مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

ليتني كنت اعلم


فتراجع فؤاد إلى الوراء وبدت عليه علامات النفور وهو يقول :
مع حجابك ؟ تحضرين وأنت محجبة ؟ كلا أنني لا أريد أن أكون سخرية للجميع ، كلا أن هذا لن يكون أبداً يا بيداء ، أعدي لنا المائدة واخرجي من البيت فإن ذلك أصلح لكي اعتذر عنك ببعض الأعذار.
فطاش عقل بيداء وهي تستمع إلى كلمات الاهانة هذه ونهضت من مكانها لتقول :
إذن فلأترك البيت منذ الآن يا فؤاد.
قال :
والضيوف ؟
قالت :
تتمكن أن تدعوهم إلى النادي.
قال :
وأنت متى تعودين ؟
فأجابت بانفعال قائلة :


( 311 )

لعلني لن أعود.
عند ذلك القى فؤاد بأقسى سهم لديه فقال :
وولدي الذي معك كيف سوف يكون مصيره ؟
وكانت هذه الكلمات كفيلة لأن تشد بيداء إلى واقعها المرير وإلى أنها قد زجت نفسها في دوامة ليس من السهل اجتيازها ... فتهادت وهي تردد : آه ما كان أغباني وأصدقك يا آسية ؟ وسمعها فؤاد فقال في تهكمية ساخرة :
آه أنت تذكرين آسية الفتاة المتعجرفة المعقدة تلك التي ما تقدمت لخطبتها إلا لكي اذل كبريائها وأسحق شموخها الديني وهنا أنت تذكرينها فماذا أجدتك نصائحها ومثلها يا بيداء ؟ ها أنت مهددة بخراب حياتك الزوجية وفشل وضعك العائلي نتيجة آسية العتيقة.
فانتفضت بيداء وقالت :
كلا أنا لا أسمح لك بالنيل من آسية لو كنت قد استجبت لنصائحها ومثلها لكنت في راحة ولكن الذنب ذنبي وعلي أن أتحمل أوزار ما عملت.


( 312 )

كانت آسية جالسة وهي تفكر في بيداء بعد مرور سنتين من زواجها فهي تسمع عنها الكثير مما يؤلم ومما تصدق بعضه ولا تكاد تصدق البعض الآخر فقد سمعت أنها وبعد صراع طويل ومرير بدأت تتحلل من حجابها وتخرج مع زوجها للنوادي والحفلات وسمعت أنها رزقت بولد اسمه فريد وسمعت أيضاً أنها دائمة الوجوم لا تكاد الابتسامة تبدو على شفتيها ، سمعت هذا وسمعت غير هذا وهي في كل ذلك مصدقة تارة ومكذبة أخرى ، وفي صبيحة ذلك اليوم كانت تفكر بها وتتمنى لو عرفت عنها شيئاً يوضح لها حقيقة ما تسمع فرن في أذنها جرس الباب فهرعت إليه بشكل لا اختياري وإذا بها تجد أمامها بيداء ! نعم بيداء بلحمها ودمها لولا شحوب هائل كان يلون وجهها بشكل واضح فرحبت بها وقادتها إلى الغرفة وهي تترقب أنباء سيئة من وراء هذه الزيارة الغير مترقبة وجلست بيداء وهي ساكنة وكأنها لاتعرف كيف تبدأ الحديث فقالت آسية :
لكم كان يهمني أن أراك يا بيداء فإن أخبارك كانت تصلني باهتة وكنتُ احب أن أسمعها منك مباشرة.
وهنا اندفعت بيداء تبكي في مرارة وهي تقول :


( 313 )

وهل لدي أخبار سوى العار والدمار يا آسية ؟ أو هل أنا سوى ضحية من ضحايا الطيش والغرور ؟ وماذ يهمك من أخباري بعد أن تهاويت إلى هذا الدرك أنا لم أعد جديرة بصداقتك يا آسية إنني إنسانة بائسة يائسة فليرحمني الله...
فتأثرت آسية لحال بيداء وقالت في حنان :
ولكنك أُختي على كل حال من الأحوال وعلي أن أنصرك ظالمة أو مظلومة ، حدثيني بما لديك وكوني معي صريحة كما كنت من قبل.
قالت :
نعم سوف أحدثك بكل شيء ، أنت تعلمين أنني قد خالفت مشورتك واندفعت وراء وهم كاذب. وحاولت أن أقاوم وأكابر فجاهدت أن أجرّه إليّ ففشلت ، بذلتُ المستحيل لكي أُرضيه بوضعي ففشلت . بدأ يسحق روحياتي بقساوة . وأخذ يعمل على اذلالي بضراوة... فتارة يخدعني برقته وتارة


( 314 )

يخيفني في شدته ، فكرت أن أنفصل عنه فعجزت لانه كان لدي جنين منه يشدني إلى بيته وأخيراً أتعبتني المقاومة وأرهقني الصراع ، فاستسلمت له متخاذلة وانقدت إلى ما يطلب مجبورة مقهورة ، فتمادى في مطالبه الجاحفة واستغل ضعفي لكي يجرني إلى الحضيض ، نعم إلى الحضيض. وسرت وراءه كما يسير المحكوم إلى ساحة الاعدام ومع ذلك ومع كل هذا فها أنا ذي كما ترين !!.
ولم يسع آسية أن تدخل معها في لوم أو تأنيب وهي على هذا الوضع اليائس المنهار فتماسكت وهي تقول :
ومع هذا فماذا بك الآن ؟
قالت :
لقد طلقني قبل أسبوع بعد أن مات ابني واتهمني أنني أنا التي تسببت بموته ؟
قالت :
أنتِ تسببت بموته وكيف ؟
قالت :


( 315 )

لأني صمت شهر رمضان !.
قالت آسية :
وهل أن صومك أدى إلى موت ابنك جوعاً يا بيداء ؟
قالت :
كلا فهو لم يكن يقتصر على حليبي يا آسية أنه أصيب بعارض وقد أدى ذلك إلى موته ...
وأشفقت آسية على هذه الانسانة المسكينة المطعونة في كرامتها ودينها المصابة بوليدها وصغيرها أشفقت عليها حتى انهمرت من عينيها الدموع .. واردفت بيداء قائلة :
وهكذا ترين أنني فقدت كل شيء وخسرت كل أحد...
فنهضت آسية اليها لتمسح على رأسها وتقبلها في عطف قائلة :
كلا أنك لم تخسري كل شيء فإن الدين ما زال يدعوك لكي تعودي إليه عن طريق التوبة وأنا مازلت أفتح لك قلبي ليحتضنك من جديد والمستقبل أمامك


( 316 )

واسع طويل ولعل هذه التجربة سوف تبني لك مستقبلاً صالحاً قائماً على أسس ثابتة مكينة فلا تدع اليأس يأخذ طريقه نحوك يا بيداء فأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

* * *

أختي الغالية وفاء :
يا منار فكري وعماد روحي لا عدمتك ألف سلام وألف تحية يا عزيزتي وصادق إخائي ودعائي.
ها أنا ذي أكتب إليك يا أختاه بعد أن راحت أنامل الليل تمسح برفق خيوط الألم التي حاكتها متاعب النهار ، وبدأ كل شيء هادئاً حالماً وعاد الصمت يعزف برفق لحن السعادة الخفي الذي انبثق من الأعماق ينساب انسياباً هادئاً فيشيع في النفس رضى ما كانت تجد إليه سبيلاً ، ويبعث في الروح فيضاً غامراً من النشوة ما عهدته يوماً ... وأعجب من ليل كيف استحال ظلامه الداكن إلى اشراقة من نور أرى على ضوئه معالم طريق جديد ، وأعجب


( 317 )

للكلام كيف استحالت قسوته إلى رقة فباتت تمسح عن القلب بعض جراحه ، إنه الايمان يا اختاه ، وانه الاطمئنان إلى رحمة الله يا وفاء...
وينبعث من الأعماق نداء هو كالنسيم في رقته والماء في عذوبته والسماء في صفائها والزهور في روعتها. ولكنه نافذ واضح ملك الجوارح كلها فانقادت إليه انقياد الأسير إلى سجانه وتطلعت نحوه تطلع الطفل إلى صدر اُمه فألقت عند ساحته رحلها وأرست عند شاطئه شفتيها ، وأنصت للنداء وأنا أسمع في تموجات لحنه قصة المولد الجديد... أتراك عرفت يا وفاء طبيعة هذا النداء وحدود هذا الميلاد إنه نداء الايمان وإنه رجع الآية المباركة التي تقول : ( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان * أن آمنوا بربكم فآمنا ).
ولهذا ، فقد عرفت بأنني بدأت أحيا من جديد بعد أن ولدت من جديد وبعد أن كان القلب يسبح في دياجير حالكة من العذاب نسجته لي الأيام فأحكمت


( 318 )

نسيجه وكانت الروح ترسف في قيود قاهرة تشدها إلى الواقع المرير سلاسل قاسية ، وكان الفكر ميداناً لصراع مرير قاتل يتخبط فيه خبط عشواء فلا يكاد يرى شيئاً فيتيه ببيداء بعيدة الأطراف ويلفه الضياع... وامتد الظلام عبر سني حياتي يصبغها باللون القاتم فيحيل كل شيء إلى ظلام ، فكنت لا أرى إلا من خلال منظار أسود قاتم كئيب... وازداد تلاطم الأمواج وعصف الرياح وأوشكت سفينة حياتي أن تتهاوى إلى القاع حطاماً. ولكن عين الله الرحيمة الساهرة كانت ترى القارب الضعيف وهو يصارع الأمواج وتقلبه يد القدر القاسية...فمن خلال الدموع وتضارب الأمواج وصخب الريح امتدت إلى الغريق أنامل رقيقة ليد حانية هي أناملك يا وفاء أرسلتها إلى عين عناية الله لتمسح عن الفؤاد المرهق أتعابه وعن النفس المعذبة اشجانها وعن الروح القلقة حيرتها ، وقادت الفريق برفق وحنان إلى شاطىء السعادة والحياة ... وتقهقرت فلول الكلام أمام


( 319 )

إشاعات النور واشرق الفجر يؤذن بمولد يوم جديد لحياة جيدة ورفعت يدي إلى أعلى أهمس بكلمات لا يدرك معناها إلا من انطلقت إليه تلك المناجاة وكأنني كنت أزف إلى خالقي نبأ المولد الجديد وأعاهده على المضي قدماً في طريق مصدره منه ومنتهاه إليه .. ثم عدت لكي أسجل لك نبأ المولد الجديد أيضاً فقد ولدت بفضل من الله وبهدي منك يا وفاء بعد أن عرفت منك معنى السعادة والشقاء في الحياة.
أدامك الله أختاً هادية واسلمي لي دائماً وأبداً.

رجاء

عزيزتي رجاء لا عدمتك
علم الله كم كنت أشعر بالسعادة وأنا أتابع سطورك وهي تبرز أمام عيني داخل إطار جديد ووسط هالة يبعث نورها الأمل ويحكي شعاعها عن المولد


( 320 )

الجديد... نعم سعدت فيها كما يسعد اللاعب وهو يربح الجولة الأولى التي تتبعها جولات ... ولكن أية لعبة هذه ؟ أنها لعبة الحياة عندما تحاول أن تتلاعب بالعواطف والألوان التي تصبغ بها الحوادث. ولهذا فأنني عندما أربح الجولة إنما أتقدم خطوة لانتشال واحدة كادت أن تصبح إحدى ضحايا الحياة بواقعها المرير... رائعة هي سطورك التي أملتها عليك روح الايمان يا أختاه ولكن كان بودي لو استبدلت بجملة ( انقياد الأسير إلى سبحانه ) بجملة أخرى تكون أكثر اشراقاً وأنطق بالسعادة والرضا بهذا الانقياد ... وأخيراً فإلى الأمام وإلى مزيد الشعور بنعمة الايمان. أجعلي آمالك مركزة في كلمة صالحة وسطور هادية ، احصري اهتمامك في العمل من أجل الله وفي سبيل الله حبي لله واكرهي لله ، واسخطي من أجل الله ، وافرحي فيما يرضي الله فما خاب من اتجه إليه وتوكل عليه . ثم دعيني اسمع عنك ما يفرحني


( 321 )

ويسعدني يا رجاء واستودعك الله الذي لا يخون الودائع.

وفاء

أختي الغالية وفاء
سلام الله عليك يا هداي ورحمته وبركاته وسلامي وإخائي وودادي وبعد...
لا أدري أية حيرة هذه التي تتملكني فلا أكاد أتبين من أمري شيئاً ؟ لا أريد أن أقول أنني عدلت عما وصلت إليه من سعادة الروح وهناء الفكر . ولا أقول أنني كنت في نزوة من السعادة المؤمنة فلا زلت أشعر بها ولا زلت أحيا بها حياتي الوليدة بفجرها الوليد ولكنني لا زلت أتألم ولا زلت لا أعرف مصدر هذا الألم. قد تسألين لماذا ؟ ولكنني لا أملك إلا جواباً واحداً وهو لست أدري !! أفتراني ما زلت أعيش حياة ما قبل الايمان ؟ ساعديني على اجتياز هذه المرحلة الحرجة يا وفاء. يا هداي كثيرون هم الذين مروا في حياتي وحاولوا أن يغيروا نظرتي للحياة ولكن


( 322 )

فكري ما استجاب لهم يوماً ونفسي ما ارتضت لهم قولاً... أما أنت فيكفيك يا غاليتي أن أقول أنك أنت الوحيدة التي محوت تلك النظرة القاتمة ومزقت ظلالها الداكنة... ولكن أما آن الأوان لأن تقوضي صرح الألم الذي قام على أنقاض راحتي وأمني... ساعديني يا وفاء ، حدثيني إن استطعت فلكم أجد في حديثك الأمن الذي أفتقده في حياتي ، لانه حديث الإيمان ، وأحاديثه الخلاقة المعطاء. نعم حدثيني وأنيري في نفسي مشاعر الهدى أكثر فربما تستطيع أن تمسح عن هذه الروح بعض عذابها وأخيراً أرجو أن لا أكون قد أتعبتك بآلامي يا أعز أُخت واسلمي لي دائماً.

رجاء

رجاء يا عزيزتي الغالية لا عدمتك...
سلام الله عليك ورحمته وبركاته وصدق سلامي ودعائي وبعد...
إن الألم يا أُختاه ما هو إلا عاطفة موهومة


( 323 )

سيما إذا كان لا يرتكز على قاعدة واضحة أو ينتسب إلى ناحية معينة... إن في وسع أي شخص أن يمحو سطور الألم من قاموس حياته إذا نظر إلى مصدره بعين الواقع... والحقيقة ... إن الألم غير الواعي والمدروس لا ينتج إلا تتابع الألم ولا يجر على صاحبه غير الحط المتصل من الآلام ، إن آلام الحياة يا عزيزتي قاسية متحفزة تفتش أبداً عن صدر تعشش فيه وتنشب في حناياه أنيابها الحادة ، فدافعي عن نفسك أمام هذا الوافد الثقيل وحصني صدرك عن أن يكون مرتعاً لهذا المتطفل البغيض ... عالجي أحداث الحياة ببساطة ساعديني على استنقاذ روحك العزيزة من الأعاصير التي تعصف بها فإن من الحيف أن تستلمي لحكم هذه الأعاصير فتبتعد بك عن رحاب الله وتشغلك عن العبادة الخالصة المعطاء ، ومن الحيف أيضاً أن تصلي إلى نبع الهداية ثم تعيدك عنه ريح عاصفة قبل الورود. واخيراً وليس آخراً أستودعك الله متمنية لك مزيداً من الصمود أمام الأهواء فما


( 324 )

أنت إلا خلال فترة انتقال وفي حاجة إلى مزيد من الثبات والاعداد وأتمنى لك الموفقية دائماً وأبداً يا أُختاه واستودعك الله.

وفاء
أُختاه يا شقيقة الروح لا عدمتك ...
كيف أنت يا عزيزتي ؟ أرجو أن تكوني بخير وسلامة وعافية في الدين والدنيا.
ليتني أنسى كلمة الألم يا وفاء ، وليتني أنسى حروفها بأسرها ، ليتني أغفو على حلم جميل فأصحو عازمة على تحقيقه جادة في المضي فيه راسمة البسمة الصادقة المنبثقة من الأعماق لا المرسومة قسراً على الشفاه. أفتعلمين أي حلم هو هذا الذي أتمناه يا وفاء ؟ إنه السعادة في ظلال الايمان وإنه رفض الألم المتبقى من حياة الضيعة والحيرة ، كم أتمنى أيتها العزيزة أن تختفي تلك الكلمة من قاموس حياتي فلا أعود أجد معناها الذي كنتُ أفرضه قسراً على نفسي لكي أنطلق في حياتي بلا قيد اسمه


( 325 )

الألم وبلا سراب يصوره الألم ، وبلا عذاب يرسمه الألم ، لقد بدأت يدك الحانية ـ وبأمر من الله تعالى ـ تكسر القيد وبدأ قلبك يمنح من فيض رحمته ما يمزق ظلال العذاب ، وبدأت أنتِ بكل شيء يتمثل فيك ترسمين الطريق فتمهديه بالنور وتعبديه بالهدى وتفرشين جوانبه زهوراً من الأمل يكاد عبيرها ينفذ إلى الأعماق فيمسح عنها كل ظل داكن ، إنه الأمل برضاء الله ورضوانه وهل هناك ما هو أروع من هذا الأمل ؟ ولكن أتراها فترة انتقال حقاً يا أُختاه ؟ ولكن من أين وإلى أين ؟ إنها ليست من ظلال إلى هدى ومن شك إلى يقين فقط ، بل إنها من الشقاء إلى السعادة ومن الظلام إلى النور ومن اليأس إلى الأمل ومن الألم إلى المنطق اللانهائي إلى الله إلى الدين الذي أبذل له نفسي رخيصة دون ثمن.
وها أنا ذي أرفع يدي إلى الله طالبة منه العزيمة والثبات وأنا في حاجة إلى مزيد من الدعاء واسلمي لي.

رجاء



( 326 )

عزيزتي رجاء لا عدمتك
إسمحي لي أن أقول لكِ مع مزيد من العتاب ، أين كلماتك المشرقة بشعاع ينطلق من ومضات الهدى ؟ أين تلك المعاني المتلألأة في كتاباتك وهي ناطقة عن البشارة بميلاد جديد ؟ أين روح التفاؤل التي بدأت أجدها تنطلق من بين سطورك لتحدثني عن خطوات نجاحك في مغالبة الآلام ، دعيني أقول لك وبصراحة بأنني شعرت بالخيبة ، وليس أقسى على الانسان من أن يرى أملاً يذوي بين يديه بعد أن علق عليه الكثير ، وكان هذا أمري معك يا رجاء . أنت ما زلتِ تتحدثين عن الألم ولكن أي ألم هو هذا الذي يبقيه نور الايمان إذا اشرق على جنبات القلوب ؟ إن عليك أن تتحدثي عن السعادة التي تطرق بابك رغم أنك في تجاهل لتلك الطرقات ، فما أسعد الروح يا اختاه وهي تنفض عنها آلامها لترتفع إلى الملأ الأعلى نقية طاهرة وما أسعد الروح وهي تشرف على عالم خالد خلود الأزل كله رفعة


( 327 )

وسمواً وجلالاً . ما أسعد الروح وهي تبني على انقاض آلامها قلعة للأيمان لا تدك أسوارها مهما عزل الزمان.
أُختاه ، ها أنا أنظر إليك اليوم لا كما كنتُ أنظر سابقاً ، كنتُ أحبك لقلبك أما اليوم فأنا أحبك لروحك ، روحك التي أحس بها ترتفع عن الدنيا لتكتمل بنور القدس ، روحك التي عانت آلام الدنيا لتتعلق برجاء عظيم جليل هو غاية كل نفس وأمل كل روح ذلك هو رضاء الله تعالى وتلك هي الجنة ، ارفعي يديك إلى الله عز وجل كل حين واسأليه مزيداً من الايمان ومزيداً من التقوى والهدى ، إسأليه الرحمة والعون فأنه مجيب ، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فله الحمد وله الشكر ، أكثري من قراءة القرآن الكريم فهو أعظم راحة للنفس وأعظم دواء للروح وأكبر مطهر من الآثام أعبدي الله بقلب خاشع فأنا نعوذ بالله من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ، أذكريه في الليل ( ومن الليل فاسجد له وسبحهُ ليلاً طويلا ) فإلى


( 328 )

الأمام يا عزيزتي وحاولي أن تتخلصي من شوائب الألم في حياتك لتنطلقي سعيدة محبورة في رحاب الله ، وها أنا أنتظر منك ما يفرحني ويسعدني من أجلك ويرفع عني آثار الخيبة من جديد واسلمي لي واستودعك الله.

وفاء

غاليتي وفاء ألف سلام وألف تحية ومزيد الوداد والاعتذار ،

وبعد ،
لا أدري ماذا أكتب ؟ وإنما الانسان الذي كان يتمنى الموت كل لحظة أصبح يرغب في الحياة ، لا لأجل الحياة ذاتها وإنما لأجل غاية مثلى أصبح يسعى لتحقيقها ويهفو لبلوغ الغاية القصوى فيها ألا وهي عبادة الله ... فمن هذا المنطلق بت لا أكترث بالحياة مهما تجنت وبالمصاعب مهما تفاقمت ، وهل الحياة بآلامها وصعابها إلا ذرة تسبح في هذا الكون اللانهائي ؟ شعور بالرضى يغمرني أينما حللت ، الرضى


( 329 )

بكل شيء بالواقع الأليم والمستقبل الغامض ، رضىً تطمئن إليه نفسي فأجد عنده السلوى والعزاء ، علمتُ أن عجلة الحياة دائرة حزنتُ أم سعدت وعرفت أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء وهي ما اكترثت يوماً لدمعة محزون وما التفتت لابتسامة سعيد ، فلم نطالبها بأكثر مما تملك وبأكثر ما باستطاعتها أن تهب ، ولهذا عدت إلى الأمل أحكي له قصة القلب السعيد فلم تعد آمالي من رمال بعد أن بدأت أبني من جديد ولكن بركائز من الايمان ودعائم من اليقين ... سوف لن أسمح للألم مهما كان أن يقعد بي في صومعة الأحزان فأنا أريد أن انطلق صاعدة إلى عالم الطهر والايمان ، نعم أنني اريد الحياة الدنيا لأجل أن ابني خلالها دعائم السعادة في الحياة الثانية ، وأخيراً وليس آخراً أتمنى أن يتقبلن الايمان في رحابه العامرة وأرجو أن لا تنسيني من الدعاء يا وفاء واسلمي لي.

رجاء


( 330 )

عزيزتي رجاء يا أختي الغالية

لكِ مني أصدق الاخاء والوفاء وأجمل التحيات والدعوات والآن... دعيني لكي أقول الحمد لله ، نعم ، الحمد لله فإن هذا ما كنت أتمناه. أن يكون الانسان الذي طالما تمنى الموت أصبح يرغب بالحياة هذا ما كنتُ أتمناه مهما كانت الأسباب التي تدفعه إلى ذلك ما دامت صالحة ومثمرة ، وهذا ما كنت أهفو إليه أن أجد روحك يغمرها شعور الرضى بكل ما حولك من أسباب الحياة ، صحيح أن الحياة قد تقسو أحياناً ولكن هذه هي طبيعتها فلنسلم بالأمر الواقع ونحاول أن نكيف أنفسنا بشكل نتمكن معه من الصمود أمام قساوتها مهما كانت مرة... ستكون سطورك هذه شاهدة لك يوم القيامة في أنك استجبت لنداء الايمان.

( ربنا إننا سمعنا مُنادياً ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ) وما أسعدني بهذا القلب السعيد الذي انطلق نحو رحاب الله بعزم شديد ووعي جديد تاركاً خلفه


( 331 )

حياة المادة ودنياه اللعوب. فتقبلي فائق دعائي وصادق إخائي وأستودعك الله الذي لا يخون الودائع.

وفاء

أختي الغالية وفاء لا عدمتك
في حياة مصدر هداية ومشكاة نور يا اختي سأكون قوية.. سأكون أقوى من الألم وأقوى من الحيرة... سأُبيد الألم وأسلوه من دون شوق ، سأفارقه دون رجعة بعد أن اشتد ساعدي بسلاح الايمان سأهدم صرح الألم الشامخ ذاك الذي أقمته على أنقاض راحتي وسعادتي ، لقد صحوت من بعد غفلة ، صحوت لكي أنطلق في مسيرة النور نحو العفو الإلهي ، نعم نحوك يا إلهي ، فما أروع رحمتك حين يتحسسها العباد وما أهون الصعاب في سبيلك يا رب وما أروع العذاب من أجلك ما أيسر العسير في طريقك وما أحلى المر في الوصول إليك ، هانت يا إليهي دمعة لا تذرف إلا من أجلك وبعدت يا مناي


( 332 )

غاية لا تؤول إليك ، إلهي أن تظافرت في حياتي طرق الشقاء فإن لي في طريقي إليك سعادة لا تدرك وإن أطبقت علي سماء الدنيا فإن لي في ذكرك أُفقاً أرحب وأوسع إلهي ما أروع أن أسعى اليك فأحجب عنك فتنطلق إليك روحي من قيود أسرها وتهرب إليك نفسي من ثقل حديدها إلهي ما عدت أرغب إلا في رضاك ولا أطمع إلا في عفوك ولا أسعى إلا إلى فنائك.. إلهي. ما الدنيا إلا ساعة شوق إلى لقائك وما الحياة إلا ممر درب إلى فنائك ، وما العمر إلا لحظات كفاح من أجلك وفي سبيلك ، فاجعل حياتي يا رب كلمة رضا واجعل أعمالي يا إلهي ساعة جهاد واجعل روحي يا سيدي خفقة أمل ورجاء ترنو إلى عفوك وتشتاق إلى رفدك وتحن إلى رضاك.
إلهي ما باتت الصعاب تقربني إلا اليك وما برح العذاب يشدني إلى إلى الأمل بك ، وما طفقت الدموع تنطلق إلا في سبيلك لعلك رب ترضى ؟ فما أحوجني إلى رضاك واخيراً وليس آخراً استودعك


( 333 )

الله يا أختي ولك مني مزيد الشكر ومن الله الثواب والأجر واسلمي لي.

رجاء

عزيزتي رجاء سلامي ودعائي وصادق ودي وإخائي
بروحي أنت ما أغلاك عندي وما أروع بلورة روحك الحبيبة وما أروعك يا غاليتي وأنت في حديثك عن الرجاء في الله تبارك وتعالى ، هذا الرجاء الذي يمكن الانسان أن يقف باسماً وسط الدموع ويجعله يضحك بين الآهات ، أنه رجاء برضاء الله وثوابه أن هذا الرجاء إذا نور جنبات قلب الانسان جعل وجهه يشرق بشعاع الأمل وهو في معترك الوحدة والوحشة ، وإن هذا الرجاء هو الذي يساعد الانسان المؤمن أن يفتح صدره للآلام برحابة وأن يمهد قلبه لمرامي السهام برضا واقتناع وليس عن طريق اليأس والاستسلام ، وان هذا الرجاء هو الذي يحيل مرارة الحياة لدى المؤمن إلى حلاوة وعلقمها إلى بلسم وشدتها إلى لين ودعة وقساوتها إلى رحمة


( 334 )

وحنان ، وان هذا الرجاء هو الصفة التي يتصف بها المؤمن كما وصفه الامام ( عليه السلام ) عندما قال : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى. فما أصعب الحياة عند من لم يتطلع إلى مصدر هذا الرجاء وما أوعر مسالكها بالنسبة لمن لم يمهد له هذا الرجاء منعطفاتها ( سبحانك ما أوحش الطرق على من لم تكن دليله ) فالايمان يا اختاه جنة وارفة الظلال يلجأ إليها الانسان هرباً من سموم الحياة وقيظها. الايمان هو ذلك المنبع العذب الذي يمدنا بالنور والسعادة والنعيم والايمان هو ذلك المعين الذي لا ينضب أبداً والذي يبقى للانسان زاداً في الدنيا وذخراً في الآخرة ، سيري في طريقك يا اخيتي واطرقي بيدك الضعيفة باب الرحمة الالهية. واستودعك الله واسلمي لي.

وفاء

أختي الغالية وفاء لا عدمتك
سلام الله عليك ورحمته وبركاته ... كيف


( 335 )

أنت يا أعز أخت أرجو أن تكوني بخير... منذ مدة لم أكتب اليك يا عزيزتي وما كنت في ذلك قالية ولا ساهية ولكن الكلمات كانت تعوضني عن السطور وما زلت والحمد لله رافلة في سعاد الايمان ولكنني أشعر بالحاجة إلى مزيد من الاطمئنان. فأنا أخشى أن لا يقبلني الله عز وجل في عبيده ؟ نعم أنني أخشى أن يطردني عن رحابه ؟ لشد ما يقلقني هذا يا أُختاه افتراك مجيبة عنه ولو بكلمات... هذا واسلمي لي دائماً وأبداً أُختاً رحيمة هادية.

رجاء

غاليتي رجاء يا أُختي المصطفاة
حرسك الله بعينه التي لا تنام ، وبعد
متى كان الله عز وجل يطرد عن بابه من طرق تلك الباب بيد الثقة والرجاء ؟ ومتى كان الله عز وجل يصرف عن رحابه قلوباً ساقها الشوق إليه وقادتها العبودية المطلقة إلى التطلع نحو فيض حنانه والتماس


( 336 )

غفرانه ؟ نعم كيف يكون ذلك والحديث الشريف يقول ـ من تقدم نحو الله خطوة تقدم الله نحوه عشر خطوات والآية المباركة تقول : ( من جاء بالحسنة فلهُ عشرُ امثالها ) حاشا لله أن يتجاهل النغمات التي صاغها الايمان لترتفع إليه نقية خالصة متبلورة... هذا وإليك مني أصدق الاخاء والدعاء واستودعك الله الذي لا يخون الودائع واسلمي.

وفاء

السابق || الفصول

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها