مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

التعدد والوحدة في الولاية والإمرة
الشيخ محمد مهدي الآصفي


لم يتناول الفقهاء هذا البحث بشكل كامل، في حدود تتبعي لهذه المسألة، والطريق إلى هذه الدراسة لم تبعد من ناحيتهم بصورة كافية، لذلك فإني أقدر أنه لابد من العمل في هذه الدراسة من البدايات.
لا يختلف فقهاء أهل السنة في القول بوجوب توحيد الإمرة والولاية، وإذا قام أحد بالتصدي لإمامة المسلمين مع قيام إمام عادل كفوء بأمر الإمامة من قبله، وجب على المسلمين منعه ونهيه عن ذلك، وإن لم يرتدع تجب مقاتلته حتى يكف عن هذا الأمر.
وأما عند الشيعة الإمامية، فالمسألة واضحة في عصر الحضور؛ فلا يجوز لأحد أن يتصدى للإمامة مع قيام الإمام المعصوم، ولا يصح قيام الإمام المعصوم إلا بعد وفاة الإمام المعصوم الذي سبقه.
والروايات في ذلك كثيرة، ولا نريد دخول هذا البحث؛ لأنه أشبه بأبحاث الكلام منه إلى الفقه.
أما في عصر غيبة الإمام المعصوم، فلم تتفق كلمات الفقهاء على أمر واضح، ولم يبحث الفقهاء هذه المسألة بصورة واضحة فيما أعلم.
وقبل أن أدخل في تفاصيل هذا البحث، أجد من الضروري الإشارة إلى أن الذي يهمني في هذه الدراسة هو البحث عن الحكم الشرعي في هذه المسألة من ناحية العنوان الأولي.
وبعد الفراغ من دراسة الحكم الأولي سوف نتعرض خلال هذا البحث إلى الحكم الثانوي في هذه المسألة التابع للعناوين الثانوية في ضوء الضرورات الدولية وضرورات المنطقة بعد وضوح الحكم الأولي فيها؛ كي يتسنى لنا أن نقتصر في الخروج عما يقتضيه الحكم الأولي إلى الحكم الثانوي بمقدار الضرورات المقدرة في العنوان الثانوي، ونعود إلى الحكم الأولي كلما انتفى العنوان الثانوي أو شككنا في تحققه.
تحرير محل النـزاع:
لهذه المسألة فروض غير واقعية يتحدث عن حكمها الفقهاء، ولا نعتقد أن هذه الفروض قد وقعت في وقت مضى أو أنها ستقع مستقبلاً، من قبيل:
أن يتصدى شخصان للحكم في دائرة إدارية وسياسية واحدة، كل منهما بالاستقلال عن الآخر.
أو يتصدى شخصان للحكم في دائرة إدارية وسياسية واحدة، كل منهما يتصدى لغير ما تصدى له الآخر.
أو يتصديا في دائرة واحدة بشرط أو يكتسب كل منهما موافقة الآخر قبل إصدار الحكم واتخاذ القرار. وأمثال ذلك من الفروض النادرة والتي هي من سنخ الافتراضات النظرية.
وعليه، أرى من المفيد أن أبتعد عن الفروض النظرية العديدة لهذه المسألة، وأدخل مباشرة في البحث عن الحالة الوحيدة التي حصلت كثيراً في التاريخ الإسلامي، ونقدر أنها ستحدث فيما بعد أيضاً.وهي أن يتصدى شخصان أو أكثر للحكم في دوائر سياسية وإدارية عديدة من العالم الإسلامي، كل منهم يتصدى للحكم بصورة مستقلة عن الآخر.
وأول من دعا إلى هذا النهج من التعددية في الحكم معاوية بن أبي سفيان؛ فقد روى الطبري أن معاوية طلب من الإمام (ع) أن يستقل كل منهما في الحكم؛ هو في الشام والإمام (ع) في العراق، فقبل الإمام (ع) منه ذلك[1].
ونحن لا ننفي ذلك، لكننا ننفي ـ بشكل حازم ـ أن يكون الإمام (ع) قد وافق معاوية على ذلك. وقد اتفق المؤرخون على أن الإمام (ع) كان قد أعلن قبيل شهادته عزمه على قتال معاوية، وأنه يخرج بمن معه من أهل بيته وأصحابه الأقربين إلى معاوية حتى لو لم يخرج معه أحد غيرهم، إلا أن عبد الرحمان بن ملجم المرادي الخارجي ـ لعنه الله ـ لهم يمهل الإمام (ع) وعاجلة بالشهادة.
ومهما يكن من أمر، فإن معاوية كان أول من طرح هذا المشروع السياسي... وقد حصل شيء من هذا القبيل في بدايات الحكم العباسي، حيث كان يحكم فيها بقايا بني أمية في الأندلس، وبنو العباس يحكمون العراق ومناطق واسعة من العالم الإسلامي، ونقدر أن المستقبل السياسي للعالم الإسلامي يشهد أحداثاً من هذا القبيل.
وعليه، فإن دراسة هذه المسألة ـ بعد عودة الإسلام إلى السيادة والحكم وإلى الساحة السياسية ـ حاجة حقيقية. وعلينا أن نتناول هذه المسألة بصورة جدية، حتى نصل إلى نتائج علمية يمكن الاعتماد عليها.
أولاً: الحكم الأولي:
الأدلة على نفي مشروعية التعددية
نذكر في هذا البحث طائفة من الأدلة على عدم مشروعية التعددية في الإمرة والولاية في العالم الإسلامي.
ولست أدعي أن هذه المجموعة من الأدلة لا يمكن التشكيك في بعضها أو في جملة منها، إلا أني أدعي عدم إمكان التشكيك في مجموع هذه الأدلة.
وفيما يلي أحاول أن أستعرض هذه الأدلة الواحد بعد الآخر، وأحاول أن أتجنب استخدام المصطلحات الفقهية المعقدة كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً؛ إلا أن أضطر إلى ذلك، فأوضحه بقدر ما يسعني من التوضيح.
وسنتناول البحث أولاً حسب ما تقتضيه الأدلة الاجتهادية، وأخرى حسب ما تقتضيه الأدلة الفقاهتية:
1ـ ما تقضيه الأدلة الاجتهادية:
الدليل الأول: الروايات:
الرواية الأولى: ما رواه الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا(ع)، عن فضل بن شاذان، عن الرضا (ع) ـ ونحن ننقل من هذه الرواية ما يتعلق ببحثنا هذا ـ:
"فإن قال قائل: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد وأكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:
منها: إن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما؛ وذلك أنا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمم والإرادة، فإذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما وإرادتهما وتدبيرهما، وكانا كلاهما مفترضي الطاعة، لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فيكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد؛ ثم لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلا وهو عاص للآخر، فتعم معصية أهل الأرض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر والفساد إذ أمرهم باتباع المختلفين.
ومنها: انه لو كانا إمامين لكان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير الذي يدعو إليه صاحبه في الحكومة، ثم لا يكون أحدهما أولى بأن يتبع صاحبه، فيبطل الحقوق والأحكام والحدود.
ومنها: إنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق والحكم والأمر والنهي من الآخر، وإذا كان هذا كذلك وجب عليهما أن يبتدئا بالكلام، وليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشيء إذا كانا في الإمامة شرعاً واحداًَ، فإن جاز لأحدهما السكوت جاز السكوت للآخر، وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والأحكام، وعطلت الحدود، وصار الناس كأنهم لا إمام لهم"[2].
هذه الرواية واضحة من حيث المتن، ولست أعرف مجالاً للمناقشة في دلالة هذه الرواية، ولذلك لا أتعرض لدراسة هذه الرواية من حيث المتن.
وأما البحث في الرواية من ناحية السند فراجع [الملحق].
الرواية الثانية: صحيحة حسين بن أبي العلاء:
"قلت لأبي عبد الله (ع): تكون الأرض ليس فيها إمام؟
قال: لا.
قلت: يكون إمامان؟
قال: لا، إلا وأحدهما صامت"[3].
الرواية الثالثة: صحيحة ابن أبي يعفور أنه سأل أبا عبد الله (ع):
"هل يترك الأرض بغير إمام؟
قال: لا.
قلت: فيكون إمامان؟
قال: لا، إلا وأحدهما صامت"[4].
الرواية الرابعة: موثقة هشام بن سالم، قال:
"قلت للصادق (ع): هل يكون إمامان في وقت واحد؟
قال: لا، إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه. وأما أن يكون إمامين ناطقين في وقت واحد فلا"[5].
والتشكيك في دلالة هذه الروايات ـ بأن السؤال فيها عن الإمام المعصوم، وقياس غير المعصوم على المعصوم من القياس الباطل ـ لا يضر بالاستدلال؛ ذلك أن التعليل الوارد في الرواية الأولى يعمم الحكم على عصري الحضور والغيبة؛ وما ورد في الرواية الأخرى بحكم التعليل: "إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه". والحيثية التعليلية واضحة في هذا النص.
وإذا صح هذا في الإمامين المعصومين فهو في غيرهما أولى.
فالروايات هنا: إما أن تكون عامة للمعصومين ولغير المعصومين، وإما أن تكون خاصة بالمعصومين، فتدل الرواية على وجوب ذلك في غير المعصومين بنحوٍ أولى، ويكون من موارد (قياس الأولوية)، وهو من القياس الصحيح.
الدليل الثاني: الاحتجاج بسيرة أمير المؤمنين (ع):
والدليل الآخر على وحدة الولاية والإمرة سيرة أمير المؤمنين (ع)، وهي سيرة هادية في هذا الأمر، وقد خاض أمير(ع) في السنين الأربع التي حكم فيها حروباً ثلاثة متعاقبة، وهي: (الجمل) و(صفين) و(النهروان).
وحجة الإمام (ع) في الحروب الثلاثة هي تمرد جمع من المسلين على إمامته وولايته. ولو كان تعدد الإمرة والإمامة أمراً سائغاً في الشريعة، لم يكن هناك من سبب لخوض هذه الحروب الثلاث. إذاً الحروب الثلاث التي خاضها الإمام (ع) مع الناكثين والقاسطين والمارقين دليل كافٍ ـ في رأينا ـ للقول بوحدة محور الإمامة والولاية؛ ذلك أن الإمام (ع) كان هو المبادر لقتال خصومه في الحروب الثلاث، وليس العكس.
المسوغ لقتال معاوية في صفين
حتى إذا افترضنا أن قتال الإمام (ع) للناكثين في الجمل، والمارقين في النهروان كان بسبب نقض البيعة من ناحية الناكثين والمارقين، وليس بسبب الإقدام على الإعلان عن حكومة جديدة ونظام جديد في عرض ولاية الإمام (ع) وحكومته. أقول: حتى على هذا الفرض، لا يصح مثل هذا الافتراض في صفين؛ فإن معاوية ومن كان يتبعه من أهل الشام لم يبايعوا الإمام (ع) من قبل كي يصح أن يقال عنهم: إنهم نقضوا البيعة، وإن الإمام (ع) قاتلهم بدليل نقضهم للبيعة، كما كان شأن الإمام (ع) مع الناكثين والمارقين، حسب هذا الفرض، ولا يبقى سبب آخر للقتال.
إلا أن الإمام (ع) كان يرى أنه لا يحق لأحد أن يتصدى للولاية والإمرة مع قيام حكومة شرعية على وجه الأرض، وكان يرى أن البيعة التي تمت له في المدينة من قبل المهاجرين والأنصار ملزمة لكل المسلمين على وجه الأرض، وكل تمرد وعصيان لهذه الولاية ـ بعد انعقادها بالبيعة ـ هو من البغي الذي يأمر الله تعالى بمكافحته والقضاء عليه. وكلام الإمام (ع) صريح وواضح في هذا الشأن:
يقول (ع):"وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى"[6].
ويقول (ع) في موضع آخر: "لأنها بيعة واحدة، لا يُثنّى فيها النظر، ولا يُستأنف فيها الخيار. والخارج منها طاعن، والمروّي فيها مداهن"[7].
ويمكننا أن نختصر كلام الإمام (ع) في نقطتين:
1 ـ مساحة الولاية والإمرة لا تتحدد بمساحة البيعة.
2 ـ قتال المتمردين الذين يرفضون طاعة الحكومة الشرعية القائمة بالفعل.
وإليك توضيح هاتين النقطتين:
1 ـ مساحة الولاية لا تتحدد بمساحة البيعة:
لا إشكال في أن الإمام (ع) كان يرى أن مساحة الولاية والإمرة لا تتحدد بمساحة البيعة، ولا يمكن أن تتحدد، سيما في تلك الأيام؛ فقد كان من غير الممكن أن تتم البيعة للمرشح للإمامة من قبل المسلمين في كل أقطار العالم الإسلامي.
وعليه، فليس من الضروري أن تنطبق مساحة الولاية والسيادة على مساحة البيعة، فتعم البيعة الشرعية كل المسلمين في مختلف أقطار العالم، حتى وإن تمت البيعة في رقعة صغيرة محدودة، بشرط أن تكون منطقة البيعة من الناحية الكمية والكيفية بحجم مناسب.
وقد أجمع فقهاء المذاهب الأربعة من أهل السنة على ذلك، على اختلاف في تقدير حجم مساحة البيعة، حتى قال بعضهم: "إن البيعة تكون ملزمة حتى وإن تمت من قبل شخص واحد". ويتمسكون بقول العباس لعلي (ع) بعد وفاة رسول الله (ص):"ابسط يدك أبايعك. فيقال: عم رسول الله (ص) بايع ابن عم رسول الله (ص)، ويبايعك أهل بيتك، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل"[8].
وهو قول شاذ بالتأكيد، ولكن مما لا خلاف فيه أن البيعة لو تمت في مساحة مناسبة ألزمت عامة المسلمين، وعلى ذلك إجماع فقهاء أهل السنة، ولم أجد لدى فقهاء الإمامية ـ حسب تتبعي لهذه المسالة ـ خلافاً.
يقول أمير المؤمنين (ع) ـ برواية الشريف الرضي ـ بهذا الصدد:
"ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك سبيل، لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار. ألا وإني مقاتل رجلين: رجلاً ادعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه"[9].
2 ـ قتال المتمردين على الحاكم الشرعي:
النقطة الثانية في كلام الإمام (ع): قتال المتمردين على الطاعة، وإن كل من تمرد على الحكومة الشرعية يعتبر باغياً، والموقف من الباغي النصيحة والنهي عن المنكر، فإن لم يرتدع فالقتل.
خطابا الإمام إلى المسلمين وإلى معاوية في صفين:
وللإمام (ع) ـ لدى التوجه إلى صفين ـ خطابان جديران بالدراسة والتأمل:
الخطاب الأول إلى معاوية، والخطاب الثاني إلى عامة المسلمين.أما خطاب الإمام (ع) إلى معاوية فيقول فيه: "ادخل فيما دخل فيه الناس"[10]. وأما خطابة (ع) إلى عامة المسلمين، فهو الدعوة إلى قتال معاوية بسبب البغي والتمرد والخروج عن الطاعة.
ويقول الإمام (ع) في ذلك صريحاً: "فإن شغب شاغب استُعتب، فإن أبى قوتل"[11].
المناقشة السندية في خطابي الإمام (ع):
والتشكيك في سند نهج البلاغة، وبالتالي في خطابي الإمام (ع) لدى التوجه إلى صفين، ليس ذا جدوى؛ ذلك أن المؤرخين وأرباب السير قد رووا هذين الخطابين وغيرهما بصورة مستفيضة لا تترك مجالاً للشك، وقد حصل فيه ما يشبه التواتر المعنوي.
والأمر الآخر: ان السيرة القطعية لأمير المؤمنين (ع) تؤكد هذين الخطابين، وحسب تعبير الشيخ المفيد في قصته المعروفة: هي من الدراية، وليست من الرواية. وإذا كان أصل الخطاب الذي يرويه الشريف الرضي في النهج من الرواية، فالسيرة القطعية لأمير المؤمنين (ع) من الدراية التي لا تحوج الباحث إلى بحث سندي.
فقد دعا الإمام (ع) عامة المسلمين من الحجاز والعراق واليمن وسائر أقاليم الإسلام إلى قتال معاوية، وقد سقط في هذه الحرب من الطرفين عدد كبير من القتلى.
روح خطاب الإمام (ع) في صفين:
والآن نتساءل:
هل يمكن ألاّ يكون للإمام (ع) خطاب إلى ذلك الجمع الغفير من الجيش الذي صحبه إلى صفين؟
وهل يجوز أن يأخذ الإمام (ع) ذلك الجيش الكبير إلى صفين دون أن يكون له إليهم خطاب؟
وإذا كان لابد من خطاب، ولابد! فما هو روح هذا الخطاب؟
أو ليس هذا الخطاب هو أن يقول لهم الإمام (ع) :
أ ـ إنه قد تولى إمامة المسلمين بحق، وإنه الإمام الشرعي للمسلمين؛ وقد بايعه على ذلك المهاجرون والأنصار، لا يشك في ذلك أحد؟!
ب ـ وإن معاوية ومن معه من أهل الشام قد بغوا عليه وخرجوا عمّا دخل فيه المسلمون من الطاعة؟!
جـ ـ وهو يدعو المسلمين إلى قتاله وقتال من يدافع عنه ويخرج معه؟
في نظري: كما أن أصل الخطاب أمر لابد منه وليس فيه شك، كذلك محتوى الخطاب وروحه هو ما ذكرناه، من دون ريب.
فهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجمع الإمام (ع) المسلمين عليه يومذاك. فلو كان ما يقوله الإمام (ع) غير ذلك لكان يكسب طائفة من المسلمين ويبعد أخرى.
عود إلى خطابي الإمام (ع) في صفين:
ولكي لا نسترسل مع هذه النقطة أكثر من ذلك، نعود إلى صلب البحث مرة أخرى؛ لقد كان للإمام (ع) في هذه الحرب خطابان:
خطاب إلى معاوية، وخطاب إلى المسلمين.
خطاب يطلب فيه من معاوية أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، ويكف عن التمرد والعصيان.
وخطاب يطلب فيه من المسلمين أن يقاتلوا معاوية ومن معه من جند الشام، ويصدوه عن التمرد والعصيان.
وروح هذين الخطابين وجوهرهما: إذا قامت للمسلمين دولة وحكومة شرعية وقام بينهم إمام يحكمهم بالحق، فلا يحق لأحد أن يتصدى لإمام المسلمين ويدعو الناس إلى نفسه في عرض الولاية الشرعية القائمة، وليس في طولها.
وهذا هو روح هذا البحث، وهو الذي نريد إثباته في هذه الدراسة من وحدة محور الولاية والإمرة الشرعية في العالم الإسلامي.
هل كان خطاب الإمام (ع) من الجدل، أم هو الحقيقة؟
قد يقول أحد: إن لخطاب الإمام (ع) باطناً وظاهراً. وكلّ منهما صحيح.
أما باطن خطاب الإمام (ع) إلى المسلمين يومذاك، فهو دعوة المسلمين إلى قتال معاوية؛ لأن رسول الله (ص) نص على إمامته يوم الغدير، وإمامته تستند إلى نص الغدير وليس إلى اختيار المسلمين وبيعتهم. ولا يجوز لأحد أن يخرج عما أوجبه الله تعالى على المسلمين عامة من الطاعة بموجب هذا النص. ومعاوية قد خرج من الطاعة. فهو يدعو المسلمين إلى قتاله بهذه الخلفية، وليس بسبب البيعة.
وهذا هو باطن القضية.
ولكن لما كان الناس في جيش الإمام (ع) يومئذٍ لا يؤمنون بنص الغدير، وكانوا يعتقدون أن الإمامة انعقدت لعلي (ع) بسبب البيعة، يلزمهم الإمام جدلاً برأيهم.
وكأن الإمام (ع) يقول لهم: إن طاعته واجبة على كل المسلمين بموجب نص الغدير، ويجب بنفس السبب قتال الخارجين عليه، فإذا أصروا على إنكار نص الغدير وأصروا على أن ولايته (ع) كانت بسبب بيعة المهاجرين والأنصار، فإن عليهم أيضاً أن يقاتلوا الباغين عليه والخارجين على طاعته.
وهذا هو ظاهر القضية.
إلا أن هذا الظاهر ليس حجة علينا شرعاً؛ فإن من الممكن أن هذه اللوازم كانت مما يؤمن بها ويراها فقهاء مدرسة الخلفاء. والإمام (ع) لا يرى ذلك ولا يصححه، غير أنه يلزمهم بما يلتزمون به.
هذه هي خلاصة للشبهة التي يمكن أن تثار على الاستدلال السابق.
الإجابة على التشكيك، وتفسير خطاب الإمام (ع) في صفين:
كانت حرب صفين أوسع الحروب نطاقاً وأفدحها خسائراً في فترة حكم الإمام (ع).
ولم يكن خصم الإمام في هذه الحرب (الناكثين) الذين نكثوا العهد ونقضوا البيعة كما في حرب الجمل، كما لم يكن خصم الإمام في هذه الحرب (المارقين) الذين مرقوا وخرجوا عن الطاعة كما في النهروان، وإنما كان خصمه (القاسطين)، وهم لم يبايعوا من أول الأمر حتى ينكثوا البيعة، ولم يدخلوا الطاعة حتى يمرقوا عنها.
هكذا كانت حرب صفين.
ولا يمكن أن يبدأ الإمام (ع) قتالاً بهذه السعة وبهذا الحجم ومع خصوم لم تسبق منهم بيعة ولا طاعة له دون أن يكون قد ألقى إليهم الحجة كاملة وبيّن لهم ولجنده الذين صحبوه إلى صفين ما يريد منهم ومن خصومهم، ودون أن يكون قد خاطبهم في ذلك خطاباً واضحاً، سيما إذا لا حظنا أن الإمام (ع) هو الذي سار إلى صفين لقتالهم.
أطراف خطاب الإمام (ع) في صفين:
وفي صفين طرفان لا محالة:
الطرف الأول: جنده الذين صحبوه إلى صفين، والذين طلب منهم الإمام (ع) النصرة لقتال معاوية.
والطرف الثاني: معاوية وجنده من الشام، الذين كانوا يرفضون الدخول في طاعة الإمام (ع).
فلابد إذا أن يكون للإمام (ع) خطاب مع هؤلاء وأولئك، ولابد أن يكون كل من هذين الخطابين واضحاً لهؤلاء وأولئك.
وفيما يلي نقدم تفسيراً لكل من خطابي الإمام (ع) إلى جنده وخصومه:
أ ـ تفسير الخطاب الأول للإمام (ع):
مآل خطاب الإمام (ع) إلى جنده وأهل الطاعة من أهل العراق والحجاز واليمن إلى نقطتين، ولكل منهما حكم يختلف عن الآخر:
أولاً: دعوتهم إلى الطاعة لقتال معاوية بموجب البيعة التي تمت منهم له (ع) في المدينة.
ثانياً: إن البيعة التي تمت له من قبل المهاجرين والأنصار في المدينة ـ وهم فئة صغيرة محدودة من حيث الكم من المسلمين ـ تلزم عامة المسلمين بالطاعة؛ من بايعه منهم ومن لم يبايعه.
وإلا فكيف يطلب من أهل العراق والحجاز واليمن أن يطيعوه في الخروج إلى قتال معاوية، وأكثرهم لم يحضر البيعة يومئذٍ بالمدينة؟! وكيف يطلب منهم قتال معاوية، وهم لم يبايعوه قط؟!
فلابد أن تكون البيعة ملزمة لعامة المسلمين في كل مكان؛ من بايع منهم ومن لم يبايع. ومن ينكث هذه البيعة أو يخرج عن الطاعة يستحق القتال.
ولابد أن يكون خطاب الإمام لجنده متضمناً للنقطة الأولى والثانية معاً، ولابد أن يكون الجند الذين خرجوا مع الإمام (ع) لقتال معاوية قد عرفوا من الإمام (ع) كلا النقطتين؛ وإلا فإن خطاب الإمام (ع) يكون ناقصاً لا محالة.
حجية الظاهر والإرادة الجدية في الخطابات:
والآن نبدأ بتفسير وتحليل كلّ من هاتين النقطتين، بعد مقدمة قصيرة لابد منها، وتلك المقدمة:
إن طريقة العقلاء في التفاهم فيما بينهم قائمة على حجية الظواهر، فإذا كان للكلام ظاهر أخذ به الناس واحتجوا به له وعليه، وكان حجة فيما بين الناس في التفاهم ولو لم يكن الكلام نصاً قطعياً في المراد.
وقد أخذ الشارع بهذا الأصل العقلائي وأمضاه، ودليل إمضائه أنه لم يبلغنا عن الشارع إلغاؤه له، أو جريه على أساس آخر في التعامل مع ظاهر الكلام. وهذا وحده يكفي في حجية الظاهر. وفضلاً على ذلك: إن المشرّع قد تعامل مع ظاهر الكلام في مواقع كثيرة معاملة الحجة.
وهذا أصل مهم في الاجتهاد. ولولا حجية الظاهر لم يمكن التمسك بظواهر الكتاب والسنة، ولتعطل الاجتهاد، إلا أن تأتي قرينة واضحة تصرف الكلام عن ظاهره.
ومن مصاديق هذه القاعدة: ان الكلام حجة في الإرادة الجدية للمتكلم؛ بمعنى أن الكلام يدل على أن المتكلم جاد فيما يقول وليس بهازل. وهذه هي إحدى الدلالتين التصديقيتين للكلام، في مقابل الدلالة التصورية الحاصلة قهراً من الكلام.
وقد أقر الشارع هذه الدلالة قطعاً، إلا أن تكون هناك قرينة واضحة دالة على صرف الكلام عن الدلالة على الإرادة الجدية للمتكلم.
ومن هذا القبيل دلالة الكلام على أن المتكلم يقصد بالكلام الحكم الواقعي وليس التقية، إلا أن تكون هناك قرينة صارفة للكلام عن الدلالة على إرادة المتكلم للحكم الواقعي؛ وإلا أمكن التشكيك في دلالة كل حكم وارد في الروايات على إرادة المتكلم للأحكام الواقعية، واحتمال إرادة التقية بها. ومن الطبيعي أن احتمال الخلاف يسقط الدليل عن الدلالة، وليس هناك من صارف لهذا الاحتمال إلا حجية الظاهر، والظاهر من الكلام هو إرادة الحكم الواقعي.
ومن هذا القبيل دلالة الكلام على أن المتكلم يريد بالكلام الحقيقة وليس الجدل؛ بمعنى أن الكلام ظاهر في أن المتكلم ملتزم بما يقول ومؤمن به، وليس الكلام صادراً جدلاً لإلزام الطرف الآخر بما يلتزم به، ولإفحامه به.
وبهذا الظاهر يعمل الناس في تفاهمهم، ويحتجون به، ويلغون احتمال خلافه. وقد أخذ الشارع بهذا الظاهر، واعتبره حجة، وألغى خلافة؛ وذلك بإمضاء سيرة العقلاء في الأخذ بالظاهر وإلغاء خلافه.
وانطلاقاً من هذه المقدمة نقول:
إننا لا نستطيع أن نحكم بدلالة النقطة الأولى من خطاب الإمام (ع) على الإرادة الجدية له (ع) في هذا المعنى بلا ريب؛ وذلك لوجود قرينة قطعية صارفة للكلام عن هذه الدلالة التصديقية، وهي ما ثبت لدينا بصور قطعية أن إمامته على المسلمين كانت ثابتة بالنص من رسول الله (ص) يوم الغدير وليست ببيعة المسلمين له، وإنما خاطب الناس بذلك يومئذٍ من باب الجدل، لإلزام الناس بما كانوا يلتزمون به يومئذٍ من إمامة الإمام (ع) بالبيعة، ووجوب طاعته بها.
وليس كذلك أمر النقطة الثانية من خطاب الإمام (ع) للناس؛ ففي النقطة الثانية يقول لهم الإمام (ع): إن البيعة إذا تمت لأحد وصحت من قبل جمع من المسلمين (يُعبأ بهم) ألزمت المسلمين كافة؛ من حضر منهم البيعة ومن لهم يحضر.
وهذا هو معنى كلام الإمام في النقطة الثانية، وهو حجة في الدلالة على الإرادة الجدية للإمام (ع) في حكم البيعة، وليست هنالك من قرينة صارفة للكلام عن هذه الدلالة، كما كان الشأن كذلك في النقطة الأولى.
والاحتمال وحده لا يكفي لصرف الكلام عن ظاهره، ولا عن الدلالة على الإرادة الجدية للمتكلم،؛ وإلا لم يبق لنا من الكتاب والسنة ما يمكن أن يحتج به غير أقل القليل.
وشأن ذلك شأن (التقية)؛ فليس كلما احتملنا أن يكون الكلام صادراً عن التقية صرفنا الكلام عن الدلالة على الإرادة الجدية للمتكلم فيما يكون الكلام ظاهراً أو نصاً فيه؛ وإلا لم يمكن الاحتجاج برواية إلا في موارد قليلة جداً، وإنما نصرف الكلام عن الدلالة على الإرادة الجدية للمتكلم فيما إذا ثبت خلافه بقرينة أو دليل قطعي.
وليس لدينا في النقطة الثانية من خطاب الإمام (ع) للناس يومئذٍ قرينة واضحة على صرف الكلام عن الدلالة على الإرادة الجدية للمتكلم؛ كما في النقطة الأولى.
ومع هذا التوضيح تكون سيرة الإمام أمير المؤمنين (ع) في صفين دليلاً على حكم فقهي؛ وهو وحدة الإمامة والولاية السياسية في العالم الإسلامي.
هذا مجمل تفسير الخطاب الأول للإمام (ع) في صفين.
ب ـ تفسير الخطاب الثاني للإمام (ع) في صفين:
الخطاب الثاني للإمام (ع) في صفين وجهه إلى معاوية وأهل الشام؛ فقد خرج الإمام من الكوفة إلى صفين لقتال معاوية، فلابد أن يكون قد أتم عليهم الحجة والبلاغ، ولابد أن يكون خطاب الإمام (ع) متضمناً لنقطتين:
ماذا يريد منهم الإمام (ع)؟ ولماذا؟
وهاتان النقطتان أهم ما في خطاب الإمام (ع) ولا يمكن أن يخلو منهما خطاب الإمام(ع).
فليس من المعقول أن يخرج الإمام من الكوفة لقتال معاوية وجنده من أهل الشام دون أن يخبرهم بما يريد منهم ودون أن يبين لهم السبب في ذلك.
وهما موجودان في نهج البلاغة، والتشكيك في رواية الشريف الرضي (رحمه الله) للنهج من حيث الإرسال لا يضر بما ذكرناه؛ بدليل التوضيح المتقدم.
ولنتجاوز النقطة الأولى في خطاب الإمام (ع)، ونتحدث عن النقطة الثانية:
لماذا يطلب منهم الإمام (ع) أن يدخلوا في الطاعة؟
إن جواب الإمام واضح؛ فقد بايعه المهاجرون والأنصار في المدينة، وبيعتهم ملزمة لعامة المسلمين. فعليهم أن يدخلوا فيما دخل فيه عامة المسلمين.
وهذا الخطاب موجود بالنص في كتابٍ كتبه الإمام (ع) إلى معاوية، يرويه الشريف الرضي في نهج البلاغة:
"إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضىً؛ فإن خرج عن أمرهم خارج بطعنٍ أو بدعةٍ ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى"[12].
ولسنا نريد أن نناقش هنا رأي معاوية وخطابه لأهل الشام في مطالبة الإمام (ع) بدم عثمان، ولا نريد أن نتحدث عن جواب الإمام (ع) لمعاوية في هذه التهمة التي رفعها معاوية بوجه الإمام (ع).
ولكننا نريد أن نقول: لا يمكن أن يجهز الإمام الجند لقتال معاوية وأهل الشام دون أن يبين لهم ما يريد منهم، ودون أن يوضح لهم السبب في ذلك.
والتشكيك في دلالة هذا الخطاب على وجوب الطاعة على عامة المسلمين إذا تمت البيعة للإمام من قبل جمع يُعبأ به من أهل الحل والعقد.. بأن هذا الخطاب من قبيل الإلزام الجدلي بما كان أهل الشام يلتزمون به يومئذٍ، وليس في هذا الخطاب دليل على الحكم الشرعي.
أقول: قد ناقشنا قريباً هذا التشكيك، وقلنا إن ذلك وارد في الفقرة الأولى من الخطاب، وهو الدعوة إلى الدخول في الطاعة، وأما في الفقرة الثانية من الخطاب فلا يجوز أن نصرفها عن دلالتها التصديقية على الإرادة الجدية للمتكلم وبالتالي على الحكم الشرعي؛ وذلك لعدم وجود قرينة واضحة على ذلك، والكلام واضح في بيان حكم شرعي محدد، وليس من دليل على صرف الكلام عن هذه الدلالة.
وبهذا الشرح يتم الاستدلال بسيرة الإمام أمير المؤمنين (ع) في صفين على وحدة الإمامة والولاية السياسية للعالم الإسلامي، ووجوب دخول عامة المسلمين في الطاعة إذا تمت البيعة لإمام المسلمين من قبل جمع من المسلمين من أهل الحل والعقد يُعبأ بهم من حيث الكيف والكم.
ولسنا بحاجة إلى توضيح عدم وجود خصوصية للمهاجرين والأنصار في إلزام البيعة، وإنما الملاك ـ بعد إلغاء هذه الخصوصية ـ هو أن تتم البيعة من قبل جمع يعتد به من أهل الحل والعقد.
الدليل الثالث: وحدة الأمة:
يشير القرآن الكريم إلى وحدة الأمة المسلمة في التاريخ وعلى وجه الأرض في موضعين:
الأول: في سورة الأنبياء، وهو قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}[13]
والثاني: في سورة المؤمنون، يقول تعالى فيها: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}[14].
والوحدة من أهم أسس (الدعوة) و(السياسة) في القرآن.
أما عن الدعوة، فإن الله تعالى أرسل رسولاً للناس جميعاً من دون استثناء.
يقول تعالى: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً}[15]، و{يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}[16]، و{وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}[17]، و{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}[18].
ومعنى ذلك أن هذا الدين لعامة البشرية، وليس ديناً قومياً أو إقليمياً، هذا أولاً.
وثانياً: الوحدة السياسية للأمة، وإزالة الحواجز القومية والإقليمية التي تفرق هذه الأمة.
وقد تلونا عليكم آيتي الأنبياء والمؤمنون من قبل، وهما صريحتان واضحتان في الوحدة السياسية للأمة. ولا نتصور معنى لوحدة الأمة غير الوحدة السياسية.
فإن وحدة العقيدة مفروضة في الأمة، ومن دونها لا تكون الأمة أمة.
فلابد أن تكون الوحدة في شيء آخر غير العقيدة؛ وإلا فلا تكون هي أمتنا والقرآن يقول: {وإن هذه أمتكم}‍! ولا معنى للوحدة إذا لم تكن في العقيدة، إلا أن تكون في البنية السياسية للأمة، فيكون معنى وحدة الأمة هي وحدتها في الكيان السياسي، ووحدة الكيان السياسي بوحدة الولاية والسيادة لا محالة.
والمقياس الذي وضعه الله تعالى للتقييم في هذه الأمة هو (التقوى)، وما اختلاف الناس في الأقوام والعشائر والأقاليم إلا للتعارف والتلاقح فيما بينهم، وليس للافتراق والتباعد: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[19].
وقد ورد في القرآن والحديث شواهد كثيرة على هذه الحقيقة في دين الله.
ففي الكتاب الذي كتبه أمير المؤمنين (ع) لواليه على مصر مالك الأشتر (رحمه الله) يوصيه بالناس ويقول له في ذلك: "ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"[20].
وقال رسول الله (ص) للناس في خطابه التاريخي في العودة من حجة الوداع: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى"[21].
وفي رواية أخرى: "أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكركم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب"[22].
وعنه (ص): "ألا إن العربية ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه"[23].
وعنه (ص) أيضاً: "ألا إن خير عباد الله أتقاه"[24]؛ وعنه (ص): "إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل العربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى"[25].
وأيضاً عنه (ص): "ليدعن رجال فخرهم بأقوام؛ إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن"[26].
وبالتأمل فيما ذكرناه من الآيات والروايات ـ وهو غيض من فيض ـ نصل إلى نتيجة قطعية لا نشك فيها، وهي:
ان الإسلام يرفض التفريق والتفاضل فيما بين الناس، ويعمل دائماً لإزالة الفواصل والحدود الطبقية والقومية والإقليمية، ويجعل الناس أمة واحدة على الصراط المستقيم إلى الله.
ومع وضوح هذا الاتجاه في دين الله، كيف يمكن أن يقر الإسلام التعددية في النظام السياسي والسيادة والدولة والولاية في الأمة الواحدة؟!
ونحن إذا راجعنا التاريخ الإسلامي، نجد أن التعددية في النظام السياسي والولاية والسيادة هي من أكثر أسباب الاختلاف والصراع والتقاطع فيما بين المسلمين.
والمنافسة والصراع على السلطة من أكثر أسباب القتال والحروب في تاريخ الإسلام وتاريخ البشرية.
والدين الذي يعتمد في أسس تعاليمه: {إن هذه أمتكم أمة واحدة}[27] و{تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}[28]، لا يمكن أن يقبل التعددية في السيادة والنظام السياسي.
الأمة والطاعة
ومما يؤكد هذا المعنى ويعمقه، اهتمام الإسلام الأكيد بأمر الطاعة لأولياء الأمور، وهذه الطاعة غير الطاعة لله في الأحكام والتشريعات الثابتة التي ورد ذكرها في الكتاب والسنة.
يقول الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[29].
وواضح لمن يتأمل في هذه الآية أن الطاعة الثانية غير الطاعة الأولى؛ فالطاعة الأولى هي الطاعة لله، والطاعة لله تخص الأحكام الثابتة التي نطق بها الكتاب أو السنة كالصلاة والصوم وتفاصيلها، والطاعة الثانية هي الطاعة للرسول ولأولياء الأمور من بعده، وهي في الأمور السياسية والإدارية التي تقتضيها وتتطلبها الضرورات السياسية والإدارية والاقتصادية وما يشبه ذلك، وهي المنطقة التي يصطلح عليها الشهيد الصدر (رحمه الله) بـ (منطقة الفراغ)، وهذه الطاعة غير الطاعة الأولى التي تفرضها الآية الكريمة لله سبحانه.
وقد ورد ذكر هاتين الطاعتين مع بعض في أكثر من آية في كتاب الله؛ يقول تعالى:
{قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}[30].
{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}[31].
التقوى والطاعة في سورة الشعراء
وهذه الطاعة هي الأساس الثاني لدعوة الأنبياء بعد التقوى؛ ففي سورة الشعراء يلخص القرآن دعوة الأنبياء في كلمتين: التقوى والطاعة؛ (تقوى الله) و(طاعة الأنبياء).
والتقوى: هي الالتزام بحدود الله تعالى، والطاعة: هي طاعة الأنبياء وأولي الأمر في الأمور السياسية والإدارية وفي كل شأن يتصل بالولاية والسيادة السياسية بشكل من الأشكال.
تأملوا في هذه الآيات المباركات من سورة الشعراء:
{إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون}[32].
{كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون}[33].
{كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون}[34].
{كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون}[35].
وهذه الآيات بمجموعها تؤكد أن دعوة الأنبياء (ع) تدور حول هذين المحورين: التقوى والطاعة.
ولا يمكن أن تكون الطاعة غير الطاعة السياسية؛ فإن أية طاعة أخرى غير الطاعة السياسية ترتبط بمحور التقوى، وهو المحور الأول من هذين المحورين.
إذاً، فالطاعة السياسية عنصر مقوم وأساسي في بناء الأمة: وتعدد الطاعة ـ في الحقيقة ـ ضرب من التمرد والخروج على الولاية والسيادة في الأمة، وهو شيء في مقابل الطاعة وضد الطاعة.
والآيات الكريمة بمجموعها تؤكد أن الأمة الواحدة تتحقق بعد وحدة العقيدة، بوحدة الطاعة ووحدة النظام، وهذان هما العنصران المقومان للأمة؛ (العقيدة) و(النظام السياسي).
وتعدد الطاعة بمعنى تعدد النظام السياسي، وهو بمعنى انشطار الأمة وتعددها، وليس لانشطار الأمة وتعددها معنى آخر غير هذا المعنى؛ فإن الانتماء إلى عقيدة أخرى غير التوحيد يخرج صاحبه من هذه الأمة إلى أمة الكفر، والقرآن يقول إن أمة التوحيد أمة واحدة: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}، وهذا المعنى واضح في آيتي الأنبياء والمؤمنون بأدنى تأمل.
الدليل الرابع: عموم المنزلة في النيابة:
في صياغة هذا الدليل نحتاج إلى التمسك بنوعين من الأدلة، وهما:
أدلة ولاية رسول الله (ص) والأئمة (ع) من بعده.
أدلة نيابة الفقهاء عن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في الولاية في عصر الغيبة.
وبضم هذين الدليلين إلى بعض، وضميمة عموم المنزلة في النيابة، تتم صياغة هذا الدليل.
إذاً، عناصر هذا الدليل تتألف من ثلاث نقاط:
الأولى: الولاية لرسول الله وأولياء الأمور من بعده (الأئمة (ع)) في عصر الحضور، وهي ولاية عامة شاملة لكل المسلمين لا شك في ذلك ـ كما سوف يأتي توضيح ذلك ـ ولا يقول أحد بالتفكيك والتجزيء في هذه الولاية البتة، فهي ولاية واحدة تأبى التعدد والتجزّؤ.
الثانية: نيابة الفقهاء عن الأئمة (ع) وعن الإمام المهدي (عج) في عصر الغيبة في أمر الولاية.
الثالثة: عموم المنزلة في نيابة الفقهاء عن الإمام الحجة (عج)؛ فإن أدلة هذه النيابة دالة ـ لا محالة ـ على إحلال الفقهاء في الولاية بمنزلة الإمام الحجة (عج). وإطلاق النيابة في الولاية يقتضي أن يكون للفقهاء كل ما يكون للإمام المعصوم من شؤون الولاية إلا ما خصه الدليل بهم (ع)، ويقتضي أن تكون مساحة ولاية الفقيه هي نفس المساحة التي جعلها الله للإمام المعصوم إلا ما ورد فيه دليل بالاستثناء والتقييد، وهذا هو معنى (عموم المنزلة) في النيابة.
ومقتضى ذلك وحدة الإمرة والولاية في عصر الغيبة.
وإذا لم يكن هذا الحد من التوضيح كافياً، نضطر إلى بسط الكلام في هذه النقاط بشكل أوسع، وإليك هذا البسط والتوضيح:
أما المسألة الأولى: فإن الله تعالى أمر المسلمين بطاعة رسوله (ص)، وجعل له الولاية العامة الشاملة على المسلمين بلا إشكال ولا شك، وورد الأمر بذلك في أكثر من موضع من القرآن.
ومن أصرح هذه الآيات وأوضحها قوله تعالى في سورة الأحزاب: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}[36]. وقد اختلف المفسرون في أمر هذه الولاية وحدود دائرتها سعةً وضيقاً.
وأقوى هذه الآراء وأوضحها أن النبي (ص) له الولاية على المؤمنين في كل ما يرتبط بشؤون الولاية السياسية والحكم. والرأي الآخر لا يقيد الولاية حسب هذا الرأي بشؤون الولاية السياسية والحكم، وإنما يوسعها ويطلقها في غير هذا الشان من شؤون الإنسان.
ومعنى الولاية في هذه الآية أن يكون رسول الله (ص) أولى في هذه الأمور على المؤمنين من أنفسهم، وإرادته (ص) فيها مقدمة وحاكمة على إرادتهم، وهو معنى قوله تعالى: {أولى بالمؤمنين من أنفسهم}.
وحذف المتعلق في كلمة (أولى) دليل على عموم الولاية وشمولها لكل الشؤون الداخلة في دائرة الولاية السياسية، وهو القدر المتيقن من الأمر.
وأما الكلام في مساحة هذه الولاية من المجتمع، فإن الجمع المحلى باللام في كلمة (المؤمنين) إن لم يكن نصاً في العموم فهو ظاهر فيه بلا كلام.
وعليه، فإن الولاية النبوية تتضمن نوعين من العموم والشمول: العموم في أبواب الولاية وأنحائها، والشمول لمساحة المجتمع والأمة.
وهذه الولاية بكل ما فيها من الشمول والعموم انتقلت إلى الإمام أمير المؤمنين علي (ع) في غدير خم بموجب نص الغدير الشهير: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه". ومن أمير المؤمنين (ع) انتقلت الولاية نفسها إلى أحد عشر إماماً من ذريته (ع)، وهي الآن للإمام الثاني عشر من أهل البيت (ع).
والمسألة إلى هذا الحد ليس فيها خلاف أو ترديد لدى فقهاء الإمامية ومتكلميها، وعليه فإن الولاية النبوية تتضمن نوعين من العموم: العموم في شؤون الولاية، والعموم في مساحة الولاية من المجتمع.
وأما المسألة الثانية ـ المتعلقة بولاية الفقيه المتصدي في عصر الغيبة بالنيابة عن الإمام المعصوم (عج) ـ: فإن من الفقهاء من يذهب إلى ولاية كل فقيه بالنيابة عن الإمام (عج) في عصر الغيبة، وهو رأي لبعض الفقهاء الأجلاء. ومن الفقهاء من يذهب إلى ولاية الفقيه المتصدي في عصر الغيبة بالبيعة والانتخاب من قبل المسلمين، وهو الرأي الذي أميل إليه.
وعلى أيٍّ، فإن الفقيه المتصدي ينوب عن الإمام (عج) في ولاية الأمر.
والمسالة في هذه الحدود ليس فيها خلاف كبير.
وأما المسالة الثالثة: إذا ثبت نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم في عصر الغيبة في الشؤون السياسية، وهي القدر المتيقن من ولاية الإمام المعصوم ونيابة الفقيه عنه.. فإن عموم المنزلة في النيابة في النيابة تقتضي إثبات كل ما ثبت بالدليل للمعصوم في هذا الجانب للفقيه المتصدي، إلا ما ثبت بالدليل اختصاصه بالإمام المعصوم.
ووحدة الولاية والإمرة مما ثبت بالضرورة للإمام المعصوم فهي ثابتة للفقهاء المتصدين في عصر الغيبة بموجب دليل عموم المنزلة، وهو معنى إطلاق النيابة.
الدليل الخامس: النهي عن الاختلاف:
ورد في القرآن الكريم النهي عن الاختلاف، والأمر باجتناب النزاع والخلاف، في مواضع عديدة نذكر منها آيتين:
الأولى: قوله تعالى في سورة الأنفال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}[37]. وهي واضحة في المقصود، والحكم فيها معلل بأن النزاع من أسباب الفشل والضعف؛ {فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
والثانية: قوله تعالى في سورة آل عمران: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}[38].
وهذه هي المقدمة الأولى في هذا الدليل.
والمقدمة الثانية: أن التعدد في الأنظمة والحكومات من الأسباب العادية للاختلاف، وقد كان يعبر عن قيام حاكم جديد وولاية جديدة بـ (شق عصا المسلمين).
ولا يصح نقض هذه المقدمة بالتعايش السلمي الموجود بين الأنظمة في العالم؛ فإن هذا التعايش يتعرض بين حين وآخر لخطر التصدع، سيما في الدول المتجاورة والمتقاربة.
والتاريخ الإسلامي شاهد على هذه الحقيقة. على أن معنى النهي عن التفرق والاختلاف أوسع وأشمل من الحرب والقتال.
والقرآن ينهى عن كل وجوه الاختلاف والتفرق التي تعيق وحده الأمة ونموها وتكاملها، ووجود أنظمة وحكومات عديدة هو بالتأكيد من أسباب الاختلاف والتفرق لو لم يكن من أسباب القتال والحروب الدائرة بين الأنظمة. وهذه هي المقدمة الثانية، وهي وجدانية.
والنتيجة المترتبة على هاتين المقدمتين: هي حرمة التعدد في الأنظمة والحكومات، ما لم يكن هناك عنوان ثانوي يغلب العنوان الأولي، ويقتضي تعدد الأنظمة والحكومات.
والتوجيه الفقهي لهذه النتيجة:
ان تعدد الأنظمة مظنة الاختلاف والتفرق، فتحرم من باب حرمة مقدمة الحرام:
أما بناء على القول بالملازمة بين المقدمة وذيها في الوجوب والحرمة، فلا مجال للتشكيك فيه، ويتعين القول بحرمة هذه المقدمة؛ لتبعية المقدمة لذيها في الحكم.
وأما بناء على القول بعدم الملازمة ـ وهو الذي يختاره المتأخرون من المعاصرين من فقهائنا غالباً ـ فإن العقل يحكم حكماً قطعياً بوجوب اجتناب المقدمة التي تفضي إلى الحرام أو ما يكون في مظنة الإفضاء إلى الحرام، ويحكم بقبح ارتكابها، وحكم العقل يكفي في إلزام المكلف بالارتكاب أو الاجتناب، وحكم الشرع إن وجد يكون من الإرشاد إلى حكم العقل.
على أن حكم هذا المورد بالخصوص يختلف عن حكم الأقسام الأخرى من مقدمات الحرام.
فقد قسم المحقق النائيني (رحمه الله) مقدمة الحرام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول منه: ما لا يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل، فإذا جاء المكلف بالمقدمة يقع ذو المقدمة قهراً ومن دون اختياره، كما إذا علم المكلف بأنه إذا دخل مكاناً معيناً فسوف يقع في الحرام قطعاً وقهراً ولا يتمكن من التخلف عنه. ويشمل هذا القسم ما لو كان المورد مظنة للوقوع في الحرام، قريباً من القطع.
وقد حكم المحقق النائيني في هذا المورد بحرمة المقدمة حرمة نفسية لا غيرية؛ حيث إن النهي الوارد على ذي المقدمة وارد عليها حقيقةً، فإنها هي المقدورة للمكلف دونه...[39] ، رغم أن المحقق النائيني ممن يذهب إلى عدم الملازمة بين حكم المقدمة وذيها.
ولست أستعبد هذا الرأي الذي ناقشه أستاذنا المحقق الخوئي (رحمه الله)؛ فإن الله تعالى قد أمرنا بالوقاية من الحرام وليس باجتناب الحرام فقط، يقول تعالى {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}[40]، والأمر في الآية الكريمة بالوقاية من الحرام أمر نفسي، وليس من الأمر الغيري؛ وعليه يكون الاجتناب من مقدمات الحرام ـ التي تجعل الإنسان بصورة قهرية في مظنة الحرام ـ من الواجب النفسي الذي تأمر به آية (الوقاية)[41].
ومهما يكن من أمر، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن هذا القسم من مقدمات الحرام، سواء أكان ذلك من باب (التلازم) بين حرمة ذي المقدمة والمقدمة، أو كان من باب (المقدمات المفوتة)، أو من باب (الوقاية من الحرام).
وعليه، فيتعين الاحتراز عن حالة التعددية في الحكومات والأنظمة الإسلامية في العالم الإسلامي بموجب العنوان الأولي في المسألة، إلا أن يتطلب ذلك عنواناً ثانوياً غالباً على العنوان الأولي، وهو أمر آخر نبحث عنه إن شاء الله فيما يأتي من هذه الدراسة.
ما تقتضيه الأدلة الفقاهتية والأصول العملية
وإذا فرضنا أن وحدة الولاية والإمامة السياسية لم تثبت بالأدلة الاجتهادية، كان المرجع هو الأصول العملية.
ومقتضى الأصل العملي هو عدم ولاية شخص على آخر إلا أن يثبت ذلك بدليل، كما هو ظاهر.
فإذا تصدى شخص لإمامة المسلمين بصورة صحيحة ومشروعة، كان مقتضى الأصل العملي هو عدم مشروعية تصدي شخص آخر للإمامة في عرض الإمام الأول إلا أن يثبت ذلك بعنوان ثانوي، وهو أمر آخر نتحدث عنه إن شاء الله في خاتمة هذا البحث.
أدلة مشروعية التعدد
يتمسك بعض أعاظم الفقهاء (رحمه الله) بظاهر روايات (ولاية الفقيه). وظاهر هذه الروايات هو عموم النصب؛ أي نصب عامة الفقهاء للولاية في عصر الغيبة، وهذا هو المعنى الظاهر لهذه الروايات إذا أخذنا بحرفية هذه الروايات. وهو (رحمه الله) يلتزم بهذا الظاهر، ويقول بظهورها في عموم النصب ودلالتها على ثبوت الولاية لكل الفقهاء في عرض واحد بمقتضى هذه الروايات. ثم يدفع ذلك بالعناوين الثانوية، لان تعدد الحكام والولاة في عرض واحد يؤدي إلى الاختلال في النظام السياسي في الأمة.
والذي يتمسك بحرفية هذه الروايات لابد أن يذهب إلى هذا المذهب.
وإليك شطراً من هذه الروايات:
1ـ مقبولة عمر بن حنظلة ...: "من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإني قد جعلته عليكم حاكماً"[42].
2ـ مشهورة أبي خديجة ...: "انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا... فإني قد جعلته قاضياً..."[43].
3ـ رواية الصدوق في الفقيه عن رسول الله (ص): "اللهم ارحم خلفائي! قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي".
والروايات الأخرى الواردة في هذا المجال لا تخلو عن هذه الدلالة.
والالتزام بظاهر الروايات يؤدي إلى الالتزام بمشروعية تعدد الولاية والإمامة السياسية حتى في الإقليم والبلد الواحد، إلا أن يدفع ذلك العنوان الثانوي كما ذكرنا.
مناقشة هذا الاستظهار من روايات ولاية الفقيه
يبدو أن هذه الطريقة في نصب الحاكم طريقة غير مألوفة لدى عامة العقلاء، وفي كل مراحل التاريخ ـ تقريباً ـ من دون استثناء. ومسألة الإمرة والسيادة مسألة قديمة وعريقة في التاريخ منذ عدة آلاف من السنين، ولم نعهد نحن خلال هذا التاريخ كله أن الناس أقروا حاكمية طبقة أو فئة من الناس في عرض واحد.
والشارع الإسلامي في كل تشريعاته لم يخرج ولا مرة واحدة عما اتفق عليه العقلاء من دون استثناء. وكما لم يخرج الشارع ولا مرة واحدة من حكم العقل كذلك لم يخرج عن الأسلوب والطريقة والعرف الذي أجمع عليه العقلاء. هذا أولاً.
وثانياً: عند تعارض الأحكام الصادرة من قبل الولاة، إذا كان حكم الثاني ناقضاً لحكم الأول، يلزم منه اختصاص الولاية بالثاني، وهو فرض آخر غير تعدد الولاية في عرض واحد؛ وإن لم يكن حكم الثاني ناقضاً للأول فليس بحكم.وفيما لم تتعارض الاحكام، فهو وإن كان ممكناً بالنظر العقلي، ولكن يلزم منه الفوضى السياسية والإدارية التي لا يقرها عقل ولا شرع. نعم، يصح ذلك في أمور من أمثال تكفل شؤون الأيتام والأوقاف وأمثالها.
وعليه، فلابد أن يكون المقصود من هذه الروايات وأمثالها اشتراط الفقاهة في الولاية، وليس ولاية كل فقيه في عرض واحد.
وبتعبير آخر: إن هذه الروايات تدل على أن للحاكم لابد أن يكون فقيهاً، ولا تدل على أن الفقيه لابد أن يكون حاكماً.
وفي نظرنا أن هذا هو التوجيه المعقول والعرفي لهذه الروايات.
ثانياً ـ الحكم الثانوي
ما تقدم من حديث هو الحكم الفقهي للمسألة بالعنوان الأولي، والآن نتحدث عن حكم المسألة بمقتضى العنوان الثانوي.
ونقصد بالعنوان الثانوي: الظروف الدولية والمعادلات السياسية الحاكمة على العالم، والتصنيف الوطني والقومي والإقليمي للعالم الإسلامي، والذي لا يمكن تجاوزه الآن على أقل التقادير.
فإذا قامت ـ مثلاً ـ دولة إسلامية في الشرق الأوسط ودولة أخرى إسلامية في غرب إفريقية، فلا محالة أن نتقبل تعدد النظام السياسي وتعدد الولاية السياسية بحكم الضرورات السياسية.
وهذا هو مقتضى العنوان الثانوي، وهو يختلف عما يقتضيه العنوان الأولي في هذه المسألة.
وإلى ذلك يشير إمام الحرمين الجويني، غير أنه لم يوضح التفكيك بين الحكمين والعنوانين في هذه المسألة.
يقول إمام الحرمين:
"ذهب أصحابنا إلى منع الإمامة لشخصين في طرفي العالم. والذي عندي فيه: أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه. وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع".
وهذا هو حكم العنوان الثانوي بالدقة. ولا خلاف بين إمام الحرمين الجويني والاتفاق الذي نقله عن فقهاء أهل السنة؛ ولكن الحكم الأول الذي انعقد عليه اتفاق الأعلام هو حكم المسألة بموجب العنوان الأولي، والحكم الذي ذكره إمام الحرمين ـ فيما إذا كانت المسافة بين الدولتين مسافة شاسعة ـ هو حكم العنوان الثانوي بمقتضى الضرورة، إلا أنه علينا أن نعرف أن الأحكام الثانوية تدور مدار العناوين الثانوية من حيث الزمان والمكان وكمية الحكم وكيفيتة، سعةًً وضيقاً.
وعليه، ففيما إذا اقتضت الضرورة والمصلحة قيام دولتين ونظامين إسلاميين في العالم، وأمكن وجود مركز سيادة وولاية واحدة يحكم النظامين ويمارس كل من النظامين السيادة في إقليميهما على طريقة (الحكم الذاتي) في الجانب الإداري والقضائي والتشريعي (التقنيني)، وجب عليهما ذلك، ووجب الاقتصار في التعدد على ما تقتضيه الضرورة والمصلحة، وهو الشؤون الإدارية والتشريعية (التقنينية) والقضائية. ومن المستبعد ـ عادة ـ أن يتعرض مركز السيادة الواحد لهذه الضرورات إذا فرضنا أن الضرورة والمصلحة ناشئة من متطلبات الوضع العالمي والتصنيفات الإقليمية والوطنية والقومية لا من ناحية الدولتين.
الملحق
روى الصدوق (رحمه الله) هذه الرواية في العلل والعيون عن عبد الواحد بن محمد ابن عبدوس النيسابوري، عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن فضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا (ع).
وكذلك يروي هذه الرواية عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان، عن عمه أبي عبد الله محمد بن شاذان، عن فضل بن شاذان.
وفضل بن شاذان ـ الذي ورد ذكره في السندين ـ من أجلاّء أصحاب الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري (ع).
إلا أن هذه الرواية تدل على أنه قد أدرك الإمام الرضا (ع) في مقتبل شبابه أو في أيام المراهقة، ولكن ذلك لم يكن بحدود الصحبة التي اختص فيها بعد ذلك بالإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع)، وهو (رحمه الله) يقول في نهاية هذه الرواية: "سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا المرة بعد المرة، والشيء بعد الشيء، فجمعتها".
وعليه، فإن ما يذكر من اختصاص فضل بن شاذان بالإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) لا ينفي سماعه عن الإمام الرضا (ع).
وأما الراويان الآخران في السند الأول لهذه الرواية ـ وهما الراويان النيسابوريان: محمد بن عبدوس، وعلي بن محمد بن قتيبة ـ فقد اختلفت كلمات أصحاب الجرح والتعديل فيهما سلباً وإيجاباً.
هذا في السند الأول. وأما في السند الثاني، فقد ورد فيه ذكر جعفر بن نعيم، ولم يرد فيه توثيق، إلا أن الصدوق (رحمه الله) ترضّى له.
وأما عمه محمد بن شاذان ـ الذي روى جعفر عنه هذه الرواية ـ فهو من وكلاء الناحية المقدسة، ويكفي ذلك في توثيقه.
______________________
[1] انظر: تاريخ الطبري 5: 140. ط ـ دار التراث.
[2] عيون أخبار الرضا (ع) 2: 99، الباب 34، ح 1. وعلل الشرائع 1: 254، الباب 182، ح 9.
[3] الكافي 1: 178، كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، ح 1.
[4] بحار الأنوار 25: 106.
[5] المصدر السابق.
[6] نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): الكتاب رقم 6.
وقد روى هذا الكلام عن الإمام (ع) قبل الشريف الرضي نصر بن مزاحم في كتابه (وقعة صفين): 29، وكذلك ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) 1: 93، وابن عبد ربه في (العقد الفريد) 4: 322، والطبري في (التاريخ) 5: 235، ط ـ ليدن، وابن عساكر في (تاريخ دمشق) في ترجمة معاوية بن أبي سفيان. وتمسكت المعتزلة بهذا الكلام على شرعية الإمامة بالاختيار والبيعة، انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 302.
[7] (7) برواية الشريف الرضي في (نهج البلاغة): الكتاب رقم 7، وكذلك ابن الأعثم في (الفتوح) 2: 431، وكذلك المبرد في (الكامل) 1: 193، ونصر بن مزاحم في (وقعة صفين): 64.
[8] الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري 1: 21.
[9] نهج البلاغة (تحقيق الدكتور صبحي الصالح): الخطبة رقم 173.
[10] نهج البلاغة: الكتاب رقم 64.
[11] نهج البلاغة: الخطبة رقم 173.
[12] نهج البلاغة: الكتاب رقم 6.
[13] الآية 92 منها.
[14] الآية 52 منها.
[15] سبأ: 28.
[16] الأعراف: 158.
[17] الأنعام: 19.
[18] التوبة: 33.
[19] الحجرات: 13.
[20] نهج البلاغة: الكتاب رقم 53.
[21] زاد المعاد 2: 226.
[22] العقد الفريد 4: 147ـ149. سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسني: 691، ط ـ منشورات الشريف الرضي.
[23] سنن أبي داود: 2: 625.
[24] الكافي 8: 246.
[25] مستدرك الوسائل 12: 89.
[26] سنن أبي داود 2: 502. ط ـ دار الفكر.
[27] الأنبياء: 92.
[28] آل عمران: 64.
[29] النساء: 59.
[30] النور: 54.
[31] محمد (ص): 33.
[32] الشعراء: 106ـ 108.
[33] الشعراء: 123 ـ 126.
[34] الشعراء: 141 ـ 144.
[35] الشعراء: 160 ـ 163.
[36] الآية 6 منها.
[37] الآية 46 منها.
[38] الآية: 103 منها.
[39] راجع: المحاضرات (تقريرات بحث آية الله الخوئي بقلم الشيخ إسحاق الفياض) 2: 439.
[40] التحريم: 6.
[41] راجع: بحوث في علم الأصول (تقرير بحث السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) للسيد محمود الهاشمي) 2: 288.
[42] الوسائل 1: 34، ب 2 من أبواب مقدمات العبادات، ح 12.
[43] المصدر السابق 27: 13، ب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية