دخلت سعاد غرفتها وهي تشعر بانهيار شديد ، فهي
تخشى أن تكون نقاء قد لاحظت عليها شيئاً من ارتباك ، أو
قرأت على ملامحها ما كان يعتلج في صدرها من انفعالات
وهي تتردد في النظر إلى صورة إبراهيم ، ثم وهي تنظرها أخيراً ...
وألقت بنفسها على السرير ، وأطلقت لفكرها العنان ،
فكرت في أنها غامرت بذهابها إلى نقاء... فماذا لو كان
إبراهيم قد رجع من سفرته القصيرة ؟ وماذا لو كان قد
صادفها هناك ؟ أو ماذا لو كانت نقاء قد لاحظت عليها ما
يريب ؟ وذلك يعني أنها لا تتمكن أن تحقق غايتها في الانتقام
على الوجه الذي تريد ، فهي قد سحقت كبرياءها ولم تظهر
الغيظ من عودة نقاء وعدم انتظارها عند الخياطة مع أنها لم
تتأخر كثيراً ، لكي لا تخاصم نقاء ، والخصام معها يعني
ابتعادها عنها ، وهي لا تريد أن تبتعد عنها في هذه الظروف ،
حتى تنتهي من مؤامراتها الانتقامية ، فهي لا تريد أن تترك
نقاء إلا بعد أن تسمم ذهنها بالأفكار التي تعتنقها هي ، والتي
( 58 )
تعلم واثقة أنها أفكار ضالة موبؤة لا تجلب لصاحبها غير
الخسران والحرمان ، كانت تريد أن تلقي بينهما نفس السد
الذي حال بينها وبين إبراهيم . وأرقت ليلتها وهي تفكر...
ولم تخرج في تلك الليلة على خلاف عادتها في باقي الليالي ،
وأفاقت في الصباح فاستحمت وارتدت ملابسها ، ثم
استدعت خادمتها الخاصة سنية ، وجاءت سنية وهي امرأة
شابة لا تتجاوز العقد الثالث من عمرها ، ولا تخلو من لمحة
جمال ، وكانت المساحيق والأدهان تعلو وجهها بوفرة ، وقد
صففت شعرها على أحدث طريقة ، فحيت سيدتها ووقفت
تنتظر ، فصعدت سعادة نظرها فيها وتأملت أناقتها ، ثم سألتها :
ـ هل إتصل بي أحد في التلفون يا سنية ؟!.
ـ إن سيدي لم يخرج لحد الآن ، ولذلك فهو يرد على كل نداء.
ـ وأمس عصراً حينما لم أكن في البيت ألم يطلبني أحد ؟
ـ كان سيدى في غرفته وكان التلفون معه أيضاً ؟
ـ أو لم يخرج سيدك أمس أيضاً ؟
ـ لا ...
ـ وليلاً يا سنية هل خرج سيدك ؟
ـ لا ، لم يخرج مطلقاً.
ـ لعله مريض...
( 59 )
ـ لا أدري.
ـ أو لم يزره أحد يا سنية.
ـ أبداً.
ـ هل أنت على يقين من ذلك ؟
ـ ثقي يا سيدتي إني لا أتجسس على سيدي مطلقاً.
ـ ومتى كلفتك أن تتجسسي عليه .. انصرفي الآن.
واستدارت سنية لتخرج ، ولكن سعاد استوقفتها قائلة :
ـ سينة ...! أنا لا أحب منك هذا الافراط في
الأناقة ... إن من يراك يظن أنك في حفلة ساهرة ، إذهبي
وصففي شعرك بطريقة أقل إثارة ، وخففي من مكياجك الصارخ...
ـ ولماذا يا سيدتي ؟ أو لست حرة بالتصرف في شعري ووجهي.
ـ هل رأيت قبل الآن من تعمل تسريحة كتسريحتك هذه ؟
وتعمل مكياجاً صارخاً مثل هذا المكياج في الصبح وفي رابعة النهار ؟
ـ إنك ـ أنت ـ يا سيدتي تذهبين كل صباح إلى محلات
التجميل قبل أن تبدأي جولتك النهارية !!
ـ أنا سيدة متزوجة والمجتمع يحتم على ذلك.
ـ لم يتفق لسيدي أن رآك مرة وأنت على زينتك يا سيدتي
( 60 )
إلا في بعض الحفلات ، فهو لا يصل إليك إلا بعد أن تكوني
قد أنهكك التعب وأعيتك الأناقة ...!
ـ أنت لا تفهمين ما تقولين يا سنية ! كيف تجرئين على
مخاطبتي بهذه اللهجة ؟ هل أنت سوى مجرد خادمة يمكنني
طردك في كل ساعة ؟
ـ أحقاً أنك تستطيعين طردي في أي ساعة يا سيدتي ؟!
ـ نعم أو لست سيدة البيت ؟
ـ فلماذا لا تطردينني إذا يا سيدتي ؟
ـ أنت تغيظينني كثيراً يا سنية !
ـ أبداً لا أتعمد إغاظتك يا سيدتي ، ولكن أقول أنك
تستطيعين أن تطرديني بسهولة.
ـ أغربي عن وجهي يا سنية ! كفاك هذراً ووقاحة ، فأنا لا
استطيع أن أنظر إليك أكثر من هذا.
ـ أنت مخيرة في ذلك ، ولكن أنا أحرص دائماً أن أنظر
إليك كما نظرت من قبل . ورانت على وجه سعاد صفرة
باهتة ، وقدحت عيناها بشرر مخيف ، ولكنها جاهدت نفسها
لكي لا تصفع هذه الماثلة أمامها بكل صفاقة ، والمتحدية لها
بأسلوب لاذع ، فهي كانت تعلم أنها مشدودة إلى سنية بحبل
شائك لا فكاك لها منه ولا خلاص ، ولذلك فقد حاولت أن
تسيطر على أعصابها ورققت صوتها وأجابت قائلة : أنت
( 61 )
تعلمين أنك أثيرة لدي يا سنية ، ولكني اليوم ضيقة الصدر ،
وأردت أن أنفس عني قليلاً.
ـ أنا على ثقة من ذلك يا سيدتي ! ولكن أردت أن أنبهك
إلى بعض الظروف فقط ، والآن هل تسمحين لي بالانصراف ؟
ـ طبعاً طبعاً فقد أخرتك كثيراً يا سنية ! وخرجت سنية
وهي تتمايل في مشيتها وتتهادى وتابعتها سعاد بعينين تقدحان
شرراً وحقداً ، وتمتمت قائلة : يا لها من أفعى سامة تستغل ما
تعلمه عني لاهانتي والتنكيل بي ، ولكني جبانة فما الذي أخشاه
منها ؟ وماذا عساها أن تقول ! وأي فضيحة سوف تعلنها لو
طردتها شر طردة ! لماذا أخاف ! وأي شيء أخشى ، والمجتمع
الذي أعيشه يؤكد على إعطاء الحرية الكاملة للمرأة ، وأن
المرأة والرجل متساويان في استعمال حريتهما العامة ...؟!
نعم ، لماذا أخاف سنية ! وعند من تنوي أن تفضحني ! وجميع
من حولي قد أثقلت كواهلهم الآثام ، وزخرت حياتهم
بالخطايا والزلات ، نعم لست أخشى أحداً غير محمود ، فهو
لا يزال يجهل واقعي الذي أعيشه ، وقد دفعته إلى ما يلهيه
عن كل شيء ، وسنية قادرة على إثارته لو أرادت ، ومحمود
يعني عندي الشيء الكثير ، فهو الثراء والغنى ، وهو المال
الذي يخضع له كل شيء ، ولا يقف أمامه شيء ، ولذلك
فإن عليّ أن أوطن نفسي على تحمل هذه العقرب اللعينة ، إنها
تتحداني بكلماتها ، وقد عرفت ما كانت تعنيه ، ولم يعتكف
( 62 )
محمود في البيت إلا لأجلها ، وهي كانت تحاول أن تفهمني
ذلك بكل صفاقة ، ولكني مشدودة إليها على كل حال ، ليتني
كنت قد صرفتها من البيت مع سفر محمود ، إنها كانت غلطتي
في الواقع ، ولكنها إنتهت على كل حال ، والان فإن عليّ أن
أذهب إلى غرفة محمود...
ونهضت متثاقلة ، والتفت بردائها الحريري. وذهبت إلى
غرفة محمود ، ولم تشأ أن تطرق عليه الباب ، فقد أرادت أن
تفاجئه لترى الحالة التي هو عليها ، ففتحت باب الغرفة ،
وتطلعت إلى الداخل لترى محمود جالساً يستمع إلى أنغام
الموسيقى ، وهو في كمال حيويته ونشاطه ، فدخلت إلى الغرفة
وهي تقول : ما شاء الله كنت أظنك مريضاً يا محمود ! ولكنك
في أتم الصحة والحمد لله ، وابتسم محمود ابتسامة تهكمية ،
ثم قال : أنا اليوم على أحسن حال يا سعاد ... ! فما الذي
أوحى إليك إني مريض ؟.
ـ عدم خروجك من البيت اليوم وأمس ، على خلاف
عادتك في باقي الأيام !.
ـ وما يدريك يا عزيزتي بأني كنت أخرج في كل يوم ،
فأنت تخرجين قبل كل خارج وتعودين بعد كل عائد !.
ـ وهل من المعقول أن تقضي أيامك كلها في البيت ؟
ـ إن الليالي تكفيني يا سعاد.
( 63 )
ـ أنت تتحداني بكلامك هذا يا محمود !
ـ أبداً يا عزيزتي ، ولكني منذ أيام أشعر برغبة ملحة
للبقاء في البيت.
ـ وبأي شيء تقضي أوقاتك يا محمود ؟
ـ أطالع الكتب وأستمع إلى الأخبار.
ـ عظيم ، متى أصبحت هكذا يا عزيزتي ؟ بل أين لك
الكتب التي تطالعها ؟ وهل هناك خبر عالمي يهتم به شخصك
الكريم ؟!.
ـ أنت تتجنين عليّ يا عزيزتي ! فأنا لست من الغباء
بالمقدار الذي تظنين.
ـ الآن صارحني بالحقيقة يا محمود ، ما الذي قعد بك
أمس عن الخروج ؟
ـ لقد قلت لك يا عزيزتي ، إني منذ أيام لم أخرج طول
النهار من البيت غالباً ...
ـ ولماذا ؟!.
ـ لدي شؤون مهمة يتحتم عليّ قضاءها هنا يا سعاد !
ـ وهل أن شؤونك المهمة مقصور قضاؤها على البيت ؟
ـ نعم نعم بالضبط.
ـ أتعلم يا محمود بأنك تغيظني كثيراً ..!
( 64 )
ـ ولماذا يا سعاد ؟. هل أن بقائي في البيت يغيظك إلى
هذا الحد ؟!.
ـ طبعاً ، فأنا أفهم ما تعنيه من بقائك في البيت هذه
الأيام ، ولكن أريد منك أن تكون صريحاً على طول الخط ...
ـ وهل كنت صريحة معي عندما امتنعت من السفر
برفقتي إلى حلب في الشهر الماضي ؟..
وهل قدمت لي حجة معقولة تقضي بتخلفك عنى في
دمشق وبقاؤك وحدك هنا لمدة أسبوع ؟
وتجهم وجه سعاد وهي تستمع إلى زوجها يتحدث ، ثم
قالت : أنت تنتقم مني إذن يا محمود ؟
ـ وهل كان موقفك ذاك حركة عدائية لكي تعتبريني في
دور الانتقام ؟ لا ، أنا لا أنتقم ولكني هكذا كنت ، وهكذا
سأكون ... أخرج متى يحلو لي ، وأبقى في البيت متى أريد ،
إنه بيتي أنا يا سعاد ! لعلك نسيت ذلك.
ـ ولكن سنية وصيفتي أنا يا محمود..
ـ ولكن راتبها مني يا سعاد ! وأنا سيدها الواقعي.
ـ أنا أتمكن أن أطردها وأحرمك منها متى أشاء.
ـ أبداً أنت لن تفعلي ذلك ، وأنت تعلمين ذلك جيداً.
ـ ماذا تقصد يا محمود ؟
ـ لا شيء لا شيء مطلقاً .. فقط إني أقصد أن نضع بيننا هدنة.
( 65 )
ـ آه أتساوم يا محمود !
ـ لك أن تسميها ما شئت يا عزيزتي ! مساومة ، هدنة ،
تعادل قوى ، فرص متكافئة ، أنت حرة في التسمية كما أنت
حرة في كل شيء.
ـ أنت تسحق أعصابي سحقاً يا محمود ..!
ـ وأعصابي يا سعاد ؟!
ـ إنها من حديد...
ـ ولكنك تتمكنين أن تحطمي الحديد يا سعاد !
ـ هل حقاً أنا قوية إلى هذا الحد ؟!
ـ وأكثر بكثير...
ـ إذن فنحن متكافئان ...
ـ لا بل أنك أنت المتقدمة في الصراع ، فما أنا إلا نتاج
يديك في هذا الضمار.
ـ من دواعي فخري أن أكون كذلك.
ـ فافتخري إذن يا سعاد ! والآن أي ريح طيبة دفعتك
إلى غرفتي يا عزيزتي.
ـ أنا لا أصدق أن الحب ساقك إليّ فهل أنت في حاجة إلى
مال ؟ أنت لم تدخلي غرفتي منذ زمن طويل ، فاشرحي لي
الأسباب التي دعتك إلى هذه الزيارة.
وهنا أردفت سعاد في دلال قائلة : غير المرغوب فيها
طبعاً.
ـ بل الزيارة التي تقت إليها كثيراً.
( 66 )
ـ هل أنك لا تزال ترغب في زيارتي يا محمود ؟
ـ أو تشكين في ذلك يا سعاد ! إن حبي لك هو الذي
حملني على الصبر عليك طيلة هذه المدة على أمل أن تمني عليّ
بنظرة ، أو تعطفي بلفتة ، وأنا أصارحك ! أني تعيس بهذا
الحب ، ولست سعيداً به أبداً ، ولكني أحبك يا سعاد ، ولا
أطيق عنك فكاكاً ، وشعرت سعاد أن عليها أن تلبس لبوس
الرقة والدماثة ، وأن تحاول أن تستبقي مكانتها في قلب
محمود ، وإن كانت تزدريه وتنفر منه ، ولكن سلطان المال كان
عندها أقوى من كل عاطفة ، وقد حطمت الحضارة الكاذبة
كبرياءها وجردتها من عزتها الأنثوية ، ولذلك فقد صممت
على أن تسعى لاستمرار سيطرتها على محمود ، وإن كانت
غريمتها الحالية خادمتها سنية ، فهي لا تستطيع أن تعيش يوماً
وأحداً بدون أموال محمود ، فطبعت على وجهها ابتسامتها
الكاذبة التي كانت تتمكن أن تطبعها حيث تريد ولمن تريد.
ـ ورققت صوتها ، وأسبغت عليه نغمة عذبة حنوناً ، وقالت
في دلال : أنت تظلمني يا محمود ! فإن عندي من الحب
أضعاف ما عندك يا عزيزي ، ولكن مشاغل الحياة هي التي
تحول بيني وبين الارتواء من معين حبك الغالي ... وأسكرت
هذه النغمة محمود ، وأنسته جميع خيانات زوجته ، وأنسته
ايضاً رفيقاته وصديقاته وسنية وغيرها من النساء ، ولم يعد
يشعر إلا بسعاد وهي تكلمه بنغمة طال به الشوق إليها
( 67 )
وعادت به هذه الكلمات إلى أيام خطوبته منها وقت أن كانت
تسكب في أذنيه أعذب آيات الغرام ، ففتح ذراعية لها وهو يقول :
ـ أنا لا أزال رهن هواك يا سعاد ! فلا غنى لي في حياتي
عنك أبداً ، وجاهدت سعاد كثيراً قبل أن تستجيب لذراعيه ،
وهي تشعر بحالة تقزز ونفور ، ولكن هو المال والثروة قد ذهبا
بعزتها لأنها تعبد المال وتتغنى بالثروة...