مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

الحكومة الاسلامية والحكومة الوضعية
عادل عبد المهدي


هل الحكومة الاسلامية مفهوم يختلف عن مفهوم الحكومة الوضعية، أم هي مجرد شكل من اشكالها؟ وفي حالة وجود الاختلاف فأين يقترب المفهومان وأين يفترقان؟ وهل الخلاف هو في الدرجة ام في النوع؟
من اجل الاجابة عن هذه الاسئلة لابد ان نوسع من دائرة البحث، فالحكومة هي في المحصلة نتيجة وليست سبباً.
ـ الفكر الوضعي يفرز حكومة وضعية، والفكر الاسلامي يفرز حكومة اسلامية.
ـ التجربة الوضعية تفرز حكومة وضعية، والتجربة الاسلامية تفرز حكومة اسلامية.
ـ المجتمع الوضعي يفرز حكومة وضعية والاجتماع الاسلامي يفرز حكومة اسلامية.
هناك ـ اذن ـ حالتان تختلفان في مقدماتهما وفي اهدافهما ومراميهما، كما أنهما تختلفان في مرجعيتهما ومركباتهما ومبناهما.
1 ـ الحالة الوضعية هي الاعتراف بالواقع والحس والمادة دون ما سواها. انها ترى الحقائق عبر المشاهدة والاختبار والحس. انها ـ في جوهرها ـ تنشأ من حركة احادية تبدأ بالانسان (الفرد) لتنتهي اليه. فالوضعية كما نظر لها الفيلسوف اوغست كونت(1) في القرن الماضي، وكما نشأت منذ ان نشأت البشرية على الارض، هي عدم الاعتراف الا بما يمكن للمشاهدة وللتجربة ان تبرهنه؛ أي الاعتراف بالمحسوس والملموس في عالم المادة. لذلك كل شيء يجب ان يجسد ويأخذ شكلاً وحجماً بما في ذلك الـ(رب) رب نفسه.
العالم الدنيوي هو كرسي الـ(رب) وهو مركز الاكوان، وعيسى (ع) لم يعد مرسلاً ونبياً، بل حوّل إلى رب! الفكر الوضعي لا يرضى برب لا يراه، ولا يلمسه ولا يحسه. فآلهة الحالة الوضعية يجب ان تكون وضعية ايضاً: اصنام، حيوانات، شموس وكواكب، حكام ورجال وطبيعة، الخ. والانسان في الحالة الوضعية لا يمكن ان يكون الا فرداً معبوداً، أو حيواناً متطوراً أو آلة متقدمة، الخ.
2 ـ اما الحالة الاسلامية، فتختلف في مقدماتها وفي نهاياتها. فهي لا تنكر الحالة الوضعية، ولا تنكر المحسوس والملموس والتجربة والمادة. انها تعترف بكل هذه الامور وتسعى لمعالجتها وموضعتها بأفضل شكل ممكن؛ بمعنى ابقائها تحت السيطرة، فلا تفلت أو ترتد أو تسود.
فهي لا تعترف بألوهيتها أو كونها المرجعية الاولى أو الاخيرة؛ فلا ترى ألوهية للمادة ولا للانسان ولا للطبيعة ولا للأكوان الا الله سبحان وتعالى، خالق السموات والارض والاكوان والحيوان والاشياء كلها. "ليس لأوّليته ابتداء ولا لأزليته انقضاء"."هو الاول لم يزل والباقي بلا اجل"."لا تقدره الاوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والادوات"."لا يقال له متى، ولا يضرب له امد بحتى"."الظاهر لا يقال مما، والباطن لا يقال فيما"."لا شبح فيتقصّى ولا محجوب فيحوى"."لم يقرب من الاشياء بالتصاق ولم يبعد عنها بافتراق".
اما الانسان في الحالة الاسلامية فهو المستخلَف على الارض. انه ليس فقط الانسان الفرد، بل هو اضافة لذلك الانسان / النفس أو الانسان / الفطرة. هو الانسان الاجتماعي أو المدني. هو الانسان الذي يكدح إلى ربه كدحاً، والذي علّمه الله الاسماء وأودع فيه من الصفات والخصائص ما اودع. فالإنسان هو ظل الله على الارض. والمستخلف من الله عليها. استظلال بشروط، واستخلاف بقيود. اعرف نفسك تعرف ربك، واعرف ربك تعرف نفسك. الاسلام يعظم الانسان ايضاً، لكنه لا يقف عنده، ولا يجعله مركزاً، بل يضعه في مركزه اللائق والذي عبره فقط تتكشف عناصر ملائكيته وانسانيته وزكاوته. فهو يحيطه ويذكره كيف خلق وإلى اين المصير. فالانسان هو ابعد ما يكون عن الاحادية أو الآلية، لا في علاقاته ومحيطه ولا في تركيباته وذاتياته. الانسان ذو "معرفة يفرق بها بين الحق والباطل"(2) الانسان معجون بطينة الألوان المختلفة والاضداد المتعادية(3). انه مركب معقد متنوع الحركات، عديد الاتجاهات، يحمل الاضداد والتكامل سواء في داخله أو مع كل ما يحيط به. ان تحول إلى بداية ونهاية والى مركز وربوبية، فان الذي سيطغى هو الانسان (الفرد / الحاجة / الرغبة / الوحشية) على حساب الانسان (النفس / العقل / الفطرة / العلم / النظام / الرقي)، أو على حساب الانسانية جمعاء. فالانسان الذي قال عنه الرحمن {اني جاعل في الارض خليفة} هو ذاته الذي يمكن ان {يفسد بها ويسفك الدماء} (البقرة / 30).
من هذا المنطلق ينشأ مفهومان للانسان، وبالتالي للاجتماع الانساني. ومن هذا المنطلق ينشأ مفهومان للاهداف والمطالب التي ينبغي للانسان وللاجتماع على افتراض انه يوجد اختلاف أو تناقض بينهما.
ومن هذا الاختلاف ينشأ دوران أو واجبان للحكم والحكومة، وللسلطة والدولة. فالوضعية كما تطورت تاريخياً في الغرب نشأت من السعي لحل سلسلة تناقضات؛ اذ نرى عند دراستنا لسياق التطور لمفهوم الدولة والحكومة في الغرب ان التأسيسات الاولى غير المتوازنة والاحادية، قد ولدت بالتدريج حلولاً ناقصة واحادية افقدت الرؤية الغربية السائدة التوازن المطلوب. فالانحراف أو اللاتوازن في المرحلة السابقة كان يحل عبر بديل يشكل بدوره انحرافاً ولا توازناً جديداً. فالمشكلة القديمة يتم حلها عبر طرح جديد يلغي القديم ولا يقيم توازناً جديداً، بل يقيم مقدمات مشكلة جديدة بسقوطه من جديد في الحلول الاحادية غير المتوازنة.
ـ غلو واحادية في المعتقدات المافوق طبيعية surnaturel والثيولوجية، ولدت غلواً واحادية في المعتقدات الطبيعية
naturel, scientifique, positivisme experimental.
ـ غلو واحادية في الروحانيات spirituel ولدت غلواً وأحادية في الماديات atevialism, temporel.
ـ غلو واحادية في الميتافيزيقيا ولدت غلواً واحادية في الفيزيقيا.
ـ غلو واحادية في الجماعية communautaire ولدت غلواً واحادية في الفردية individualisme.
ـ غلو واحادية في السلطوية (الملكية أو الحكم والواحد monarchie ولدت غلواً واحادية في الشعبية أو الاجتماعية أو الحرية
popularisme; socianisme; liberalisme
ـ غلو واحادية في الجبر ولدت غلواً واحادية في الارادة والاختيار.
ـ غلو واحادية في النظام ordre ولدت غلوا واحادية في التقدم progres والثورة revolution.
فالثنائية التي تطورت في الغرب، لم تكن تعدد الاثقال في ميزان واحد، أو اختلاف المركبات في كل واحد، بل كانت نظرية الاضداد والوصول إلى الوحدة عبر نفي النفي.
ان دراسة علمية ومنصفة لتاريخ الدولة الوضعية في الغرب ستبين هذه الحقيقة المتمثلة في اختلاف مفهوم التوازن وتأسيس تجربة تحمل في جوهرها سلسلة من التناقضات وسمات التطرف والغلو في معالجة المشاكل الانسانية والاجتماعية.
ثلاث زوايا لتاريخ ومقومات الدولة الوضعية
اولاً: تطور النظرية:
هناك نظريات عديدة في الغرب لنشوء الدولة ثم الحكومة. وهذه نظرة سريعة فيها بعض التسلسل التاريخي لنشوء هذا المفهوم، وسيلاحظ بوضوح ان كل مرحلة تسعى لنفي المرحلة السابقة، رغم انها لابد ان تحمل ايضاً بعض خصائصها وسماتها.
نظرية "الحق الالهي"
تواصلاً مع النظريات القديمة التي كانت تجعل الحاكم إلهاً، فان تعاليم القديس بول التي فصلت بين الايمان لتجعله شأناً فردياً، والتشريع لتجعله شأناً وضعياً، فتركت لقيصر الدولة والتشريع، ولـ "لرب" الايمان والاعتقاد؛ قد وجهت الكتّاب المسيحيين، من تورتيلين Tertulien إلى عمانويل مونيه Emmanuel Mounier للقول بأن السلطة السياسية قد اوجدت من قبل الرب لاشباع مطامح الجنس البشري. فصارت طاعة الرب هي طاعة الملك أو الامير، وحكم الاخير هو حكم الرب. ولعل اكثر المواقف تطوراً في هذا الاطار هو موقف سانت اوغستان Saint Augustin اعتباراً منذ القرن الخامس الميلادي والذي اكده السانت توماس داكوين saint Thomas Daquin في القرن الثالث عشر الميلادي، بأن مصدر السلطة هو الله، لكنه يترك للانسان حرية الاختيار ولا يفرض عليه أي شكل من اشكال الحكومة.
نظرية الدولة / العقد
بعد انهيار نظرية الحق الالهي ظهرت نظرية العقد. ويمكن في هذا الصدد رؤية هذا التطور على صعيدين:
1 ـ العقد بين الحاكم والمحكوم، أو بين الملك والرعية، والذي يعتبر الحكم عقداً بين الطرفين لمنع الفوضى والعدوان. وأهم ممثل لهذا التيار هو الانكليزي هوبز(4). هذا التيار الذي كان يركز على اولوية طاعة الحاكم، تعرض لضربة قاضية عندما اندلعت في انكلترا ثورة ازاحت الملك جاك الثاني عن العرش. فحمل اللواء الجديد مواطنه الانكليزي جون لوك(5) والذي الزم الملك بطاعة العهد واعتبر ان أي نقض للعهد من قبله يعفي رعاياه من طاعته.
2 ـ مع الثورة الفرنسية، تطورت نظرية العقد الاجتماعي ونشر الفرنسي جان جاك روسو في عام 1762 كتابه "العقد الاجتماعي" معتبراً ان الافراد في المجتمع ينظمون فيما بينهم عقداً اجتماعياً من اجل طاعة الحاكم ـ كما كان يقول هوبز ـ بل الالتزام بالارادة الكلية للمجتمع. فالسلطة السياسية هي ارادة المجموع كما يقررها عموم المواطنين.
النظرية الديالكتيكية للدولة
رأى هيغل في كتابه philosophie du droit الذي كتبه عام 1821 الامر منظوراً اليه من طبيعة الانسان ذاتها؛ أي من الزاوية الفلسفية بدلاً من الزوايا التنظيمية. فالانسان يحمل في داخله تناقضاً أو جدلية (الديالكتيك) بين فرديته التي تدفعه للبحث عن مصالحه الخاصة، وبين عقله الذي يدفعه للأخذ بأن شخصيته لا يمكن ان تزدهر وتجد مجال انفتاحها وتحقيق مصالحها الا في اطار المصلحة العامة. أي ان هناك صراعاً بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وان الدولة هي نقطة التوافق بين هذين الضدين؛ أي بين الفرد والجماعة، أو الخاص والعام، الخ.
وقد اخذ ماركس ـ تلميذ هيغل ـ "الديالكتيك الطوباوي" لهيغل حول الدولة وبنى عليه مفهوم "الديالكتيك المادي" والقائل بان الدولة هي اداة في الصراع بين المصالح الخاصة والعامة، أو بين الطبقة السائدة والطبقة المسودة. وان الدولة التي تمثل مصلحة خاصة تأسر مصالح الطبقات الاخرى لتخضعها لمشيئتها وارادتها.
نظرية الدولة / الامة
بعد ان شهدت نظرية الدولة تطوراً من الحق الالهي إلى كونها عقداً بين الحاكم والمحكوم أو بين المواطنين؛ أي النظريات التنظيمية للدولة. وبعد ان شهدت تطوراً في المفهوم الفلسفي باعتبارها نقطة التصالح أو الصدام بين التناقضات الفردية والاجتماعية، كما هو الامر لدى هيغل وماركس، شهد مفهوم الدولة تطوراً جديداً أخذ بعداً حقوقياً تمثل بقيام مفهوم الدولة / الامة. فحسب هذا المفهوم الذي تطور مع نشوء وتطور مفهوم القوميات في اوربا، فان "الدولة هي التجسيد الحقوقي لهوية الامة"(6). فالدولة هي المؤسسة التي تمسك بمقاليد السلطة السياسية والتي تمارس سلطتها باسم الامة. انها الموقع الذي يحقق القدرة بعد ان اخذت طابعها المؤسساتي والحقوقي والقيمي.
ومهما يكن الغطاء الحقوقي أو القانوني الذي دافع عنه انصار التيار، الا ان الكاتب الالماني المعروف ماكس ويبر والكاتب الفرنسي ليون ديكيه Duguit واللذين يغلب على نظرياتهما الطابع السوسيولوجي اضافة للطابع القانوني، لم يريا الدولة الا كمظهر من مظاهر العنف والقوة والتسلط.. يرى ديكيه(7) أن الدولة هي المحصلة الخالصة للقوة فيقول: "كان الحاكمون دائماً الاكثر قوة في المجتمع، انهم كذلك الآن وسيبقون هكذا… فالحقيقة البسيطة التي لا يمكن ردها هي تلك الامكانية التي يملكها البعض والتي تسمح لهم باعطاء الاوامر الملزمة بالقوة المادية. فالدولة هي احتكار القدرة على إلزام الآخرين، والتي تمسك بها فئة اجتماعية. انها قدرة الاكثر سطوة في السيطرة على الاكثر ضعفاً".
ويقول ماكس ويبر بأن الدولة "هي الجماعة السياسية التي تنجح في احتكار القدرة المادية لتطبيق الشرعية". ان المعنى الخاص الذي يعطيه ماكس ويبر للشرعية هي نسبيتها، مؤكداً على الجانب الاجتماعي قبل الحقوقي. فالدولة شرعية اذا ما اقر لها المواطنون بواجب الطاعة.. وان الشرعية التي لا تستدعي اللجوء إلى وسائل الضغط تتأتى إما من شخصية الزعيم أو من التقاليد الملكية أو الحق الالهي، أو من العقل حيث تضبط القواعد والقوانين سلوك الحكام انفسهم.
ثانياً: العقل أسير الواقع وليس العكس
شهد العالم الغربي خصوصاً فيما سمي بعصر التنوير والاكتشافات، تطور النظريات العلمية الحسّية القائمة على العلوم الطبيعية أو العلوم التطبيقية naturelles Les sciences exuctes ou ، أو النظريات الجغرافية التي ارتبطت بخروجه مستعمراً لثروات البلدان والامم الاخرى. اصبح الغرب بحاجة إلى تطوير نظامه الاجتماعي والسياسي القادر على مواكبة التطورات المادية الجديدة وتنظيم وتسجيل مكاسبه ومغانمه الداخلية والخارجية بدون اية اوهام. كان لابد للتنظيمات الجديدة من ان تقولب وتعيد تكييف أي مكون تنظيمي أو قيمي يقف في طريقها (الدين، الكتل الاجتماعية القائمة على رابطة الدم، الخ)، كان لابد لهذه التطورات ان تتوجه للانسان / الفرد باعتباره العنصر الطبيعي الوحيد المجسد والمحسوس والقابل للتجربة والذي يمكن ان يؤطر كمواطن وكقاعدة رئيسية يقوم عليها التنظيم الاجتماعي. فالموضوع السياسي والاجتماعي بحاجة إلى ذات. والذاتsujet هي الانسان الفرد الذي يمكن التمسك به والتعامل معه، تماماً كما ان الموضوع الميكانيكي بحاجة إلى الآلة، والموضوع الفيزيائي إلى الكتلة، والموضوع الكيماوي إلى العنصر، الخ. فالدين، أو مفهوم الجماعة، أو أي مفهوم لا يمكن لمسه أو الاحساس به أو التعامل معه حسب الادوات المختبرية، أو الاختبارية، فهو خارج عالم العلم والحقيقة، وبالتالي خارج القوى التي يجب ان تتشكل منها التنظيمات الحديثة. هذه هي المقدمات العلنية والخفية التي سمحت بالانتصار الحاسم للدولة الوضعية والعلمانية، وتحولها إلى اطروحة اولى اخضعت الطروحات الاخرى لمنطقها ومصلحتها. نقول (الانتصار الحاسم) لان الدولة الوضعية كانت امراً كامناً في عموم التجربة الغربية خصوصاً منذ التجربة الرومانية ودخول الانحرافات في مقومات الفكر المسيحي وتخليه عن دوره التشريعي.
وعند دراسة فكر اوغست كونت Auguste Conte (cours de philosphie postive) والذي يعتبر الأب الحقيقي للمدرسة الوضعية، سنرى انه يلخص تاريخ الدولة الأوربية عبر ثلاث مراحل هي ارهاصات للنظريات التي اشرنا لبعض منها في مقدمة بحثنا، والتي تلخص خط التطور من الدولة القائمة على الماورائية وصولاً إلى الدولة القائمة على الوضعية والحسية. هذا التلخيص يوضح الكثير من المقدمات والاسس التي تقوم عليها الدولة الوضعية الحديثة.
ـ المرحلة الاولى من التطور هي الثيولوجية theologie (او ما يترجم خطأ عندنا بحكم الرب أو الإله).. ان من يهيمن هنا هو اللاطبيعي أو المافوق الطبيعي surnaturel . والذي يأخذ في التعابير السياسية مفهوم المَلَكِية التي تقوم علاقاتها ويقوم نظامها السياسي في اطار الحق المقدس.
ـ اما المرحلة الثانية فهي مرحلة الميتافيزيقيا، أي الماورائية، وهي الفلسفة التي انتصرت بعد تلقي الفكر الثيولوجي ضربة قاضية مع قيام الثورة الفرنسية، فشهدت المرحلة الجديدة انتصار الفكر السياسي المجرد abstait ، ذلك الذي يقوم على مبدأ الحقوق الفردية ومفهوم العقد. فبدلاً من مبادئ المافوق الطبيعي تطورت مبادئ الوحدات أو الكيانات المجردة أو المعنوية، كفكرة الدولة المطلقة، كما عند هيغل.
ـ اما المرحلة الثالثة فهي ما يسمى بالمرحلة العلمية أو الوضعية؛ اذ سعى التطور في الغرب إلى تجاوز المافوق الطبيعي (المرحلة الاولى) وإلى تجاوز مفاهيم الوحدات أو الكيانات أو الهويات الميتافيزيقية (الماورائية) وما يرافقها ليتم الالتصاق بالواقع الملموس المحسوس والقائم على المراقبة والتدقيق العلمي.
لذلك كانت مهمة اوغست كونت هي مهمة مزدوجة: نقد الماضي وبناء المستقبل القائم على الحقيقة الوضعية.
اعطيت الاولوية لمفهوم التقدم على مفهوم النظام، ومفهوم الفردية على مفهوم الجماعية، ومفهوم المادة على مفهوم الروح، ومفهوم القوة على مفهوم العدل، وغيرها من مفاهيم تتجاوز المراحل السابقة وتتطابق مع التطورات التي حصلت مع المرحلة الجديدة.
ثالثاً: الانحرافات الاولى تقود إلى نتائج خطيرة
وقبل الانتقال للنقطة الاخرى لابد ان نؤكد ما ذكرناه سابقاً من ان الوضعية الحديثة لا نجد تاريخها فقط في عصر التنوير والاكتشافات العلمية كما يتم تصويره، بل هي حالة نمت بالتدريح في اوربا وعبر ارهاصات كثيرة وتنمو في أي مجتمع آخر عندما تحصل بذور الانحرافات داخل خط التطور (وهو امر يعاني منه المجتمع الاسلامي كما سنعرج على ذلك بعد قليل)؛ فالانحرافات ستترك مساحات شاغرة، ان لم تسد فراغها الافكار الصحيحة أو القيم النبيلة فان شيئاً آخر سيسد الفراغ.
يذكر بير تراد بادي(8) ان دور المسيحية الرومانية كان حاسماً في تطور النظريات السياسية الحديثة.. فخلال قرون ثلاثة اسست الكنيسة خارج الاطار الامبراطوري مؤسسة مستقلة ذاتية.. مؤسسة ليس لها مثيل في أي دين آخر؛ هذه المؤسسة استطاعت بالتدريج من بناء الكنيسة التي لها موظفوها وقضاؤها ومؤسساتها وطرق عملها، خصوصاً الطقسية والتي تبرر قيام وتجديد بيروقراطية قوية. وتطور الامر لان يقوم بالتدريج تعريف جديد للسياسي والذي اخذ لنفسه طريقاً مستقلاً عن الروحي؛ أي انها افردت للسياسي حقلاً مستقلاً، رغم محدوديته، يتمثل في ادارة المدينة ادارة مفوضة من قبل السلطة الروحية التي ادعت انها تحمل مسؤوليات اعظم.
في القرن الحادي عشر ادى الصراع بين البابا غريغوار السابع والامبراطور الالماني إلى ظهور تطورات حاسمة، اذ قادت رغبة الكنيسة في الاستمرار بتعيين ممثليها الكنسيين إلى تأكيد سيادتها في حقلها الخاص، لكنه ادى في الوقت نفسه إلى الاعتراف بدور الامراء في حقلهم الخاص ايضاً. ويعترف الكاردينال ديسديدي Deusdedit إلى الازدواجية التي تولدت بين الروحي والدنيوي.
حاول البابوات الاستمرار في لعب دور الاوصياء على الملوك والامراء، لكن النظرية الثنائية اخذت طريقها لتصبح حقيقة قائمة؛ فالبابا كان يتدخل في السياسة مدعياً ان ذلك تدخل استثنائي يقتضيه الدفاع عن الايمان. وهكذا احتفظت الكنيسة بالحقل المعنوي، لتحتفظ المدينة بالحقل الدنيوي، وذلك حسب تعبير سنت بيرنارد في القرن السابع عشر.
ولكي لا تصبح يد الامراء هي الاعلى طالبت الكنيسة بربط سلطتهم بالمصالح العامة، وليس التعبير عن مصالحهم الخاصة فقط، وهو ما ولد لاحقاً الأسس الشعبية للسلطة السياسية؛ فالشعب يتوّج الملك، ليحمي الأخير الأول.
وهكذا أو بالتدريج التقى الفكر الكنسي الجديد مع الفكر اليوناني القديم القائم على وجود سلطة طبيعية ارضية. والتقى الارسطي مع فكر سانت توماس عن الانسان الذي يعيش الحقيقة الاجتماعية بشكل طبيعي دامجاً اياها بالفكرة الثنائية المسيحية؛ فالانسان هو في آن واحد عضو في المدينة الدنيوية lhumanitas وكذلك عضو في المدينة الروحية christianitas. الاولى تتطلب ادخال عمل العقل والحق الطبيعي الذي يفرضه الامير وضرورة الطاعة وتنفيذ الواجبات المدنية، اما الثانية فتقوم مقابل الطرف الآخر إلى الحالة الغيبية والماورائية، وتقوم على البعث والرسالة، ويتم الوصول اليها عن طريق الايمان وليس العقل. يقول بير تراد بادي: ان هذا العمل كان ضخماً للغاية، اذ ادخل العقل والحق الطبيعي في تاريخ الافكار الاوربية.. وعلى الصعيد السياسي المحدد فهو قد رسم اطار المدينة التي تمتلك طريقتها الخاصة لتأسيس شرعيتها القائمة على اسس عقلانية. بالمقابل اعترف "رجال الدين theologien بضرورة طاعة الامراء بضمنهم الملحدون ماداموا عادلين وتتطابق اعمالهم مع العقل. هذه هي ايضاً بعض المقدمات لنشأة ما يسمى بالدولة الوضعية والدولة اللائيكية (العلمانية).
بالمقابل تطورت فكرة الفردية من رحم فكرة الجماعية والجماعة؛ فلوقت طويل اعتبرت الكنيسة ان أي تطور للفكرة الفردية هو انتهاك للجماعة المسيحية، لكنه منذ القرن الرابع عشر تطور في داخل الكنيسة، خصوصاً في اطار الفكر الانجيليكي ثم الفرانسيسكي الذي يقول بأن الفرد ـ والفرد فقط ـ هو الذي يمكن ان تناله المعرفة. وهكذا تراجعت فكرة الجماعة السياسية امام فكرة اتحاد الافراد، مهددة بذلك شرعية الكنيسة ككل.
مقابل فكرة العقل اكد سكوت Duns Scot واوكام Guillaume Doccam فكرة الارادة volonnte . فإرادة الافراد هي بمفردها القادرة على تأسيس النظام الدنيوي. وهكذا تراجعت فكرة الحق الطبيعي، لتحل محلها فكرة التضامن القائمة على التعاقد القابل باستمرار للتغير، مؤسسةً بذلك حقاً وضعياً وليس طبيعياً.
وهكذا تولدت فِكَر ثلاث ترتبط ـ بقوة ـ بعضها ببعض؛ شكلت المقدمات الاولى للحداثة:
ـ فكرة الارادة المتعاقدة المؤسسة للحياة المدنية، موجدةً مقدمات نظريات العقد الاجتماعي.
ـ فكرة الفرد المتحرر من وصاية الجماعة.
ـ وأخيراً فكرة الحق الوضعي؛ أي النظام الوضعي الذي يقوم على الارادة وليس على نظام خارجي أو طبيعي.
الدولة والولاية في المفهوم والتجربة الاسلاميتين
مفهوم الدولة
ان الدولة أو السلطة أو الآمرية هو مفهوم عام وشامل؛ صحيح ان مفهوم الدولة قد يختلف حسب التجربة الاسلامية عنه في التجربة الغربية؛ ففي الغرب تطورت نظرية الموقع والمواطنة والطبقية بشكل يختلف عن التجربة الاسلامية، وهو امر لا مجال للتفصيل فيه حالياً، لكن هذا الاختلاف هو في بنية الدولة وليس في ضرورتها كمنظمة أو كأداة ضرورية لأي اجتماع. فالدولة حاجة لكل المجتمعات ولكل التواجدات بغض النظر عن الاختلاف في تركيباتها واساليب عملها والفلسفة التي تقام عليها والاهداف التي تطمح لتحقيقها.
ان الدولة، اية دولة، يجب ان تحل على الاقل مسألتين رئيسيتين هما:
ـ العلاقة بين الانسان / الفرد والجماعة أو الجسم الجماعي.
ـ وان تقيم السلطة العامة.
فهناك مشترك رئيسي بين الحالتين، وهو ان المنظمتين هما نتاج حالة وضعية وانهما كلتيهما تقيمان إمرة أو سلطة؛ فالامام علي (ع) عندما سمع صيحة الخوارج القائلة: "لا حكم الا لله"، قال: "كلمة حق أريد بها باطل. نعم، انه لا حكم الا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله؛ وانه لابد للناس من امير بر أو فاجر…"(9).
فالدولة بالضرورة مفهوم وضعي وتعكس توازناً معيناً للقوى الاجتماعية. يقول امير المؤمنين (ع) "لقد كنت امس اميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت امس ناهياً، فأصبحت اليوم منهياً؛ وقد احببتم البقاء، وليس لي ان احملكم على ما تكرهون"(10).
فالدولة ـ مجردة عما عداها ـ تحمل (بالتعريف الاول لها) مفهوم اليد القاهرة والحاكم بالغلبة؛ فمصدر الدولة لغوياً في "لسان العرب"، هي: "العقبة في المال والحرب سواء" و "الدولة ـ بالفتح ـ في الحرب ان تُدال احدى الفئتين على الاخرى، يقال كانت لنا عليه الدولة.. والدولة ـ بالضم ـ في المال، يقال: صار الفيء دولة يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا".
هذا المفهوم اللغوي الذي يعكس في الحقيقة مفهوم الدولة تاريخياً وعملياً لا يختلف عن المفهوم الذي تعطيه مختلف النظريات الغربية عن الدولة التي هي السلطة العامة التي تمارس سلطتها على اقليم معين. فهذا انجلز مثلاً يلخص مهمة الدولة والسلطة الناجمة عنها معتبراً انها تقوم على مهمتين رئيستين: جمع المال (الضرائب) وتوفير اداة القوة (الحرب).
اذن لابد من الدولة ولابد من وجود الحالة الوضعية. والفارق هو ليس في قيام أو وجود هذه الحالة، بل الفارق هو في طبيعة هذا التواجد وفي المكان الذي يحتله والدور الذي يؤديه.
ـ هل تقوم هذه الحالة بذاتها بدون اختلاط؛ أي طغيان الحالة الوضعية؟
ـ ام تقوم مختلطة متشابكة.. فتتداخل الحالة الوضعية والحالة اللاوضعية؟
ـ ام هناك حالة ثالثة نعتقد ان الاسلام الأصولي هو الذي يمثلها، وتقوم على الاعتراف بالوضعي واحترامه، مع تصريفه وتنظيمه في نصابه وموازينه الصحيحة؟
هذه الحالات الثلاث نجدها واضحة لدى المفكرين المسلمين؛ وهذه عينة لثلاثة مفكرين مسلمين ورؤيتهم لأشكال الدول حسب تعبيراتهم:
مفكرون ثلاثة واشكال ثلاثة من الحكومات
في التجربة الاسلامية
تناول المفكرون المسلمون مسألة الحكم تحت عنوان الدولة أو الامارة أو المُلك أو الولاية أو الخلافة أو الامامة أو السلطنة أو الحكومة أو غير ذلك من عناوين يكشف كل منها الخلفية النظرية التي تقف عليها انواع السلطات ومرجعيتها ومدى علاقتها بالعالم الوضعي أو العالم الماورائي، أو عالمي الغيب والشهادة.
اولاً : الحكومة الدينية:
1 ـ ابن المقفع: يدرج ابن المقفع هذه الحكومة تحت عنوان "ملك الدين"؛ وهي تصريف امور الناس والسياسية من خلال تطبيق الشرع فيكون العدل والرضى، فيقول: "اما ملك الدين فإنه اذا اقيم لأهله دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم الذي عليهم، ارضاهم ذلك، ونزل الساخط منزلة الراضي في الاقرار والتسليم"(11).
2 ـ ان خلدون: ويسميها بالخلافة؛ وفيها تضمن المصالح الدنيوية مشتقة من ضمان المصالح الاخروية. يقول ابن خلدون: "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الاخروية والدنيوية الراجعة اليها؛ اذ احوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به".. ان مُلكها قائم على "منهاج الدين ليكون الحل محوطاً بنظر الشارع".. حيث يقف ضد المُلك القائم على التغلب والقهر والظلم: "فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب واهمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية"(12).
3 ـ ابن الازرق: يسميه "المقام الاول" وهو "الخلافة بدون مُلك"، و "وذلك حين البراءة منه، والتنكب على طريقه في اول الامر استغناء عنه بوازع الدين كما كانوا عليه من ايثار الحق اولاً وغضاضة البداوة المعينة عليه ثانياً"(13).
ثانياً: الحكومة السياسية:
ـ ابن المقفع: ويسميه "مُلك الحزم"، ويقول: "وأما مُلك الحزم فانه يقوم به الامر؛ ولا يسلم من الطعن والتسخيط، ولن يضر طعن الذليل حزم القوي"(14).
2 ـ ابن خلدون: ويسميه "المُلك السياسي" ويرى انها سياسة ناقصة لانها تقوم على السياسة العقلية فقط، فيقول: "اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء واكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية".
ثم يستمر موضحاً "وما كان منه بمقتضى السياسة واحكامها مذموم ايضاً، لأنه نظر بغير نور الله {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}، لأن الشارع اعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيّب عنهم من امور آخرتهم، واعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من مُلك أو غيره. قال (ص): "انما هي اعمالكم تُردّ عليكم". واحكام السياسة انما تطلع على مصالح الدنيا فقط؛ {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا}، ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الاحكام الشرعية في احوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة". فحدود المُلك السياسي "هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار"(15).
3 ـ ابن الازرق: ويسميه بـ"المقام الثاني" بعد اختلاط مفهومي الخلافة من جهة والملك والدولة من جهة اخرى. يقول: "المقام الثاني، بعد اختلاطها وامتزاج الدولة بهما، وذلك عند تدرج البداوة إلى نهايتها، تجيء طبيعة المُلك لمقتضى العصبية، وحصول التغلب ثم انفراده بالمجد، مع تحري مذاهب الدين والجري على نهج الحق".
ويقول، كما قال من قبله استاذه ابن خلدون: "ان هذه تمثل فترة معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الاول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده"(16).
وفي هذا الصدد يذكر ابن الطقطقي الفخري في الخلفاء والفقهاء "ان هذه الدولة العباسية ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والمُلك" ( الخلفاء والفقهاء).
ثالثاً: حكومة الشهوة والاستبداد:
1 ـ ابن المقفع: ويسميها "مُلك الهوى" حيث تقوم الاحكام على الاغراض والشهوات بدون ضابط ديني أو عقلي أو سياسي، فيقول: "اما مُلك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر"(17).
2 ـ ابن خلدون: ويسميها "المُلك الطبيعي" وهذه تقوم على "الاغراض والشهوات" و"آثار الغضب والحيوانية". فيقول "ان الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة"(18)؛ لأن "مقتضاه التغلب والقهر اللذان هما آثار الغضب والحيوانية"، لذلك "كانت احكام صاحبه مجحفة بمن تحت يده من الخلق في احوال دنياهم، لحمله اياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من اغراضه وشهواته، ويختلف ذلك باختلاف المقاصد من الخلف والسلف منهم، فتعسر طاعته لذلك وتجيء العصبية المفضية إلى الهرج والقتل.."(19).
3 ـ ابن الازرق: ويسميه بـ"المقام الثالث"، وذلك "عند ذهاب معاني الخلافة ما عدا اسمها، وجريان طبيعة التغلب إلى غايتها في استعمال اغراضها من القهر والتحكم في الشهوات والملاذ". ويدل عليه حديث "ان هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة وخلافة ثم يكون ملكاً عضوضاً ثم يكون عتواً وجبرية وفساداً في الامة"(20).
الدولة بالضرورة حقيقة وضعية
لقد رأينا عند استعراض تاريخ تطور الدولة الغربية الحقيقة الوضعية للدولة أنه لا فرق في ذلك ان قيل ان الدولة تستند إلى الحق الالهي أو انها نتاج التناقضات الاجتماعية أو انها عقد بين الرعية والحاكم أو بين المواطنين انفسهم. وقد يعترض قائل ما بأن حكومة أو دولة الحق الالهي قد تختلف عن هذه النظرة. لكن الحقيقة هي انه لا يوجد خلاف من زاوية الطبيعة الوضعية للحالتين، خصوصاً بعد ان تم الفصل بين الوضعي والديني؛ اذ ترك للوضعي مسؤولية التشريع والشأن العام ليختص الديني بالايمان الفردي كما اشرنا. فالدولة، اية دولة، منفردة ومعزولة عما عداها، هي في الحقيقة حالة وضعية، سواء اخذ الامر صفة دينية أو غير دينية.
وان الامر لن يختلف في الحالة الاسلامية عن الحالة الغربية؛ فالوضعية هي نقطة لقاء بين الحالتين، ولا يمكن ان يكون غير ذلك بمقدار تعلق الامر بمسألة الدولة والحكومة المنبثقة عنها.
الفارق الرئيسي كما سنرى هو ان الوضعية هي نقطة النهاية للدولة في الحالة الاولى، بينما الوضعية هي ضرورة وحاجة من بين ضرورات وحاجات اخرى في الحالة الاسلامية.
فالاسلام لا ينكر الحقائق الوضعية، لكنه ينكر ان يقف عندها أو ان يجعلها نقطة البداية والنهاية، انه يحتويها ويصرفها، لذلك فان شكل التنظيم الاجتماعي الذي تأخذه الحالة الاسلامية لابد ان يتوافق مع نظرته الشمولية القائمة على توازن دقيق بين شتى المركبات. ويتوهم من يتصور ان اعطاء اسم الاسلامية، أو تطبيق بعض قوانين الشريعة سينقل حالة الدولة من الحالة الوضعية إلى الحالة الاسلامية؛ لأن المعيار هو ليس تطبيق بعض احكام الاسلام أو مراعاة بعض مشاعر المسلمين، بل العبرة في تسمية حكومة ما بالحكومة الاسلامية هي بالقاعدة التي تقوم عليها هذه الدولة وبالمرجعية النهائية التي تسترشد بها في تسيير امورها وامور الناس.
ولتوضيح هذه المسألة بشكل افضل، نقول بان الحكومة الاسلامية لابد ان تحمل في جانب من جوانبها حالة وضعية. واننا نعتقد ان الرؤية الاسلامية الكلية اعترفت منذ البداية بان الموقع الذي تلبي فيه المتطلبات الاساسية للحالة الوضعية هو الدولة والحكومة؛ فالاسلام شأنه شأن اية عقيدة أو فلسفة اخرى لابد ان يلبي متطلبات الاوضاع الوضعية، بل يجب التأكيد هنا ان الاسلام اكثر من اية عقيدة أو فلسفة اخرى يتعمق ويتحرى بكل موضوعية وبكل تفرع للاجابة افضل ما يمكن على ضرورات الحالة الوضعية.
لكن الفارق بين الاسلام وما عداه هو ان الفكر الآخر يقف في هذه الحدود؛ اما في اطار الانكار الكلي للدين، أو بتحريف الدين وجعله مسخراً لمتطلبات النظرة الوضعية ولا شيء سواها. فبدل ان تكون النظرة التوحيدية العدلية الشمولية المتوازنة التي تقوم عليها الاحكام والتنظيمات الاسلامية هي المدخل الفلسفي والفقهي لمعالجة المسائل، تصبح النظرة الوضعية هي المدخل الفلسفي والمرجعي، بما في ذلك تكييف الدين نفسه وفصله عن الامور العامة.
ان الاخذ ببعض الاحكام كأن تأخذ التشريعات المدنية ببعض احكام الاحوال الشخصية أو بعض احكام الحدود أو بعض مسائل الوقف وما إلى ذلك، هي مواقف قد تعبر عن مدى الضغط الاسلامي الشعبي على الدولة والحكومة، لكنها لا تجعل من الدولة دولة اسلامية.
فخلافاً للنظرات التجزيئية أو الاحادية، فان توحيدية الاسلام وعدليته وتوازنه وشموليته يؤسس منذ البداية الحقيقة متكاملة.
ـ ولا انفصام أو انفصال بين الدنيوي والاخروي.
ـ ولا انفصام بين الفردي والجماعي.
ـ ولا انفصام بين المؤقت والدائم، أو بين الشاهد والغائب (الغيب والشهادة)، أو بين الماورائي والوضعي، أو بين القضاء والقدر، أو بين الجبر والاختيار، أو بين النظام والتقدم.
واينما توجهت في القرآن الكريم فستجد امامك ارتباط الدنيوي بالاخروي، وارتباط الايماني والغيبي بالوضعي والعلماني؛ ففي مواضع عديدة يرتبط فيها ايراد كلمة الغيب مع كلمة الشهادة كدليل على التكامل والوحدة بين العلمين وبين العالمين؛ فالاسلام لم يتنكر للوضعي ليعترف به لاحقاً، والاسلام لا يمكنه ان يتعامل مع الوضعي دون ان يربطه بالغيبي والروحي، كل في موقعه ودوره ومهمته.
فالوضعي لا يغيب عن الاسلام، فله مكانه ودائرته، ولكن الوضعي لا يستبد بالاسلام ولا يتحول إلى مرجعية وحيدة ومقياس فريد للحكم على الحق والباطل، والصحيح والخطأ، والجميل والقبيح. فدائرة الدين لن تكتمل الا بارتباط الوضعي بالغيبي.
لذلك يفرد الاسلام دائرة واضحة تنظم الحالة الوضعية وتعكس اتجاهاتها وتوازنات القوى فيها؛ هذه الدائرة هي الدولة، أو السلطة والحكومة أو المُلك، أو مشتقاتها الكثيرة حسب التجربة الاسلامية.
لذلك قلنا ان الدولة هي بالضرورة حقيقة وضعية؛ انها الحقيقة التي تعكس الغلبة أو التوازن الاجتماعي في لحظة معينة، انها الاداة أو التنظيم الذي عبره يتم التعامل مع الناس؛ كل الناس وعلى اختلاف مشاربهم وميولهم ومواقفهم ومعتقداتهم وتقسيماتهم.
فهذا امير المؤمنين (ع)، لا يرى الدولة الا توازن قوى، ولا يرى دولته على الناس عبر حقه فقط، بل يراه عبر مواقفهم ايضاً فيقول: "لقد كنت امس اميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت امس ناهياً، فاصبحت اليوم منهياً، وقد احببتم البقاء، وليس لي ان احملكم على ما تكرهون"(21).
ويقول ابن خلدون "واحكام السياسة انما تطلع على مصالح الدنيا فقط"(22).
فاذا كانت الدولة هي الحقيقة المطلقة، كما عند انجلز، أو كانت دولة الطبقة السائدة كما عند ماركس، وانجلز، أو كانت دولة الحق الالهي كما عند تير تيولن أو مونيه أو سانت أو غسطن أو ديكوين، أو كانت دولة العقد الاجتماعي كما عند روسو، أو كانت دولة الحق الملكي كما هي عند هوبز، أو العقد مع الملكية كما هي عند لوك، أو الدولة التي تقوم على القوة كما عند ماكس فيبر، أو دولة الاستبداد الشرقي كما عند كارل ويتفوكل… اذا كانت الدولة هي دولة فرعونية أو قيصرية أو كسروية أو كانت ملكاً عضوضاً أو ملكاً جبرياً أو يزيدية أو اموية أو عباسية أو استبدادية… اذا كانت الدولة أي نوع من هذه الدول أو الممالك؛ أي الدولة التي لا دين لها أو التي اختلط دينها بملكها فاستبد الاول بالثاني وفصل ما بين "قيصر" و"الرب"، فانها ستكون دولة وضعية مجردة، وذلك بغض النظر عن الاسلام الذي تحمله.
اذا كانت الدولة هي المُلك الطبيعي أو المُلك السياسي كما رأينا عند ابن خلدون، أو مُلك الحزم والهوى كما رأينا لدى ابن المقفع، أو المقامين الثاني والثالث كما رأينا لدى ابن الازرق، فانها ستكون دولة وضعية أو مقدمة للانتصار الحاسم للدولة الوضعية بنسخها المتطورة أو المختلفة، لا فرق في ذلك.
الولاية: نظرية الحكم الاسلامي
ان خطأ وقصور النظرات الوضعية، سواء القائمة على مفهوم ما ورائي خرافي أو على مفهوم حسي، هو فقدان عنصر التوازن والتوحيد والعدلية الشمولية الذي تقوم عليه؛ فهي تلبي حاجة وتهمل حاجيات. اما الاسلام فهو دين التكامل والتوحيد ووضع الامور في نصابها الصحيح.
انه دين الغيب والشهادة.
انه دين الفطرة..
انه دين الحياة..
انه دين المعاملات والعبادات، حيث تصبح العبادة سياسة والسياسة عبادة؛ فليس هناك مساحة تختص بها العبادة ومساحة اخرى تختص بها السياسة. هناك مواقع ومناصب ترتبط كلها بعضها ببعض بدون انفصال ومساحات معزولة.
ان الفارق بين الاسلام كما جاء على يد سيد المرسلين والتجربة الغربية (او بعض التجارب في الحياة الاسلامية)، هو ان غياب التوحيد والشمولية والتوازن والعدل يمنعها من التعرف على عناصر الحياة متكاملة.
ـ فاذا اكتشفت اهمية العلم أو العقل أو التقدم، فيجب التضحية بالنظام، وبالتوازن، لتجعل من التقدم أو العلم الهاً جديداً تتعبد به.
ـ واذا اكتشفت اهمية مفهوم العقد أو مفهوم الاجتماع أو اهمية الانسان / الفرد، فيجب ان تضحي بالحياة الجماعية، لتجعل الفردية الهاً جديداً تتعبد به.
ـ و اذا اكتشفت متطلبات الحياة الدنيا، واهمية الحقائق المادية، فيجب ان تضحي بالحياة الروحية واهمية المتطلبات الاخروية والغيبية، لتجعل من المادة الهاً جديداً تتعبد به.
ـ واذا اكتشفت اهمية الناس والامة والشعب وخطل السلطة الاحادية، ملكية كانت أو شاهنشاهية أو امبراطورية، فانها يجب ان تضحي بالحق وذكر الحقيقة، لتجعل الشعبوية التي يمكن ان تصيب وتخطئ الهاً جديداً تتعبد به.
اذا اكتشفت بعض هذه العناصر أو غيرها فنراها تقلب الصورة لتذهب إلى نقيضها. اما الاسلام فلديه نظرة ابتدائية، أو على الاقل مقومات النظرة الابتدائية ليضع الاشياء ـ كل الاشياء ـ في نصابها ومواقعها. فلا يستبد عنصر بعناصر ولا مقوم بمقومات، ولا ضرورة بضرورات.
الولاية: الخلافة، الامامة
هي المفاهيم التي تميز بين الدولة الاسلامية والدول الوضعية.
ان الفارق الرئيسي بين الدولة الوضعية (في اطار التجربة الغربية أو اية تجربة اخرى بما في ذلك تجربة المجتمعات الاسلامية قديماً وحديثاً) والدولة الاسلامية كما قامت في فترات وكما يجب ان تقوم، والتي يمثل اقرب مثال معاصر لها تجربة "الجمهورية الاسلامية"، هو في احتواء مفهوم الولاية للدولة الاسلامية. فالسياسة والاجتماع في الاسلام لا يقفان وحيدين فريدين، بل يقفان كعنصرين متكاملين مع العناصر الاخرى الايمانية والعقلية والعبادية والاخروية.
فاذا تجاوزنا التشويهات التي ادخلتها الانحرافات داخل المفهوم الاسلامي والتي ادخلت الممارسات والمفاهيم غير المتوازنة وغير العادلة وغير التوحيدية وغير الشمولية… تلك التشويهات التي اقامت دول الاستبداد والمُلك العضوض، الذي {اتخذ الهه هواه} والمناقضة بذلك للحكم القدسي: {ما ينطق عن الهوى}(23).. اذا تجاوزنا تلك التشويهات فسنجد ان الاسلام ابتداءً التفت إلى سلسلة العناصر اللازمة لحسن اداء الجسم الاجتماعي لعمله ولحسن تواجد الفرد داخله؛ لا مجموع يسحق الفرد، ولا فرد يستبد بالمجموع، بل تكامل دقيق في اطار الجماعة الصالحة والامة التي تعمل بالمعروف وتنهى عن المنكر. فلكل شيء نصابه الذي يستحقه لا أقل ولا اكثر؛ نصاب لا تحدده الرغبات، بل يحدده تعريف مسبق ومعرفة دقيقة ومتكاملة لخصائص الانسان والجماعة والمتطلبات الكاملة لكل منهما بدون تصنيفات مسبقة وطبقيات أو استبداديات أو عنصريات أو مفاهيم خارجية تناقض الفطرة وما جبل عليه الله بني البشر من خصائص ومواصفات.
ان الاسلام، خلافاً لخط التطور الاوربي، احتوى منذ البداية المفاهيم التي تطورت بالتدريج وبشكل شبه عشوائي داخل المجتمعات الغربية لتولد باستمرار حالة من التشوهات والانحرافات.
ـ الاسلام رأى منذ البداية الحالة الوضعية، ووضعها في دائرتها المناسبة.
ـ الاسلام رأى منذ البداية الحالة العلمية والمعرفية واهمية الرقي والتطور، وربطها بالنظام، ووضعها في دائرتها المناسبة.
ـ الاسلام رأى منذ البداية مفهوم النيابة والخلافة والوكالة والعقد والبيعة والشورى، ووضع المفاهيم لعلاقة الحاكم والرعية بانصاف متكامل، ووضع كل شيء في دائرته المناسبة.
ـ الاسلام رأى منذ البداية الاجتماع والمفاهيم الاجتماعية ووضعها في دائرتها المناسبة.
ـ الاسلام رأى منذ البداية الدنيا وطالبَ الانسان للعمل وكأنه سيعيش فيها ابداً، ودافع منذ البداية عن الآخرة وطالب الانسان بالعمل لها وكأنه سيموت غداً.
ـ الاسلام رأى منذ البداية الروحانيات والماديات؛ وضع الجبر في مكانه ووضع الارادة والاختيار، ووضع كل شيء في مكانه المناسب.
فالاسلام هو دين التوازن، ودين الفطرة والتوحيد، ودين التكامل والعدل والانصاف.
والاسلام هو ثورة دائمة، لان من صفات الله في الاسلام ـ والتي يكدح الانسان نحوها كدحاً ـ هي صفات التوحيد والتكامل والعدل والعلم والقدرة والحق والخلق والصمدية والفردية والاحادية.
الدولة الاسلامية هي دولة الولاية والامة
الدولة والحكومة المنبثقة عنها هي أداة، ووظيفة ونقطة اجتماع الارادات والقوى أو تصارعها. الدولة هي مؤسسة شخص معنوي يلعب دوراً خطيراً وحاسماً في حياة الامم والشعوب والمجتمعات والافراد؛ فمن يمسك بالدولة يمسك بالسلطة، فيمسك بالتالي بمفاتيح ومواقع اساسية وحاسمة تتعلق مباشرة بحياة الناس واموالها وامنها وعقائدها وثقافاتها، ليس فقط في حاضرها، بل في مستقبلها ايضاً.
هذا الموقع الخطير والحساس لا يمكن ان يترك للعفوية أو للاعمال الخفية والقوى الخاصة الضاغطة، التي تستطيع عبر هذا الاسلوب ان تصبح السيد المعلن أو غير المعلن لمجتمع ما. لذلك حرصت العقائد والنظريات ان تضع الدولة تحت الرقابة والاشراف، وان يكون هناك اسلوب معين لتنظيم سلطاتها سواء من حيث التشريع أو التنفيذ أو القضاء.
الرقابة والنظام اللذان ينظمان عمل الدولة ومؤسساتها يأتيان اما من القمة، كما هو في الملكية أو نظريات الحزب الحاكم أو غيرها من مؤسسات… أو من القاعدة عبر الشعب ومجالسه النيابية، أو الاثنين معاً.
التجربة الوضعية عموماً تطورت وارتبطت بتطور مفهوم الرقابة من القاعدة وطلب تأييدها عبر مفهوم الديمقراطية، الذي يعطي (ولو نظرياً) لجميع المواطنين والقوى والتيارات حرية التعبير والعمل. وهذا مهم بالتأكيد، على الاقل على الصعيد النظري، مقارنة بالحكم الفردي الاستبدادي والذي لا يعترف لافراد الشعب بدورهم، بل يستثمر الدولة ومؤسساتها وسلطتها وشرعيتها لتنفيذ مآربه الخاصة بالضد من مصالح الشعب والامة.
رغم هذه الحقيقة توجد ملاحظتان رئيسيتان:
الاولى: ان معظم التجارب الوضعية والاساسية في العالم لم تتخل في الحقيقة عن الدور الحاسم الذي تلعبه في القضايا الاساسية والبارزة الهيئاتُ العليا؛ فجميع الدول الوضعية نظمت ـ بشكل دستوري أو عرفي، وبطريقة مؤقتة أو دائمة، وبموازين صحيحة أو خاطئة ـ مفهوماً وتنظيماً آخر للرقابة والسيطرة على الدولة من اعلى. فهو احياناً الملكية، وفي احيان اخرى المجلس القضائي الامني الذي يتم اختياره، وهو في مواقع اخرى مجلس الاعيان أو مجلس للشيوخ أو الحكماء، يتم اختيارهم لخبرتهم وحنكتهم وتأثيرهم، وهو في احيان اخرى شخصية تاريخية أو فريق من الناس أو مؤسسة كمؤسسة الجيش تتصرف وكأنها ضمير الامة وحامية الدستور والنظام.
اذن فان التجربة العملية افرزت حقيقة ضرورية لا يمكن تركها فارغة. فتركها فارغة لن يعني في المحصلة سوى مجيء قوة معينة تحمل نفس توازن وضغوط الدولة لتسده وتصبح سيدته.
الثانية: رغم ان الشعب يجب ان يكون صاحب مسؤولية رئيسية وأُولى عن اوضاعه ومصيره ومستقبله ومن يحكمه وشكل الدولة التي تسير شؤونه، الا انه يجب الانتباه لأن القرار من القاعدة هو ليس بالضرورة قراراً صحيحاً في كل الاوقات أو في كل المسائل. كما ان الوصول إلى رأي القاعدة هو ليس بهذه السهولة؛ فكم من مسألة حاسمة وخطيرة في حياة الامم تم اقرارها وفق اغلبيات هشة، أو في ظروف معينة، فذهب القرار حكماً، رغم ان القاعدة غيرت من توازناتها واغلبياتها بعد فترة من ذلك. كما ان "الديمقراطية"، كما تبين التجربة، تتحيز ايضاً وتؤثر فيها احياناً مراكز القوى التي تعمل خارج اطار الرقابة والاشراف، وتنفعل وتخضع للعاطفة والهوى تماماً كما يخضع الافراد الذين يصنعون هذا المجموع للعاطفة والمواقف الطارئة.
من هنا لابد في الاسلام من حاكمين ومن موقعين ومن رقيبين، كل في موقعه ومكانه يضبط عمل الدولة ويراقبها ويوجهها ويصححها.
1 ـ انها بحاجة إلى ضمان عنصر العلم والاقتراب اكثر ما يمكن من الحكم الشرعي، وهو ما توفره الولاية أو الحاكم الشرعي أو الولي الفقيه، وهو الفقيه العادل العالم بزمانه البصير بالأمور والحوادث الحافظ لحقوق الناس كل الناس أو كل المواطنين وبغض النظر عن دينهم واتجاهاتهم وافعالهم.
2 ـ انها بحاجة إلى رقابة الامة والناس، لان الدولة في النهاية هي دولتهم ودولة المسلمين الذين يجب ان يكون لهم رأي ودور ثابت في سياساتها ورجالاتها. وهو امر تقول به الشريعة وتضمنه الولاية؛ رأي لا تستبد به اغلبية على اقلية، ولا تسرقه اقلية من اغلبية بالحيل السياسية وبايجاد موازين قوى جديدة عبر وسائل الضغط والتأثير الشيطاني الخبيث.
ضمن هذه الشروط وعندما تتموقع الدولة ضمن هذين الحكمين، أي حكم الولاية، وحكم الامة، فانها ستأخذ كامل معانيها كدولة اسلامية ليصبح الحكم فيها هو الحكم الاسلامي ولا شيء غير ذلك. لتصبح في آن واحد دولة الاسلام، ودولة الولاية؛ دولة الامة أو الشعب. فكل هذه الاسماء تلتقي بعضها ببعض لانها مفاهيم غير متعارضة، بل هي مفاهيم متكاملة مادام كل منها يحترم موقعه الذي اعطاه الاسلام له، ومادامت تدور كلها في رحاب الاسلام وتأخذ حكمها من حكمه.
فوضعية الدولة ستصبح احدى مقومات قوتها وليس ضعفها، واحدى مقومات عطائها وليس احدى مقومات استلابها واستبدادها وانحرافها.
ضمن هذه الشروط ستصبح الدولة في آن واحد اداة الولاية واداة الامة؛ فولاية الفقيه كما يتضح من مفهومه وكما برهنته التجربة منذ انتصار الثورة الاسلامية المباركة بقيادة الامام الخميني (رضوان الله عليه)، هو مفهوم (تجربة) احتوائي، توحيدي يقبل الدوائر الاخرى، وهو شرط وضمان لدور الامة في تقرير اوضاعها وبناء دولتها وليس حاجزاً امامها أو استلاباً لدورها. وحركة الامة ومساهمتها ودورها في مستوياتها المختلفة قدرة وقوة لولاية الفقيه أو لولاية الامر، لتجتمع في ذلك كل الارادات وتتناسق في ذلك كل الامريات والاعمال الصالحة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر لتطبيق حكم الله على الارض.
____________________
(1) August comte, Cours de philosophie positive 1830 _ 1824.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 1، الفقرة: 27.
(3) راجع نهج البلاغة: الخطبة 1.
(4) Hobbes في كتابه،Leviathan الصادر في 1651.
(5)Locke John في كتابه الصادر في 1690 Traites sur le gouvernement civil.
(6) Aesmein Elements de constitutionnel 1895 droit .
(7) Duguit, traite de droit constitutionnel 1927, tl. P32.
(8) Nouvelle Histoire Des Idees (la penses politique polique vers la fin du siecle:) Bertrand Badie politiques p.17 et s.Hachette,1987 xvie.
(9) نهج البلاغة: الخطبة 40.
(10) نهج البلاغة: الخطبة 208.
(11) (ابن المقفع، الادب الكبير، ص 111).
(12) (ابن خلدون المقدمة: ص170 ـ 171).
(13) ابن الازرق، بدائع اللسلك في طبائع الملك: ج 1، ص 95 ـ 96، تحقيق وتعليق الدكتور عليسامي النشار، منشورات وزارة الاعلام العراقية).
(14) ابن المقفع، المصدر السابق: 8 ص 170.
(15) ابن خلدون، المصدر السابق: ص170.
(16) ابن الازرق، المصدر السابق: ص95.
(17) ابن المقفع، المصدر السابق: ص111.
(18) ابن خلدون، المصدر السابق: ص 48.
(19) المصدر السابق: ص170.
(20) ابن الازرق: ج 1 ص 94و 96.
(21) نهج البلاغة: الخطبة 208.
(22) ابن خلدون، المصدر السابق: ص 170.
(23) سورة النجم: الآية 3.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية