكم أحد سواعد الجمهورية الإسلامية واعتبركم كالأخ المطّلع على القضايا الفقهية والملتزم بها والمدافع القوي عن الأصول الفقهية المتعلّقة بولاية الفقيه ومن بين الأصدقاء والملتزمين بالإسلام والمبادئ الإسلامية فإنكم كالشمس المضيئة، ومع الأسف أنّ الجمهورية الإسلامية وقادتها المحترمين أضحوا يتعرّضون في هذا العالم للهجمات الإعلامية لناهبي العالم بسبب حبّهم للإسلام)[36].
هذا النص لا يسلّط الضوء فقط على تشخيص الإمام لأهداف حركة الإعلام الغربي والصهيوني واستهدافه لرموز الثورة بالتشويه والتحريف، إنما هو أيضاً يوضّح مكانة السيد الخامنئي قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ويوجز كفاءاته وصفاته ويحدد له موقعية خاصة لدى الإمام لتتحوّل فيما بعد إلى موقعية مستقبلية قائدة لهذه الثورة.
إنّ هذا الاستلهام الخامنئي لمدرسة الإمام وبشهادة الإمام شكّل سبباً مهماً من أسباب الحرب الإعلامية التي اتخذت شكل التغييب الإعلامي الغربي لدور وموقع السيد الخامنئي في الجمهورية الإسلامية.
وبالتأكيد إنّ كل ما تقدّم لا يعكس المقوّمات والمؤهّلات القيادية للسيد الخامنئي، فالإحاطة بهذه المؤهّلات والمقوّمات تحتاج إلى بحث مفصّل يقرأ التجربة الثورية لهذا القائد، ويؤشّر على ملامح المنهج الثوري له، ويسلط الأضواء على عناصر خطابه الثوري، ويقرأ أفكاره بشكل تحليلي، ومن ثم يستخلص الصفات الثورية التي رشّحته إلى الموقع الأول في الدولة، إذ إنّ هذه الصفات هي حصيلة كلية لكل تلك المفردات، وقراءة كهذه إما هي أكثر من ضرورية في هذا المقطع الزمني من الصراع الإسلامي الاستكباري، لا بسبب من أهمية الصحوة الإسلامية وارتقاء الوعي الإسلامي إلى درجات متقدّمة في طول وعرض العالم الإسلامي، وما يحتاج إليه ذلك من شروحات لمفاصل ومحاور الحركة الخارجية العدوة فحسب، إنما أيضاً بسبب التحوّلات الهائلة التي شهدها العالم في الفترة الزمنية التي شكّلت مرحلة السيد الخامنئي، وبسبب من انهيار تكتّلات سياسية دولية، وسقوط أنظمة سياسية كانت أساسية في توجيه دفّة الأمور العالمية، وبسبب من المخاض الذي ما زال لم يلد بعد نظاماً دولياً مستقراً وبديلاً للنظام البائد الذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي القديم والكتلة الشرقية برمّتها.
فهذا المخاض العسير إنما يتحرك بخلفية البحث عن النظام العالمي على أساس انبثاق كل التحدّيات الإسلامية، وكل مراكز الوعي والفعل الإسلامي التي تشهد نشاطاً ما أو انفجاراً ما في هذه النقطة أو تلك النقطة من العالم.
ومن هنا فإذا كنّا غير قادرين على قراءة الخطط الغربية من فوق والتأثير على خطوط حركتها الأساسية وفق المنهج التفكيكي الذي يتطلب المعلومة الدقيقة، فإن قراءة الأجزاء المفككة من المخطط الغربي، سترسم أيضاً ملامح هذا المخطط، وتبقى الحركة الاستكبارية إزاء الجمهورية الإسلامية وإزاء محور القيادات بالذات، من أكثر المحاور استهدافاً لهذه الحركة، لا باعتبار أنّ هذه القيادة هي العقل الذي ينظّم ويوجّه دفّة المواجهة فحسب، إنما أيضاً بسبب من كفاءة هذه القيادة العملية التي يحرص الغرب كثيراً على أن لا يراها متجسّدة في الواقع الإسلامي، وفي موقع ما زال الغرب يعتبره مركز الفعل الإسلامي العالمي الأكثر إمكانية في إدارة الصراع، أما عندما تتجسّد وتتجذّر هذه الكفاءة في القيادة كما هي لدى آية الله الخامنئي، فعند ذلك ندرك لماذا يسعى هذا الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة سياسة التغييب الإعلامية لهذا القائد، وبما يهدف إليه من خلال هذه السياسة من أهداف ضمنية ذات اتجاهات نفسية وغير نفسية في إضعاف حالة التماسك القيادي داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
السياسة والدين
مقولة فصل الدين عن السياسة، كيف نشأت هذه الفكرة؟ وما هي أهدافها وأدواتها؟ وكيف تحوّلت إلى ممارسة معاشه في الحياة الإسلامية في ظل موجات العلمنة التي اجتاحتها في القرن الماضي؟ إنّ خطاب الإمام يغطّي هذا المحور بكل أبعاده ويجيب على هذه الأسئلة وأخرى غيرها.
إذ رغم كل ما قيل عن الإمام روح الله الموسوي الخميني الراحل، فإنه ما زال هنالك الكثير مما لم يقل حتى الآن وربما الكثير الذي لم يكتشف في آفاق تفكيره وطموحاته وتصوّراته السياسية والفكرية كمؤسس أول دولة إسلامية معاصرة، وكعقلية ومشروع نهضوي اتّسم بالشمولية في المنهج والأدوات والأسس الفكرية والمبادئ السياسية، فهذا المشروع الذي اختزن كل ممكنات المواجهة في سياق من المصداقية التي تفوق مستوى الكلام وتترجم إلى حالة من العمل لم يثبت أنّ الساحة السياسية والفكرية شهدت أو ستشهد بديلاً له.
وهذا الرجل لم يأخذ مكانته مما قام به من دور قيادي وريادي اتّسم بالأصالة والاستقامة ولا من ملف الإنجازات والأسس والبناء العظيم الذي أرسى قواعده فحسب، إنما الأهم هو أنّ الإمام فتح ملف التحدّيات العالمية بشكل لم يسبقه إليه أحد واقتحم مرحلة عصيبة من الزمن بما تغصّ به من مظاهر فكرية وثقافية وسياسية.
وبلور المشروع الإسلامي كخطاب سياسي وكتجربة عملية في خضمّ لا حدود له من المؤامرات السياسية وغير السياسية.
كما أنه كشف عن القدرات النظرية والتعبوية التي يختزنها الإسلام كمعتقد وفكرة تملك من الأسس والمقوّمات وعوامل الاستمرار والتحدّي ما لا يتوفّر لأية فكرة أخرى شهدتها الإنسانية.
وعلى الصعيد العملي لم تكن التجربة الإسلامية التي أوجدها الإمام الراحل تكراراً لتجارب أخرى إنما هي اتخذت بعداً تأسيسياً ثورياً تغذّيها (التجربة) بحالة تصاعد ثوري، وتعطيها صفة ديناميكية في الأثر والتأثير مع المحيط الإقليمي والدولي، وبما يبلور أيضاً حالات تصاعدية من الوعي الذي يعبّر عن نفسه من خلال دورات متتالية من الحدث الثوري في ذلك المحيط، فأزمة الأمة الإسلامية في جانب مهم من جوانبها ترتبط بغياب أو محدودية الوعي السياسي الثوري.
وترتبط في جانب آخر بالمضمون السياسي للإسلام كفكر.
هذا المضمون الذي استهدف بكم هائل من التحريفات الساعية إلى سلخ المعنى السياسي من الفكر الإسلامي وترويج مقولة فصل الدين عن السياسة وعدم قدرة النظام الإسلامي على مواكبة حاجات العصر.
ولعلّ هذا الشق الثاني بالذات هو الذي شغل الإمام طوال حياته ـ كما مرّ معنا ـ وأعطاه ما يستحق من الملاحقة النظرية والعملية وارتقى به إلى مستوى الثابتة الكبرى من ثوابت خطابه السياسي قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية.
وفي وصيّته الخالدة وعلى رغم الأشواط المهمة التي قطعها الإمام عملاً وخطاباً وتأسيساً في طرح الفكر الإسلامي بمضمونه السياسي فإنه أعطاه ثقلاً واضحاً في الإثارة والتركيز والمعالجة والتصوّر والأساليب التي تحرّكت عليها مقولة فصل الدين عن السياسة.
إنّ الوصية التي تركها الإمام الراحل جاءت تتويجاً لِما قاله، تتويجاً خارجاً عن أي ادّعاء كان من الممكن أن يقال أو أي تفسير يندرج في إطار محاولات الاستمالة التي يلجأ إليها بعض السياسيين الكبار والصغار.
إنها ـ أي الوصية ـ كانت تمثل نبضة قلبه الأخيرة المفعمة بالحرص على مسيرة الإسلام، وبصمة وفاء لم يلحظ على مثلها أنّ قائداَ أو مؤسساً لأي مشروع قد واكب إنجازه بالشكل الذي واكبه الإمام الراحل.
والوصية كانت نصّاً نظرياً تحتاج قراءته بشكل تفصيلي إلى فتح ملف الثورة والإمام.
وبعبارة أخرى: إنها إيجاز مركز لهذا الملف قد يأخذ صفة الهيكلية لمشروعه النهضوي وقد يأخذ صفة الجرد الشمولي لعناوين وخطوط ومفردات وتحدّيات هذا المشروع ويضع النقاط على الاحتمالات المجهولة, وينظّر لعلاج هذه الاحتمالات بشكل جرئ، ودائماً يسعى إلى تركيز استقلالية الثورة الإسلامية وإبعادها عن أي شكل من أشكال التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية.
وإذا كان للوصية من أهمية خارج سلسلة الأهميات المعروفة والمكررة، فأهميتها التي لا تستنفد هي في تحوّلها إلى مرجع دائم وضمانة دائمة لمسيرة الثورة الإسلامية في إيران، تقارن على ضوئه سلوكية الدولة وسلوكية السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وسياسات هذه الدولة الخارجية والداخلية وتأخذ هذه الأهمية دورها في الأجيال القادمة أكثر من الآن، حيث إنّ تلاميذ الإمام الأوفياء لا زالوا يواصلون مسيرته.
وفي عودة إلى مقولة فصل الدين عن السياسة، يمكن القول: إنّ مقاومة هذه المقولة بقدر ما كانت تشكّل محوراً مركزياً لحياة الإمام الراحل فإنها تشكّل البناء الكلّي لنص الوصية النظري، لتبيّن مدى المحورية التي كانت تجسدها هذه المقولة في حركة الإمام:
(من المؤامرات المهمة التي تبدو بوضوح في القرن الأخير خصوصاً في العقود المعاصرة وبالأخص بعد انتصار الثورة الإسلامية، الدعايات على نطاق واسع بأبعاد مختلفة لزرع اليأس من الإسلام في الشعوب وخاصة الشعب الإيراني المضحّي، تارةً يقولون بسذاجة وبصراحة: أنّ أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمائة سنة لا تستطيع إدارة الدول في العصر الحاضر، أو أنّ الإسلام دين رجعي ويعارض كل أنواع التحرّر ومظاهر التمدّن، في العصر الحاضر لا يمكن فصل الدول عن التمدّن العالمي ومظاهره، وأمثال هذه الدعايات البلهاء، وتارة يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام فيقولون: إنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهية يهتموّن بالمعنويات وتهذيب النفوس والتحذير من المراتب الدنيوية والدعوة إلى ترك الدنيا والإنشغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرّب الإنسان من الله، والحكومة والسياسة وفن الإدارة مناقض لتلك الغاية, وذلك مناقض لسيرة جميع الأنبياء العظام.
ومع الأسف فإن هذه الدعاية بشكلها الثاني قد تركت أثرها في بعض الروحانيين والمتديّنين الجاهلين بالإسلام فكانوا يرون التدخّل في الحكومة والسياسة بمثابة المعصية والفسق)[37].
ويقول الإمام في الوصية ما يلي: (إنهم يتجاهلون ذلك مغرضين؛ لأن تطبيق القوانين بمعيار القسط والعدل, وعدم فتح المجال للظالمين والحكومات الجائرة, وبسط العدالة الفردية والاجتماعية, ومنع الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، والحرية بمعيار العقل والعدل والاستقلال والاكتفاء الذاتي وقطع الطريق على الاستعمار والاستثمار والاستعباد، وإقامة الحدود والقصاص والتعزيرات طبق ميزان العدل للحيلولة دون فساد المجتمع ودماره، وسياسة المجتمع وهدايته إلى موازين العقل والعدل والإنصاف ومئات القضايا من هذا القبيل، لا تصبح قديمة بمرور الزمان على مدار تاريخ البشر والحياة الاجتماعية، هذا الادّعاء بمثابة القول: إنّ القواعد العقلية والرياضية في القرن الحاضر يجب أن تقيدّ لتحلّ محلّها قواعد أخرى).
(وإذا كان المراد من التجدد والتمدّن ذلك المعنى الذي يطرحه بعض المثقفين المنحرفين وهو الحرية، أي: جميع المنكرات والفحشاء حتى الشذوذ الجنسي وما شابه, فإن جميع الأديان السماوية والعلماء والعقلاء يعارضون ذلك؛ بالرغم من أنّ المنبهرين بالغرب أو بالشرق يروّجون لذلك بناءً لتقليدهم الأعمى)، ويواصل: (فيجب أن يقال لهؤلاء الجهلة: إن نسبة أحكام القرآن الكريم وسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحكومة والسياسة لا تقاس بهذا أبداً نسبة الأحكام في سائر الأمور، بل إنّ كثيراً من أحكام الإسلام العبادية هي عبادية سياسية والغفلة عنها هي التي جرّت هذه المصائب.
لقد أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكومة كسائر حكومات العالم لكن بدافع بسط العدالة الاجتماعية، والخلفاء الأوائل كانت لهم حكومات مترامية الأطراف, وحكومة علي بن أبي طالب (عليه السلام) أيضاً بذلك الدافع على نطاق أوسع وأشمل، وهذا من واضحات التاريخ، وبعد ذلك استمرت الحكومات بإسم الإسلام والآن فإن مدعيي الحكومة الإسلامية إتّباعاً للإسلام والرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرون)[38].
إنّ قراءة هذا النص توضّح الأسباب التي دعت الإمام إلى التركيز عليه من جهة، وواقع الأمة الإسلامية قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران من جهة أخرى، ورصد مداخل إثارة مؤامرة فصل الدين عن السياسة من جهة ثالثة.
إذ على الرغم من وجود بعض الوجودات الإسلامية الحكومية المحدودة ومظاهر الإسلام الشكلية في فترة ما بعد انهيار الكيان المركزي للإسلام المتمثّل بالدولة العثمانية، لم يكن خافياً أنّ الأمة الإسلامية كانت تعيش حالة مأساوية من الإحباط النفسي والهزيمة المعنوية والانبهار بالغرب, الذي حقق طفرات علمية وتكنولوجية, جعلها فيما بعد عنواناً من عناوين المواجهة مع الإسلام.
وأعطى هذا الإنجاز الأوروبي تعريفاً يرتبط بالحالة الدينية بشكل عام أي أنّ هذا(الإنجاز) لم يتحقق أوروبياً إلا بعد تحييد الكنيسة وإبعادها, وعليه فإن الشرق لا يرتقي علمياً إلى مستوى الغرب إلا بعدما يتحرر من (العقدة) الدينية في الميدان السياسي ويتّجه نحو العلمنة في كل شؤون الحياة!!
وبالإضافة إلى هذا التوظيف وانطلاقاً منه جاء اتّهام الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص بالرجعية والتخلّف وعدم القدرة على مواكبة العصر.
واستكمالاً لهذه المؤامرة، مؤامرة فصل الدين عن السياسة مورست أساليب تأثيرية أخرى تقوم على أساس فكرة العالم (المقدس) الذي: يفترض له أن لا ينزل من مقام المقدّسات الدينية إلى مستوى الاهتمام بالأمور الدنيوية، وأيضاً إبعاداً له عن دوائر اهتمام الناس الحساسة وإبعاداً له عن دوره المركزي في الأمة، فإجهاض هذا الدور لرجل الدين يعني فيما يعنيه في نهاية المطاف تمرير المؤامرة وتمرير القناعة إلى عامة الناس بفكرة فصل الدين عن السياسة, باعتبار أنّ رجل الدين هو الرمز الذي يتحوّل سلوكه إلى حجة لسلوكيات الآخرين.
لقد استطاع الغرب من خلال أساليب متعددة أن يخترق المؤسسات الإسلامية بمفاهيمه تلك، ووقعت الساحة الإسلامية؛ ضحية لهذه المؤامرة عبر إيجاد تيار (علمائي) يؤمن بأن الدين لا علاقة له بالسياسة؛ وبهذه النتيجة انتهت الأمة إلى ما انتهت إليه من التشرذم والتقسيم والضياع والإحباط النفسي، وتحوّلت إلى مرتع للتيارات والمذاهب الفكرية والسياسية المنحرفة والإلحادية، وهيمن الإحساس بالهزيمة والاستسلام للغرب، ومن ثم تحوّلت البلاد الإسلامية إلى سوق استهلاكية للبضائع الغربية.
إنّ عمق وعي الإمام لهذه المؤامرة دفعه لأن يسلّط عليها الأضواء, سواءً من خلال دوره أو خطابه الثوري قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، وبتحقق هذا الانتصار يكون الإمام قد بدأ شوطاً جديداً في إفشال تلك المؤامرة أولاً، وفي الانتقال بهذه الفكرة لإثبات فشلها من مرحلة الخطاب إلى مرحلة التأسيس، تأسيس الدولة الإسلامية بالشكل الذي يعطيها ضمانة الثورية المتواصلة ويخرجها من احتمالات التقوقع في إطارها الإقليمي أو احتمالات حرف مسارها إلى ما يعيدها إلى التبعية للدول الكبرى.
لقد أوجد الإمام كل الآليات والأدوات والأساليب والمؤسسات التي تحقق مقولة الثورة والدولة معاً، فأنتج طراز (الدولة الثورية) التي تجسّد النظام الإسلامي الطامح إلى تحقيق العدالة الاجتماعية داخلياً ورفض الظلم خارجياً.
لقد انطلقت رحلة التأسيس التي رافقتها رحلة التحدّيات الخارجية إعلامياً وعسكرياً واقتصادياً.
وفي مخاض التحوّلات الهائلة وأشكال الصراع العنيفة التي شهدتها السنوات التالية لانتصار الثورة الإسلامية، كانت عملية التغيير الثورية تشقّ طريقها بهدوء في أرجاء العالم الإسلامي، وكانت الشعوب الإسلامية تراقب أشكال هذه المواجهة عن كثب وكل التفصيلات اليومية لهذه المواجهة التي كانت تتحوّل إلى وعي متراكم يتحرّك على عدد لا محدود من الاتجاهات في العقل الجمعي للأمة، فلقد كشفت هذه المواجهة بين الغرب والشرق من جهة والثورة الإسلامية في إيران من جهة ثانية عن:
1ـ ما يخبّئه العقل الإستكباري من نوايا مُبيّتة وحقد تاريخي هائل إزاء الإسلام, وكشف كل خزينة الاحتياطي من تيارات ورجال ورموز وأنظمة لإجهاض أي مشروع نهضوي.
2ـ كما كشفت هذه المرحلة عن طبيعة معظم الأنظمة الحاكمة في المنطقة الإسلامية وارتباطاتها بالدوائر الغربية.
3ـ وأوضحت المواجهة من جانب آخر قدرة النظام الإسلامي على استيعاب تطورات العصر, وحاجات المرحلة والإمكانات الذاتية فكرياً واقتصادياً وجغرافياً وحضارياً وبما يدحض الافتراءات الغربية والشرقية في هذا المجال.
وهذا الكشف بخطوطه العامة عندما يتجسد عبر المفردات اليوم وإثاراتها ودلالاتها يقوم بعملية صناعة الوعي الجمعي للأمة بشكل متواصل، وتشكيل الوعي هو الأساس في التغيير المرتقب، إذ لابدّ أن يتحول هذا الوعي إلى موقف نظري، ولابدّ أن يتحوّل هذا الموقف النظري إلى حالة رفض في أية دائرة, ولابدّ أن تتسع هذه الدائرة إلى مداها الأقصى في لحظة من اللحظات.
لقد قلب الإمام الطاولة على المتغرّبين والمتشرّقين, وأزاح شكلاً من أشكال الوعي الذي عملوا على تأسيسه بابتعاد الإسلام عن السياسة، وأسّس وعياً آخر يستمد مصداقيته من تجربة الدولة الإسلامية القائمة؛ ليفضح بهذا العمل كل الدعاوى التي قيلت بصدد فصل الدين عن السياسة.
المحاسبة الذاتية
(وصيّتي إلى الوزراء والمسؤولين في العصر الحاضر والعصور اللاحقة، هي أنكم جميعاً بحاجة إلى دعم الشعب, فبدعم الشعب خاصة فئاته المحرومة حققت الانتصار وقطعت أيدي الظلم الملكي من البلد وثرواته، ولو حرمتم يوماً هذا الدعم فستعزلون ويحل محلكم ظلمة من أمثال النظام( الشاهنشاهي) الظالم، هذا فضلاً عن أنّ أرزاقكم وأرزاق العاملين في الوزارة تأتي من ميزانية هي من أموال الشعب).
المقطع الأخير من هذا النص من وصية الإمام الخميني هو مقطع ذو دلالات بالغة في مجال السلوك القيادي، فهذا السلوك يجب أن يخضع إلى ضوابط دستورية وفق الأحكام الشرعية, ويجب أن يكون معبّراً عن واقع وجوهر هذه الأحكام وانفرادها بصفات أخلاقية وإنسانية، في عالم يغصّ بتنظيرات الاستغلال لمواقع القيادة، فالقيادة والوزارة لا تعطي القائد والوزير امتيازاً على الآخرين في مستوى معيشته، بل هي تفرض عليه مسؤوليات إضافية وتضعه أقرب إلى مبدأ المحاسبة الذاتية أو الخارجية، المحاسبة حتى في إطار المرتّب الشهري الذي يتقاضاه الوزير من خزينة الدولة العائدة للشعب، فهذا المرتّب قد يتحوّل إلى مصدر رزق حرام, إذا ما كان هنالك إخلال في أداء الواجب الوظيفي.
هكذا يوصي الإمام العاملين في الوزارات، سواء كانوا وزراء أو أقل درجة وظيفية منهم, يوصيهم: بأن لا يتقاعسوا عن ملاحقة قضايا الشعب؛ لكي لا يكون هنالك إشكال في حكم أرزاقهم، وهذه الوصية بقدر ما تعكس واقعاً فهي تمثل أيضاً مقياساً ثابتاً لسلامة القيادة وشروط انسجامها مع القانون الذي يضع ضوابطها، فالقائد إذا ما تجاوز حدود هذه العلاقة مع أموال الشعب، فإنه سيفقد ثقة هذا الشعب به تدريجياً وستضيع الثورة بأسرها، فضياع الثورة هو الآخر مربوط بثقة الشعب بالقيادة، فأي قيادة لا تحظى بوقوف جماهيرها وراءها, وأي قيادة تقع ضحية الغرور وتتهاون في رؤيتها على دور الشعب في الحفاظ على النظام الإسلامي تكون في الواقع قد ساهمت في خذلان هذا النظام وإرجاع أنظمة الفردية والسلطوية.
إنّ الإمام يرسم ويحدّد من خلال ما تقدّم ثابتة من ثوابت الرؤية والتقييم للقيادة الإسلامية ثابتة تضعها أمام أدق المسؤوليات وتحاسبها على أصغر الأمور، إنّ الرؤية التقيمية يجب أن تقام على عناصر الأمانة في تجسيد الرسالة الإسلامية، ويجب أن ترفض التبريرية التي تنتج على الفور ألقاباً وشهادات فخرية ومخصصات وامتيازات وقصوراً فخمة ومنتجعات، كما هو الحال مع أغلب قيادات الأنظمة الوضعية القائمة، سواء كانت تلك التي ترفع الشعار الاشتراكي أو الرأسمالي أو (الاشتراكية الخليطة) أو المطعّمة.. الإسلام يرفض هذه التبريرية ويضع الضوابط الشرعية لها، ويعتبرها إخلالاً في القيادة وابتعاداً عن المسؤولية، ومظهراً شاذّاً من مظاهر خيانة الأمانة.. فالثراء والثراء(الفاحش) إن لم تكن له أسباب منطقية، وإذا لم تعرف مصادره وقنواته ومداخيله المالية، وإذا لم يتأكد النظام الإسلامي بأنها مداخيل وقنوات ومصادر مشروعة، فإنه ظاهرة خطيرة يجب أن تخضع إلى القانون والمحاسبة والتدقيق.
إنّ هذه الحالة جسّدها النظام الإسلامي بلا شك منذ الشهور الأولى لقيامه في إيران، عندما أخضع قانونياً الوزير أو القائد إلى ضوابط محاسبة لمصادر ثروته قبل وبعد تسلّمه القيادة والوزارة، ويجب أن يكون هنالك تطابق رقمي مالي في الحدود المعقولة بين الفترة الزمنية التي سبقت استلامه المنصب القيادي وبين الفترة الزمنية لتسلّم هذا المنصب.
فأي علامة فارقة أو فوارق مالية غير معقولة أو مظهر من مظاهر الإثراء اللامشروع، تعطي النظام الإسلامي حق التدخّل والتأكّد.
والإمام الخميني يحاول أن يكون أكثر دقّة حتى من القوانين المُسنّة في هذا الإطار.
إنه يريد أن يحرك الوجدانية في شخصية القائد إلى أبعد حدود الحركة, ويريد أن يوجد عوامل المحاسبة الذاتية القيادية حتى إلى ما يصل إلى راتبه الشهري(القانوني).
فالقانون في الإسلام ليس شكلي المحتوى، إنما هو معنى، ولذا فإن الحضور الروتيني لموظّف في دائرته الرسمية لايبرر وحده( تحليل) رزقه وهو مرتّبه الشهري.. إنّ ذلك يحتاج إلى المعنى الحقيقي لأداء الواجب الوظيفي، ويحاول الإمام أن يجعل هذا المعنى هو مقياس الحلال والحرام لدى القيادة الإسلامية ولدى الكادر الوظيفي للبلاد؛ لكي لا يتسلل الانحراف تدريجياً إلى مؤسسات البلاد، ولكي لا ينتهي الأمر إلى ما لا يقرّه الشارع الإسلامي، ولكي يدرك ويميّز الإسلام الحقيقي عن الإسلام الآخر بكل صيغه المدعاة، التي تجعل من خزينة الدولة ملكاً خاصاً للقائد وأسرته ونسائه، والتي تبيح له أن يحيا حياة الترف (الخرافي) في حين أنّ قسماً من أبناء المسحوقين يسكنون أكواخ الصفيح، وفي حين أنّ هنالك مجاعة وأوضاعاً اقتصادية مأساوية مهددة تطلّ بقرنها الكئيب على أكثر من نقطة من نقاط العالم الإسلامي.
إنّ الإسلام الأصيل، هو الإسلام الذي يجعل من القائد كأي فرد عادي من أفراد الأمة في شؤونه الحياتية والمعيشية، لا بل إنه يضاعف من المسؤولية عليه، ويردعه عن التمتّع في حقوقه قبل أن يطمئن إلى أنّ الآخرين قد نالوا حقوقهم (فلعلّ في الحجاز أو اليمامة من لا عهد له بشبع).. هذا هو معنى القيادة في الإسلام.
قيادة ذات مواصفات خاصة، كقائد بدون امتيازات أو تفضيل حياتي له على الآخرين.
قيادة تنفرد بقيم عليا، كقائد يهيمن على ذاته، ويعمل بالضمير والوجدان والأمانة.
وباختصار، فإن الإمام وفي بيان تاريخي له لعلماء الدين.(كيهان العربي العدد 1606) يقول في خصائص القيادة ما يلي:
(فالمجتهد الديني ينبغي أن يكون محيطاً بالقضايا المعاصرة, ولا يقول للجماهير والشباب وحتى العامة أن يقول مرجعها الديني: إنّ ليس لي رأي في القضايا السياسية.
إنّ من خصائص المجتهد الجامع هي المعرفة بأساليب التعامل مع مكائد الثقافة المسيطرة على العالم وتظليلاتها, وامتلاك الوعي والبصيرة في الشؤون الاقتصادية, والإحاطة بكيفية التعامل مع النظام الاقتصادي المسيطر على العالم، ومعرفة أنماط السياسة حتى الساسة ومعادلاتهم, معرفة كل ذلك وإدراك نقاط القوة والضعف في قطبي الرأسمالية والشيوعية، فالمجتهد ينبغي أن يتحلّى بالفطنة والذكاء والفراسة اللازمة لقيادة المجتمع الإسلامي الكبير بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية، وإضافة إلى الإخلاص والتقوى والزهد وهي الخصائص التي تستلزمها طبيعة المجتهد الديني، يجب أن يكون المجتهد الديني قادراً على الإدارة والتخطيط، فالحكم في نظره هو الفلسفة العملية للفقه الإسلامي كلّه وفي مختلف المجالات الحياتية للبشر، الحكم هو التجسيد العملي لاقتدار الفقه الإسلامي على معالجة كافة المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية، الفقه النموذجي هو النهج العملي الكامل القادر على إدارة المجتمع والفرد من المهد إلى اللحد، فالهدف الأساسي هو كيف نستطيع أن نطبّق مبادئ الفقه المتينة عملياً في سلوكيات الفرد والمجتمع، وكيف نحلّ بها المعضلات).
ولكن تبقى كل هذه الشروط إن لم تتسع دائرتها لشرط المحاسبة الذاتية غير كافية في نظر الإمام, حيث يقول في هذا الإطار وفي خطاب له مع أعضاء مجلس الشورى الإسلامي وقيادات الحرس الثوري في 11/ذي القعدة/ 1402هـ يقول: (إنّ الإنسان يجب أن يراقب نفسه دائماً، فإن كان حارساً من حرس الثورة يجب أن يرى ألا تكون اليد الأمّارة خافية في نفسه، أيها السفراء والقائمون بالأعمال في الخارج، يا منتسبي الحرس الثوري وسائر القوات المسلحة العسكرية والمحلّية، أيها النوّاب في المجلس، أيها العاملون في القضاء راقبوا أنفسكم وأعلموا بأن القوى الكبرى قد جعلت لكل واحد منكم حساباً خاصاً).
منطق الفرض ومنطق الحوار
(وأوصي هنا أولئك الذين يعارضون الجمهورية الإسلامية لدوافع شتّى، والشبّان فتية وفتيات ممن استغلّهم المنافقون والمنحرفون والانتهازيون والنفعيون، أوصيهم بأن يُقيّموا الأمور بحيادية وفكر حر، أوصيكم بأن تناقشوا بدقّة وبعيداً عن الأهواء النفسية وغايات الذين يريدون إسقاط الجمهورية الإسلامية، وأن تتأمّلوا في سلوكياتهم تجاه المحرومين، وتلاحظوا هوية المجموعات والحكومات التي كانت ولا زالت تدعمهم، وهوية المجاميع والشخصيات التي تداعت إليهم وباتت تدعمهم بالداخل, وأن تفكّروا بدقّة وبعيداً عن أهواء النفس في أخلاقياتهم الذاتية وسلوكياتهم تجاه أتباعهم وتناقضات مواقفهم تجاه شتّى الوقائع).
هذا النص هو مقطع من وصية الإمام الخميني المباركة، وهو نص تعكس قراءته بتمعّن وعمق كبر المسؤولية التي كان الإمام يتعاطى بها حتى مع أعدائه وأعداء الإسلام، فلعلنا لسنا بحاجة هنا إلى العودة إلى أرشيف ممارسات أعداء الثورة، فهي ممارسات وصلت حدود الاشمئزاز، من التعدّي والتخريب والقتل والإرهاب والاغتيال والتحالف مع أعداء البلاد الخارجيين، والتوسّل بكل السُبل من أجل إيذاء الثورة.
ولكن رغم وضوح هذه الممارسات وأثرها، ما كان يرى فيها الإمام سبباً مانعاً عن العمل بمبدأ التمييز بين المجاميع العدوّة للثورة، فبعض الشباب المنضوين تحت هذه المجاميع كانوا قد تحوّلوا إلى ضحية بحكم أساليب الإغراء والمخادعة والاستغلال للرؤوس المخططة والنفعية التي كانت تستغل براءتهم وتوجّههم في أعمال عدائية للثورة، وقيادة الإمام ما كانت تسمح له بأن يساوي هؤلاء الضحايا المخدوعين بالرموز المخططة لتوظيفهم ضد الثورة، وما كانت تسمح له أن يرى هؤلاء قد خسروا حياتهم وكرامتهم في خدمة مشاريع دولية منحرفة، بل إنه كان يرى ضرورة مخاطبتهم بلسان حيادي حريص حتى بعد رحيله إلى الملكوت الأعلى.
وكان بذلك يرسم لنا بعداً تعاملياً قائماً على الدعوة إلى التحليل وحشد كل أساليب المقارنة ومفردات الموقف, وإعطاء الحرية للآخر، وبالطبع لا نبالغ إذا ما قلنا: بأن أحداً من قادة العالم الإسلامي لم يعمل بمثل هذا المبدأ، لا بل لم يؤمن به حتى على الصعيد النظري.
فالعالم الإسلامي اليوم يغصّ بتطبيقات المنطق الفرضي الموغل بالبشاعة والقوة والعنف والغدر والشماتة، والعالم اليوم لا يعرف إلا منطق القوة مع الجميع ـ الأصدقاء والأعداء ـ والعالم اليوم يتحايل في مبدأ الحوار الإنسانية ويرفض مبدأ النصيحة، وهو إذا ما عمل بهذا المبدأ، لا يكون فعله إلا لمصالح ذاتية ولا يعبّر عن موقف أخلاقي فكري، والدافع إليه هو الضعف أو الإستمالة؛ وليس ما تمليه المبادئ الفكرية من قيم ومُثُل وسلوكيات مفروضة.
إنه مبدأ الدعوة إلى التحليل، تحليل الأحداث والوقائع والارتباطات وطبيعة الصراع القائم ولكن بشرط الابتعاد عن هوى النفس، وتحكيم الوجدان، والامتثال إلى الضمير، ونبذ أسلوب الإصرار على ممارسة الخطأ والانحراف.
إنه مبدأ الدعوة إلى التفحّص والبحث والتنقيب والدراسة المتأنيّة، والابتعاد عن الأحكام المتسرّعة، النظرة الشمولية، والتدقيق في الأساسيات، ومع من؟ مع خصم مارس عدائية هائلة إزاء الثورة، لكن هذه العدائية جاءت بسبب الإنسياق وراء كيد المنافقين، وليست هي أصل النفاق.
إنّ نظرة معمّقة إلى هذا النص في وصية الإمام، يمكن أن تؤدّي إلى ما مفاده: بأن الإمام كان يرسم لنا مبادئ الإسلام الحوارية في شؤون الحياة العامة، ويحدّد لنا المسالك وطرق التعامل ومعالجة المواقف في إطارها، إذ تبقى الدعوة هي الأساس في الإسلام، ويبقى الحوار هو المنطلق مع أولئك المخدوعين أو قليلي الوعي أو الذين غرّتهم حبائل النفاق والنفعية، فإزاء هكذا حالات يجب على القيادة الابتعاد عن العمل بالمنطق الفرضي الذي يصادر متطلّبات الذوق والعدالة والإنصاف، والذي يخالف منطق الدعوة الإلهي في التعامل مع بني البشر، فالقائد الإسلامي الثوري عليه ـ كما يرى الإمام ـ أن يبتكر أسلوب الدعوة ومادّتها ومفرداتها، ويبتكر أجواء الحوار وضمانات حرّيته، وأن يقرّب الحالة القائمة من ذهنية هؤلاء الآخرين قدر الإمكان، وفي هذا المجال يرسم لنا الإمام نموذجاً يعتمد المقارنة في الهوية وفي العلاقات الخارجية وفي المواقف السياسية وفي حالات التناقض والتلفيق التي تجرّ إليها هذه المواقف وفي الأخلاقيات والسلوكيات الذاتية.
إنّ ما يبدو في هذه المقارنة هو ثقة الإمام العالية بالثورة؛ فهي ثقة أقرب إلى التحدّي, أو بمعنى آخر أقرب إلى المحاكمة.
يخاطب الإمام أعداء الثورة: أن تعالوا حاكموا الثورة, وحاكموا أنفسكم محاكمة عادلة. تمعّنوا في سلوكية الثورة وفي مواقفها وفي سياساتها، وارصدوا على الجهة الأخرى ما يشبه ذلك, لاسيّما سلوك القادة المتصدّين.
وليس هنالك بالطبع من قائد يتحدّث بلغة الواقع هذه، إن لم يكن سلفاً قد آمن بمبدأ المحاسبة والنقد الإيجابي, وملك جرأة الشجاعة والثقة بخطوات البلاد السياسية، إلى الدرجة التي يخوض فيها غمار الحوار،لا بل الدعوة إليه ومرة أخرى نقول لمن؟
إنّ مقاييس الإمام ومقاييس الإسلام لا تخضع لمنطق القلّة أو الكثرة، ولا هي متوقّفة على مدى (التهديد) الذي تشكّله هذه المجاميع على الثورة، إنها مقاييس الحرص على بني البشر، والتعامل مع المخدوعين منهم بنفس منفتح، والعمل على هدايتهم بالدعوة إلى سبيل الرشاد والاستقامة، فتلك تبقى مسؤولية كبرى للقيادة، وصفة من صفاتها اللازمة.
دقّة القيادة
(وصيّتي لتلك الفئة من علماء الدين والمتلبّسين بزيّهم, الذين يعادون الجمهورية الإسلامية ومؤسساتها بدوافع شتّى، ويصرفون وقتهم لإسقاطها، ويعينون أعداءها المتآمرين وأرباب اللعب السياسية إلى درجة تصل أحياناً ـ مثلما ينقل ـ حد تقديم مساعدات ضخمة مما يتسلّمون من مبالغ طائلة يقدّمها لهذا الغرض الرأسماليون الغافلون عن الله ـ وصيّتي لهؤلاء هي أنكم لن تجنوا شيئاً من هذه الأعمال المنحرفة, ولا أظنّكم تجنون شيئاً أبداً.
إذا كان عملكم هذا سعياً للدنيا فالله لا يدعكم تصلون لهدفكم المشؤوم، فالأفضل هو ما دام باب التوبة مفتوحاً فاستغفروا الله عز وجل وضمّوا صوتكم لصوت شعبكم المعدم المظلوم، وادعموا الجمهورية الإسلامية التي تحققت بتضحيات الشعب، ففي هذا خير الدنيا والآخرة، وإن كنت لا أظنّكم توفّقون للتوبة).
(مثلما ينقل)، هذه العبارة حتى وإن جاءت في سياق هذا الجزء في وصية الإمام دون تكليف أو تركيز أو قصد في الإثارة، إلا أنها تنم عن مسألة مهمة في السلوك القيادي وفي بناء المواقف من الخصوم, وتجديد ماهية ونوعية وشكل المصادر الخبرية التي ترسم مثل هذا الموقف، فليس الأمر في سياق هذا الجزء من الوصية يتطّلب تأكيدات؛ لكي يعرف مثلاً الدور الذي قام ويقوم به المتزيّون بزيّ العلماء, والذين يمارسون في الواقع مهاماً مخرّبة ضد الجمهورية الإسلامية.
فممارساتهم التخريبية في هذا الإطار واضحة، ونماذجها عديدة خلال السنوات المنصرمة، لكن هذا الوضوح وتعدد النماذج في إطاره، لا يجيز على ضوء المعايير الأخلاقية الإسلامية، ومقاييس التعاطي مع المنحرفين، أن نعمل بمبدأ الإطلاق في توجيه التّهم، وفيما إذا كانت هذه التّهم قابلة للتصديق على ضوء الموقف السلوكي والخلفية الانحرافية للأعداء، فإن هذا لا يعفينا من تحديد المصدر ـ مصدر الفعل الانحرافي ـ والطريقة التي عُرف بها الانحراف، طريقة نقلية أو عبر الرؤية أو عبر التحقيق أو عبر أي شيء آخر.
فالإمام مارس الأمانة في الحديث والسلوك والتعامل في اتخاذ المواقف حتى مع أعدائه، وما لم يرق القائد إلى هذا المستوى الالتزامي والاحترامي بالمبدأ، لا يصل مطلقاً إلى ما وصل إليه الإمام من رفعة وورع واجتهاد وعظمة، ولن يستطيع أن يكون قائداً مسؤولاً.
الأمانة السلوكية، وأمانة القول هي ضمانة العظمة، وبخلاف ذلك فإن التساهل واللامبالاة في التعاطي الحديثي والسلوكي، يمكن أن يكونا بداية الانحرافات الكبرى، تماماً كما توصي الشريعة المقدسة باجتناب الصغائر؛ لأنها الطريق إلى ارتكاب الكبائر، وعليه مهما يكن وضوح العدو في الممارسة الميدانية وفي الخلفية الانحرافية، فإن هذا الوضوح لا يبيح للقيادة التحدّث بمبدأ الإطلاق، وأن نتبنّى كل ما يقال عنه بلا معرفة محددة مسبقة، فإن كان الانحراف المنسوب للعدو قابلاً للتصديق في ضوء الجو السلوكي العام له، فعلينا أن نلتزم الأمانة إلى أبعد حدودها في التعامل معه، كما يعكس بالضبط سلوك الإمام وقوله من خلال النص المذكور ومن خلال أقواله الأخرى، فهو في 10/11/1979م, وأثناء استقباله مبعوث البابا يوحنا بولس الثاني إليه بصدد إعادة(شاه) إيران لمحاكمته، يقول:
(إنّ ما يريده شعبنا هو إعادة هذا الشخص الموجود حالياً في أميركا.
إنه يطالب بالرجل الذي تعذّب من وجوده قرابة 37 سنة، وخانه مدة 37 سنة وعاش شعبنا تحت ظلمه وطالت سلطته حياة البشر لمدة 37 سنة.
الرجل الذي فرض بيديه طوال هذه السنين الاضطهاد الكامل على الشعب والبلاد, الرجل الذي قتل في الخامس عشر من خرداد 1342هـ.ش، 1963م عدداً كبيراً( من أبناء الشعب) كما ينقلون).
وبتاريخ 20 رجب 1400هـ، وفي خطابه للمؤتمر العالمي للنظر في تدخّلات أميركا في إيران، كان الإمام يقول: (يقولون في الخامس عشر من خرداد هذا الذي تصادف غداً ذكراه السنوية، ماذا كان يقول الناس لكي يستحق خمسة عشر ألف مظلوم أن تراق دماؤهم وفي 15 خرداد كما يقال وبناءً على ما قالوا فإن (الشاه) المخلوع كان بنفسه يوجّه هذه الخطة).
إن عبارة(كما ينقلون) في النص الأول وعبارة(كما يقال وبناء على ما قالوا) في النص التالي يظهران أنّ الدقّة النقلية التي تحدثّنا عنها لم تكن مجسّدة من خلال نص من نصوص وصية الإمام فقط.
إنما هي تشكّل ثابتة من ثوابت تعاطي الإمام مع الأحداث بصورة عامة وشرطاً من شروط القيادة الإسلامية التي ينبغي أن تكون على قدر كبير من الموضوعية.
المسألة الثانية هنا تتعلق بعبارة(وإن كنت لا أظنّكم توفّقون للتوبة) فالإمام حريص دائماً على أن يعبّئ كل قطاعات الأمة إلى خدمة الإسلام، وهو ينظر إلى الإنسان نظرة متفائلة إذا ما توفّرت له ظروف التعرّف على الحقائق، كما إنه يدعوه على الدوام إلى الإقبال على رحمة الله ـ جلّ وعلا ـ الواسعة، وهو أي الإمام يأمل أن يتغيّر حتى أولئك المنافقون الذين رفعوا السلاح بوجه الثورة الإسلامية، انطلاقاً من إدراكه، بأنهم قد يكونون خدعوا بحيل وأحابيل قادتهم، لكنه يخاطب بصريح العبارة أولئك المتظاهرين بالقدسية والمتزيّنين بزيّ الإسلام يخاطبهم بالقول: (وإن كنت لا أظنّكم توفّقون للتوبة) لماذا هذا الظن؟ وما هي أسبابه؟ إنّ أحداً عندما يريد أن يتفحّص الدور الذي لعبته هذه الفئة على طول السنوات العشر الماضية، فإنه لا يشك أبداً بأن هذا الدور بكل ألوانه المحاربة للدولة الإسلامية وبكل صوره العدائية لها.
إنما كان ينم عن انحراف متأصّل في نفسية هذه الفئة، فهي فئة لها القابلية أن تعايش الظلم والأنظمة الإرهابية الظالمة عبر التزليف وروح النفاق وإتباع سياسة الانتقاء المبررة لهذا التعايش، انتقاء الأحاديث النبوية والروايات وأقوال الأئمة الأطهار(ع)، بعد سلخها عن أجوائها الخاصة أو تأويلها ومن ثم توظيفها لأغراض ذاتية وشخصية دون النظر إلى مخاطرها وإفرازاتها سواء على حركة المجتمع السياسية والأخلاقية أو على قدسية الرسول(ص) والأئمة الأطهار(سلام الله عليهم).
إنه استعداد غير طبيعي هذا الذي يدفع بهذه الفئة إلى ممارسة الانحراف بهذه الطريقة، استعداد شاذ ينطوي على تركيبة نفسية خاطئة، وعلى خلل متأصّل في أعماق هذه الفئة، وبالتالي فإن الفارق هنا هائل بين هذه النفسية واستعدادها النفاقي وخطرها على حركة الرسالة المحمدية وبين الأعداء الواضحين لهذه الرسالة، فهؤلاء الأعداء مهما نافقوا أو تكالبوا على الأمة الإسلامية هم أعجز من أن يُوقِعوها في بلبلة وانشقاق وتشتت داخلي كبير، مثلما تفعل فئة علماء السوء كما أنهم ـ أي أعداء الأمة المباشرين ـ في أكثر الاحتمالات لا يستطيعون التأثير في موقف الأمة ودورها الرسالي، مثلما تستطيع هذه الفئة المنافقة التي يمكن أن تؤثّر حركتها في الوسط الاجتماعي؛ نظراً لتفاوت درجات الوعي في أوساط الأمة، ونظراً لأن مساحة كبيرة من هذه الأمة غير مؤهّلة لقراءة مواقف هؤلاء(العلماء) المنافقين في ضوء مقاييس الشريعة الإسلامية.
إنّ هذا التأصّل النفاقي والانحرافي في التركيبة النفسية لهؤلاء لا يفسح لهم المجال لرؤية النور الإلهي، ولم يبق لديهم شيء من الفطرة النظيفة التي يمكن أن تتعلّق في لحظة ما بأبواب التوبة وتستفيق من الغفلة.
وهل بعد التجارب القاسية وحالات الضنك التي مرّت بها الأمة، فرصة أوضح لرؤية الحق وقراءته؟ لكن هذه الفئة الضالة لم توفّق للرؤية ولا للقراءة، وبقيت تمارس دور إبليس بين بني البشر، فمن أين تتفتح أبواب التوبة؟ وكيف توفّق لهذه النعمة الإلهية بعد ذلك؟ وعن دور هذه الفئة قبل الثورة كان الإمام يقول في خطاب تاريخي له موجّه إلى علماء الإسلام( كيهان العربي العدد: 1606) يقول:
( في انتفاضة الخامس عشر من خرداد عام 1342 من السنة الهجرية الشمسية، لم يكن التصدّي أساساً لرصاص ومدافع( الشاه) ولو انحصر الأمر بمواجهة ذلك لهان، ولكن ما كان كذلك بل تعدّاه فإضافة على مواجهة ذلك الرصاص والمدافع، كان هناك رصاص ينطلق من الجبهة الداخلية، كانت هناك رصاصات المكر وإطراءات القدسية ورصاص التحجّر، كانت هناك رصاصات التعريض واللمز والنفاق، وكانت هذه أشد أذى بألف مرّة من البارود والرصاص، تحرق الأكباد والقلوب وتمزّقها، حتى كانت تطلق الاتهامات بترك الصلاة والشيوعية والعمالة للإنجليز وتوجّهها إلى المتصدّين لمسؤولية قيادة الجهاد).
ويواصل الإمام حديثه هذا الذي ذكرناه في موضع آخر متقدّم من الكتاب فيقول في هذا الخطاب نفسه: (لقد اتّضحت بعد الانتصار هوية المجموعة العميلة من أولئك الذين كانوا يسايرون مرتكبي الخيانة العظمى، إنّ ما تلّقاه الإسلام من ضربات هؤلاء المتلبّسين بزيّ العلماء والمرائين بمظاهر القدسية لم يتلقَّ أمثالها من أي فئة أخرى، والنموذج البارز لهذه الضربات يتجلّى في مظلومية وغربة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو نموذج معروف تاريخياً، فلأدعْ ولأمرّ ولا أزيد مشاعر المرارة بأكثر مما تقدّم، ولكن ليعلم الشباب من طلبة العلوم الدينية أنّ ملف نمط تفكير ومنهجية المرائين بالقدسية لا زال مفتوحاً وما تغيّر فهي أساليب المراءاة والمتاجرة بالدين).
إنّ هذا التركيز الاستثنائي للإمام موجّه في أحد أبعاده إلى القيادة الإسلامية الواعية التي ينبغي لها أن تبقى ساهرة على إيذاء هذه الفئة من العلماء.
المصارحة.. والتقديس الذاتي
(وأما بالنسبة لتلك الفئة التي تخالف بشدّة الجمهورية الإسلامية وحكمها أساساً وتعمل لإسقاطها من أجل الله!!.
وبحسب أوهامها، فهذه الجمهورية أسوأ من الحكم الملكي أو مثله, وكلّ ذلك بسبب بعض الأخطاء وبعض الانحرافات المخالفة لأحكام الإسلام, والصادرة عمداً أو سهواً من أشخاص متخلّفين أو عن الفئات المناهضة، وصيّتي لهؤلاء هي أن يتفكّروا بنيّة مخلصة في الخلوات وليقارنوا الحال ـ بإنصاف ـ بحكم النظام السابق ولينتبهوا أيضاً على حقيقة أنّ الثورات العالمية يلازمها عادة وقوع اضطرابات وانحرافات وحالات من الانتهازية).
هذا النص من وصية الإمام الخميني يختزن ولا شكّ معاني وأبعاد أخرى، قيادية وغير قيادية, ولعل معنى نبذ التمجيد والإدّعائية هو واحد من أكثر المعاني تعبيراً ودلالة للثقة على النفس، ولا يخفى أنّ هذا المعنى يعكس أو يوضّح نمطاً تعاملياً أو سلوكياً جديداً على الأنماط التي عرفتها المنطقة، فهذه الأنماط تعتمد (التقديس والمعصومية) والتمجيد اللامشروط، وتعتمد التعداد..
تعداد (المنجزات والمكاسب) التي أنجزها وحققها هذا النظام أو ذاك، أما قيادة هذه الأنظمة فهي تتحدث لغة لا تعترف بوجود (المعارضات) مهما كان حجمها أو تأثيرها أو ارتباطها بالواقع الاجتماعي السائد في أي بلد من بلدان المنطقة، أو أنها تبحث عن تخريجات لتفسير الواقع الاقتصادي المتردّي ـ إذا ما اعترفت بوجود هذا التردّي أصلاً ـ أو أنها تعتبره حالة طبيعية مقارنة مع ما هو سائد في دول العالم.
وفي كل الأحوال فإن هذه الأنظمة إذا اعترفت بوجود الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن اعترافها لا يعبّر عن ميول ذاتية للواقعية والمسؤولية ومتطلبات الإدارة, إنما هو يكون استجابة لضغط جماهيري أو لواقع قاهر يمثّل الاعتراف بالأزمة أحد مخارجه العلاجية من وجهة نظر هذه الأنظمة هذا النمط يختلف تماماً عن نمط الإمام الخميني ورؤيته لأية قيادة إسلامية وهو يقتحم أبواب المصارحة ويبتعد عن لغة (التقديس الذاتي).
فنمط الإمام هنا هو تعبير عن تعبيراته الذاتية ـ التكوينية.. تعبير لا يقبل التكلّف بل هو أقرب إلى العفوية في تناول القضايا والتعاطي معها، فالإمام ما كان يجد في داخله (الفكري والمبدئي) ما يدفعه إلى البحث عن أساليب تعبّر عن التكلّف، فهو مباشر في كل مراحل وأحداث حياته واضح وجرئ بما يجعله لا يخشى من طرح الأزمة، لا بل إنّ واجبه الديني يملي عليه أن يكون أكبر منها ويملي عليه أن يتداولها بتكرار، لا أن يصفح عنها أو يتمايل بها أو يؤجّل التحدّث بها إلى حين آخر.. ومن هنا فإن الإمام جسّد ما يمكن أن يقال عنه في: أن الفكر الإسلامي والنظام الإسلامي الذي يمثّله لا يخاف من(الأزمة) ولا يتستّر عليها ولا يضطر إلى تحريكها تحت عامل القوة.
بل هو يملك أساس تحريكها الشرعي كطريق لطرحها من أجل الحل.
ويرى هذا التحريك على أنه واجب شرعي.. ومن هنا أيضاً يبرز جانباً من جوانب القوة في من الفكر الإسلامي الحقيقي، جانب يترجمه الإمام إلى واقع سلوكي ويوصي به بعد أن يودّع هذه الحياة، ويجعل منه ظاهرة تستحق التأمّل والدراسة وسط ظواهر( التعظيم) الشاذّة التي تفترض أن كل خطوة يخطوها القائد ـ على أنها عمل من أعمال الحكمة والحصافة واللياقة والاقتدار وما إلى ذلك من مصطلحات، وجانب يعكس ما ينبغي أن تكون عليه القيادة الإسلامية.
التواضع والواجب الديني
(إنني ومع ما أراه في الشعب العزيز من يقظة ووعي وإيمان وتضحية وروح مقاومة وإصرار وصلابة في طريق الحق لديّ أمل في أن تنتقل هذه القيم الإنسانية إلى أعقاب هذا الشعب، وتربّوا جيلاً بعد آخر بفضل الله تعالى، إنني ومع هذا الذي أرى وبهذا الأمل أستأذنكم ـ أيها الأخوة والأخوات ـ لأرحل عن خدمتكم إلى المقر الأبدي بقلب مطمئن وروح مسرورة وضمير ملؤه الأمل وبفضل الله وأنا في غاية الحاجة لدعواتكم الصالحة، وأسأل الله أن يقبل عذري عمّا كان فيّ من قصور وتقصير في الخدمة، وآمل من أبناء الشعب أن يقبلوا عذري عن أشكال القصور أو التقصير ويواصلوا بقوة وعزم وإرادة التقدم إلى الأمام، وليعلموا أنه لن تحدث ثغرة في كلمة الشعب الفولاذية بسبب ذهاب خادم، فهناك خدمة أسمى وخدّام أرفع مشغولون بالخدمة، والله حافظ هذا الشعب ومظلومي العالم، والسلام عليكم وعلى عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته).
حتى في سطور الوداع الأخيرة كان الإمام يبعث في الأمة قدراً عالياً من القيم والمثل الإسلامية ولعل في مقدّمتها قيمة التواضع القيادي اللامفتعل الذي يشكّل سجيّة من سجايا الإمام وخصلة من خصاله الثابتة طوال حياته.
خصلة أعطت المنصب مكانة معيّنة، ووضعت العالم أمام حالة بعيدة عن الإدّعاء النظري وبعيدة عن التصنّع أو المصلحة.
حالة حية مباشرة تتمم الشوط الجهادي الذي خاضه الإمام في حياته, وتمثّل خاتمة مجسّدة لأرقى قيم الفكر الإسلامي، فالإمام لم يأتِ بزيّ(أخلاقي) ويرحل بزيّ آخر، ولم يأتِ بشعار ثوري ويرحل بشعار آخر، لم يأتِ على الأكتاف ويرحل بغيرها.
لم يأتِ بادّعاء ويرحل إلى الملكوت الأعلى بخلافه، لم يوصِ بالأخلاق في كل مناسبة من المناسبات ويمارس خلاف ما يوصي به.
إنه توّج التسعين عاماً التي قضاها في الحياة بدرس التواضع.
هذا الدرس الذي طالما ينظر له الآخرون، وطالما يدّعون معرفة خفاياه وأسراره، وطالما يعلنون أنهم أساتذته، لكن لم يذكر لنا التاريخ أنّ أحداً صمد في ساحة اختباره.
السلطة أقسى ساحة اختبار للعظماء والكبار والمدّعين والقيادات؛ ولذلك فهذا ليس امراً هيّناً، والانتصار عليها( أي السلطة) وعلى مغرياتها، يمكن أن يكون كما قلنا من خلال الإدّعاء، أما الواقع فالتاريخ بكل ما فيه من ملفّات قيادية وقصص وروايات.
هذا التاريخ نقرأ فيه آلاف الألوان من الخضوع إلى إغراء السلطة، لكنك لا تقرأ ولا لمرّة واحدة(اعتذار الإمام) على لسان واحد من قادته.. ماذا فعل الإمام بالسلطة؟ إنه فعل بها بخلاف ما فعلت هي بالآخرين تماماً.. إنه رفضها بأشكالها التقليدية، الظالمة، الاستبدادية، ورفضها بامتيازاتها وأضوائها، وقَبِلها على أن تكون مجالاً للخدمة الواقعية والمعاناة المتواصلة والمسؤولية الجسيمة(المحفوفة بالمخاطر)، كما يقول هو، قبلها بشروط هي فوق الذات والأنا، فسجّل بذلك سابقة في عالم مليء بالكثير من نماذج السلطة الدكتاتورية أو الاستغلالية، ووسط رؤساء أسّرتهم السلطة ولم يأسروها.
وسط عالَم، يقول الإمام بصددهِ في خطاب ألقاه في 11 ذي القعدة 1402هـ في جمع من أعضاء مجلس الشورى الإسلامي وقيادات الحرس الثوري يقول: (تعلمون ما الذي يجري الآن في هذا العالم، وما الذي يجري في بلاد المسلمين، وأي ظلم يلحق اليوم بالدول المظلومة، إنّ أساس كل هذا هو حب السلطة والرئاسة، فحب التسلّط هو الذي يدفع أميركا لارتكاب هذه الجرائم التي لا مثيل لها في التاريخ وحب السلطة والرئاسة هو الذي يدفع روسيا لأن تفعل ما تفعل بالشعوب ومظلومي العالم.
حب النفس هو الذي يدفع حكّام الدول الإسلامية إلى الخنوع والسكوت على جرائم هذه القوى أو عملائها.
فإن لم يكن حب الذات قائماً في نفوس زعماء الدول الإسلامية, ولو لم يكن حب الجاه والحكم مسيطراً عليهم لَما سكت هؤلاء على الجرائم والمظالم التي لحقت بإيران، والأسوأ من ذلك، الجرائم التي لحقت بلبنان).
أما الدرس الثاني الذي يمكن أن يقرأ من خلال النص المذكور فهو درس المسؤولية، فالإمام كان إلى حدٍ قريب، قبل رحيله إلى الملكوت الأعلى، قد تجرّع(السم) القاتل في لحظة من لحظات التعاطي بهذه المسؤولية الخطيرة، وهي لحظة القبول بالقرار الدولي 598 الخاص بالحرب العراقية ـ الإيرانية.
إلى فترة قريبة كان الإمام يكابد ويقود المسيرة وسط هجوم محموم بالحراب الدولية والإقليمية الغادرة والسهام الصفراء، كانت مجزرة مكة وكانت قضية القرار المذكور، وقضايا داخلية أخرى، كلها تأخذ مأخذاً مؤلماً من قلب الإمام، وتنهك قواه، وتفتك بجسده إلى حد مفعول السم.. لكن عندما حانت لحظة الوداع.. لحظة الرحيل تحوّل كل شيء إلى سرور وتفاؤل وأمل.. حصل هذا التحوّل انطلاقاً من إحساس الإمام بالقيام بالمسؤولية وتأدية الواجب الإلهي بالصورة التي لم يُوفّق لها إلا القليل من رموز التاريخ الإسلامي..
كان الإمام يسعى إلى أن يمارس الواجب الشرعي فضلاً عن نتائج هذه الممارسة، ويتألّم لحركة هذا الواجب, ولا يتألّم لذاته أو لمكسب معيّن؛ ولذا فإنه في لحظة الرحيل وعندما سلّم المسؤولية إلى غيره، رحل مسروراً وبضمير ملؤه الأمل وبنفس مطمئنة واثقة مما قامت به، وكيف لا يرحل الإمام بهذا القدر التفاؤلي، وهو الذي أسقط هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، بما لم تستطيع كل رموز القرن الماضي القومية والعلمانية وغيرها أن تقف ولو لمرّة واحدة بثقة وجدّ وثبات بوجه مستغلّة العالم، أميركا، ولكن دون أن يدفع به ذلك إلى ما يمسّ ثوابته الأخلاقية العليا.
إنّ الإمام كان يمارس هذا اللون التربوي القاضي بتعميق الإحساس بالواجب وأدائه فضلاً عن النتائج، فهو كان يقول في نداء إلى حجاج بيت الله الحرام 1 ذي الحجة 1406 هـ.ق ما يلي:
(ليس من الإنصاف أن يقدّم شبابنا أرواحهم في الجبهات ويضحّون، بينما أنتم بشراء هذه البضائع تساعدون مجرمي الحرب وتسيئون إلى الإسلام والجمهورية الإسلامية وشعبكم المظلوم، تستطيعون أن تقتنوا لأنفسكم ولأصدقائكم أشياء مناسبة من إيران نفسها حتى لا يكون عملكم مساعدة لأعداء إيران والإسلام، لقد أدّيت واجبي، وبقي عليكم يا زوار بيت الله ورسوله، أن تمتنعوا عن مساعدة أعداء الله ورسوله وعن الإساءة إلى سمعة شعبكم. لقد ذكّرت بهذا في السنوات الماضية لأهمية الموضوع ومن واجبي أن أكرر ذلك).
وفي مكان آخر من هذا النداء يقول:
(لقد أدّيت ما عليّ من واجب إسلامي في تذكير المسلمين وحكومات المنطقة لِما فيه صلاحهم وأسأل الله تعالى أن يهديهم إلى الطريق السوي المستقيم ويصونهم من الانحراف) من خلال قيادة إسلامية واعية.. فهذه القيادة عليها أن تضع صفات الإمام المتقدّمة نَصْبَ أعينها وهي تمارس المسؤولية وتؤدّي الدور.
__________________
[1] في العام 1964م.
[2] راجع كتاب: مدافع أية الله، لمحمد حسنين هيكل.
[3] في أيلول 1964م.
[4] في أيلول 1964م.
[5] راجع فرح موسي: سلطة الفقهاء وفقهاء السلطة عند الإمام الخميني.. دراسة تحليلية مقارنة ص 61 وقد نقل ذلك عن: الشهيد مرتضى مطهري.. الحركات الإسلامية في القرن الأخير.
[6] في 10/4/1996م.
[7] في نيسان عام 1963م.
[8] في أيلول عام 1964م.
[9] في 21/3/1989م.
[10] كشف الأسرار، مصدر سابق.
[11] في أيلول 1964م.
[12] الجهاد الأكبر، ص 28، نقلاً عن: حسان عبد الله أبو صالح، الإمام الخميني نبراس الفكر والأخلاق، ص 73.
[13] في 12/3/1963م.
[14] في 21/3/1989م.
[15] في 21/3/1989م.
[16] في مقال للمرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني حول والده الإمام الخميني... مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني(الشؤون الدولية) ص 8.
[17] في 21/3/1989م.
[18] في 21/3/1989م.
[19] محمد باقر الصدر: اقتصادنا.
[20] ميشيل نوفل، صحيفة السفير البيروتية الصادرة بتاريخ 21/3/1989م.
[21] نشرت(الديار) اللبنانية مقاطع من هذه الرسالة في 7/10/1990م.
[22] في 21/3/1989م.
[23] كشف الأسرار، ص 232، مصدر سابق.
[24] راجع كتاب الحياة السياسية للإمام الخميني.
[25] كشف الأسرار ص 109، مصدر سابق.
[26] المصدر نفسه ص 222.
[27] راجع الديار، 7/10/1990م.
[28] المصدر السابق.
[29] المصدر نفسه.
[30] صحيفة النور، ج7، ص 105 ـ 106 13/6/1979م.
[31] المصدر نفسه،ج15، ص 235 ـ 236، 29/11/1981م.
[32] الوصية الإلهية ـ السياسية.
[33] من وصية الإمام إلى نجله السيد أحمد، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد(59 ـ 60)، راجع الملاحق.
[34] حديث الشمس، إصدار: منظمة الإعلام الإسلامي، ص 86.
[35] الثقافة الإسلامية، العدد(59ـ 6)،مصدر سابق.
[36] صحيفة النور، مصدر سابق، ج20، ص 173، 6/2/1988م.
[37] الوصية الإلهية ـ السياسية.
[38] المصدر نفسه.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية