مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الفضيلة تنتصر

الفصل الحادي والعشرون

رجعت نقاء إلى البيت وهي تشعر براحة نفسية ، وتحس أنها قد أدت واجبها الديني والأدبي تجاه ذلك الرجل ، وفي تلك الليلة كتبت إلى إبراهيم تفصيل الحادث وموقفها من الرجل الغريب ، وجاءها الجواب من إبراهيم وكان يمتدح فيه موقفها الشريف الواضح ، وقد كتب لها قائلاً : « ألم أقل لك أنك تتمكنين أن تجاهدي يا نقاء ! ألم أقل لك أن الجهاد ليس وقفاً على الحروب فقط ؟ فامضى في جهادك يا عزيزتي ! مكللة بالغار ، مجللة بأبراد العفة والفضيلة ... » وزاد هذا الجواب ثقة نقاء بنفسها ، واطمئنانها إلى سلوكها.
وفي مرة خرجت من البيت ، قاصدة زيارة خالة إبراهيم ، فقد كانت تكثر من التردد عليها في أيام غيبة إبراهيم. ووصلت نقاء إلى باب الدار وقرعت الجرس مراراً دون أن يرد عليها أحد ، واستغربت أن تكون خالتها قد خرجت من الدار وهي لا تخرج إلا لماماً ، فانتظرت لحظة ثم أعادت قرع الجرس ، وفي هذه المرة سمعت صوت حركة في الداخل ، وفي


( 166 )

اللحظة التي كانت تفتح فيها الباب ، برزت من جانب الشارع سيارة محمود ، ولكن نقاء لم تنتبه لذلك وأسرعت إلى الدخول ، أما محمود فقد أبصر بها لأول وهلة وصمم على أن لا يبرح الشارع ، حتى تخرج مرة أخرى ، سواء كان هذا بيتها أو كانت زائرة فيه ، وأطالت نقاء جلوسها هناك ، وفي تمام الساعة الثانية عشرة انصرفت من بيت خالتها ووقفت على رصيف الشارع تنتظر سيارة تقلها إلى البيت وفجأة وقفت أمامها . سيارة نزل منها محمود ، وراعها التغير الذي طرأ على هذا الرجل ، فقد كان يرتدي بلدة زرقاء غامقة لا يزينها أي شيء وشعره مردوداً إلى الوراء ببساطة ، كما أن الخصلات التي كانت تتدلى على جبينه قد اختفت ... وتأخرت نقاء خطوات ... ولكن محمود قال بصوت هاديء رصين :
ـ عفوك يا سيدتي ! إذا كنت قد أزعجتك برؤيتي ، لا تظني أني سوف أحاول أن أدعوك إلى الركوب معي في سيارتي ، أو أعرض عليك إيصالك إلى البيت ، أبداً... لن أقوم بشيء من هذا ، فأنا أعلم أنك سوف لن تلوثي طهرك بمصاحبتي ... ولكن أريد أن أحدثك فقط ...
وأسعد نقاء أن تجد هذا الرجل المغرور المتغطرس الذي لم يكن يتكلم إلا عن الثروة والمال وقد عاد إنساناً مهذباً ينطق صوته عن الصدق والاخلاص ، واحتارت ماذا تفعل... ولم تر بداً من أن تقول :


( 167 )

ـ وأي حديث تريد أن تحدثني به يا سيدي ؟!.
فتردد محمود لحظة ثم أجاب :
ـ أنا أخطأت التعبير ، فأنا لا أريد أن أتحدث .. ولكن أريد أن استمع ، فقد كان لكلماتك الماضية أعظم الأثر في روحي وفكري . نعم ، روحي التي وجدتها أخيراً.
ـ وعلى أي حال وجدت روحك يا سيدي ... أي شيء كانت تدعوك إليه ؟
ـ إلى الخير والصلاح ، والى انتشالي من حضيض الرذيلة وتجنيبي خطر الانحراف .
ـ ألم أقل لك أن روحك خيرة ؟... وأنك كنت تظلمها في الماضي.
ـ ليتني أكون على ثقة من ذلك.
ـ إن هذه المشاعر التي تحسها هي الدليل على ذلك.
وبدا وجه محمود وكأنه وجه طالب يؤدي الامتحان لأول مرة ، وتردد مدة ثم تمتم قائلاً :
ـ ولكنني ضائع لا محالة ...
ـ ولماذا تظن ذلك وتفكر فيه ؟! أنت الآن أبعد ما تكون عن الضياع ... فأنت منذ الآن موجود كما لم توجد من قبل ، إن حياتك الواقعية ابتدأت منذ وقعت على حقيقة روحك بين


( 168 )

مختلف التيارات ، أنت لم تكن لتحيا في الواقع من قبل ، ولكن أموالك هي التي كانت تحيا وتحييك معها ، أما الآن فسوف تحيا أنت لا لتحيا الثروة وتعيش لتتصرف فيها لا تتصرف هي فيك ، أنت واقف على أبواب الحياة الواقعية لا الحياة المزيفة الضائعة.
وهنا مرت سيارة « الأمانة » فحاولت نقاء أن تركب فيها ولكن محمود توسل إليها قائلاً :
ـ لا ، ليس الآن .. لا زلت أطلب المزيد ، أنا بعيد العهد عن الحياة الحرة الكريمة ، غريق بمهاوي الضلال والفساد وأخشى أن لا تهبني هذه الكلمات القصار ، الصمود الكافي الذي أحتاجه في هذا الصراع.
قرأت نقاء أن عليها أن تجيبه إلى طلبه ، وإلا فستكون هي المتجنية عليه فقالت :
ـ أنت الآن قد اتجهت إلى الخير وتطلعت إلى أفق الكمال ، فما عليك إلا أن تقرأ الكتب المهذبة للروح والفكر والعقيدة.
ـ أرشديني إليها فأنا لا أعرف عن الكتب والكتّاب شيئاً ؟.
فأخذت نقاء تعدُّ له أسماء بعض الكتب ، وأرشدته إلى تتبع نتاج بعض الكتاب ، وظنت أن مهمتها قد انتهت ولكنه


( 169 )

قال :
ـ ألا يمكن لي أن أعرف من يكون ملاكي الهادي لك أفزع نحوه عند كل مشكلة ؟ فحياتي معقدة مليئة بالمشاكل والآلام ولن أتمكن أن أسيرها كما أريد بسهولة.
فضحكت نقاء ضحكة قصيرة ثم هزت رأسها وهي تقول :
ـ أما هذا فلا...
ـ ولكن ...
ـ ولكن ماذا ؟!.
ـ اقصد أن شعوري نحوك لا يتعدى شعور الغريق نحو المنقذ ، والمريض نحو الطبيب ، أنا أنظر اليك كاشعاعة من رحمة أشرقت على جنبات روحي ، فهلا أرشدتيني إلى مطلع ذلك النور ؟
ومرة أخرى هزت رأسها بإصرار وقالت :
ـ لا ، إن هذا لن يكون ...
ـ ولماذا ؟!
ـ لأني لا أستقبل في بيتي رجالاً أجانب.
ـ أنا واثق من هذا ، ولكن عندي ما أقوله لك...


( 170 )

ـ أي شيء مثلاً ؟.
ـ مشاكلي الخاصة لا تتسع لنقلها وقفة على جانب الطريق.
ـ أنا آسفة ، ولكن ما في اليد حيلة.
ـ وأخيراً ؟.
ـ لا شيء...
ـ إذن فما الذي عليّ أن أعمل ؟.
ـ إقرأ الكتب التي دللتك عليها ، فإن فيها أكبر غذاء روحي ، يغنيك عن كل شيء.
وفي هذه اللحظة مرت « الأمانة » فركبت فيها متوجهة نحو البيت ... ووقف محمود يتابع سيارتها بنظره حتى اختفت في منعطف الطريق ، وعجب لنفسه كيف لم يحاول اللحاق بها في سيارته ليتعرف على بيتها ويعرف من تكون ، ولكن عاملاً غريباً منعه من ذلك وتساءل في حيرة : هل هذا الذي يعبر عنه بالشهامة أو الكرامة ؟.
وعلى كل حال فقد استقل سيارته ، وتوجه إلى سوق الكتب وحرص على أن يشتري كل كتاب ذكرته له نقاء ، ومؤلفات الكتاب الذين عددت أسماءهم ... ورجع إلى البيت وهو محمل بأنواع الكتب ... ورأته سعاد من نافذتها


( 171 )

وهو يدخل الدار ، وقد حمل في كاتا يديه لفافات ثقال ، وفكرت ما عسى أن تكون هذه اللفافات ؟... وخطر لها كل شيء عدا الكتب . وكانت قد لاحظت على زوجها تغييراً كلياً في الأيام الأخيرة ، وركوناً إلى العزلة والانفراد ، فلم يشهد ضمن هذه المدة أي احتفال ، بل ولم يذهب إلى أي مسرح من المسارح ، وكان دائم التفكير ، طويل الشرود ، ولم تتمكن سعاد أن تفهم لذلك سبباً ، فهي حتى ولو افترضت أن محمود قد فشل في محاولاته مع نقاء ... لم تكن ترى أن فشله يستوجب منه هذا التغيير الفجائي ، فطالما فشل في غزواته الغرامية من قبل ، وخطر لها أنه عاشق ... ولعل التي يعشقها هي نقاء . ولكنها عادت فاستبعدت أن يعشق محمود وهي تعهده سطحياً في جميع الأمور ...
وفي مرة استدعت سنية وكانت الأخيرة قد نحلت وظهر على وجهها شحوب باهت ، وسر سعاد أن تراها كذلك ، وهي التي طالما أشعلت في فؤادها نار الحقد والغيرة وصممت سعاد على أن تصارح سنية بكل شيء فقالت :
ـ لقد دعوتك يا سنية لكي أكون معك صريحة فصارحيني أنت أيضاً ولا تخفي عني شيئاً...
ـ وبماذا أصارحك يا سيدتي؟!.
ـ إن سيدك منذ أسابيع وحاله ليس على مايرام...
ـ من أي ناحية ؟


( 172 )

ـ أنا لا أحب منك التغابي... أنا أعلم موقفك من محمود وموقفه منك ، وأنت تعلمين أيضاً أنه زوجي ولي الحق في تتبع أحواله.
ـ تماماً كما تقولين يا سيدتي.
ـ طيب ... الآن أعود إلى كلامي الأول... ألم تلاحظي على محمود تغيراً في هذه الأسابيع ؟
ـ وكيف لا وقد تغير سيدي كثيراً.
ـ وما عساه يكون السبب ؟..
ـ .....
ـ أجيبي يا سنية ! فأنا لن أفوه أمام محمود بحرف واحد مما ستقولين ، اطمئني من هذه الناحية ، فليس من مصلحتي في شيء أن أخبره بأني كنت أتجسس عليه ، والآن ألا تعلمين من أمره شيئاً ؟.
ـ إذا أردت الحقيقة يا سيدتي ! فقد صادف ورأيت سيدي ...
وقطعت سعاد كلامها قائلة :
ـ عدت مرة أخرى إلى كلمات المداهنة ، لا تقولي صادف ، أنا أعرف أنك كنت تتابعين خطواته وتتجسسين عليه.


( 173 )

ـ نعم وقد رأيته في صحبة فتاة في إحدى المنتزهات ..
وهنا تحفزت سعاد وقالت :
ـ ما شكل هذه الفتاة ؟
ـ الواقع أني لم أصدق عيني حينما رأيتهما يا سيدتي ! فقد كانت فتاة وقوراً بريئة المظهر محتشمه الملبس ولكن...
ـ ولكن ماذا ؟
ـ عدت فرأيته معها ثانية وكانت تحدثه وهي مستندة إلى جذع شجرة وهو واقف أمامها يستمع.
ـ ألم تسمعي ما كانت تقول ؟.
ـ ومن أين لي أن أسمع وأنا خارج أسوار الحديقة... وفي مرة أخرى ...
وسكتت سنية ، لكن سعاد استحثتها على الكلام قائلة :
ـ وماذا في مرة أخرى ؟!.
ـ رأيته واقفاً معها على رصيف الشارع ، وكانت سيارته إلى جواره تنتظر...
وهل ركبت معه السيارة ؟
ـ لا أدري وإن كنت لا أشك في ذلك ، فقد خشيت أن أتأخر فيلحظني سيدي.


( 174 )

وأطرقت سعاد تفكر ، ثم رفعت رأسها وقالت :
ـ شكراً لك يا سنية ! والآن انصرفي واخبريني عن كل ما يجد في الأمر.
وشعرت سعاد بلذة الانتقام ، ونسيت كل شيء سوى فوزها بالتنكيل بإبراهيم . وظنت أن ساعة الانتقام منه قد دنت ، وما عليها إلا أن تزور إبراهيم بعد رجوعه لتهنئه بالعروس التي اختارها دون باقي الفتيات ، وتتلذذ بمرآه وقد جلله العار وحطمته خيانة نقاء ، ورأت أن الوقت لم يحن بعد لاسترداد محمود فلتدعه لنقاء مؤقتاً حتى يرجع إبراهيم ، فهي واثقة من جره إليها في أي حين وعليها هي أيضاً أن تلتفت نحو صلاح قبل أن يفلت من يدها نهائياً ، فقد كانت قد أهملته منذ الحفلة الأخيرة لانشغالها بالمهندس الشاب.


( 175 )

الفصل الثاني والعشرون

عكف محمود على مطالعة الكتب التي اشتراها ، وكانت تفتح أمامه أبواباً كثيرة من المعرفة والثقافة الدينية والروحية ، وتنقله إلى عالم أوسع يحلق فيه بروحه سعيداً نشواناً ، ولم يكن ييأس من لقاء ملاكه الهادي مرة أخرى ، فهو يقضي جل أوقاته بين المنتزه والحدائق ، وكتابه معه أينما ذهب .. وفعلاً فقد صادفها في أحد الأيام وهي جالسة في ركنها القصي تطالع كعادتها دائماً ، فتقدم نحوها بخطى ثابتة وحيّاها بصوت هاديء ، فعرفت نقاء صوته فرفعت رأسها وردت تحيته باحترام فقال لها :
ـ أتسمح لي سيدتي بالجلوس على مقعد قريب لمحادثتها ؟
ـ ولم يسع نقاء إلا أن تقول :
ـ لك ذلك.
فجلس محمود وقال :


( 176 )

ـ أنا لا أريد أن أضيع هذه الدقائق عبثاً . لقد قرأت جل الكتب التي أرشدتيني إليها.
ـ بارك الله فيك ، كيف أنت بعد قراءتها ؟.
ـ أرى نفسي وكأني ولدت من جديد ، فقد تبدلت جميع مفاهيمي عن الحياة ... نعم لقد ولدت من جديد !.
ـ فلا تفكر إذن بعد اليوم في ماضيك ، واحرص على أن تحصر فكرك في مستقبلك وحياتك الجديدة.
ـ أنا أحاول أن انتزع نفسي من ماضيي ، وقد توصلت إلى كثير من ذلك ولكن...
ـ ولكن ماذا ؟.
ـ ولكن صاحبة هذا الخاتم الذي يطوق أصبعي ، والتي منعتك مرة دون أن تسلميني إلى يد البوليس هي التي تحول بيني وبين نسيان الماضي.
ـ آه !...
ـ نعم ، فحاضرها مرآة ماضيي.
ـ ألا يمكن أن تقوم هي أيضاً ؟
ـ مطلقاً فقد بعد بها الطريق ، ولم تتورع عن ارتكاب أي شيء.


( 177 )

ـ حتى ... أقصد حتى...
ـ دعيني أقول ما تريدين قوله ، نعم حتى الخيانة الزوجية !
ـ آه!...
ـ إنها كالفراشة تنتقل إلى حيث شاءت ومتى رغبت.
ـ إلى هذا الحد !؟.
ـ نعم وأكثر...
ـ ولماذا لاتحاول التخلص منها ؟
وسكت محمود برهة ثم قال :
ـ لأني أحبها يا أخية ، وحبي لها هو الذي جعلني أمسك عليها طيلة هذه المدة.
ـ أنت غلطان يا أخي ، فأنت لا تحب زوجتك هذه أبداً ؟!
ـ وكيف ؟!
ـ إنك لو كنت تحبها حقاً ، لما أمكنك أن تسمح لها بتلك الأعمال ، ولكن شعورك نحوها ليس شعور حب ، بل أنه مجرد نزوة جسدية وشعور بالضعف أمام سلطانها عليك ، فأنت تحب دارك مثلاً ، فهل يمكنك أن تدع واحداً غريباً عنك لا يمت


( 178 )

لك بصلة يسكنها وإياك ؟ وأنت تحب ثروتك ولا ريب ، فهل ترضى أن يشاركك فيها أحد ؟ أنت لا تحبها مطلقاً.
ـ فتش في نفسك عن الحب ، لترى أن الشعور الذي يشدك نحو هذه الزوجة هو أبعد ما يكون عنه ، فالحب لا يقوم مع الخيانة ، ولا يدوم في جو الرذيلة ، لأنه شيء مقدس لا يعمر إلا في القلوب الطاهرة والأرواح البريئة ، أنك لو طالعت نفسك لرأيت كيف أنك تمقتها بدلاً من أن تحبها وتتمنى الفرار منها ، وتؤثر البعد عنها للخلاص من سيطرتها على جسدك وتسخيرها لنزواتك.
ـ أنا أخشاها دائماً...
ـ إن هذا أحسن دليل يدلك على أنك غلطان في تقدير عواطفك نحوها ، فالمحب لا يخشى حبيبه ولا يخافه ، ولكن الخاضع يخشى من أخضعه ، والضعيف يخشى القوي ، كنت ضعيفاً أمامها قبل الآن ، أما الآن فإنك انت القوي وهي الضعيفة ، فإن قوة الشرف والايمان هي أسمى قوة في الانسان ، وأنت الآن مؤمن وشريف . فحاول أن تتخلص من أحابيلها ، راجع نفسك مرة أخرى لترى صدق ما أقول.
ـ أنا على يقين من أني لن أتمكن من أن أنزع الماضي ما دمت خاضعاً لسلطان هذه المرأة.


( 179 )

ـ فتحرر من سلطانها إذن
ـ سوف أحاول ذلك مهما استطعت.
ـ حاول أولاً أن تصلحها ، فإذا فشلت فلا تدعها تلوث حياتك الحرة الشريفة...
ـ إن إصلاحها متعذر ، فهي قد استحالت إلى مجموعة من آثام وخطايا...
ـ إن المحاولة لن تخسرك شيئاً على كل حال ، فإذا عجزت حدد موقفك منها.
ـ فسكت محمود ، ثم قال بصوت خافت :
ـ هل لي أن أوجه إليك سؤالاً واحداً ؟
ـ تفضل ... إسأل...
ـ لقد رأيتك مرة في المطار بصحبة رجل كهل ؟.
ـ نعم ، أنت تقصد يوم سفر إبراهيم ، لقد كان أبي معي هناك وهو رجل كهل كما رأيت.
ـ ابوك ؟!.
ـ نعم ، أبي.
ـ ومن عساه إبراهيم هذا الذي كان له سعادة مشايعتك ؟!.


( 180 )

فعلت حمرة الخفر والحياء وجه نقاء وهي تقول :
ـ إنه زوجي...
ـ ولم يظهر محمود أي خيبة وارتباك ، فهو لم يكن يشعر نحو نقاء غير شعور الأخوة والاعجاب ، ولكنه ود لو عرف زوجها ، ومن يكون فتساءل :
ـ هلا زدتيني إيضاحاً بشخصية إبراهيم ؟
ـ وما الذي يعنيك من ذلك يا أخي !؟
ـ أرجو أن لا تحملي سؤال محمل الفضول...
ـ أنا أعلم أن غايتك من السؤال نبيلة ، والاستطلاع إذا كان بداع النبل لا يعد فضولاً أو تطفلاً.
ولم يشأ محمود أن يتابع هذا الموضوع لئلا يغضب محدثته ، أو يسيء اليها . فسكت برهة ثم قال وكأنه يحدث نفسه :
ـ ليتني أتمكن أن أدفن الماضي في سجل النسيان ، ولكني لن استطيع ذلك ما دامت تلك موجودة.
ـ أنت الآن رجل مستقيم ، لك أفكارك الواضحة وشخصيتك الثابتة ، فتصرف بما يمليه عليك ضميرك ، وبما تدعو إليه روحك.
وعند ذلك نهضت نقاء وقالت :


( 181 )

ـ أنت لم تعد تحتاج إلى أحد ، فإن عندك من الكتب رصيداً يغنيك عن كل شيء ، ولكن فاتني أن أقول لك : إذا أردت أن تطالع قصة ، فاقرأ قصة « البؤساء » لفكتور هوجو ، فهي مدرسة إنسانية رائعة.
ولم يسع محمود إلا أن ينهض احتراماً لها ، فودعته وانصرفت ، وفي هذه المرة لم تحدثه نفسه أن يتبعها أو يتعقبها ، فقد كان يشعر أن ذلك بعيد كل البعد عن الأخلاق الفاضلة...

السابق || الفصول || التالي