مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

لقاء في المستشفى

فأردفت ورقاء تقول : وقد تحدثت معي في موضوع خاص .
وهنا نظرت الجدة نحوها باهتمام وقالت : موضوع خاص وما هو ؟
قالت ورقاء في تلعثم : أنه موضوع خطبة .
قالت الجدة في شبه حدة : وما أنت وذاك ؟
قالت : انه أمر يخص أخاها يا جدتي .
فأجابت الجدة بنفس الشدة القائلة : وما هي علاقتك بأخيها ؟
فاستغربت ورقاء هذه الشدة من جدتها وقالت : أنها كانت تعرض عليّ خطبتي لأخيها يا جدتي .
وهنا ظهر الرعب على وجه الجدة وقالت : وبماذا أجبت يا ورقاء ؟
فارتبكت ورقاء وقالت : لقد ارجأت الأمر إلى ما بعد مشورتك يا جدتي .
فأدارت الجدة وجهها نحو الجدار وهي تقول : كلا أن هذا أمر لا ينبغي أن يكون أبداً ، أنه غير ممكن يا ورقاء ...
فانتفضت ورقاء انتفاضة ألم وقالت : لماذا يا جدتي ؟ فسكتت الجدة ولم تجب .


( 131 )

فألحت عليها قائلة : لماذا تقولين لي أن هذا شيء غير ممكن ؟ ولكن الجدة بقيت معتصمة بالصمت .
فأردفت ورقاء تقول : أرجوك يا جدتي أن تشرحي لي السبب لأنني مقتنعة بالموضوع اقتناعاً كاملاً .
ولكن الجدة استمرت ساكتة لا تجيب . فعادت ورقاء تقول : لماذا لا توضحي لي الأمر يا جدتي ؟ فلعلك مخطئة في تشخصيك هذا ؟
وهنا هزت الجدة رأسها في اصرار وهي تقول : كلا فأنني لست مخطئة وأنا أعرف ماذا أقول يا ورقاء ، وها أنا أقول لك من جديد أن تنصرفي عن التفكير في هذا لأنه لا يمكن أن يتم . ولهذا فأنا لا أريد أن تعودي إلى ذكره ثانية .
فسكتت ورقاء لحظات ثم قالت : ولكن أليس من حقي أن أعرف السبب فليس من السهل عليّ أن أحدد مستقبلي نتيجة أمر لا أعرف منشأه .
وهنا قالت الجدة : نعم أن من حقك ذلك يا ورقاء فهل أنت مستعدة للسماع ؟
قالت ورقاء : وراغبة فيه أيضاً .
قالت : ولكنك بعد سماع ما أقول سوف يتحتم عليك أن تقطعي علاقتك مع معاد أيضاً .


( 132 )

فردت ورقاء في ذعر قائلة : أقطع علاقتي مع معاد وكيف لي بذلك وقد أصبحت بالنسبة لي ضرورة من ضرورات الحياة ؟
قالت الجدة : إذن فلماذا تريدين أن أقول ؟
فسكتت ورقاء لحظة ثم قالت : قولي ما لديك يا جدتي فأنا على استعداد لاستماعه مهما كان .
قالت الجدة : إذن فاسمعي ماذا أقول . إنك تعلمين أن أباك قد توفي وأنت صغيرة .
فخفق قلت ورقاء بشدة وقد توقعت أن تسمع أحاديث غير مريحة ثم قالت : نعم أنني أعلم ذلك .
قالت الجدة : ولكنك لا تعلمين السبب في وفاته .
قالت : كلا . ولا أعرف سبباً لموته سوى حياته.
قالت الجدة : كان هناك رجل تعرف إليه وفرض عليه صداقته واستأثر بثقته حتى اتفقا أن يعملا معاً فأقاما معملاً لصنع الأواني البلاستيكية ، وتم إنشاء المعمل وكان أبوك سعيداً بذلك مرتاحاً إلى عمله فيه ، محدثاً نفسه بالكثير من المشاريع ، وقد اتفقا أن يكون المال من أبيك والعمل على ذاك لم إدعاه من خبرة مسبقة في الموضوع ، ولم يكن أبوك يملك المال المطلوب فأراد أن يبيع نصف الأرض الزراعية التي يملكها ولكن النصف كان أقل من المقدار المسموح به للبيع


( 133 )

في ذلك العهد ، ولهذا فقد اشترى الاقطاعي حامد أفندي نصف الأرض على أن يكتبها جميعها باسمه وأن يعطيه نصف المحاصيل عن تراض وأن يكون له حق استرجاعها بالقيمة التي باعها متى ما أراد ، وأنت تعلمين استغلال حامد أفندي وجبروته في هذه المعاملات ولهذا فلم يكن في وسع أبيك أن يبيعها لسواه وهي ضمن الأرض التي تقع تحت سيطرته.
وكان نصف الأرض هذا لا يكفي بمتطلبات المعمل ولهذا فقد رهن هذا البيت عند حامد أفندي أيضاً على أن يستوفى ذاك حقوق الرهن من محاصيل نصف الأرض التي في حوزته.
وعلى كل حال فقد تم إنشاء المعمل ، وكان هو وصاحبه يتناوبان على حراسة المعمل في الليل.
وفي صباح يوم من الأيام ذهبت إلى المعمل مبكرة لحاجة عرضت لي فوجدت الناس مجتمعين على باب المعمل وسيارات الشرطة تقف أمام الباب ، فاندفعت إلى الداخل مرعوبة وهناك عرفت أن أول عامل دخل المعمل وجد أباك جريحاً مضرجاً بدمائه وقد أغمي عليه ويبدو أن القاتل كان قد حسبه ميتاً .
فدخلت الغرفة حيث كان رجال الشرطة يدرسون الموقف وشريكه واقف يبكي بدموع التماسيح فانحنيت عليه ألتمس منه نفساً أو كلمة ، وسرعان ما تم نقله إلى المستشفى فذهبت معه إلى هناك واتفق أن كنت إلى جانبه وحدي وإذا به يفتح


( 134 )

عينيه وينظر إليّ ثم قال أنه فلان ، ثم أغمض عينيه إلى الأبد.
وسكتت الجدة وقد تهدج صوتها من التأثر .
فسألتها ورقاء من خلال دموعها التي انهمرت لتأثرها من حديث جدتها سألتها قائلة بلهفة : وما هو الاسم الذي ذكره يا جدتي ؟
قالت : إنه عبد المجيد محمود الراجي !
فصدرت عن ورقاء آهة جريحة وقالت معيدة كلمات جدتها : عبد المجيد محمود الراجي ؟ والد معاد وسناد ؟
قالت الجدة : نعم ، انه هو ، وقد أدليت بشهادتي في وقتها ولكنها لم تكف وقد أثبت بعده عن مسرح الجريمة بمختلف وسائل الغش والخداع فسجلت الحادثة على أنها حادثة قتل في سبيل الاختلاس من قبل مجهول .
قالت ورقاء : وهل حصل اختلاس أيضاً .
قالت : طبعاً . وقد اختلس مع المال الذي كان موجوداً في الصندوق الحديدي هناك الأوراق الرسمية للاتفاق الذي بينهما ، والأوراق التي تخص بيع نصف الأرض وحق استرجاعها وأوراق تصفية حساب رهن هذا البيت ، وهكذا خسرنا كل شيء حتى حق المطالبة بأرضنا ، وحق ملكية هذا البيت فإن لدى حامد أفندي أوراق رسمية تؤيد حقه في


( 135 )

الأرض والرهان ، في الوقت الذي لا نملك نحن ما يؤيد الاسترجاع ، وما صبر علينا كل هذه المدة إلا لغاية لا يعلمها إلا الله .
وقد كنت أعرف أن لدى عبد المجيد هذا توأمان باسم سناد ومعاد ولهذا سألت معاد عن اسم أبيها فتجاهلت السؤال . ولكنني بعد ذلك عرفت اسمه من الممرضات فهل تجدين أن من الممكن لك أن تتزوجي ابن قاتل أبيك يا ورقاء ؟.
فأجابت ورقاء في مرارة قائلة : كلا سوف لن أتزوجه يا جدتي ولكنني لن أقطع علاقتي مع معاد .
قالت هذا وقد بللت الدموع وجهها وهي تفكرفي معاد أكثر مما تفكر في سناد .
مر اليوم كئيباً حزيناً على ورقاء . وفكرت كثيراً وهي تحدث نفسها قائلة : ولكن أي ذنب له ولها في الموضوع ؟ لنفرض أن أباهما مجرم فهل يحق لنا أن نأخذهما بجريرته ؟ كيف سوف أرد على معاد ؟ وبأي حجة سوف أرفض أخاها ؟ أتراني سوف أحدثها بالحقيقة ؟ ولكن هل يجوز لي نبش الماضي ووصم هذين الأخوين الطاهرين بمثل هذه الوصمة ؟ لعلهما يجهلان ماضي ابيهما فكيف لي أن أكشف لهما ما يجهلان ؟.


( 136 )

وصممت أخيراً أن تبقى على علاقتها مع معاد وقد تذكرت موعدها معها في يوم غد . وانتظارها لشرح ما طلبته منها فزاد شعورها بالخسارة وبصعوبة الانقطاع عنها ، وهكذا قضت يومها وليلتها في شدة من الحيرة والألم .
وأشرق عليها الصبح بعد ليلة ما نامت خلالها إلا القليل وإذا بها تجد جدتها وقد صممت على ترك المستشفى بأي حال من الأحوال ، وكلما حاولت أن تثنيها عن ذلك ألحت تلك وألحت حتى رضخت لرغبتها وجمعت ما لديها من حوائج ثم طلبت من جدتها أن تؤجل الخروج إلى حين إخبار الطبيب المختص .
ولكن الجدة كانت مندفعة إلى الخروج فلم توافق على التأجيل وكأنها كانت تريد أن تبتعد بورقاء عن طريق معاد بأسرع وقت خشية أن تضعف ورقاء أمام الاغراءات .
وعندما يئست ورقاء من التأجيل ذهبت تسأل عن معاد وهي لا تعلم ماذا سوف تقول لها ولكنها كانت تريد أن تراها بأي شكل من الأشكال ، وفوجئت عندما علمت أن معاداً مجازة خلال ذلك الصباح فاحتارت ماذا تصنع ؟ وهل يمكنها أن ترحل عنها هكذا وبدون كلمة وداع ؟ وما أبعد هذا عن أحاسيس الوفاء وعرفان الجميل وما أبعده أيضاً عن عهود الأخاء التي أبرمتها لمعاد ؟ ثم خطر لها أن تترك لها ورقة فكتبت سطوراً جاء فيها ما يلي :


( 137 )

عزيزتي معاد :
لا أدري ماذا أقول ؟ وأنا أواجه دوامة لا سبيل لي بالنجاة منها ، وها أنا راحلة مع جدتي التي فرضت عليّ هذا الرحيل ، يبدو أن الله عز وجل شاء أن يطردني عن فردوسه بعد أن وجدت السبيل اليه . سوف أتركك بقلب باك لأواجه المستقبل المجهول وأنا وحيدة مهيضة الجناح ، سوف أعود ثانية إلى الضيعة الفكرية والحيرة النفسية فليرحمني الله ، وأرجو أن لا تغضبي عليّ فإن هناك ما يفرض عليّ هذا التصرف أما أخوك فأرجو من الله أن يبدله بخير مني وما رفضته لمنقصة فيه ولكن هكذا شاء الله ، وإذا رأيت أنني ما زلت استحق أخوتك فاكتبي لي على عنوان صديقتي وهو ... زقاق ... رقم الدار ... ثم طوت الرسالة وسلمتها لاحدى الممرضات لكي تسلمها إلى معاد عند عودتها ورجعت إلى جدتها لتتوجه معها إلى البيت .
تعاقبت الأيام بطيئة وثقيلة بالنسبة إلى ورقاء فقد ساءت صحة جدتها على أثر الحركة وبعدها عن الطبيب وبقيت هي موزعة بين تمريضها ودروسها وباقي الالتزامات إضافة إلى فكر حزين يلازمها ، وحنين إلى معاد لا يفارقها ، وحاجة إلى فهم جديد تلح عليها ، وكثيراً ما لاحظت الجدة على عينيها آثار الدموع فعز عليها ذلك ولكنها تجاهلته واعتبرته ضرورة


( 138 )

كان لا بد منها ، وبعد مرور أكثر من عشرة أيام سلمتها صديقتها رسالة تحمل طابعاً داخلياً .
فخفق قلب ورقاء وتساءلت مع نفسها قائلة :
أتراها من معاد ؟
أتراها لم تنكر عليّ موقفي منها ؟
ثم سارعت إلى فتحها وألقت نظرة عجلى على الاسم فوجدتها من معاد ، فاتنحت جانباً وقرأت الرسالة فوجدت فيها ما يلي :
عزيزتي ورقاء :
سلام الله عليك ورحمته وبركاته وسلامي وأشواقي وصادق دعائي وأخائي ... ها أنا أكتب إليك بعد أن تخلصت من آثار المفاجأة التي أملتها عليّ سطورك وكم عز عليّ ذهابك دون أن أطبع على جبينك قبلة أخاء صادق . وقبل أن تعرفي بأن معاداً ليست تلك التي تتنازل عن اخوتك بسهولة ، لقد وجدتك يا ورقاء كالزهرة العطرة التي وجدت لتتفتح فتنشر من حولها الأريج ، ولتعطر بعطرها أجواء الربيع . ولكنها افتقدت اليد التي تسقيها الماء ، ولم تحصل على الظل الذي يحميها من وهج الشمس ، فقبعت في أكمامها وهي تنتظر الذبول ، قبل أن تتفتح وتؤدي رسالتها في الحياة .
وجدتك هكذا يا ورقاء وأحسست بروحك وهي تناديني


( 139 )

اليها طالبة مني السقاية والحماية وسمعت نداء الواجب يدعوني للاجابة . ففقتحت لك قلبي ، ومددت نحوك يدي ، وعرضت عليك أخوتي فوجدت عندك الاستجابة المطلوبة والتجاوب الذي أقر عيني.
ثم اخترتك لتكوني قرينة أخي الذي هو أهم شيء عندي ، ثم وفجأة ، وبدون سابق إنذار ، وجدتك تختفين ولا تخلفين وراءك إلا بضعة سطور ، ولا أكتمك بأن المفاجأة لم تكن بسيطة بالنسبة إليّ ، ولهذا فقد أقعدتني آثارها عن المبادرة في الكتابة .
أما الآن وقد عدت إلى نفسي وجدت أن عليّ الا أدع أواصر أخوتنا تتقطع هكذا ، وبسهولة ، ولهذا فها هي سطوري بين يديك تحدثك عني وتقول لك بأنني ما زلت أختك في السراء والضراء . وأنا لا أريد أن أسألك عن السبب في كل ما حدث لكي لا أحرجك وإحراجك مما يعز عليّ كما تعلمين ، وإذا أردت مراسلتي فإن ذلك ممكن على عنوان المستشفى ، هذا واستودعك الله الذي لا يخون الودائع .

معاد

إنتهت ورقاء من قراءة الرسالة وكان شعورها مزيجاً بين الفرحة والألم ، وقررت أن لا تخبر جدتها بأمرها وأن تبقى على


( 140 )

اتصال مع معاد ، وفعلاً فقد بادرت إلى الكتابة في تلك الليلة ، فكتبت إليها تقول :
عزيزتي معاد ،
دعيني اقبلك عن بعد ، فالله وحده يعلم كم أنا متشوقة إليك وخجلة منك يا أختاه ، وأنت التي وجدتك على ظمأ معينا رياً رويا فما شربت منه سوى نهلات حتى صدت الكأس عن شفتي يد الزمان القاسية فأعادتني إلى الظمأ اللاهب ، وأسلمتني إلى حياة الوحدة المريرة ، لقد عشت عمري أفتش في صفحات سجل حياتي عن مرفأ أمين يشدني عبر مسيرتي الطويلة في مدرجات الحياة ، وطالما هفوت لصدر حنون يحتضنني وينفتح إليّ ، فأسند إليه رأسي المكدور ، وأكشف أمامه مشاعري وأفكاري المؤودة ، وقد كنت يا عزيزتي أعيش الضيعة الفكرية وأتمنى لو وجدت فكراً يفتح أمامي مغاليق المعرفة ويأخذ بيدي إلى طريق الهداية والدراية وما أكثر ما رددت قول الشاعر :

وأني لمحتاج إلى ظل صاحب * يروق ويصفو إن كدرت عليه

في يوم من الأيام حتى رأيتك ... فوجد فيك تجسيداً للأخت التي نسجت شخصيتها في أحلامي وسبق أن تصورتها في أفكاري فتغلغل حبك في قلبي ، وملأ الاعجاب بك جوانب نفسي ، وأحسست أن سفينة حياتي قد وجدت لديك


( 141 )

مرفأها الأمين وقد آن لها أن تلقي قلاعها على ساحل أخوتك فركنت إليك كأخت ، واعتمدت عليك كموجهة ، واحللتك من نفسي المحل الرفيع الرفيع ، وفجأة بدأت الحياة تلعب معي لعبتها القاسية من جديد ، فأخذتك مني أو أخذتني منك ، وجعلتني أحس بالضيعة مضاعفة وبالوحدة بشكل أعمق . فأسلمني ذلك إلى دنيا اليأس المريرة ، وعرفت أن الحياة تقسو حتى على أنبل المشاعر والعلاقات ، وأن الأقدار لا تقيم وزناً للعلاقات والصلات ، وأن الدهر لا يصفو بعد كدر ، ولا يهادن بعد حرب ، وإن فاء إلى المهادنة يوماً ندم على ذلك وعاد يشن حربه العتيدة من جديد وما أحسن قول ابن هاني الأندلسي في هذا حين يقول :

وهب الدهر نفسياً فاسترد * ربما جاد لئيم فحســد

أو كما قال المتنبي :

أبداً تسترد ما تهب الدنيا * فيا ليت جودها كان بخلاً

وهكذا بقيت أعاني من غلواء أحاسيسي الكثير حتى استلمت رسالتك صباح اليوم ، فوجدت فيها خيطاً فضياً من خيوط الأمل . هذه الخيوط التي تشدني إليك وبالتالي فهي تشدني إلى خالقي يا أختاه ، فقد أصبح من العسير عليّ أن ابتعد عنك لأن قربك هو طريق قربي إلى الله ولهذا فقد


( 142 )

فرحت برسالتك يا معاد ، كما أنها زادتني بك إعجاباً ولشخصك إكباراً . وعلمتني درساً من دروسك في مغالبة النفس ووأد مشاعر الانانية ، والتلبس بالنظرة الواقعية المجردة عن المصالح الشخصية . فالشكر لله أولاً ولك ثانياً يا أختاه . واعلمي بأنني كنت ولا أزال تلك التي تعهدين وما زلت أنتظر منك موعداً لزيارتك في أي مكان تعيشين ، هذا واسلمي لي دائماً وأبداً يا اختاه.

ورقاء

أبردت ورقاء رسالتها ومرت عليها أيام الانتظار وهي أحسن مما كانت عليه حتى وصلها الجواب . وكانت معاد تحدد لها فيه موعداً لتزورها فيه في المستشفى ففرحت ورقاء بذلك . وفي اليوم الثاني أخبرت جدتها عند خروجها بأنها سوف تتأخر لكي لا تقلق عليها ثم توجهت من الكلية إلى المستشفى . ويبدو أن معاداً كانت قد أوصت بها إذ أنها لم تصادف أي مضايقة حتى انتهت إلى غرفة معاد فوقفت أمام الباب محاولة التغلب على آثار الارتباك التي كانت تحسها ، ثم طرقتها برفق فطالعها وجه معاد مشرقاً واستقبلتها بالترحاب . فجلست ورقاء وهي تغالب دموعاً طفرت إلى عينيها . وبادرتها معاد قائلة :
أهلاً وسهلاً بك يا ورقاء ، لقد أوحشني غيابك وكأنني


( 143 )

عشت معك العمر كله مع أن معرفتي بك لم تتجاوز الأسابيع .
فقالت ورقاء : وأنا كذلك يا معاد والله وحده يعلم كم عانيت وعانيت لخشيتي أن تكوني ناقمة عليّ .
قالت معاد : لكنك حرة في اختيارك يا ورقاء فلماذا أنقم عليك يا عزيزتي وبأي حق ؟ لعل أخي لم يرق لك أو لم يحتل الثقة المطلوبة عندك.
فقطعت ورقاء كلامها قائلة : أرجوك يا معاد ، لا تقولي هذا فإن كل ما حدث لم يكن نتيجة عدم الاقتناع لأن شهادتك في حقه كفيلة باقتناعي به ولكن ...
فقالت معاد : ولكن ماذا يا ورقاء ؟
قالت : ولكن جدتي هي التي رفضت ذلك .
قالت معاد : وهل عرفت السبب في رفضها يا ترى ؟
فارتبكت ورقاء ولم تعلم بماذا تجيب . ولهذا بقيت ساكتة ولكن معاداً أعادت السؤال ...
فقالت ورقاء : إنه سبب من الأسباب .
فابتسمت معاد لهذا الجواب وقالت : ولكن هل هو سبب كاف للرفض ؟


( 144 )

فسكتت ورقاء لحظة ثم خرج صوتها جريحاً وهو يقول : نعم أنه سبب كاف يا معاد .
قالت معاد : إذن فسوف لن ألح عليك أكثر من هذا والمهم أن نبقى على أخوتنا يا ورقاء .
قالت ورقاء : نعم فها أنا استشعر معك بشعور من الراحة والاطمئنان افتقدته منذ فارقتك حتى الآن مع كثرة من أرى وأجد من الصديقات والأخوات ، لأنني وثقت فيك كما لم أثق بسواك والثقة هي طريق كل قرب وود .
قالت معاد : إن هذا هو نفس شعوري نحوك يا ورقاء .
قالت ورقاء : لقد مررت بتجارب عديدة قبل اليوم ولكنني لم أشعر بالانهيار أمام أحداها كما انهرت أمام هذه التجربة التي هددتني بالانقطاع عنك يا أختاه.
فضحكت معاد وقالت : أراك ما زلت تتحدثين عن التجارب يا ورقاء ؟
قالت ورقاء : كما أنني ما زلت أنتظر حديثك عنها يا معاد .
قالت معاد : وأي حديث عنها تريدين ؟
قالت : ألم تعديني أن تعودي إلى حديثك عن التجربة ومدى علاقتها بالعلم الصادق ؟


( 145 )

قالت معاد : يبدو أن ذاكرتك قوية يا ورقاء ؟!
قالت ورقاء : وكيف لي أن أنسى هذا وهو أمر مهم بالنسبة إليّ ؟
قالت معاد : إذن دعينا ندرس الموضوع من جديد لنعرف ماذا يقول التجريبيون ؟
قالت ورقاء : أنهم يقولون بعدم التمكن من تصديق بدون تجربة مسبقة . وهم لا يعترفون بدور العقل في مضمار تصديق القضية ما لم تدعمها التجربة ، إذ أنهم ينكرون وجود قضايا بديهية .
قالت معاد : ولهذا فنحن نقول لهم هبوا أنكم جربتم أن تقربوا قطعة من الحديد إلى النار فرأيتم نتيجة ذلك أنه قد تمدد من تأثير الحرارة فكيف تمكنتم أن تعمموا هذه القاعدة ( قاعدة تمدد الحديد بالحرارة ) على مجموع الحديد في العالم ، مع أن التجربة أجريت على قطعة واحدة لا أكثر ؟ ومن هنا يبرز دور العقل في تعميم هذه القاعدة على كل الحديد ، وحتى في هذه القطعة التي تمددت نتيجة تعرضها للنار ، فان التجربة أثبتت حالة التمدد فقط وجعلتنا ندرك هذه الحالة بحواسنا . أما السبب الذي أدى إلى هذا التمدد فهو أمر لم تثبته التجربة ولكن العقل هو الذي دل عليه ، النار حارة ، حرارتها أوجبت التمدد في الحديد ، إذن فإن علة التمدد هي حرارة النار .


( 146 )

قالت ورقاء : لطيف ، لطيف يا معاد ثم ماذا ؟
قالت : أننا نتمكن أيضاً أن نناقشهم قائلين : أنكم تؤمنون باستحالة اجتماع النقيضين وهذا إيمان لا مناص لكم منه لأن العلوم الرياضية بما فيها علم الحساب الذي هو أبده العلوم قائمة على أساسه ولولاه لتهاوى علم الحساب وافتقد قواعده التي يرتكز عليها .
وهنا تساءلت ورقاء قائلة : وما هو تعريف اجتماع النقيضين يا معاد ؟
قالت : اجتماع النقيضين اصطلاح يعبر عن جمع شيء مع نقيضه في محل واحد ، كأن نقول أن هذا الماء حار وبارد ، أو نقول أن هذه الشمس مضيئة ومظلمة في وقت واحد ، أو نقول أن فلاناً طويل وقصير ، ورفض الايمان باستحالة اجتماع النقيضين يعني عدم الايمان بصحة قواعد علم الحساب.
قات ورقاء : أرجو توضيح ارتباط ما تقولين من أفكار استحالة اجتماع النقيضين مع علم الحساب يا معاد
قالت معاد : إن مثل ذلك هو أننا لو عرفنا أن (1 + 1 = 2 ) لحققنا بهذه المعرفة أول ركيزة من ركائز هذا العلم إلى هنا فإن الموضوع لا جدال فيه ولا مراء ، أما إذا قلنا أن ( 1 + 1 = 3 ) فإنما يعني قولنا هذا دعوى اجتماع


( 147 )

النقيضين ، وتوضيح ذلك ان كلمة يساوي تعني المساواة ، والموازاة ، والمقارنة ، والمماثلة ، وعلى هذا فإن واحداً زائد واحد لا يمكن أن يساوي أو يماثل أكثر من اثنين لأن ما يساوي الواحد إذا أضيف إليه واحد هو الاثنان فقط لا غير ، فأن نقول يساوي ثم نأتي بشيء لا يمكن المساواة فهذا جمع النقيضين وهما المساواة واللا مساواة ، ولهذا فنحن نقول لهم : أنكم أما أن تؤمنوا بعدم إمكان اجتماع النقيضين ، وأما أنكم لا تؤمنون به ، فإذا كنتم تؤمنون فمن أين حصل لكم هذا الإيمان ؟ هل جاء بعد تجربة ؟.
قالت ورقاء : وكيف لهم أن يجربوا اجتماع النقيضين وهو محال ؟ .
قالت معاد : إذن وما دامت تجربة اجتماع النقيضين محالة فلا بد أن يكون هذا الايمان وليد معرفة بديهية يمليها لهم العقل الذي لا يريدون أن يعترفوا بدوره المجرد عن التجربة في الحياة .
قالت ورقاء : لعلهم يقولون أنهم جربوا الأشياء فلم يجدوا في واقع الكون حالة يجتمع فيها النقيض مع نقيضه وعلى هذا الأساس عرفوا أن اجتماع النقيضين مستحيل وغير ممكن .
قالت معاد : إن هذه التجارب السبيلة إنما تدل على أن اجتماع النقيضين غير واقع وليس على أنه لا يمكن أن يقع


( 148 )

مع أنا جميعاً نؤمن بأنه لا يمكن أن يقع . وهذا لا يمكن أن يستند إلى التجربة لأن عدم الامكان والاستحالة ليس شيئا يمكن أن نراه في تجاربنا .
قالت ورقاء : وإذا قالوا بأنهم لا يؤمنون بعدم إمكان اجتماع النقيضين ؟
قالت معاد : عند ذلك نقول لهم أنهم ينكرون وجود أهم علم قامت عليه معارفهم وهو علم الحساب ...
وإلى هنا سكتت معاد معطية ورقاء فترة للتفكير وكانت ورقاء مندمجة مع ما سمعت ومنجذبة إليه .
وبعد أن سكتت معاد فترة قصيرة قالت لها : لشد ما كنت في حاجة لأن أسمع هذا أو أعرف عنه شيئا يا أختاه ، وما زلت أطلب منك المزيد .
قالت معاد : ولكن متى سوف تأتيني مرة ثانية يا ورقاء ؟
قالت ورقاء : سوف أحاول ذلك متى ما وسعني ، والآن عليّ أن أذهب قبل أن تقلق جدتي لغيابي .

***

استمرت ورقاء تزور معاد بين حين وحين دون أن تعرف جدتها بذلك أو تشك فيه وفي يوم من الأيام عادت متأخرة قليلاً فوجدت جدتها مكفهرة الوجه متوترة الأعصاب وبادرتها قائلة بعنف : أين كنت يا ورقاء ؟


( 149 )

فخمنت ورقاء أن جدتها قد علمت بأمر زيارتها لمعاد ولهذا آثرت المماطلة إلى أن تعرف الواقع .
فقالت : ولماذا تسأليني يا جدتي ؟
قالت الجدة بحدة : لكي أعرف هل أنت قادمة لتوك من الكلية ؟
وحدثت ورقاء نفسها قائلة عليّ أن أقول الصدق مهما كانت النتائج وينبغي أن أواجه الواقع بشجاعة ولهذا ردت تقول : كلا .
قالت : إذن أين ذهبت ؟
قالت : لقد مررت على المستشفى.
عند ذلك انفجرت الجدة تقول : أنك مررت على معاد أليس كذلك ؟ اعترفي يا ورقاء ولا تغالطي في الحقيقة ؟ لقد كنت أحسبك أعقل من هذا ، كيف تسمحين لنفسك بابنة قاتل أبيك ، أنها خيانة منك يا ورقاء .
فردت ورقاء بهدوء قائلة : ولكن من أين عرفت ذلك يا جدتي ؟
قالت لقد اتصلت إحدى صديقاتك تسأل عنك وقالت إنك توجهت إلى البيت منذ مدة . ومن هنا عرفت أنك قد ذهبت إلى معاد .


( 150 )

قالت ورقاء : وماذا في ذهابي يا جدتي ؟ أنني رفضت سناد لكي لا أرتبط في حياتي الزوجية مع ابن قاتل أبي . أما أن أقطع علاقتي وصداقتي مع معاد فان هذا ما لا يمكن أن يكون لأنني محتاجة إليها فكرياً وروحياً ولا أرى في ذلك أي دليل من أدلة الخيانة .
وهنا ألقت الجدة آخر ما لديها من سهام حيث قالت : أنك لا تعنين معاد فيما تقولين ولكن من يهمك هو أخوها ، فقد عرفت من الممرضات أنه جميل وجذاب وقد انخدعت بجماله يا ورقاء .
فردت ورقاء بصوت متهدج قائلة : أنك تظلمينني يا جدتي لا تبالغي في القسوة عليّ فأنني لم أره إلا مرتين عن طريق الصدفة فقط ، فلا تنسجي من حولي أفكاراً مريبة يمليها عليك عالم الخيال.
وفي عصر اليوم الثاني كانت معاد تنتظر ورقاء في موعدها المحدد ، ولما حضرت اليها لاحظت عليها شيئا من الشحوب ولما سالتها عما بها ..
قالت : أنه من تأثير السهر الذي تفرضه عليها الدراسة . فلم تقتنع معاد بهذا الجواب ولكنها أظهرت الاقتناع . وكانت ورقاء متعجلة أكثر من عادتها ولهذا بادرت تقول :
أنني ما زلت أنتظر حديثك عن التجربة يا معاد .


( 151 )

قالت معاد أراك متعجلة اليوم يا ورقاء فهل هناك من جديد ؟
فترددت ورقاء قليلا ثم قالت : كلا ، ليس هناك من جديد .
قالت معاد : إذاً فلنبدأ بالحديث .
قالت : نعم فأنني مشوقة إلى تكلمة ما شرحتيه لي حول التجربة .
قالت معاد : أن التجريبيين يقولون عن القضايا التصديقية أنها لا يمكن أن يعترف بها دون تجربة مسبقة أليس كذلك ؟
قالت ورقاء : ولكنني أريد أولاً تعريفاً للقضايا التصديقية .
قالت : أن القضايا هي كل قضية صادقة يصدقها الانسان ويؤمن بصحتها ، هذا هو التعريف المختصر للقضايا التصديقية ، والحقيقة أن كل تصديق يحتاج ويعتمد على تصديق قبله ، والتصديق الذي قبله يحتاج إلى تصديق قبله ولكن لا يمكن أن تتراجع هكذا باستمرار من تصديق إلى تصديق دون أن نصل إلى بداية ، وإلا كان معنى هذا أننا لن نحصل على أي معرفة أو تصديق أساساً .. فظهر على وجه ورقاء الاهتمام البالغ وتساءلت : كيف ؟.


( 152 )

قالت معاد : افترضي أنك تريدين أن تتعرفي على بنت معينة وحسن سلوكها وأنها ثقة فماذا تصنعين ؟
قالت ورقاء أسأل بعض رفيقاتها عنها.
قالت معاد : ولكن كيف تعرفين هذه الرفيقة لكي تسألي منها فقد لا تكون معرفتك بها إلا عن طريق شهادة من أخرى ، ولكن أليس من المنطقي أن تنتهي هذه الشهادات عند شاهدة تعرفينها مباشرة لكي تكون هذه هي البداية لانطلاقك إلى التعرف على الآخريات .
قالت ورقاء : هذا صحيح بالضبط .
قالت معاد : وهذا ما نقوله بالنسبة إلى المعارف التصديقية للانسان عموماً ، فأنها لا بد لها من بداية تعتمد عليها ، وهذه البداية لا بد أن تكون معروفة لنا بصورة مباشرة وبدون أي تجربة واستدلال .
قالت ورقاء : أذكري لي مثالاً من هذه المعرفة المباشرة .
قالت : مثله أن نقول أن بعض الكتاب أصغر من مجموع الكتاب ، فنحن لو ادعينا هذا ثم قال لنا قائل : من أين عرفتم أن بعض هذا الكتاب ، هو أصغر من مجموع الكتاب ؟ وهل لديكم تجربة أو دليل يثبت ذلك ؟ لقلنا أن هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى تجربة ودليل . إذ أن مجرد قولنا بعض يعني إيماننا بوجود بعض وكل وأن البعض أصغر من الكل .


( 153 )

قالت ورقاء : وإذا قالوا أنه ما دامت المعارف البديهية لا تحتاج إلى تجربة مسبقة ويتمكن العقل المجرد عن التجربة أن يشخصها فلماذا لا يدركها الانسان منذ الطفولة ما دام العقل معه منذ الطفولة ولماذا لا يبقى يدركها حتى ولو رد إلى أرذل العمر ؟
قالت : عند ذلك نقول لهم أن الادراك على مرحلتين : إدراك تصور ، وإدراك تصديق .
قالت ورقاء : عرفي لي الادراكين بالأمثلة من فضلك يا معاد .
قالت : الادراك التصويري كأن نتصور الماء ، والسماء ، والشمعة ، والزهرة ، والذهب ، والفضة ، وهذا هو الذي يولد عند الانسان نتيجة لوجود أحاسيسه التي تساعده على التصور .
قالت ورقاء : ولكننا قد ندرك في تصوراتنا أشياء غير ممكنة كأن نتصور بحراً من زئبق ، أو جبلاً من ذهب .
قالت معاد : وهنا يأتي دور الادراك التصديقي وهو إثبات صحة تصوراتنا وانطباقها على الواقع . ولكن الادراك التصديقي الذي نعتمد عليه هنا يعتمد هو بدوره على الادراك التصوري أيضاً .


( 154 )

قالت ورقاء : كيف ؟ ولماذا ؟
قالت : لأنه ليس من الممكن ادراك شيء والتصديق له دون تصوره بشكل مسبق لهذا الادراك ، فنحن مثلاً لا يمكن لنا أن نصدق بوجود النخلة دون أن نتصورها .
قالت ورقاء : إذن فأن الادراك التصديقي يعتمد على الادراك التصوري ؟
قالت معاد : نعم ولهذا نجد أن الطفل لا يتمكن ان يدرك حقائق تصديقية فوق مستوى ادراكه التصوري لمحدودية ادراكاته التصورية وسطحيتها ، وهكذا نعرف أن الطفل أو الانسان الذي يرد إلى أرذل العمر لا يتمكن أن يدرك القضايا البديهية .
قالت ورقاء : لشد ما أحس بالراحة عندما استمع إلى حديثك يا معاد ، أرجو أن لا يفارقني الله عنك يا أختاه .
قالت معاد بعد شيء من التردد : نعم أرجو ذلك يا ورقاء .
قالت ورقاء : بودي لو جلست معك أكثر ولكن عليّ الآن أن أذهب .
فردت معاد تقول : إذهبي بحراسة الله ولكن لا تنسي موعدك غداً إن شاء الله .

***


( 155 )

وعادت ورقاء إلى البيت فوجدت الجدة متجهمة الوجه وقد ردت سلامها باقتضاب ، فانحنت على يدها تقبلها وهي تقول : أرجوك أن لا تغضبي عليّ يا جدتي لأنني أذهب إلى زيارة معاد ، سامحيني من هذه الناحية وسوف أطيعك في كل شيء عداها .
فرفعت الجدة رأسها وقالت بتحد : تطيعينني بكل شيء ؟.
قالت : نعم بكل شيء عدى قطع علاقتي مع معاد .
قالت الجدة : أقسمي على ذلك إذن ، اقسمي أن تطيعيني بكل شيء مهما كان .
فكادت ورقاء أن تقسم لولا أن خطر لها خاطر أوحاه اليها تحفز جدتها فشحب وجهها قليلاً ثم قالت : كلا أنني لا أقسم ويكفي أن أعطيك عهداً على ذلك .
قالت الجدة : وأن يكون عهد شرف يا ورقاء .
قالت ورقاء : نعم أنه عهد شرف ...
فانفجرت أسارير الجدة وقبلت حفيدتها وعادت إلى وضعها الطبيعي ولكنها حدثت نفسها بعد ذلك قائلة : لقد أعطتني ورقاء عهداً أن تستجيب لي في كل شيء ولهذا سوف تضطر لقبول قراري الذي اتخذه عند خطبة ابن عمها ماهر لها ، هذا المسكين الذي أجلت أنا خطبته منذ السنة الماضية


( 156 )

بانتظار أن تكمل دراستها ، وقد بدأ يستعيد الموضوع من جديد ، أنه شاب غني ومثقف وإذا كان غير ملتزم دينياً فهي سوف تهديه للالتزام ، وبهذا تنقطع علاقتها مع معاد بشكل نهائي.

***

بقيت ورقاء تنتظر عصر اليوم الثاني وما أن اكملت دوامها حتى توجهت إلى معاد فوجدتها تنتظرها عند باب المستشفى حيث قالت لها : إنني ذاهبة إلى البيت وكنت انتظرك لآخذك معي فان عندي بعض الأشغال هناك .
فاستغربت ورقاء وقالت : إلى البيت وأي بيت ؟.
فابتسمت معاد وقالت : بيتنا نحن .
قالت ورقاء في تردد : ومن سوف يكون هناك أيضاً يا معاد ؟
فعادت معاد تبتسم وهي تقول : لا أحد . كوني واثقة من ذلك . سوف نذهب أنا وأنت وحدنا ثم نعود قبل الغروب إن شاء الله .
قالت ورقاء : إذن هيا بنا يا معاد .
قالت معاد : إن بيتنا قريب ولن نحتاج إلى الركوب فتعالي لنتمشى إليه .


( 157 )

وهكذا سارتا معاً حتى وصلتا إلى البيت ففتحت الباب بمفتاح كان معها ووجدت ورقاء نفسها في حديقة صغيرة منسقة وأمام بيت صغير دخلته مع معاد فوجدته بسيطاً في بنائه وأثاثه ولكنه يتميز بالذوق والتنسيق . لم يسعها إلا أن تسأل معاد قائلة : من الذي ينظف هذا البيت يا معاد ؟
قالت معاد : أنني آتي إلى هنا مرتين في الأسبوع حيث أتعهد البيت في العناية والترتيب والتنظيف .
قالت ورقاء : ومن الذي يسكن هنا ؟
قالت معاد : أنه أخي سناد .
قالت : وهل يعيش وحده هنا ؟
قالت معاد بشيء من الألم : نعم فنحن وحيدان في هذه الدنيا .
فتألمت ورقاء لمرارة هذا الجواب واستشعرت أنه صدى لمشاعر معذبة قد تمكنت معاد بقوة شخصيتها من إخفاء معالمها . ولهذا فقد اطرقت في تألم وخشوع ولكن سرعان ما نادتها معاد بصوت مشرق قائلة مالك يا ورقاء ؟ ألا تريدين أن تساعديني في العمل ؟
وكأن هذا الصوت قد أعاد ورقاء إلى وضعها الطبيعي فأبدت استعدادها للمشاركة .


( 158 )

وبهذا تم إنجاز الأعمال بسرعة فاقترحت معاد على ورقاء أن تجلسا قليلاً في ظلال الاشجار فجلستا متجاورتين . وكانت ورقاء تشعر بالسعادة لأنها قدمت بعض المساعدة من أجل معاد ، وكانت أمامها شجرة برتقال صغيرة قد ظهر الثمر فيها لأول مرة فأشارت إليها معاد وهي تقول : هل تعلمين أن هذه الشجرة قد غرزتها بيدي يا ورقاء وبقيت أتعهدها بالسقاية لأنها عزيزة عليّ ولهذا فأنا فرحة لمنظر ثمارها لأول مرة .
قالت ورقاء : إن من حقك أن تفرحي يا عزيزتي فما الطف أن يرى الانسان البذور الذي بذرها وهي تنمو وتزدهر ثم تثمر الثمر المطلوب .
وهنا رانت على وجه معاد سحابة ألم خفيفة ثم قالت : ولكن ما أقسى أيضاً أن يشاهد الانسان بعد ذلك هذه الأشجار التي غرز بذرتها بيديه وتعهد سقايتها بماء عينيه وهي تقتلع عن الأرض بيد لئيمة أو نتيجة زوبعة هادرة عاتية .
فردت ورقاء تقول بألم : آه ، نعم أنه شيء قاس جداً يا معاد ، ولكنني اريد أن أسألك شيئا وهو في خصوص شجرة البرتقال هذه مثلاً ما هو سبب وجودها من الناحية الفلسفية ، البذرة أم أنت ؟
قالت معاد : لا أنا ولا البذرة ، وإنما هو الله تبارك وتعالى وما نحن سوى وسيلة من الوسائل التي هيأها الله لتواجد


( 159 )

الحياة ، فالله عز وجل خلق الكون والحياة وجعل كل ما فيها سبباً من أسباب إيجاد سواه أو الابقاء على ذلك الوجود .
قالت ورقاء : يا لحكمة الخالق المبدع ولا أدري كيف يمكن لأحد أن ينكر وجوده أو ينسب الخلق إلى سواه ؟
قالت معاد : ماذا تقصدين بنسبة الخلق إلى سواه ؟
قالت ورقاء : أقصد هؤلاء الذين يرجعون السبب الأول في خلق الكون إلى المادة والذين يقولون أن المادة ونتيجة لحركتها الأزلية بدأت بإيجاد الأنواع !.
قالت معاد : حتى هؤلاء لو عادوا إلى أنفسهم وفكروا بانصاف لعرفوا أو لاعترفوا بأن الله هو الخالق المدبر ، إذ أنهم يتفقون معنا في المقدمات ويختلفون في النتيجة .
قالت ورقاء في تعجب : يتفقون في المقدمات وكيف ؟.
قالت : أقصد أنهم يؤمنون معنا بأننا لم نكن موجودين ثم وجدنا ، ويؤمنون معنا أيضاً أن وجودنا يحتاج إلى موجد لأن الوجود من العدم محال ، ويشتركون معنا أيضاً من أن الموجد لا بد أن يكون غير موجود من العدم بل هو أزلي في وجوده وإلا فمن الذي أوجده ؟ ثم ولا بد لموجدنا أن يكون مالكاً لكل ما ملكنا إياه وإلا كان ما لدينا موجوداً من العدم والوجود من العدم محال .

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها