مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

الفصل السابع عشر

أما سعاد فقد كانت تود لو استطلعت من محمود نتيجة فعالياته ... ولكنها لم تجرأ على ذلك ، لا لشيء ولكن لكي لا تلقي في قلب محمود الشك من إرشاده إلى هذه الفتاة ، فقد كان عليها أن تتجاهل أن كلامها كان له أي تأثير على محمود ، والشيء الذي لاحظته أن محمود لم يكن يؤم البيت إلا ساعة أو ساعتين في النهار وعرفت أوقاته موزعة بين المنتزه وحدائق الغوطة ، وكان منظر سنية وهي غضبى مقطبة أكبر تسلية لها على تصور محمود ، وهو واقع في حبائل نقاء ... فقد كانت سنية تعيش في هم مقيم ، بعد أن أنشغل عنها محمود ، وانصرف إلى ملاحقة نقاء ... وفي مرة عاد محمود إلى البيت فلاحظت عليه سعاد أنه حائر مشوش الفكر ، وأنه كثيراً ما يشرد بين آونة وأخرى فشاع الاضطراب في نفس سعاد ، وخشيت أن يكون محمود قد فشل في محاولاته أو ضعف أمام عناد نقاء ، ولكنها لم تتوصل إلى طريقة تمكنها من فهم الواقع ، وبعد كثرة تردد قررت أن تذهب لزيارة نقاء ، فاتصلت بها تلفونياً واستوثقت من عدم وجود زوار


( 142 )

لديها ثم استقلت سيارتها إلى بيت نقاء ولم تخرج نقاء لاستقبالها ، بل كلفت الخادمة أن تقودها إلى الصالون ، وأخبرت أمها بعزم سعاد على المجيء ، وطلبت منها أن تحضر ، ولكن أمها لم تتمكن أن تجلس مع سعاد أكثر من دقائق ، واعتذرت بكونها محمومة ويلزم عليها أن تذهب إلى غرفتها لتستريح ، وفوجئت نقاء بعزم أمها على الذهاب إلى غرفتها ، وحاولت أن تثنيها على ذلك ، ولكن أمها كانت تظن أنها بحركتها هذه سوف تغضب سعاد وتظهرها على نقمتها عليها وعدم اهتمامها بوجودها... وسر سعاد خروج خالتها وانفرادها بنقاء ، وارتبكت نقاء وحارت ماذا تفعل إذا عادت سعاد إلى كلامها المعهود وهي لا تطيق ذلك مطلقاً ، فهي تخشى أن تصدر عنها كلمات تسيء فيها إلى سعاد ، ولهذا فقد بدا الارتباك واضحاً عليها ... ولاحظت سعاد علائم الاضطراب التي ظهرت على نقاء ، فعللت ذلك بتعليل آخر هو أبعد ما يكون عن الواقع ... فبدأت تتحدث وكان حديثها يدور حول أذواق الرجال في الجمال ، وكلمات الاعجاب التي سبق أن سمعتها من المعجبين... وكيف أن كثيراً من الرجال كانوا يلاحقونها بالمدح والاطراء أينما سارت وأي مكان حلت فيه ...
وكانت سعاد تقصد من ذكرها لهذه الحوادث استدراج نقاء لذكر حوادث مماثلة عسى أن تتوصل إلى معرفة شيء عن موقف محمود معها ، ولكن نقاء لم تكن ممن يجرفهن


( 143 )

الحديث ، فهي لم تعلق على أحاديث سعاد بأي شيء... ولهذا فقد انصرفت عنها سعاد وهي على ثقة من أن محمود قد تمكن من التغرير بنقاء ، وإلا لكانت حدثتها عنه وعن مغازلته لها .. وحدثت سعاد نفسها قائلة : إن نجاح محمود قد أصبح عندي أرجح من فشله ، فليس من المعقول أن تقاوم هذه الفتاة الصغيرة إغراء محمود وترفض ثروته وملايينه.
وفي البيت افتقدت سعاد خادمتها سنية ، وكانت تفتقدها كثيراً في الأيام الأخيرة ، وخمنت أنها في سبيلها إلى التجسس على محمود والتعرف على فاتنته الجديدة ... والواقع أن سنية كانت تتعقب سيدها في أغلب الأيام لترى غريمتها التي سلبته لبه ، وقد شاهدته في أحد الأيام يتحدث مع نقاء ، ولكنها لم تصدق أن هذه الفتاة المحتشمة الوقور هي التي أغرت سيدها وسحرته .. وظنت أن جلوسه معها مجرد مصادفة . ولهذا فقد استمرت تتعقبه وتتجسس عليه.


( 144 )


( 145 )

الفصل الثامن عشر

كانت رسائل إبراهيم لا تفتأ تصل إلى نقاء في نهاية كل أسبوع ، وكانت جميع رسائله تحمل معها الأمل في إسراعه بالعودة وتقليص مدة الفراق .. وكانت نقاء قد تجنبت الذهاب إلى المنتزه بعد تكرر مصادفة محمود هناك ، ولكنها في أحد الأيام أحست بحاجتها إلى الترفيه والتنزه ، فقصدت إلى حدائق الغوطة وهي على اطمئنان من أنها ستكون في منجاة من تطفل ذاك الرجل الفضولي هناك ، فلابد أنه من رواد ذاك المنتزه بالخصوص ، وفي الحدائق لفت نظرها منظر امرأة شابة ، مهلهلة الثياب ، بادية الشحوب ، ذابلة الأجفان ، وهي تحمل على يدها طفلاً لا تكاد ملابسه الممزقة تستر جسمه الهزيل ، وكان منظر هذه المرأ يجسد البؤس والفاقة في أجلى مظاهرهما ، وهي تدور على الجالسين تستدر عطفهم ليجودوا عليها ببعض النقود... وعندما لاحظت نقاء أنها تتقدم نحوها سارعت إلى فتح حقيبتها لتخرج منها ما تعطيه لهذه المسكينة قبل أن تسأل منها ذلك ، وأخرجت منها بضع دراهم وهي على عجل وارتباك ، فقد أثر عليها منظر تلك المنكودة


( 146 )

ومدت إليها يدها بالمال ، وأشاعت هذه البادرة من نقاء الغبطة على وجه المرأة المسكينة ورفعت رأسها إلى السماء وكأنها تدعو لنقاء ، ثم تركتها لتكمل دورتها في أنحاء الحديقة. وأطرقت نقاء برأسها وهي تفكر في البؤس الذي كان يشمل هذه الأم المنكودة ، ولكنها انتبهت من إطراقتها على صوت رجل يقول :
ـ كم أنت كريمة يا انسة ؟ هل كانت هذه البائسة تستحق أكثر من بضعة قروش ؟‍‍!.
فاستدارت نحو الصوت لترى محمود ... وأفزعها أن يكوه هذا الرجل قد لاحقها إلى هناك .. وعلت وجهها صفرة باهتة ولأول مرة شعرت بالخوف ، فقد كانت تعلل لقاءه لها في المنتزه بمجرد مصادفة ، ولكن الآن ... وتلفتت حولها كأنها تريد أن تستنجد بأحد .. ولكنها اطمأنت إلى حد ما .. حينما رأت أن الحديقة مليئة بالرواد وإنها ليست وحدها أمام هذا الملحاح ... فانتفضت واقفة وقالت بصوت قوي لثقتها بنفسها :
ـ أما احتفظت بنصيحتك لنفسك ، وهلاً عرفت أنك تتطفل بأسلوب رخيص ؟!
وهنا صمم محمود أن يخرج من التلميح إلى التصريح ، وأن ينهي هذه المناورات المملة ، فقد أعياه التردد والشك ، فقال :


( 147 )

ـ أنا لا أتطفل مطلقاً ، وإنما أنا في الواقع ...
وأراد أن يقول : « أساوم » ، ولكن نظرات نقاء الملتهبة منعته من إتمام جملته ، فردد قائلاً :
ـ في الواقع ... في الواقع ...
فصاحت به نقاء قائلة :
ـ إذاً فماذا تسمي فضولك هذا يا رجل ؟ أنت رجل غريب لا أعرف عنك حتى اسمك ... فكيف تسمح لنفسك أن تتدخل في شؤوني الخاصة ؟!.
ـ ولكني ... أعرف ...
ومرة أخرى لم يستطع أن يكمل جملته ، فقد كان ينوي أن يقول : لكني أعرف عنك كل شيء ... ولكن منظر نقاء وهي في ثورتها تلك ، جعلته لا يجرؤ على التصريح ، فسكت أيضاً ... واحست نقاء أن عليها أن لا تدع هذا الرجل قبل أن تلقنه درساً لا ينساه ، فصرخت به قائلة :
ـ ما لك لا تستطيع أن تتكلم ؟ أو ليس المال قادراً أن يطلق عقدة لسانك ؟! الويل لك من الدرك الذي أنزلك المال إليه ... ارجع إلى نفسك ، وانقذها قبل فوات الأوان ، فلعل هناك في صميم روحك نقطة من خير .. حاول أن تنحي بريق الذهب من أمامك عينيك ، لترى الحياة الحرة الشريفة كيف تكون ...


( 148 )

فخفض محمود رأسه وقال : 0
ـ أنا مستعد لتحقيق جميع شروطك وإنجاز كل رغباتك ، فإن ثروتي تفوق ثروات الآخرين بمراتب ...
وصعقت نقاء لهذه الكلمات ، ولم يسعها إلا أن تصرخ فيه :
ـ يا لك من رجل ... مع من تظن أنك تتكلم ؟ وأي فكرة شيطانية أوحت إليك بذلك ؟ كنت آمل في إصلاحك أول الأمر ، أما الآن فإنك لست أهلاً للاصلاح ، فاذهب إلى حيث يقودك شيطانك ، ولكن شخص طريقك جيداً بعد الآن ، وفي المرات اللاحقة ، فوربي لولا هذه المسكينة التي أرى خاتم خطوبتها حول أصبعك لسلمتك الآن إلى أيدي الشرطة ، ولكن تلك المسكينة ما ذنبها إذا كان زوجها أحد ذئاب البشر !! ولهذا فأنا لا أريد أن أسبب لها فضيحة ...
وتهدج صوت نقاء فلم تستطع أن تتكلم أكثر من ذلك ، فاستدارت ، وتوجهت نحو باب الخروج.
أما محمود فقد غير مجلسه وجلس في الطرف الآخر من الحديقة ، ولكنه لاحظ أن المرأة المنكودة التي كانت تستعطي قد توقفت قليلاً أمام الكرسي الذي كانت تجلس عليه نقاء ، ثم انحنت والتقطت شيئاً من الأرض وأخفته في قبضة يدها ، فرأى أن الفرصة قد واتته للاحتكاك بنقاء مرة أخرى ، نهض


( 149 )

من مجلسه نحو المرأة المسكينة وهو يصرخ فيها قائلاً :
ـ دعي ما أخذتيه يا سارقة.
وحاولت المسكينة أن تفر ، ولكن صوت محمود كان قد جميع حولها جميعاً من الناس ، وفتح محمود يدها عنوة ليجد فيها قرطاً من الماس الثمين ، فالتفت الساقي وهو يقول :
ـ إسرع باستدعاء الانسة التي كانت تجلس هناك ، فإن هذا القرط يعود إليها بلا شك.
واسرع الساقي لاستدعاء نقاء ، فجاءت لترى المرأة المنكودة وقد احيطت بعشرات من الناس وهم يوزعون عليها الشتائم والسباب ويحاولون أخذها إلى مركز الشرطة ، واتجهت نظرات المرأة المسكينة نحو نقاء ، وهي تعلم أن القرط يعود إليها ، ولذلك فقد قرأت نقاء في نظراتها معنى الاسترحام والخوف والاستعطاف ، وكانت المنكودة ترتعد كريشة في مهب الريح ، حتى أنها لم تعد تتمكن من إمساك طفلها ، فتعلق بعنقها وهو يضج بالبكاء ، فتساءلت نقاء : ما الخبر ؟... فارتفعت الأصوات وهي تردد : إنها سارقة ، سرقت قرطك الماسي . فتقدمت نقاء نحو المرأة ، وكانت لا تزال متمسكة بالقرط في قبضة يدها ، فأمسكت بيدها في لطف وقالت بنغمة عذبة رقيقة :
ـ أريني القرط يا أختاه.


( 150 )

ولم يسع المرأة أن تمتع أمام لهجة نقاء العاطفية ففتحت يدها وألقت نظرة على القرط ثم رفعت رأسها وقالت :
ـ إنه كان قرطي ولكني أعطيته لها ، فهي ليست سارقة أبداً.
فظهرت علامات الدهشة على المجتمعين . وكانت يد المرأة المسكينة لا تزال مفتوحة وفيها أحد القرطين ، فعادت نقاء وأطبقت يدها على القرط وقالت :
ـ إنه ملكك يا اختاه ، فتعالي واخرجي من الحديقة.
فتهاوت المسكينة على أقدام نقاء تريد أن تبللها بدموع الندم والشكر ، ولكن نقاء أنهضتها وهي تقول :
ـ قومي يا اختاه ، أنا لم أقم إلا بأقل الواجب ، لم يكن لدي ما أقدمه لك فقدمت قرطي ، هيا واتركي المحل يا اختاه.
ثم أخذت بيدها وجرتها نحو الباب ، والجميع يتابعونها بنظرات الاستغراب.
أما محمود فقد تبعها بنفسه ، وهو لا يكاد يصدق ما رآه ، وفي خارج الحديقة أبصر نقاء تجر المرأة المسكينة إلى ركن في الشارع ، وتخرج القرط الثاني من حقيبتها وتقدمه لها ، وهي تتكلم بكلام لم يتمكن أن يسمعه ، ولكنه رأى ابتسامة ملائكية كانت تلوح على وجه نقاء وهي تفعل ذلك ، ثم


( 150 )

رآها تهز يد المرأة مصافحة قبل أن تستقل « الامانة »... وذهل محمود وكاد يظن أنه في حلم ، فهو لا يصدق أن فتاة تعرض نفسها للمساومة ، تقف هذا الموقف النبيل ، وإن المرأة التي تتصيد المال تتنازل عن قرطيها الماسيين بهذه السهولة وبدافع من الرحمة.
واستقل سيارته وهو غارق في خضم الأفكار ، وكانت أفكاره مشوشة مختلطة ، وفي البيت أغلق عليه باب غرفته لكي لا يكدر تفكيره أحد ، وأخذ يراجع تصرفات نقاء ويستعيد كلماتها وعباراتها ويتمثل لهجتها الصادقة وأسلوبها الواضح المستقيم ، وتذكر نظراتها النارية وصوتها المتهدج ... ولم يسعه بعد ذلك إلا أن يعترف بأن هذه امور لا يمكن أن تكون مصطنعة أو مزيفة ، ولابد أن يكون قد وقع هو نفسه في خطأ فظيع...
ولم يتمكن محمود أن يصرف فكره عن حادثة القرط ، فقد قلبت هذه الحادثة مفاهيمه ، وفتحت أمامه آفاقاً جديدة لم يكن يعرفها أو يعترف بوجودها أيضاً ... وشعر أن في الحياة معان سامية كانت خافية عليه ... وإن في هذه المعاني روعة لا متناهية ، تفوق جميع ما صادفه في حياته من روائع مصطنعة وأحس بالوضاعة وهو يتمثل موقفه من الفتاة ، وهو يحشو كلماته الجوفاء بذكر الثروة والمال ، في الوقت الذي لا يهمها فيه أن تتنازل عن قرطيها الماسيين في سبيل التستر على امرأة


( 152 )

فقيرة منكودة ، وتذكر الابتسامة الملائكية التي كانت مطبوعة على وجهها وهي تسلم القرط الثاني ... فردد يحدث نفسه قائلاً : حقاً لست أنا غير رجل تافه في الحياة ... ما أحلى أن يشعر الانسان بشعور الخير ، ويحس بلذة عمل المعروف ... فهو لم يكن يظن قبل الآن أن لأمثال هذه الفتاة وجوداً واقعياً ، كان يعتقد أن الخير والفضيلة ليس لهما وجود إلا في أذهان المفكرين ... وليست سوى مفاهيم خيالية لا يمكن لها أن تظهر إلى حيز الوجود...

السابق || الفصول || التالي