مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الدين والسياسة
الشيخ عباس علي عميد زنجاني


مقدمة
يطرح البحث، في بدايته، عدة آراء في شأن علاقة الدين بالسياسة، وينتقدها بصورة اجمالية، ثم يحاول، بعد ذلك، وبعيدا عما وقع في التاريخ، أن يعرض لعلاقة الدين بالسياسة بوصفهما معرفتين سيما من وجهة النظر الإسلامية، ويخلص إلى الاستنتاج بأن لهذين الموضوعين، على أساس ماهيتيهما، منطقيا، نوعا من التلازم بغض النظر عن التلازم المفهومي لمقولتي الدين والسياسة. ثم ينتقد الرأي القائل: «إن جميع الأمور في المجتمع الديني، بما فيها السياسة، ستصبح دينية شئنا أم أبينا، وان هذا التلازم قضية طبيعية تماما»، ويفنده.
ثم يتناول مسألة اخيرة، تتمثل في السؤال الآتي: هل السياسة، من وجهة النظر الدينية، وسيلة أو غاية، ويرى أن هذين التعبيرين يمكن اعتبارهما مسوغين ومنطقيين من الناحية الدينية.
أولا ـ علاقة الدين بالسياسة
يمكن دراسة علاقة الدين بالسياسة في اطار بعض النماذج النظرية:
1ـ أن المفاهيم والتعاليم الدينية مختصة بالآخرة ومصير الإنسان بعد الموت، اما دائرة علم السياسة فهي تختص بحياة البشر الدنيوية وما يتعلق بكيفية العيش في هذه الدنيا.
وبناء على هذه النظرية والاستنتاج، فان نطاق كل منهما وسيادته منفصلان تماما عن نطاق الآخر وسيادته، ما يجعلهما مقولتين متمايزتين. ولئن كانت هذه النظرية صائبة في شأن السياسة فهي خاطئة تماما في مجال الدين. وذلك أن الدين يمثل مجموعة التعاليم المرتبطة بالإنسان على نطاقي الحياة: الدنيوي والاخروي.
2ـ أن الدين ومبادئه جميعها وقيمه أمور مقدسة، سماوية، ثابتة، تأبى النقد والاعتراض والتغيير. بينما السياسة خليط من القضايا البشرية التي تضاد الأخلاق احيانا، ويشوبها الفساد والتلوث، وليس لها من ثبات واستقرار قط. وهي معرضة على الدوام للنقد والرد والتطورات السريعة، حسب الظروف السائدة.
وبالنتيجة فانه يتعذر الجمع بينهما دائما. وهذه النظرية ليست مستهجنة في شأن الدين فحسب، بل هي فاحشة الخطأ في شأن السياسة ايضا. فليست جميع الأسس والاطر المرتبطة بالدين ثابتة، ولا كافة الاصعدة السياسية ومبادئها ملوثة وفاسدة وبعيدة عن القدسية والقيم السماوية.
لا تصدق على السياسة حالات عدم القدسية، وعدم الارتباط بالسماء، ومناهضة الأخلاق، والفساد والتلون الزماني المستقر الا اذا غيبت القيم الدينية الالهية، واثارت بعض الفتن وصبت نشاطاتها في خدمة الشيطان. اما السياسة القائمة على المبادئ والقيم الالهية المقدسة فانها لن تنطوي على اي صفة من هذه الصفات والحالات الشاذة ابدا.
3ـ أن أهداف الدين لا تنسجم وأهداف السياسة على الرغم من أن بعض تعاليمه تعالج مشاكل الحياة في هذه الدنيا، وتتكفل ببيان تنظيم شؤونها وامورها. فهي تشتمل على التربية العلمية الاصيلة والمهذبة للناس والتي تسلك بهم سبل التكامل المعنوي وتجاوز القضايا المادية للحياة نحو قمة السمو والتعالي الأخلاقي المنشود. والحال أن هدف السياسة هو ادارة الشؤون المادية القائمة من دون الالتفات للقضايا المعنوية والأخلاقية.
هدف المتدين هو التسامي المعنوي والأخلاقي له وللآخرين، وبذلك فهو لا يولي القضايا المادية السائدة أية عناية تذكر، اما السياسي فهدفه الانتصار وهزيمة الآخرين وبلوغه واتباعه الأهداف السياسية المادية المنشودة.
فالخطان لا يلتقيان ابدا ما دامت أهدافهما مختلفة، بعضها عن بعضها الآخر. وهذا ما كان عليه شعار حزب الشباب الاتراك في عصر الامبراطورية العثمانية، فكان اتاتورك، زعيم هذا الحزب، يصرح قائلا:
«لقد بعث نبي الإسلام لنقوم نحن، بوصفنا امته، بهداية الدنيا نحو الله والخير والسعادة، ولم يبعث ليمنحنا سيفا نسله لابادة الامم!».
وكان من آثار هذا الشعار ونتائجه سقوط الامبراطورية العثمانية، وانهيار الثقافة الوطنية، وفصل السياسة عن الدين، وظهور الوطنيين الرادكاليين المفرطين والمصطبغين بالثقافة الغربية. وفي الواقع فان هذا الرأي لم يكن سوى شعار سياسي قمعي ضد الحكومة العثمانية وتحريف لأهداف الدين والسياسة. لقد اقصى انصار هذه الاطروحة حقلا عظيما من التعاليم الدينية عن مسرح الحياة من خلال جعلهم المعنوية هدفا للدين، ثم حملوا ما بقي من دويلة الامبراطورية العثمانية تلك الحالة من الفساد والانحراف ومناهضة القيم باسم السياسة، من خلال اقرارهم للمادية هدفا للسياسة. والحقيقة أن للسياسة والدين أهدافا مشتركة، وكلاهما يعتمد الزاميا على بعض المبادئ والقيم والمعايير المطلوبة.
4ـ لم يتناول القرآن، بوصفه المصدر الرائد والاكثر اعتبارا في معرفة جوهر الإسلام واحكامه، موضوع سياسة الدولة والحكومة، ولم يرد فيه نص بهذا الشأن. لقد الف الدكتور علي عبد الرازق كتابه: «الإسلام واصول الحكم» عام 1925م على أساس هذه النظرية، وادعى انه لم يشاهد في القرآن حتى شبه دليل على وجوب اقامة الحكومة والتصدي للقضايا السياسية.
ويعتقد علي عبد الرازق بان الشيء الوحيد الواجب والثابت، في الشريعة الإسلامية، هو اجراء احكام الله. واذا ما اتفقت الأمة على اجراء الاحكام الالهية فليس هنالك من حاجة لنصب الامام أو الخليفة، أو اي فرد آخر ينهض بمسؤولية ادارة الشؤون السياسية والحكومة[1].
ويزعم، ايضا، أن اختلاف المتكلمين، في مسألة الامامة والخلافة، وكون وجوب تنصيب الامام والخليفة قضية عقلية او شرعية، وكذا اكتفائهم بوجوب تنصيب الامام والخليفة بالاجماع ليفيد ضعف أسس دينية الدولة والسياسة ومبانيها وتخلخل هذه الأسس والمباني[2].
ويستند في تسويغه لنظريته على ثلاثة مطالب:
1ـ الآيات والروايات الدالة على اثبات وجوب تنصيب الامام والخليفة، والتي اعتقد من خلالها بشرعية علاقة الدين بالسياسة، تمكن مناقشتها، وان كلا منها يمكن تفسيره وتأويله، اما بعضها فهو ضعيف من حيث الدلالة، وبعضها الآخر ليس له سند يمكن قبوله[3].
2ـ بعض المصطلحات التي استعملت، في الآيات والروايات من قبيل: الامامة، الخلافة، بيعة اولي الامر، الأمة والجماعة، لم يكن يقصد منها المعنى المطروح اليوم، والذي يفسرها على أساس مفاهيم السياسة والدولة المعاصرة.
ان المعاني والتفاسير السياسية التي تطرح في شأن هكذا مقولات شرعية (الامام والخليفة بمعنى رئيس الدولة، واولو الامر بمعنى الساسة والحكام، والبيعة بمعنى الانتخابات، والامة والجماعة بمعنى الشعب والدولة والبلد الإسلامي)هي معان حديثة، وان اطلاق تلك المفردات على هذه المعاني يتوقف على استنباط هذه المعاني واستعمالها ابان نزول الآيات وصدور الروايات، والواقع انه لا يمكن البرهنة على هذا الامر[4].
لقد وردت كافة النصوص الشرعية، في مجال قضايا الدولة الحكومة، على غرار قول نبي الله عيسى (ع): «دع ما لقيصر لقيصر». لا شك في أن عيسى (ع) لم يقصد أن قيصر الجائر والسفاك كان على الحق وان حكومته شرعية والهية.
وهكذا الحال في الاحاديث المرتبطة بالامامة والخلافة، أو البيعة، والتي تدل على الوفاء بالعهد للكفار، اي انه ليس هنالك من دلالة لاي منها على شرعية حكومة الكفر[5].
4ـ كيف يمكن أن يكون الامر بطاعة الساسة والحكام في الآية: {واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم} كاشفة لشرعية اعمال الخلفاء الظلمة والحكام الفسقة؟[6].
كان علي عبد الرازق يشغل منصب استاذ لمرحلة الدكتوراه في كلية الحقوق، في جامعة الازهر المصرية، وقاضيا لاحدى المحاكم الشرعية في القاهرة في اثناء تأليفه لهذا الكتاب. وقد فقد المنصبين وتقوقع في جامعته بعد تكفيره، على اثر جرحه[7] لمشاعر الرأي العام، ومخالفته لفقهاء جامعة الازهر واساتذتها الذين عدوا وجهة نظره تهمة وافتراء يستهدفان هدم الإسلام، لقد كان هدفه مساندة اطروحة فصل الدين عن السياسة ودعمها من خلال اتجاه يخلص لنسخ خلافة بني عثمان، انه ينسب نظرية نفي السياسة والدولة الدينية لاحد زهاد القرن الثالث الهجري المشهورين، وهو«حاتم الاصم» الذي كان يعتنق المذهب المعتزلي، وكان يعتقد أن الخوارج يرون هذا الرأي ايضا.
لقد سعى جاهدا، في كتابه المشتمل على 120 صفحة، إلى أن يرد على كتاب الكاتب المصري المعروف رشيد رضا الذي يحمل عنوان: «الخلافة أو الامامة العظمى». وفي الحقيقة فانه انتهج سلوكا تفريطيا ازاء الاسلوب الافراطي لرشيد رضا الذي كان يستشهد بمئات الآيات والاحاديث، ليعلن عن مساندته المطلقة للخلفاء والحكام. ثم يرى الانفصال التام بين الدين والسياسة، ويرفض بصورة قاطعة الشواهد القرآنية والروايات الواردة في شأن المسائل السياسية.
لا شك في أن رأيه القائل بعدم الشرعية الدينية لحكومة الخلفاء، في التاريخ السياسي للإسلام، مقبولة تماما، ولعل قصده كان تلك الحكومات التي لم يكن لاوامرها اي انسجام مع الشريعة واعمالها وافعالها التي لا تتلاءم والسيرة النبوية، الا أن أقواله ونظرياته في انكار عشرات الآيات ومئات الروايات المعتبرة غير مقبولة، والادهى من ذلك نفي الثقافة السياسية والعرف السياسي للمسلمين، والسيرة السياسية للرسول الاكرم (ص) في اقامة الدولة وتأسيس المؤسسات والمراكز السياسية وقراراته في شأن العلاقات مع الاقليات والشعوب والبلدان الأخرى وقيادته لـ 27 غزوة، وتعبئته اكثر من اربعين سرية وبعثة وتكليفه عشرات الهيئات الدبلوماسية بتنفيذ المهمات السياسية والاقتصادية وحتى الحربية[8]... هذه الأقوال جميعها هي أقوال لا ينبغي صدروها من محقق، فهي لا تتناسب وشأنه البتة.
وفي الكلام على الترابط الجدلي بين الدين والسياسة، نكتفي، هنا، بالاشارة إلى مسألتين هما:
(الف) لقد قال اغلب منتقدي كتاب: «الإسلام واصول الحكم»: أن دوافع تأليفه كانت سياسية ومناغمة للغرب والوطنيين الساعين إلى الاطاحة بالخلافة العثمانية، الا انه من المسلم به هو أن أفكار علي عبد الرازق كانت تشتمل على تصور خاص عن السياسة والدولة بمفهومها المتداول آنذاك، وهو مفهوم يتكون من عناصر محددة ومؤسسات معينة واطر خاصة لعالم السياسة المعاصرة. فقد طالعتنا اغلب مباحث الكتاب بنفي الرابطة بينهما على اثر عدم عثوره على مثل تلك المميزات في القرآن والسنة العملية للرسول الاكرم (ص) وكذلك مشاهدته لبعض الخصائص والأسس في الرسالة الدينية التي لا تمت بصلة للسياسة بمفهومها المعاصر.
(ب) اعتقاد طائفة من علماء العامة ببراءة الخلفاء والحكام والسلاطين، والملازمة بين وجوب الخلافة والتسليم والطاعة لحاكمية ادعياء الحكومة، كان قد اضطره لانكار الاصل بدلا من الخوض في الفرع.
5ـ عقيدة الخوارج في شأن نفي الحكومة البشرية، والقائمة على أساس انه ليس لاحد الارادة في حكومة الناس سوى ارادة الله.
فالناس لا تطيع سوى اوامر الله الذي لا شريك له في حكمه، ولا تمتثل الا لها، ولم يمنح الإسلام احدا ممارسة الحكومة والقيام بشؤونها، وهنا يكمن شعارهم المشهور الذي رفعوه في وجه الامام علي (ع) قائلين: «الحكم لله لا لك، ياعلي».
وقد رفض بعض المتكلمين الإسلاميين أن تكون كلمة الخوارج جميعهم قد اتفقت على هذا الشعار فنسبوا لهم النظريات الآتية[9].
(الف) تجب اقامة الدولة وتشكيل الحكومة الإسلامية، وعلى الأمة أن تنهض بها بقصد حفظ أساس الدين والنظام والمصلحة العامة في الشرائط المعقدة التي يخشى فيها الفتنة على المجتمع الإسلامي.
(ب) تجب على عامة الناس اقامة الدولة في حالة استتباب الامن والسلام وعدم وجود خطر يهدد امن الأمة.
(ج) لا تجب اقامة الدولة تحت اي شرائط في الشريعة.
6ـ لقد ورد المنع عن أية نهضة لاقامة الحكومة في غيبة ولي العصر (عج)[10].
ثانيا ـ تلازم الدين والسياسة مفهومي
ينبغي هنا أن نتناول رابطة هذين النوعين من المعرفة البشرية بالدراسة والتحليل ـ في انهما يشتملان على قاعدة الهية وعقلانية بغض النظر عن السيرة التاريخية في الغرب القائلة بفصل الدين عن السياسة (العلمانية)، ونتعرض للآراء النظرية للأديان سيما الإسلام بعيدا عما كان قد حدث وحصل في التاريخ.
وستبدأ دراستنا التحليلية لهذه العلاقة من خلال تعريف كل من الدين والسياسة لنرى مدى العلاقة المنطقية القائمة بينهما، من حيث المضمون والهدف:
(الف) تعريف الدين: يمكن تعريف الدين بانه مجموعة من العقائد المترابطة والأفكار المستقاة من الوحي الالهي في ما يتعلق بالعالم، والإنسان، والمجتمع والإنسانية في ما بعد الموت، وهدفه هداية الإنسان للعيش بصورة افضل واكمل.
وينسجم هذا التعريف والتفسير الذي ورد في شأن الايمان في بعض الروايات والكتب الكلامية: «اعتقاد بالجنان وعمل بالاركان واقرار باللسان»، كما يتناسب ايضا والتعريف الجامع الذي قدمه بعض علماء الاجتماع المعنيين بالأديان، مثل: نيل جسملسر وفلورانس كلاكون وفرد استراديت بك، فقد عدوا الدين ضمن مقولة التحمس للقيم التي عدوهاعبارة عن بعض المبادئ الصعبة، وفي الوقت نفسه المنظمة والمرتبة تماما والتي تبلور الافعال والأفكار الإنسانية في ما يرتبط بحل القضايا الإنسانية المشتركة وتنظمها.
وبهذا يرتسم التحمس للقيم في الدين بشكل أطر مقدسة وما وراء الطبيعة. وتظهر بعض الأفكار كـ «الاومانيزم» (Huomanism)، اي تأليه الإنسان، بالشكل الذي يفقد معه كل قداسة. المبدآن الرئيسان للدين هما: العقائد والرؤية العالمية، المقررات والاحكام والأخلاق والسير التكاملي للإنسان.
ويرى القرآن صراحة أن الشريعة جزء لا يمكن فصله عن الدين في جميع الأديان السماوية، ولا يعد الاعتقاد المجرد تدينا، وان كان صوابا ما لم يرافقه عمل بالاحكام والمقررات الدينية. فقد جاء في سورة الاعراف، الآية 173: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك...}. فالمنحنى البياني الدائمي الماهوي، كما جاء في سورة النور، الآية 62: {انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله واذا كانوا معه على امر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه}. للدين أفكار منظمة ومرتبة في مجال الرؤية العالمية الشاملة والشريعة، وليس هدفها الغائي سمو الإنسان وتعاليه في هذه الحياة الدنيا فقط.
لا شك في أن جزءا من الإنسان هو حياته الجماعية والسياسة، والحكومة هي ايضا جزء لا يتجزأ من اجزاء المجتمع. فكيف وأنى للدين، طبق هذا التعريف والهدف، أن يغفل عن هذا الجزء المهم من حياة الإنسان، ويزعم هدايته، والاخذ بيده لمصير ومستقبل افضل في الدنيا والآخرة؟ وقد اذعن جميع من تناول تعريف الدين لهذه الحقيقة، وهي أن هدفه وغايته تنظيم حياة البشرية.
(ب) تعريف السياسة: على الرغم من أن تقديم تعريف جامع ومانع للسياسة امر معقد، وهو في الحقيقة سهل وممتنع. ولكن، وكما اوردنا في موضع آخر من هذا المقال، فان السياسة تعني الادارة الفائقة للدولة وتفعيل الشؤون العامة باتجاه المصالح الجماعية وانتقاء الاساليب الناجعة في ادارة شؤون البلاد، أو انها علم ادارة شؤون المجتمع، أو هي فن تسيير شؤون الناس في ما يتعلق بالدولة، والذي يتعامل دائما مع حقل وجزء من حياة الإنسان. وحيث أن لها علاقة بعمل الإنسان، كان لابد من أن تحتك بالدين الذي تكفل ببيان طرق العيش واساليبه؛ ولذلك فهي تقوم باعمالها متفقة او متضادة معه، وفي كلا الحالتين فان للدين تعلق بالسياسة، والسياسة تعمل بدورها هي الأخرى ضمن نطاق الدين واطاره ايضا.
والآن، وبالنظر لما ورد، في مفهوم الدين والسياسة، يمكن أن نستشف بجلاء أن القضية المنطقية، في عدم انفصال الدين عن السياسة هي من المصاديق الواضحة للقاعدة المنطقية والفلسفية القائلة: إن «القضايا قياساتها معها»[11].
(ج) ماهية علاقة الدين بالسياسة في الإسلام: ناهيك عن الملازمة المفهومة لمقولتي الدين والسياسة، فان الأهمية التي اولتها التعاليم الإسلامية لثلاثة مجالات مبدئية، وهي: الايديولوجية والتشريع والأخلاق، لتكشف وتبين هذه العلاقة العميقة والراسخة، والتي تأبى الانفصال بينهما، وبالالتفات إلى المضمون والقضايا الماهوية للدين والسياسة، فانه سوف لن يبقى هناك من تردد في أن علاقة الدين بالسياسة في الإسلام هي علاقة منطقية وجوهرية، وان كلا منهما لازم وملزوم لصاحبه، ويأبى الانفكاك عنه. وبعبارة اخرى: أن هذه العلاقة تمثل اساسا ومبدأ كليا وبنية تحتية في التفكيرالإسلامي يتعذر انكارها.
ويمكن طرح هذه القضية وجوهرية هذه العلاقة المنطقية في عدة صور:
1ـ ففي المجال السياسي ونطاق الدين، هناك مشتركات تربطهما معا في الأهداف، وفي مجموعة من القضايا ذات الأهمية بالنسبة للحياة الاجتماعية. ولكن، وفي الوقت نفسه، فان لكل منهما مميزاته وصفاته الخاصة به، وهذا ما يؤدي إلى فصل احدهما عن الآخر في بعض الظروف والحالات الخاصة، كان ينتهج الدين سبيل العزلة والانطواء على نفسه داعيا اتباعه إلى اعتزال التلوث بالسياسة اذا ما ساد الفساد اجهزة الدولة وطاقمها السياسي الحاكم، واغلق الطريق امام أية اصلاحات أو تغيير، وهكذا يفعل الساسة اذا ما ساد الاستبداد الديني، واستولى الفساد على اهل الدين، فلعلهم يلجأون إلى طرد الدين، وان كانوا انفسهم من اهله واصحابه.
وهذا الامر نفسه دعا بعض الباحثين، في دراستهم لأفكار الإسلام السياسية، إلى أن يسلموا لعلاقة الدين بالسياسة في اطار تلك الحدود المشتركة لهاتين المقولتين، ويلتزمون بصورة مشروطة بهذه العلاقة ولا يرون مفرا من الانفصال النسبي بينهما.
ويبدو أن هذا النوع من الاستنتاج الخاص، بعلاقة الدين بالسياسة، قد نشأ من أن بعض الباحثين نظروا إلى أن كلا منهما يمثل المفهوم العيني للآخر. وفي هذه الحالة، يمكن فرض أن احدهما، أو كلاهما، قد انحرف عن مساره وهدفه، والحال أن الغرض المسبق كان على أساس أن يفسر مفهوم كل منهما بتفسير صحيح، وبذلك سوف لن يكون هنالك امكان لقبول فرض الانفصال بينهما.
2ـ أن قسما عظيما من القضايا الدينية واقع ضمن اطار السياسة ونطاقها، وبالمقابل، وفي مجال السياسة، فان اغلب قضاياها مرتبط بالاطر الدينية ايضا.
بعبارة اخرى: لا مناص لكل منهما من أن يقع في دائرة الآخر سواء من حيث الابعاد النظرية أم التطبيقية، وعليه فان السياسة لا تستغني عن الدين، ولا يستغني الدين عن السياسة.
وهنا يمكن مناقشة هذا الاستنتاج، وهو أن دائرة الدين، بما عليه من جامعية، تشمل الاصعدة السياسية كافة، وليس هنالك من رأي أو فعل سياسي لم يتناوله الدين حتى في الموارد التي لم يرد فيها نص شرعي (اي المباحات التي ليس فيها الزام شرعي)، فان الدين امر الإنسان بان يعمل بحسب ما يقتضيه العقل، ويمكن القول: إن هذه الموارد ليست بخارجة عن دائرة الدين ايضا.
3ـ لقد فسر بعض الباحثين علاقة الدين بالسياسة بان جميع الاشياء، في المجتمع الديني، بما فيها السياسة، تصبح دينية شئنا أم ابينا، وان هذا التلازم امر طبيعي ونوع من الاجبار، فاذا ما عاشت الأمة فى مجتمع متدين فان السياسة ستكون هي الأخرى دينية، وهذه صفة مميزة للامة حين تلتزم بدينها، ولا يمكن الحيلولة دون وقوعها. ولفصل السياسة عن الدين لا بد من فصل الأمة عن دينها بادئ ذي بدء، وآنذاك سيفقد المجتمع دينه، وتصبح السياسة غير دينية ايضا.
لا شك في أن هذا التفسير لعلاقة الدين بالسياسة لا يمكن له أن يكون بمعنى العلاقة الماهوية بينهما، والتي ستتبع النهج الديني للمجتمع، فضلا عن مقتضى الدين نفسه، بحيث اذا افترضنا أن المجتمع الديني لم يشأ أن يمزج الدين بالسياسة، فان السياسة، في هذه الحالة، ستكون لا دينية. وكذلك أن كان هذا الفرض يمكن تحققه في ما اذا اراد المجتمع اللاديني أن يعمل بالدين، فان السياسة ستكون دينية. وبعبارة اوضح، فانه، وطبق هذا التفسير، ففي الواقع أن التلازم ليس بين الدين والسياسة، بل بينها وبين ارادة الأمة التي تعين اتجاه السياسة، وتنبغي اضافة هذه النقطة لتسويغ هذا الرأي وذلك التفسير، وهي انه اذا لم يكن هناك من ملازمة ماهوية بين الدين والسياسة، وان الدين لا يجر السياسة اليه، فان المتدين لا يتطلع ابدا إلى أن تكون سياسته دينية. فان سيس المجتمع الديني الدين، فان ذلك يعود لان الدين قد اقتضى ذلك، وليس هنالك من سبيل امام المتدين والمجتمع الديني للهروب والفرار من ذلك.
ثالثا ـ الأهداف السياسية للدين ورسالة الأنبياء
لقد سطر فكر الأنبياء السياسي فصولا بارزة وجلية في تاريخ الأفكار السياسية، وانجازاتهم هذه تعد من العناصر المهمة والمصيرية في التاريخ السياسي العالمي، كما أن هنالك انجازات خاصة بالأنظمة السياسية القائمة على أساس مبادئ الدين والأنبياء في تاريخ الأنظمة السياسية العالمية، وهي جديرة بالدراسة والتأمل... وقد سعى كتاب تاريخ الأفكار السياسية، في الغرب، لتمييز علم السياسة والأفكار السياسية عن الأفكار الدينية، ولذلك اقدموا تاريخيا على تجاهل تلك الانجازات، وهذه جريمة لا تغتفر دينيا ولا علميا. وقد ظلت أقوال هومر وسقراط وافلاطون وارسطو، وسيسرون هي السائدة، في تاريخ الأفكار السياسية، حتى القرن الخامس الميلادي وبعد گوستين حتى القرن العشرين، الا انه ـ وكما ذكر سابقا لم يشاهد فصل باسم الأفكار السياسية للأديان والأنبياء في أية زاوية من زوايا هذا التاريخ السياسي الشامل والواسع. ورغم الدور التاريخي الذي اضطلع به الفكر الديني للأنبياء، لم يرد ذكر لاسمائهم، لا في تاريخ الأنظمة السياسية ولا في تاريخ الأفكار السياسية.
حصيلة اعمال موسى (ع) تمثل انقاذ القوم مما عانوه من ظلم وعذاب؛ فهي، وبغض النظر عن كونها عملا لنبي ورسول من رسل الله الا انها كانت عملا سياسيا وسندا لتلك النهضة العملاقة، فمما لا شك فيه انها كانت تيارا سياسيا ومدرسة عميقة متجذرة لم يرد ذكرها قط في التاريخ الغربي للأفكار السياسية.
لقد قارع ابراهيم (ع)، المؤسس العظيم لمدرسة التوحيد، وبطلها السياسي لعشرين قرنا خلت، قبل ميلاد السيد المسيح (ع)، السلطة السياسية الغاشمة الحاكمة آنذاك، من خلال ايجاده لأسس رصينة متينة ومذهب ذي جذور عميقة، وقد سطر اوراقه باحرف من نور في عمق التاريخ السياسي للأفكار العالمية، ولم يتمكن، من خلالها، من الاطاحة بتلك السلطة الحاكمة، وينقذ شعبه فحسب، بل فتح الباب على مصراعيه للامم، ملقنا اياها دروسا في النضال ونهج الخلاص.
وقد قاد نبي الله موسى (ع)، هذا النبي المجاهد الدؤوب، قبل اثنى عشر قرنا خلت قبل ميلاد السيد المسيح (ع)، الكفاح والجهاد ضد اعتى سلطة في التاريخ، ثم تمكن من الاطاحة بتلك الأفكار السياسية السائدة، وتزعم نضال شعبه وفق الأسس السياسية المستندة للتوحيد، وقد كتب لها النصر، وبذلك فقد تلالات مرة اخرى الأفكار السياسية التوحيدية لتبيين الانتصارات والهزائم.
وقد عزز الأنبياء من بعد موسى (ع)، وحتى ظهور السيد المسيح (ع)، نهجه، فاصبحت الأفكار السياسية القائمة على التوحيد معالم على طريق العمل السياسي لعدة قرون. وقد مضى عيسى (ع) في هذا الجهاد الذي لا يقهر، وواصله حتى انتهى بصلبه وصعوده حبل المشنقة. إن هذا الاتصال التاريخي للسنن الالهية، منذ بعثة نبي الإسلام (ص) ثم إلى يومنا المعاصر، وعلى امتداد التاريخ، قد خلف اعظم الوقائع السياسية التاريخية، وسجل اروع الأفكار السياسية المشرقة.
الا انه، ولان الاقلام التي تكتب التاريخ وقعت بيد الغرب، فانها اقتصرت على تسطير ما يختص به فقط، وركزت على بعده المادي التاريخي، مغفلة التاريخ السياسي لحركة الأنبياء وتاريخ الأفكار التوحيدية، وازالتهما عن مسرح التاريخين: السياسي والعلمي. وقد عمدت العلمانية إلى فعل ذلك بعدما نشأت في الغرب، وعمل هذا على تعميمها على كافة الازمنة والقرون الماضية، واودع جميع الآثار الرائعة للانجاز الديني في زوايا النسيان.
فلم يرد الكلام على تاريخ الأنبياء في التاريخ السياسي وفي تاريخ العلوم بصورة عامة. إن المقصود من التاريخ السياسي الغربي هو النفوذ الفكري للغرب لا جغرافيته المكانية، التكنولوجية، والتي ليست من نتاجات سكان الغرب بمعناه الجغرافي بل هي خلاصة الفكر البشري في التاريخ: «العلم هو الميراث المشترك للبشرية جمعاء».
لا يرد لافريقيا اليوم ذكر في التاريخ، وهذا لا يعني انه ليس لها من دور يذكر، فالعالم ليس وطنيا ولا جغرافيا. وذلك أن العلم هو الذي يمنح التكامل لكافة الجهود والمحاولات البشرية في جميع المناطق الجغرافية. وبناء على ذلك، فان العلم لا يمكنه أن يكون تابعا للجغرافية والوطنية والقومية، وتكامل العلوم حلقات يتصل بعضها ببعضها الآخر ويتشابك، وللعلم ارتباط كامل بكافة هذه الحلقات التي تأبى احداها الانفكاك عن الاخرى.
ان المقصود من الأهداف السياسية للأنبياء هو تلك الأهداف المرسومة مسبقا والتي جاهد الأنبياء، وعلى أساس الوحي الالهي لتحقيقها، ولم يألوا جهدا، في السعي الحثيث بغية تحقيقها والتضحية بالغالي والنفيس من اجل ذلك. وفي الحقيقة، فان هذه الأهداف مبينة لأفكار الأديان العظمى المطروحة في التاريخ، والتي كانت عنصرا مهما في بعض التطورات الشاملة في التاريخ، وكان لها دور تاريخي وبالغ الأهمية في الحضارة والثقافة العالميتين. إن دراسة الأهداف السياسية للأنبياء، في تحليل المباني الفكرية السياسية الإسلامية، يمكنها أن تكون من اهم المباحث في تبيين علاقة الدين بالسياسة. ويمكن القول: إن هنالك ثلاثة أهداف رئيسية للأديان الالهية، وهي:
الاول: بسط القسط والحق، وهداية المجتمعات البشرية وتوجيهها باتجاه العدالة.
الثاني: الدعوة إلى الحق وخلق علاقة بناءة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى.
الثالث: التطور والنهوض على مسير التكامل: {لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد/25].
ولكل من هذه الأهداف السامية الثلاثة ارتباط وثيق بالقضايا السياسية، ولا يمكن تحققها من دون توافر فكر سياسي مناسب ومنظم وفلسفة سياسية واضحة. وهنا يطرح سؤال نفسه في شأن أهداف الأنبياء، وهو: اذا كان هدف الأنبياء والاولياء جميعهم هو اقامة العدل وبسط القسط، في المجتمع، فكيف يمكن أن يكون عمل الأنبياء وفكرهم منفصلا عن السياسة؟
ومن المفروغ منه أن بسط القسط والعدالة يتطلب قانونا، والقانون بدوره لا يتبلور، ايضا، من دون وجود نظام حقوقي واضح، ولا يمكن تطبيق هذا الاخير من دون وجود نظام سياسي، وكذلك لا يمكن تحقق حكومة ونظام سياسي بمعزل عن فكر سياسي، وبالنتيجة ما لم تتوافر سلسلة المراتب هذه لا يمكن بلوغ الحق والعدالة.
ان من ابرز تعاليم الأنبياء واهمها التشريع الذي يتكفل ببيان النظام الحقوقي المحدد والمتمايز، نظام حقوقي يمثل، من جهة، الارضية الخصبة وليس القوانين والمقررات الحاكمة فحسب، ومن جهة اخرى يطالب بتشكيل سلطة سياسية تنفيذية تنهض بمسؤولية ضمان تنفيذ تلك القوانين.
الهدف الثاني لرسالة الأنبياء هو دعوة الناس لله وهدايتهم المعنوية وتمهيد السبيل امام تعاليهم ورقيهم، وهذا لا يتيسر الا في ظل خطة عمل سياسية وحكومة بشرية. فاول عمل قام به ابراهيم (ع) هو دعوة الناس للايمان بالله، وكانت اولى مجابهاته تلك التي كانت مع نمرود الذي ضرب امامه طوقا من حديد. واول اجراء اتخذه في تلك المجابهة اعلانه للجهاد الشامل بكافة ابعاده. وكان أساس هذا الجهاد الفكر السياسي، فالدعوة تتطلب خطة مبرمجة وتنظيمها، وان كل تنظيم أو برمجة هو عمل سياسي. وان الهداية تعني القيادة وتمحور فئة حول ايديولوجية ذات أهداف معينة مدروسة، وهذا يعني اقتحام العمل السياسي بكل ما يتمخض عنه من معان. وعليه، فان هداية الأنبياء تعني الزعامة والقيادة، وهما عملان سياسيان.
الهدف الثالث للأديان هو تحرير الإنسان من كافة القيود التي تحول دون تكامله، والتي تمثل عقبة كؤودا امام قربه من الله، ولا يمكن لهكذا هدف يتضمن تحقيق الحرية، في المجالات الفردية والاجتماعية والدولية، أن يتحقق بمعزل عن نضال سياسي دؤوب.
ان الحرية، في منطق الدين، تعني العبودية لله وعدم عبودية ما سواه. وقد جاء في القرآن الكريم: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} [النحل/36].
ان المفهوم الديني للعبودية ليس الا التحرر المطلق من كافة العوامل غير الالهية والخلاص من جميع عقبات التعالي والتكامل، وكذلك التحرر من قيد الشهوات النفسانية وغير العقلانية. ولا شك في أن الحرية، بهذا المفهوم الشامل، تتمتع برؤية فلسفية وسياسية عميقة تضاعف علاقة الدين بالسياسة.
ان التعاليم الدينية في شأن موقف الإنسان بالنسبة من الله والشيطان لتمثل الخط الفاصل بين حرية الإنسان أو اسره من جهة: {من يطع الرسول فقد اطاع الله} [النساء/80]. ومن جهة اخرى، فان اي اتباع واذعان لحاكمية غير الله يعد حركة شيطانية: {وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} [الاحزاب/67].
ان المنطق الديني يرى أن التعلق بالدنيا والاهواء هو تعلق بمعسكر الطاغوت، ويحتاج الفراعنة لبسط سيطرتهم وبسط نفوذهم إلى قواعد في باطن الناس المقيدين، ولا تكمن هذه القواعد الا في وسط تلك الحاجات، والا اذا عاش الإنسان في اسر الشهوات..
ان الفرعنة تنبثق من ذلك التعلق بالدنيا، وهو التوق للسلطة الآيل للزوال، الا أن هؤلاء التواقين قد يستندون، من جهة اخرى، إلى قواعد مستقرة تلتمس مواضعها في بواطن الناس المقيدة الاسيرة، ولذلك فهم باقون ويتزايدون قدرة وسلطة.
واليوم، فان تبعية الأمم المستضعفة، فضلا عن خضوعها لحاجاتها المادية وشهواتها الرذيلة المؤدية إلى وقوع الخسائر، لتمثل اهم قواعد التسلط الشيطاني الاستكباري لامريكا.
وان السبيل الوحيد للتخلص من هذه القواعد الداخلية للاستبداد والاستكبار الخارجيين والتخلص منهما ليكمن في الحرية وفق المفهوم المتمثل في هدف الدين ورسالة الأنبياء. لا شك في أن طرح النضال والجهاد ضد الاستبداد والاستكبار فكرة سياسية، على الرغم من أن رفض الاستبداد ومناهضة الاستكبار يعد مزية أخلاقية ناشئة من تهذيب النفس، ومن ثم فهي حركة أخلاقية، الا أن هذه المزية الذاتية للدين لا تفصل قضايا الحياة احداها عن الاخرى، بل تجعلها مترابطة متماسكة. هذا ما يستفيده الإنسان من نتائجها في مساره ونهجه التكامليين. ولذلك، فقد ورد ما لا يستهان به من القضايا والأفكار السياسية الإسلامية الاصيلة خلال المباحث العرفانية والأخلاقية، فكان العرفاء هم اغلب زعماء نهضتنا وحركاتنا الثورية في تاريخنا الإسلامي وقادتها.
لقد صنف علماء الأخلاق بث الرعب والخوف في الآخرين ضمن الصفات الرذيلة والذنوب الكبيرة، ثم قالوا، وبالاستناد للروايات: «من ارعب بريئا جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله».
فحوى هذا الحديث الأخلاقي مسألة سياسية كاملة تتصدى بوضوح لبيان أهمية القضية الامنية في المجتمع وخطورتها.
لقد قال ابو الاحرار الامام الحسين (ع): «ان لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخشون المعاد فكونوا احرارا في دنياكم»، اي انتقوا سبيل الاحرار، اي التفكير المتعقل والحر. يعني التفكير والحركة على أساس العقل.
رابعا ـ الدور السياسي للأديان
لقد اقصيت التعاليم السياسية للأديان الرئيسية، كالمسيحية واليهودية عمليا عن المسرح السياسي على المستويين: الوطني والدولي. وان كان هناك ثمة دور للأديان والمذاهب، في السياسات الدولية، فان ذلك يعود لاستغلال نفوذها المعنوي في تمرير مخططاتها ومشاريعها السياسية، وقد استغل هذا النفوذ للأديان استغلالا بشعا، وهذا ما فعله سماسرة السياسة على مدى التاريخ في لجوئهم لكافة الوسائل، بغية تحقيق مآربهم واطماعهم.
اذا ما شوهد دور للمسيحية واليهودية، في الاحداث السياسية الدولية، فان ذلك يعزى إلى أن دورهما يوظف في السياسة.
وقد سلمت المسيحية العالمية المعاصرة، بعد عصر مديد من النزاع التاريخي، للعلمانية، بينما ابتعد اليهود غير الصهاينة عن السياسة. وهنا يطرح سؤال نفسه، وهو: هل القرب من السياسة أو البعد عنها جزء من تعاليم الدينين المذكورين ونابع من طبيعتهما أو انه كسائر الظواهر التاريخية التي تنشأ على اثر مجابهة بعض العوامل المختلفة التي تمثل اسبابها الخاصة؟
يعد الإسلام العلمنة وفصل الدين عن السياسة انحرافا عظيما خطيرا يتنافى وطبيعة الأديان، ويرى أن ابتعاد الأديان عن السياسة هو انعكاس لهزيمة المتدينين امام الغزو الالحادي التاريخي الذي يشن ضد حاكمية الأديان. وقد اشار القرآن صراحة إلى هذه المجابهة التاريخية المستمرة، مادحا استقامة حماة مدرسة الأنبياء وثباتهم قائلا: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله وما ضعفوا...} [آل عمران/146].
ووفقا لوجهة نظر القرآن الكريم، فانه يعد الضعف، في هذا المجال، غير جائز كما انه يدين الصلح المصحوب بالذلة من موقع الضعف، وهذا ما تقوله الآية الكريمة: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وانتم الاعلون} [محمد/35].
اننا نشاهد، من خلال مطالعتنا لسيرة الأنبياء، أن ابرز فعالياتهم وانشطتهم قد تركزت في الجانب السياسي، وهذه الحقيقة ترى بوضوح في القرآن الكريم، حين يصف حياتهم الاجتماعية.
ان كانت القدرة تعد المحور الاساسي للسياسة، فان الأنبياء كانوا يتحدثون دائما من موقع القوة، وهذا ما نلمسه في المفردة «النذير» [هود/25] التي ورد استعمالها، في آيات كثيرة، وفي عدة صور في شأن الأنبياء، لتكشف بوضوح عن ذلك الموقع. وان الوعد بالنصر النهائي للأنبياء وانصار مذهبهم قد تبين بالمفردة «ليظهره» [التوبة/33] وعدة آيات اخرى، وهي تفيد القوة التي كان يسعى الأنبياء للظفر بها، وقد يعبر عن ذلك بـ «السلطان المبين» الذي يبين تلك الحقيقة ايضا.
ان عددنا النهج والايديولوجية ملاك الاحزاب السياسية، فان الأديان الالهية هي اول مؤسس الاحزاب، وان رأينا أن التنظيمات هي معيار وجود للاحزاب، فان اقوى التنظيمات واعظمها، طوال التاريخ، تعود للأنبياء. يعتقد بعض الباحثين بان المفهوم السياسي للحزب يعني وجود الاعضاء والانصار الذين يؤمنون بأهدافه ومبادئه، وحسب هذا الفرض لا بد من القول: أن الاسباط والحواريين وجميع الاتباع الامناء والمؤمنين بمدرسة الأنبياء كانوا يشكلون لبنات الاحزاب السياسية.
وان كان فتح جبهة جديدة، في الجهاد الاجتماعي، يعد من انشطة العمل السياسي للاحزاب، فان ابرز مظاهر ذلك يمكن مشاهدتها في الحياة الاجتماعية والسياسية للأنبياء. وعلى سبيل المثال، فقد فتح موسى (ع) جبهة متراصة في وجه فرعون وملئه (اي حاشيته ورجال سلطته) [الشعراء/16 والاعراف/103] وبعض الآيات الاخرى.
وكذلك فعل عيسى (ع) امام قيصر. ويأتي في طليعة المجاهدين ابراهيم (ع) ضد نمرود[12].
ولم يأل اهل الدنيا، من محبي الرئاسة والتسلط، والذين كانوا يقفون بقوة في وجه الأنبياء ونهضتهم التي كانت تحول دون بقاء دولهم، جهدا بغية القضاء على رسالتهم وعلى اتباعهم، ولم يتورعوا عن اللجوء إلى ممارسة اقذر الاساليب بحقهم، من عنف وقتل واغتيال وتشريد وما شابه ذلك.
وعادة ما كانت تسفر مجابهة الأنبياء لطواغيت عصورهم عن انقسام المجتمعات البشرية إلى قطبين، ولم تكن هذه التجزئة السياسية لتتم بارادة التيار الثوري الملتزم بتعاليم الوحي، بل كانت قضية فرضها التيار الغاشم الذي كان يعرض الأمة للظلم والجور ويهضم حقوقها.
ولو لم ينوه القرآن بهذه الحقبة السياسية، من ذلك التاريخ، ولو لم يعرض لهؤلاء الثوار الذين صنعوا التاريخ، والذين كان لهم بالغ الاثر على الصعيدين: السياسي الديني، فمما لا شك فيه أن التاريخ السياسي العالمي ذا النظرة الاحادية كان سيعمد إلى طمس اسماء اولئك الأنبياء العظام وآثارهم، فضلا عن انجازاتهم وانصارهم وحوارييهم. الا أن القرآن الكريم ايقظ ضمير التاريخ وحفظ للأنبياء جهادهم ونضالهم المرير، وفضح سياسة التاريخ آحادية القطب، فكان القطب الاول يمثل بالملأ والمتكبرين والمسرفين والمترفين، والقطب الآخر بالمستضعفين، وكان الصراع قائما على قدم وساق بين هذين القطبين؛ حيث كان انصار القطب الاول هم الكفار والمشركون والمنافقون والفاسقون والمفسدون، بينما كان انصار القطب الثاني يمثلون الموحدين والمؤمنين والمتقين والصالحين والمجاهدين والشهداء.
والتصنيف القائم يفيد بوضوح أن لكل من القطبين: المستكبر والمستضعف قواعد عقدية معينة، فقاعدة عقائد القطب الاول كانت الشرك والكفر والنفاق والفسق والفساد، وقاعدة القطب الثاني كانت الايمان والتوحيد والصلاح والاصلاح والتقوى.
ومطالعة آيات سورة الاعراف، من 50 إلى 137، في شأن تاريخ الأنبياء، كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى (ع) تكشف عن صراع قطبي الاستضعاف والاستكبار وعن اسلوب تفكير حماتهما في المجتمع والدولة. إن العنصرالاساسي للمجتمع والدولة هو الناس الذين يمثلون السند الرئيسي لدعوة الأنبياء. وقد خاطبهم القرآن، على لسان انبيائه، بالناس، وفي طليعتهم الأنبياء انفسهم، وبصورة عامة، فان ارادة الناس تمثل ارادة الله {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض و نجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين} [القصص/5].
كانت وظيفة موسى (ع)، في اوائل دعوته، أن يتجه صوب فرعون، ويطرح قضية الحكومة: {اذهب إلى فرعون انه طغى فقل هل لك إلى أن تتزكى واهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات/17 ـ 19]، {اذهبا إلى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه/43 و44] ثم يزف للمتقين، في الختام، البشارة بوراثة الحكومة: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الاعراف/128]. وكذلك بشر داود قومه بان الحكومة للصلحاء، وهكذا طرح الأنبياء من قبل حكومة العدل وسيادة القانون الالهي: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء/105].
ان القرآن الكريم، وهو يطرح اتجاه فرعون الاستكباري يرفض الحكومات الاستكبارية ـ الذين كانوا يقيمون حكمهم على هذا الاساس، ويدعون انهم يمثلون البلاد والدولة والقانون، ويستبدلون المنظمات السياسية الصالحة باساليبهم الشخصية القائمة: {ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين} [القصص/4].
لقد استضعف فرعون قومه واستعبدهم واذاقهم الذل والهوان من خلال حكومته الاستكبارية الجبارة وبثه للتمييز العنصري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والعقدي في صفوفهم. ويتابع القرآن وصف ماهية الحكومة الاستكبارية وآثارها الوخيمة على الأمة متحدثا عن الارادة الحاكمة للتاريخ التي تناهض على الدوام ارادة الاجهزة الاستكبارية الفاسدة، وتقارع ارادة الجبابرة المتغطرسين.
ولا شك في أن هذه هي ارادة الله التي كانت تتجلى في حركة الشعوب والأنبياء وفي ارادة المستضعفين الجماعية التي كانت تدفع عجلتها باتجاه السيادة والحاكمية: {نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص/5 و6].
لقد اشار القرآن الكريم إلى هدف الأنبياء المتمثل في اقامة النظام العادل، وقد جعل الحديد، بوصفه رمز الحركة المسلحة، اداة ووسيلة لاستقرار هذا النظام السياسي ـ الاقتصادي. وان اقتران كلمات الميزان والحديد، في الآية القرآنية المباركة، لتبين المحاور الاصلية لتنظيم سياسي واقامة حكومة الأنبياء. اننا نرى، على مدى التاريخ، ادعاء السلاطين والهيئات الجبارة الحاكمة والمتسلطة قضية السلطة وسيادة الأمة، وقد مارس هؤلاء كافة انواع الدكتاتورية والاستبداد والتعسف، وعملوا على أن تكون ارادتهم واهواؤهم هي القانون، وفرضوا نزعاتهم الشخصية والفئوية على الأمة بالحديد والنار.
لقد تعامل كافة الأنبياء مع هذه الحكومات، بجميع اشكالها والوانها، بطريقة واحدة، فادانوها جملة وتفصيلا، ولم يقروا بشرعيتها؛ وقد تأثرت نهضات الأنبياء وحركاتهم ومدارسهم ومذاهبهم بالشروط السياسية والاجتماعية التي كانت تسود مجتمع كل منهم. فاذا ما رأينا بعض الاختلاف بين حركة هذا النبي وذاك، كالحركة الجماهيرية الغاضبة العارمة لموسى (ع)، فان هذا لا يعني تمتع تلك الحركة بمضمون ومفهوم خاصين، وذلك لان المشروع المشترك الذي كان يحكم حركة الأنبياء هو اقامة حكومة الله المتمثلة بارادة الجماهير وعزمها ورفض حاكمية غيره واستنكارها. فاذا ما كان هنالك اختلاف في النهج والاسلوب فلا بد من البحث عن اسباب ذلك في الشروط الزمنية والمكانية والمقتضيات السائدة آنذاك.
فحتى اسلوب عيسى (ع) لم يكن بعيدا عن الحلقات المتماسكة لحركات الأنبياء. فلم يكن اسلوبه ونهجه يشملان بعض الامور، من قبيل: الانعزالية والرهبانية والانطواء عن المسؤوليات الاجتماعية والحياد وعدم الاكتراث والمبالاة التي تنسب اليه بالنسبة للتيار الحاكم آنذاك وترك قيصر لنفسه. فقد عد القرآن الكريم الرهبانية بدعة في دين عيسى (ع): {ورهبانية ابتدعوها} [الحديد/27].
لقد ورد، في انجيل متى ولوقا، انه (ع) ولد ايام حكومة هيرود، ذلك الجبار السفاك المشهور، وهو الذي اعدم زوجته وامها وابنيه بتهمة التآمر، ولما لم يستطع اخماد ثورة شعبه المظلوم بالتعذيب والقتل والتنكيل، عمد إلى شراء ضمائر بعض الكهنة، ودفعهم إلى بث البدع والخرافات والاباطيل، ليجبر الأمة على تقديم عروض الانحناء الذليل ومراسم الطاعة له، واذ حقق له الكهنة هذه الامنية القديمة مارس سلطته كسائر الجبابرة والطواغيت سابحا في مستنقع وحل التكبر والغرور والعنجهية والغطرسة.
لقد قام هذا الحاكم الغاشم بالقاء القبض على يحيى (ع)، واودعه السجن على اثر انتقاده له واعتراضه على فساده وانتهاكه للعفة، وقد استشهد (ع) في عهد رسالة عيسى (ع) .
لقد سجلت الاناجيل، بما فيها انجيل مرقس ـ الباب الاول، وانجيل متى ـ الباب الرابع، وانجيل لوقا ـ الباب الرابع، بعض الخطب الحماسية التي كان يلقيها عيسى (ع) في الناس ومنها: «ان الله بعثني لابشر المساكين المظلومين واكون انيسا للمحزونين، واصدع برسالة الاحرار والعبيد واحرر الاسرى».
لقد ألب عيسى (ع) بخطبه الناس ضد الوضع القائم. ومن جهة اخرى، فقد بث الذعر في جهاز الدولة الحاكم من خلال عباراته الغاضبة الحادة التي كان يهاجم فيها حب الاموال والدنيا والجاه والمقام والرئاسة، والتي كانت تنال من القيم والمثل والأسس التي شيد عليها هيرود صرح حكومته. وبذلك فقد تزعم (ع) جبهتين في مجابهته لطاغوت عصره تزامنا مع حملته الشاملة التي شنها على احبار اليهود الذين كانوا يظهرون النفاق في اتباعهم لموسى (ع) من جهة، ومن جهة اخرى كانوا يسدون الخدمات للفراعنة، بغية تحكيم أسس حكومتهم القائمة ضد الله والامة، ثم فضح فسادهم وكفرهم وشركهم وكشف زيفهم امام الرأي العام.
ان تعليمات عيسى (ع)، التي مهدت السبيل امام انهيار الطغمة الفاسدة التي كانت تحكم الروم، عرضته اولا إلى هجوم المدافعين عن نظام هيرود، اي كهنة اليهود واحبارهم، وثانيا إلى غضب حراس الامبراطور الذين تآمروا، بكل خبث، على قتله على اثر اطلاعهم على مواقفه من الامبراطور[13].
ان الحركة التحررية للأنبياء لمن اوضح الانشطة السياسية للرسالات والنبوات، ولذلك كان اول مخاطبي الأنبياء هم جبابرة التاريخ؛ والطلائع الملتزمة بحركة الأنبياء هم محرومو التاريخ ومظلوموه ومستضعفوه.
ويبين القرآن الكريم شعار الأنبياء، في هذا البعد من الحركة السياسية، قائلا: {ان ادوا الي عباد الله اني لكم رسول امين} [الدخان/18].
ورسالة موسى (ع) كانت: {فارسل معنا بني اسرائيل ولا تعذبهم} [طه/47]، [الشعراء/17].
واستعمال المفردة «ارسل» يفيد أن موسى اراد أن يفهم طاغوت عصره انه لا ينوي البقاء ضمن دائرة حكومته، وهذا يعني معارضة نظامه، انه يريد أن يحرر الأمة مما تعانيه من ظلم وعذاب.
خامسا ـ السياسة من وجهة نظر الدين هدف أو وسيلة
كان الكتاب الإسلاميون يرون أن الاقتصاد، من وجهة نظر الإسلام، بنية فوقية مقابل شعار الماركسية القائم على أساس أن الاقتصاد بنية تحتية، والمقولات الأخرى بنى فوقية. اما قصد الكتاب المسلمين من كون الاقتصاد بنية فوقية فهو أن الاصل في الإسلام الفكرة التوحيدية، وان الفكرة الاقتصادية تنشأ من الفكرة التوحيدية، فلم يكن مفهوم هذا الاصل هو انه يحد من تأثير الاقتصاد بوصفه عاملا اجتماعيا متينا ذا دور بالغ الأهمية في اغلب قضايا المجتمع. ويمكن طرح نظير هذا البحث في شأن السياسة من وجهة نظر الإسلام، فهل هي هدف أو وسيلة؟ اصل أو فرع؟ بنية تحتية أو فوقية؟ ولما كانت القوة تعد من ابرز عناصر السياسة، فهل القوة هدف أو وسيلة؟
يعتقد اغلب العلماء أن القوة السياسية هي وسيلة فقط لاقامة الحق وبسط العدالة وتنفيذها، فهي مهمة لهذا الغرض لانها تصب في خدمة الأمة، والا فان السعي اليها وطلبها مناهض للقيم والمثل، وقد امتلأ نهج البلاغة بالتعابير التي تتحدث عن هذه القضية.
ويرى بعض المفكرين الإسلاميين أن القدرة أو القوة هدف، ولا بد من الاستعانة بها بغية استتباب حاكمية الدين وسيادته. فالقوة بكونها صفة الهية مقدسة هي من المبادئ العقدية للإسلام، وان الاقتدار قيمة ومثل، ولذلك وردت الروايات بذم الإنسان الضعيف ـ وان كان مؤمنا وانتقاده، كالحديث النبوي الذي يقول: "إن الله لا يحب المؤمن الضعيف. قيل: من هو المؤمن الضعيف؟ قال: الذي لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
اما أن الامام علي (ع) قال بعدم أهمية الحكومة وعدم قيمة القوة في موضع من نهج البلاغة: «والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين»، وامتنع بشدة في موضع آخر عن تفويض السلطة والقوة لمعارضي حكومته؛ اي القاسطين والناكثين والمارقين؛ وذلك لما تتعرض له هذه القيمة من استغلال احيانا وتسخير بصورة سلبية، وواضح أن امكان هذا الاستغلال لا يقوم دليلا ابدا على سلبية قيمة القوة والقدرة. وذلك أن كافة القيم السامية حتى العلم والحياة وسائر الفضائل والمناقب معرضة للاستغلال. ويبدو أن الرأيين جديران بالاهتمام، وكلاهما قد اقر من حيث منطق الدين. وان هذا المطلب ليصدق في شأن الاقتصاد ايضا، بالاضافة إلى انه حتى على الفرض الاول فانه يمكن القول: أن كون السياسة من وجهة نظر الشريعة وسيلة لا يحد ويقلل من اهميتها من الناحية الدينية.
والقضية ليست بهذا الشكل في أن ما كان وسيلة فهو فرع قليل الاعتبار، بل أن هذه الوسائل لتشكل اولى أهداف كل امر.
وبناء على ما تقدم، فان السياسة تمثل عنصرا حيويا مرافقا للإنسان في حياته وشؤونه على الدوام، وان العمل السياسي وتنقية السياسة كان دائما من أهداف الدين بالغة الأهمية. وهذا ما يمكن التوصل اليه من خلال النظر إلى أهداف الأنبياء.
___________________________
[1] الإسلام وأصول الحكم، علي عبدالرازق.
[2] نفسه، ص 38.
[3] نفسه، ص 44.
[4] نفسه، ص 45.
[5] نفسه.
[6] نفسه، ص 46.
[7] حقي ممدوح، مقدمة الإسلام ونظام الحكم، بيروت: مكتبة الحياة 1978، ص4.
[8] نفسه، ص62.
[9] الگستلاني، الحاشية على كتاب العقائد النفسية بالنقل عن المصدر نفسه، ص38.
[10] لقد تعرضت براهين هذه النظرية للدراسة والنقد، بشكل مفصل، في كتاب: «النظام السياسي والحكومة في‏الإسلام‏»، المجلد الثاني، الفقه السياسي.
[11] يستعمل هذا المصطلح حين يكون هناك التفات وتطور لموضوعين في قبولهما لملازمة وعلاقة منطقية.
ويمكن ‏تقديم مثال رياضي لهذه القاعدة: فاذا عرفنا العدد 10 والعدد 20، فان فهم أن العدد 10 اصغر من العدد 20 لا يحتاج ‏الى برهان واستدلال. وهكذا القاعدة الرياضية: «ان الكل اكبر من الجزء».
[12] يراجع: الفقه السياسي، المجلد 1، ص83. [الطور/38 والدخان/19].
[13] جاء في الباب 22، من انجيل متى، أن حراس الامبراطور سألوا عيسى (ع): امن الصواب أن نعطي الامبراطور الضرائب؟ لم تكن نهضة عيسى (ع) سلمية ابدا والا لما تمكن من انهاء امبراطورية الروم بتلك القوة وذلك الاقتدار.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية